قراءة في أوراق «الشريك الإسلامي» المطلوب
محمد سليمان أبو رمان
تزايد الجدل الداخلي الأمريكي ـ بعد أحداث 11 سبتمبر ـ حول السياسة الخارجية الأمريكية تجاه حركات الإسلام السياسي، وحول تصنيف هذه الحركات. ويمكن تلخيص جزء كبير من هذا الجدل في إطار أسئلة رئيسة: هل توضع كل الحركات والفعاليات الإسلامية في المنزلة نفسها؟ أم لا بد من التمييز بينها؟ هل هناك إمكانية للتلاقي أياً كانت الصيغة (تحالفاً، تعايشاً) بين الولايات المتحدة والحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؟.
هل هناك خطر من الإسلام الأمريكي والأوروبي؟ وطُرِح في هذا السياق سؤال محوري هو: ما هي سمات وخصائص الإسلام السياسي الذي يمكن أن يشكل شريكاً للولايات المتحدة، ويتوافق مع مصالحها الحيوية في العالم، وبالتحديد في العالم الإسلامي؟
للاقتراب من هذا الموضوع سوف أراجع الاتجاهات الفكرية الأمريكية إزاء الحركات الإسلامية، والتعريف الرسمي للسياسة الأمريكية تجاه هذه الحركات، ثم أتطرق إلى أحداث أيلول وآثارها على طبيعة العلاقة، كي أصل إلى تحديد موقع مفهوم الإسلام المعتدل وفكرة الشريك الإسلامي في الفكر السياسي الأمريكي، ومواصفات هذا الشريك المطلوب، ثم أناقش هذه الفكرة ومدى موضوعيتها المعرفية والمنهاجية.
` الاتجاهات الفكرية الأمريكية حول الإسلام السياسي:
يشكل الجدل الحالي استئنافاً قوياً للجدل السابق داخل الدوائر السياسية والبحثية (بنوك التفكير) حول ما يسمى ـ هناك ـ بالظاهرة الإسلامية. وقد انقسم الفكر السياسي الأمريكي ـ وفقاً لتصنيف أغلب الدارسين والمتخصصين ـ إلى اتجاهين رئيسين: اتجاه متشدد، واتجاه معتدل. وإن تعددت تسميات كل من الاتجاهين؛ ففواز جرجس ـ في دراسته المتميزة: أمريكا والإسلام السياسي صدام الثقافات أم صدام المصالح ـ يصف المعتدلين بـ «التعايشيين» ، ويصف المتشددين بـ «الإقصائيين» (?) . أمّا «دانيل بايبس» فيصف المعتدلين بالليبراليين، والمتشددين بالمحافظين (ويصنف نفسه منهم) (?) .
لقد اختلف الاتجاهان في عدة أمور رئيسة يمكن إجمالها بقضيتين:
الأولى: تعريف الإسلام السياسي وتفسير أسبابه.
والثانية: تحديد السياسة الأمريكية تجاه الإسلام السياسي.
أما القضية الأولى فقد رأى المتشددون أن الحركات الإسلامية بمثابة حركات اجتماعية ذات أيديولوجية دينية، وأنها تشكل في مجملها ظاهرة بأفكار وبُنى وسياسات متطرفة، وأنها تتناقض مع مصالح الأمن القومي الأمريكي، وتمثل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك رأوا أنه لا يمكن التمييز داخل الحركات الإسلامية بين حركات معتدلة وحركات متطرفة؛ فكلها تتفق بالأهداف وإن اختلفت في الوسائل والآليات، بمعنى: أنّ الاستراتيجية واحدة والتكتيك مختلف (?) ؛ في حين أنّ المعتدلين قد توافقوا في عدم الزج بالحركات الإسلامية كلها في التصنيف نفسه، ومن ثم رفضوا الاعتراف بأنها ـ جميعها ـ تشكل تهديداً للغرب والولايات المتحدة ومصالحها وأمنها، وقاموا بتقسيم الحركات الإسلامية إلى حركات متطرفة وحركات معتدلة؛ في حين اختلفوا في تعريف الحركات الإسلامية وفي تفسير الصعود الإسلامي. فهناك من يحيل ذلك إلى ظروف التهميش الاقتصادي والإقصاء السياسي، وهناك من يعترف أن هذه الحركات تشكل الامتداد الطبيعي لحيوية وفعالية الروح الحضارية الإسلامية التي تشكل العمود الفقري لثقافة العالم الإسلامي، والمستندة على العامل الديني، بالدرجة الرئيسة، الذي لا يمكن إغفاله أو تجاهله عند التعامل مع العالم الإسلامي (?) .
