د. محمد الخراز
التفاؤل متغلغل في نسيج الفكر الإسلامي. لفتت نظري هذه الظاهرة وأنا أتتبع جملة من الأحاديث وشروحها؛ فلقد فهم الشراح الكبار من المتقدمين هذه النزعة الإسلامية، وصاروا يبنون عليها كثيراً من تأويلهم للأقوال والأفعال النبوية.
وفي هذا العصر تتعاظم حاجة المسلم شالناس من حوله.
وتربوياً لا بد من زرع الثقة في العمل ليتقدم خطوة بعد أخرى، كما خُطِّط له. وهذا مما يساعد كثيراً في إنجاح الخطط، لا سيما بعيدة المدى، وهي التي إن لم تدعم بالثقة وتوطُّد الوشائج بينها وبين الأمل والعمل؛ فإنها كثيراً ما تتعثر، أو تتبعثر.
ومن غرائب اللجوء للتفاؤل في التعليل ما نُقل عن القاضي عياض ـ رحمه الله ـ أنه قال في سر نفث القارئ على المريض: إنه قد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض، كانفصال ذلك (الريق) عن الراقي. [فتح الباري/ كتاب الطب] . ومع غرابة هذا التعليل ـ وربما بُعده أيضاً ـ لكنه يشد من أزري فيما قلته عن إحساس الشراح بعمق هذا الأصل التربوي الإسلامي، وشغفهم بتقريره، ولو بَعُد مأخذه.
هذا الأصل تلزمنا العناية به الآن مثل أي وقت مضى من عصور الأمة الحرجة، لما لا يخفى من الطبيعة المشتركة بينها وبين مرحلتنا هذه. وقد أعجبت بما تفاءل به المسلمون من اسم (الفلُّوجة) المدينة العراقية الصامدة، حيث (الفلج) يعني الغلبة. وذكرني هذا بما علل السهيلي به لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الله أكبر خربت خيبر» من أنه تفاؤل مستوحى من المقام، كما يشير إليه حديث أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى خَيْبَرَ لَيْلاً وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ ـ يعني الجيش ـ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: خَرِبَتْ خَيْبَرُ؛ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) رواه البخاري. فانظر لدقة الفهم، وعمق التأويل في قول السهيلي ـ رحمه الله ـ: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى آلات الهدم ـ مع أن لفظ المِسحاة من سَحَوْت إذا قَشَرْت ـ أَخذ منه أن مدينتهم ستَخرب. [فتح الباري/كتاب المغازي] .
وقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- المزج بين التفاؤل والتخطيط والعمل. ففي خبر مَقْدَمِه ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمدينة مهاجراً أنه (نَزَلَ فِي عُلْوِّ الْمَدِينَةِ، فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) كما في البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو. [فتح الباري/كتاب مناقب الأنصار] .
وفي أوقات الأزمات والشدائد تعظم الحاجة لاستحضار الفأل الحسن، ومن هنا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا استسقى بالناس قلب رداءه بعد الخطبة (ثم حوَّل إلى الناس ظهره) : ومن الحكمة في ذلك التفاؤلُ بتحوُّله عن الحالة التي كان عليها ـ وهي المواجهة للناس ـ إلى الحالة الأخرى؛ وهي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحالُ الذي هم فيه ـ وهو الجدب ـ بحال آخر وهو الخصب (?) .
وقد حرصت ـ فيما قلت ـ على سرد تطبيقات التفاؤل دون ذكر الآيات القرآنية والأحاديث الصريحة في الحث عليه؛ لأنها لا تخفى على أكثر المسلمين، ولكنهم إنما أُتوا من غياب الفقه بالدين، ومن التقصير في التماس مقاصده الخفية، ومن انخذالهم عن تطبيق مفهوم التفاؤل في عملهم وتعليمهم، فأحدثوا فجوة عميقة من القنوط واليأس. ولقد رأيت كثيراً من المؤلفين القدماء يختمون مؤلفاتهم بلفظ أو فصل يشعر معناه أو مضمونه ومحتواه بالتفاؤل والنجاح ليزرعوا في نفوس الطلاب والقراء هذا الحس الإيجابي القويم.