هذا التباين (النظري) الشاسع بين الطرفين في تعريف الحركات الإسلامية ألقى بظلاله على القضية الثانية وهي طبيعة السياسة الأمريكية من الحركات الإسلامية؛ فقد رأى الاتجاه الأول أنّ على الولايات المتحدة أن تعرّف هذه الحركات كعدو ومصدر تهديد لأمنها ومصالحها، وتبني سياستها الخارجية على هذا الأساس. وانطلاقاً من هذه الرؤية فقد طالبوا بدعم النظم العربية في مواجهة هذه الحركات، والعمل على مراقبتها ومحاصرتها وتجفيف منابع الدعم المالي والفكري لها، بما في ذلك الوجود الإسلامي في الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وأوروبا، والعمل على منع قيام جمهوريات إسلامية جديدة على غرار الجمهورية الإيرانية ـ وفق الرؤية الأمريكية ـ ومدافعة الحركات الإسلامية كي لا تصل إلى الحكم سواء عن طريق العمل السياسي الرسمي أو العمل العسكري (?) . أمّا المعتدلون فقد اختلفوا في تحديد السياسة الأمريكية تجاه هذه الحركات: بين من رأى ضرورة التمييز بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة من خلال اتخاذ طريق الحوار والتفاهم مع المعتدلين وطريق الردع والمواجهة مع المتطرفين (?) ، وبين من رأى أن الأمر يتطلب إعادة النظر في السياسة الخارجية الأمريكية ذاتها القائمة على عدة قواعد أدت إلى ظهور الإسلام المتطرف ومنها دعم النظم الاستبدادية والموقف من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومصالح المجمع الحربي الأمريكي في إشعال الصراعات في منطقة الشرق الأوسط لتسويق منتجاته العسكرية (?) .
` التعريف الرسمي للسياسة الأمريكية:
الجدل السابق تمحور بين الاتجاهات الفكرية داخل مراكز الدراسات وبنوك التفكير. أما السياسة الخارجية الأمريكية الواقعية، والخبرة المعاصرة لها في التعامل مع حركات الإسلام السياسي، فتعتبر دراسة الخبير الصهيوني في معهد الشرق الأدنى للدراسات «روبرت ساتلوف» بعنوان: «السياسة الأمريكية تجاه الظاهرة الإسلامية مراجعة نظرية وتطبيقية» (1998م) بمثابة الدراسة العمدة في هذا المجال؛ فقد رأى ساتلوف بعد دراسة وتمحيص وتوثيق للخطابات السياسية الرسمية الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية أنه لا يوجد سياسة مقررة ومحددة رسمياً تجاه الحركات الإسلامية بعينها، وإنما هناك سياسة تجاه المصالح الأمريكية في العالم، وقد وضح ذلك بليترو ـ مساعد سكرتير الدولة لشؤون الشرق الأدنى سابقاً ـ بقوله: «الإسلام السياسي يصبح عاملاً بالنسبة لنا فقط عندما يرتطم بأهداف أو مصالح أمريكية» ، وقوله: «يجب أن نتعامل مع الأصولية الإسلامية في سياقات مختلفة، كيف تؤثر في قضايا ذات أهمية للولايات المتحدة، مثل: عملية السلام، محاربة الإرهاب، أو تشجيع الأسواق الحرة، أو احترام حقوق الإنسان، النقطة الأساسية في أهدافنا ليست الإسلام السياسي» .
وعلى رغم تأكيد ساتلوف السابق على عدم وجود تعريف رسمي للسياسة الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية، فإنه قد أقرّ وبوضوح أن سياسة الولايات المتحدة قد تطورت عملياً من خلال عقد التسعينيات لتصل إلى المواقف التالية:
- إن تنامي الحركات الإسلامية عامل تهديد مباشر وغير مباشر للمصالح الأمريكية وحلفائها في العالم.
- إن الولايات المتحدة قد عرّفت هذا الخطر من خلال مصدرين: دول مستقلة كإيران والسودان، وحركات سياسية كحزب الله وحماس.
- وضعت الولايات المتحدة استراتيجية الاحتواء ضد النوع الأول (الدول المستقلة) ، أما النوع الثاني (الحركات الإسلامية) فقد أكدت الولايات المتحدة على المقولات التالية: محاربة الإرهاب مع عمل أمني قوي داخل العالم الإسلامي وخارجه، إصلاحات سياسية تدريجية في عدد كبير من الدول تتمحور في السماح بالحريات الفردية ثم الانتخابات، وعادة ما تترك واشنطن القرار العملي بهذا الخصوص في يد شركائها من الحكومات الصديقة وظروفها، تقديم مساعدات اقتصادية لعدد من الدول الحلفاء في مواجهة الأصولية الإسلامية، إفساح المجال لعملية السلام العربي ـ الإسرائيلي، كأحد العناصر الرئيسة في مواجهة الحركات الإسلامية.
وتتوافق الملاحظات السابقة مع رؤية «دانيل بايبس» التي تقوم على أنّ الولايات المتحدة قد أعادت تعريف مصالحها بعد انتهاء الحرب الباردة، وأعادت كذلك تحديد مصادر التهديد لأمنها القومي، وقد تكونت رؤية مع مرور الوقت داخل الدوائر الرسمية الأمريكية أنّ الحركات الإسلامية هي بمثابة أبرز مصادر التهديد الصاعدة، وأنها تشكل في مجملها خطراً على المصالح الأمريكية (?) ، وهي النتيجة التي أشار لها - بطريقة غير مباشرة ـ كل من «برنارد لويس» و «مارتن إنديك» الذي رأى في مقال له في مجلة الشؤون الخارجية (1993م) أنّ الشرق الأوسط على مفترق طرق وأمام خيارين رئيسين: إما الأصولية الإسلامية، وإمّا الليبرالية الغربية.
وقد تصاعد الحديث بشكل كبير في فترة التسعينيات عما يسمى بالخطر الإسلامي الأخضر، والراديكالية الأصولية الإسلامية، وساهمت كثير من النظم العربية ـ كما يرى سبوزيتو ـ في تعزيز المخاوف والهواجس الغربية ضد الحركات الإسلامية في محاولة لدفع الغرب لتقديم المساعدات لهذه النظم في مواجهة هذه الحركات، كما ساهم اللوبي الصهيوني الأمريكي والكيان الصهيوني في الترويج داخل الدوائر الغربية للخطر الإسلامي القادم، كما لعب كل من الإعلام الغربي وعدة أحداث دامية قامت بها الحركات الإسلامية في التأكيد على منطق الصراع بين الإسلام السياسي وبين الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا يخفى على هذا الصعيد الدور الذي مارسه عدد من المنظرين والكتاب الغربيين الصهاينة في تعزيز رؤية الصدام والصراع بين الإسلام السياسي والغرب، ويأتي في مقدمة هؤلاء الكتاب «صموئيل هنتنجتون» و «برنارد لويس» و «دانيل بايبس» ، وتقف معهم الحركات الإنجيلية الأصولية البروتستانتية التي تنطلق كلها من منظور ديني/ ثقافي وتاريخي للعلاقة بين الحركات الإسلامية وبين الغرب يقوم على سيطرة فكرة الصراع والعداء بين الطرفين.
` أحداث أيلول وتطورات العلاقة:
من الجدير ذكره أن الاتجاهات والاجتهادات السابقة، والتي رصدتها بعض الأدبيات العربية (في مقدمتها دراسة فواز جرجس) كانت قبل أحداث أيلول، وفي الأغلب الأعم في النصف الثاني من التسعينيات؛ حيث تزايد الاهتمام البحثي والسياسي الأمريكي بشكل كبير بدراسة الحركات الإسلامية، إلاّ أن أحداث أيلول قد أدت إلى تطور كبير في دراسة الحركات الإسلامية في الولايات المتحدة، بل وأصبحت من الموضوعات البارزة ومدار اهتمام عدد كبير من القراء والباحثين الغربيين، بحيث شهد الاهتمام الغربي طفرة كبيرة في هذا المجال البحثي، وإن كان قد تميز في أغلبه بروح العداء والموقف السلبي من الإسلام السياسي، ويكفي إلقاء نظرة على المنتجات الفكرية لعدد من مراكز الدراسات الأمريكية ومواقعها على شبكة الإنترنت حتى نجد مجالاً واسعاً من الإنتاج الخاص بدراسة الحركات الإسلامية المنتشرة في مختلف مناطق العالم، وتجد أنّ معظم هذه الدراسات قد جاءت تحت عنوان الإرهاب السياسي.
ويأتي في سياق الحديث عن أحداث أيلول ـ كنقطة تطور في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الإسلام السياسي ـ الحديث عن متغيرات رئيسة أخرى، وفي مقدمتها سيطرة المحافظين الجدد على مقاليد الحكم والإدارة في البيت الأبيض وعلى العديد من المؤسسات السياسية والإعلامية والثقافية، ويرتبط بذلك ما يحمله اليمين الأمريكي الجديد من رؤى دينية وسياسية تقوم على منظور الصراع الديني والحضاري مع الإسلام والمسلمين، مما أثّر بشكل كبير على صياغة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه العالم العربي والإسلامي، بما في ذلك الحركات الإسلامية.
وتزايد الحديث بعد أيلول عما زعم ضد الوهابية وخطورتها ودورها في تقديم السند الفكري والدعم المالي للحركات الجهادية، واعتبرت الوهابية بمثابة «رأس الحربة» في الهجوم السياسي والإعلامي الأمريكي الشديد على (الإرهاب الإسلامي) ، وتعرّضت السعودية في هذا الإطار إلى حملة سياسية وإعلامية كبيرة جداً، وهو الأمر الذي وصل بعدد من السياسيين والكتاب الأمريكيين إلى اعتبار السعودية عدواً وليس حليفاً للولايات المتحدة (?) .
لقد قيل بعد أحداث أيلول أن الأحداث - قد أضعفت اتجاه التعايش داخل الفكر السياسي الأمريكي، وأضعفت حججه ومواقفه، وأنها أتت لترجح التيار الآخر، وصارت بمثابة التطبيق العملي لمنطق صدام الحضارات والأديان، وما هذه الأحداث وما تلاها من تداعيات وفي مقدمتها إعلان الحرب على الإرهاب والحرب الأفغانية واحتلال العراق إلاّ إثبات عملي على أن الحركات الإسلامية هي العدو الجديد الرئيس للولايات المتحدة، لذلك يجب أن تكرس كل الجهود لمحاربتها وتجفيف مصادرها المالية والاجتماعية.
من هنا انطلقت الدعوات الكبيرة داخل الولايات المتحدة لإصلاح العالم الإسلامي، وكل ذلك بناء على فرضية رئيسة وهي: أن الظروف السياسية والاقتصادية داخل العالم الإسلامي هي التي توجد التربة الخصبة لنمو بذور (الأصولية الإسلامية) ، وأنّ مواجهة الأصولية وهي ـ وفقاً لهذه الرؤية ـ تمثل صدى الإحباط والغضب لإخفاق النظم السياسية العربية لا تكون إلا من خلال عمليات إصلاح بنيوية للعالم العربي تأخذ أبعاداً سياسية واقتصادية وثقافية وتعليمية (?) .
بيد أنّ النقطة السابقة وهي: الإصلاح في مواجهة الإرهاب أو التطرف، هي ـ ذاتها ـ دفعت إلى إعادة الاعتبار لتيار التعايش داخل الفكر السياسي الأمريكي، وتبلور سؤال جدلي: هل هناك إمكانية لوجود حركات إسلامية معتدلة تدخل في إطار اللعبة السياسية وفق القواعد الأمريكية، وتشكل شريكاً محتملاً في المرحلة القادمة، وتساهم في إعادة صوغ العلاقة بين الإسلام السياسي وبين الولايات المتحدة الأمريكية؟.
إنّ تنامي الدعوات داخل الفكر السياسي الأمريكي، كما سنقرأ لاحقاً، يشكل نقيضاً أيديولوجياً وسياسياً لاتجاه الإقصاء والتشدد داخل السياسة الأمريكية، وقد لمح عدد من الكتاب هذا الأمر من خلال تعيين فيلدمان (على الرغم من أنه يهودي) مستشاراً في وضع الدستور العراقي، وهو الذي يحمل رؤى أكثر اعتدالاً في تصور العلاقة بين الإسلام والغرب من خلال كتابه المعروف عن الجهاد.
وعند التمعن في الموضوع، يمكن القول: إنّ «سؤال الشريك الإسلامي» لم يأت من فراغ في هذه الفترة، بل هناك كثير من المؤشرات التي تدل عليه، وأبرزها نموذج حزب العدالة والتنمية التركي، الذي رأى فيه «ريتشارد هاس» (مسؤول التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية) في خطاب مهم له بعنوان: «باتجاه ديمقراطية أكبر في العالم الإسلامي» Toward صلى الله عليه وسلم Greeter عز وجلemocracy in The Islamic World نموذجاً عملياً لقبول الولايات المتحدة بالتعايش مع الأحزاب الإسلامية في ضوء معايير ومحددات معينة، وهناك أيضاً نموذج الحزب الإسلامي في العراق (الذي يشكل جزءاً من التنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين) ، وهناك الحوارات الدائرة بين دوائر غربية وأمريكية وبين حركات إسلامية، وكذلك الأمر هناك تقارير لمؤسسات ومنظمات دولية - غير حكومية - تدعو إلى إدخال الحركات الإسلامية في الترتيبات السياسية الجديدة في المنطقة العربية، وفي مقدمة هذه المنظمات: مجموعة الأزمات الدولية، التي أصدرت عدة تقارير ـ بهذا الخصوص ـ أبرزها تقرير حول مصر يدعو إلى إشراك الإخوان في المرحلة السياسية القادمة، وكذلك تقرير بعنوان «التعامل مع حماس» عز وجلealing with Hamas يدعو إلى محاولة التفاهم مع حماس على ترتيبات المرحلة السياسية القادمة، والانسحاب الإسرائيلي من أراضي عام 1967م، وفق قواعد معينة من الاتفاق يحددها التقرير المذكور (?) .
ومن العوامل المؤثرة ـ في هذا السياق ـ تصاعد قوة وزخم نزعة «معاداة الأمريكية» في العالم أجمعه وفي العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، وهو الأمر الذي دفع باتجاه البحث عن مسارات لتحسين العلاقة مع المجتمعات العربية، ولعل أفضل الطرق إلى ذلك وجود شركاء إسلاميين يقبلون بالمصالح الأمريكية في المنطقة، ويشكلون قاعدة اجتماعية تكفل تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم العربي، والتأكيد على جدية الولايات المتحدة في المضي قدماً بالإصلاحات، ومما يعزز هذا التصور، بالإضافة إلى المؤشرات السابقة، أن الإسلاميين ما زالوا يمتلكون الحضور والنفوذ الواسع في المجتمعات العربية والإسلامية، على النقيض من العلمانيين الذين يفتقدون إلى هذه القاعدة، كما أن العلمانيين، حتى وإن اتفقوا مع الولايات المتحدة في كثير من القيم الاجتماعية، إلاّ أنّ جزءاً كبيراً منهم معاد للسياسة الأمريكية (?) .
` من الإسلام المعتدل إلى الشريك الإسلامي:
لقد تطورت رؤية الأدبيات الأمريكية حول الحركات الإسلامية خلال الفترة السابقة من الحديث عن إسلام معتدل وسلمي، وتحديد مواصفاته قبل أحداث أيلول، إلى الحديث عن الشريك الإسلامي في هذه المرحلة، والسبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف الظروف السياسية بين المرحلتين؛ فالفترة السابقة كانت الأدبيات الأمريكية تناقش مشكلة ومعضلة جوهرية في السياسة الأمريكية، وهي تعريف الحركات الإسلامية وتحديد السياسة تجاهها، وقد غلب على تلك النقاشات الطابع النظري والفكري؛ إذ لم تكن الولايات المتحدة فاعلاً مباشراً ورئيساً علنياً في رسم السياسات في العالم العربي. أما الفترة الحالية فالمشكلة التي تواجه السياسة الأمريكية ليست فقط تعريف الحركات الإسلامية وتصنيفها، وإنما البحث عن شريك من هذه الحركات يقبل بالمشروع الأمريكي، ويندمج في الترتيبات السياسية القادمة في المنطقة؛ فالمطلوب هنا أمر عملي مباشر وليس محاولات تصنيف فكرية عامة.
الفقرات السابقة تقودنا إلى تحديد موقع مفهوم الإسلام المعتدل والشريك الإسلامي من الأجندة السياسية والبحثية الأمريكية، والملاحظة الأولى أن الحديث عن الإسلام المعتدل سابقاً، أو الشريك الإسلامي لاحقاً يأتي في سياق تيار داخل الفكر السياسي الأمريكي، وهذا التيار ليس هو التيار الغالب، وإن كانت بعض المؤشرات قد أتت ـ مؤخراً ـ في صالحه، إلاّ أنه يبقى التيار الأضعف والأقل نفوذاً وقوة داخل الدوائر الأمريكية التي يسيطر عليها التيار المتشدد، والذي يرفد قوته وحججه جملة كبيرة من العوامل أهمها الصورة الذهنية النمطية داخل المجتمع الأمريكي، التي تصيب النخبة هناك بمقدار ما تصيب الشعب، والمحملة بالموقف السلبي الكبير تجاه العرب والمسلمين بشكل عام، وكذلك دور الكنيسة هناك في تعزيز مظاهر العداء الديني، ودور اللوبي الصهيوني والإعلام والكونغرس ... إلخ. بمعنى: أنّ التيار الرئيس في الثقافة الأمريكية هو تيار التشدد وليس تيار التعايش (?) .
أما الملاحظة الثانية، وهي على درجة من الأهمية، أنّ النظر إلى مفهوم الإسلام المعتدل أو الشريك الإسلامي في الرؤية الأمريكية يأتي ضمن منظور المصالح السياسية الأمريكية، ومن ثم فإن تحديد وتعريف الإسلام المعتدل يتأطر بشكل رئيس بما بتوافق مع المصالح الأمريكية، ضمن رؤية التيار المعتدل في الفكر السياسي الأمريكي، وهنا نجد أننا أمام عملية محكمة لا تقيم اعتباراً للاختلافات الحضارية وللزوايا المختلفة في الرؤية لموضوع المصالح والقيم الحاكمة؛ فالذي يميز الإسلام المعتدل عن الإسلام المتطرف هو مقدار التوافق مع المصالح الأمريكية، دون النظر فيما إذا كانت هذه المصالح ذاتها شرعية أم، لا. ومن ثم نحن لسنا هنا أمام قضية معرفية أو حضارية، وإنما أمام قضية براغماتية سياسية.
والملاحظة الثالثة هي أنّ المنظور الثقافي كذلك يقوم على طابع نرجسي فوقي في التعامل مع الآخر؛ فالإسلام المعتدل هو الإسلام الذي يقبل القيم لثقافية والسياسية الغربية: حقوق الأقليات، حقوق المرأة، الحريات الدينية.. إلخ، وكل العناوين السابقة تأتي في إطار الفهم الثقافي الغربي لها ومنطلقاته القيمية الحاكمة، على اعتبار أنها الأمثل والأفضل، دون النظر كذلك في مدى توافق هذا الفهم مع المنظور الحضاري الإسلامي، وهنا فإنّ الإسلام المطلوب هو الإسلام الذي يلوَّن ويفسَّر ويؤطَّر بما يتوافق مع الثقافة الغربية والمنظور السياسي والأمني الأمريكي.
كل هذا وذاك يقودنا إلى موضوع خصائص الإسلام المعتدل والشريك الإسلامي، ويظهر من مجموعة كبيرة من التصريحات والكتابات جملة من السمات المطلوبة، وإن كان هذا الموضوع ـ كما يخلص ساتلوف من دراسته تلك - يشكل جوهر ومعضلة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، كما أنه مدار جدل واختلاف كبير في الدوائر الثقافية والسياسية هناك.
كان التمييز بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف في بعض الأدبيات الأمريكية في فترة التسعينيات يقوم على معيار استخدام العنف والطريق السلمي، فوصفت الحركات التي تستخدم العنف بأنها متطرفة بينما التي تتخذ طريق العمل السياسي المشروع والتي تشارك في الانتخابات بأنها معتدلة، إلاّ أنّ هذا المعيار لقي معارضة شديدة؛ فقد رأى عدد من الباحثين أن الحركات الإسلامية السلمية تتخذ الديمقراطية تكتيكاً للوصول إلى أهدافها السياسية بإقامة الدولة الإسلامية، ثم تتخلى عن الديمقراطية، ورأوا أن الحركات السلمية والعنيفة تتفقان في الأهداف وإن اختلفتا في الوسائل. ورأى آخرون أن التمييز بين الحركات الإسلامية يمكن أن ينهض على معيار الممارسة القانونية داخل الدولة، لكن هذا المعيار اعترض عليه بأنّ هناك كثيراً من الأحزاب والحركات التي يتسم نشاطها بالمشروعية القانونية داخل دولها، لكنها معادية للولايات المتحدة مثل حزب الله اللبناني. وقد استقر عدد كبير من الباحثين والسياسيين الأمريكان على أنّ معيار الاعتدال يقوم على عدة مؤشرات رئيسة أهمها: القبول بالديمقراطية والتعددية كنظام سياسي نهائي، القبول بالتعددية السياسية، الحرية الدينية، حرية المرأة، حقوق الأقليات، الحريات العامة، العملية السلمية مع إسرائيل، عدم تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة (?) .
وقد شكلت تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، بعد أحداث أيلول، نموذجاً لمفهوم الشريك الإسلامي المعتدل، ويمكن إجمال سمات هذا النموذج بـ: التصالح مع الغرب، القبول بالمصالح الأمريكية في المنطقة، الرؤية الليبرالية المحضة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، بما في ذلك الحريات السياسية والاقتصادية، القبول بالعملية السلمية، الشراكة مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب على المستوى السياسي والأمني (?) .
أما تجربة الحزب الإسلامي العراقي إلى الآن، فإنها غير واضحة كثيراً، ولكنها تشكل مدخلاً عاماً لإمكانية التعايش بين الظاهرة الإسلامية والمشروع الأمريكي، خاصة إذا وضع نموذج الحزب الإسلامي، والاتحاد الإسلامي الكردي في مواجهة الحركات والأحزاب الإسلامية التي تتبنى خيار المقاومة والصدام مع المشروع الأمريكي.
كما تكررت فكرة الشريك الإسلامي في عدة مقالات ودراسات كان آخرها دراسة صادرة عن مؤسسة (راند) بعنوان: «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات» قامت بها الباحثة (شيريل برنارد) (?) ، وتقوم فكرة الدراسة على مفهوم جديد بدأ بتداوله عدد من السياسيين الأمريكان وهو «بناء الدين» Religion رضي الله عنهuilding، وتستند إلى تقسيم ساذج للتيارات السياسية الإسلامية إلى أربعة تيارات: تقليديين، أصوليين، حداثيين (إسلاميين) ، علمانيين. ويقوم الدور الأمريكي المطلوب في البحث عن الشريك الإسلامي وهو وفقاً للكاتبة «الإسلام الحداثي» ، لكن هذا لا يمنع من مساهمة الولايات المتحدة في دعم التقليديين والعلمانيين بما يخدم أهدافها ومصالحها، فلا بد من تقوية التقليديين للوقوف في مواجهة الأصوليين، والعلمانيين للتأكيد على فكرة الفصل بين الدين والدولة.
إلاّ أن الذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذه الدراسة أن فكرة الشريك الإسلامي هنا ترتبط ـ كما سبق بالمعيار السياسي والثقافي الأمريكي ـ من جهة، ومن جهة أخرى بدور هذا الشريك في مواجهة الأطراف الإسلامية الأخرى؛ فحتى التيار التقليدي مرشح أن يكون شريكاً بدرجة ما في سياق مواجهة الأصوليين، بمعنى آخر: فكرة الشريك هنا تمثل فكرة وظيفية في مواجهة الأطراف الإسلامية الأخرى، وليس شريكاً سياسياً عاماً ـ على سبيل المثال ـ. والمحصلة هي دوافع الباحثة في إشعال الحروب الداخلية بين التيارات الإسلامية، ونقل الصراع إلى الداخل.
` الخاتمة:
تقوم فكرة الشريك الإسلامي ـ والتي ورثت ـ إلى درجة كبيرة فكرة الإسلام المعتدل ـ في الرؤية السياسية الأمريكية على تحيز ثقافي وسياسي صارخ بعيد كل البعد عن الرؤية الموضوعية التي تقوم على التنوع الحضاري والثقافي ومشروعية تعدد المصالح السياسية والاقتصادية.
والأمر لا يخرج هنا عن عملية إنتاج لتيار إسلامي بمواصفات أمريكية، تتم عملية إدماجه في مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ليصبح ملحقاً بهذا المشروع؛ ليكتسب المشروعية والقبول من قِبَل الطرف الأمريكي.
ولا تبدو فكرة الشريك الإسلامي واقعية رغم المؤشرات العديدة عليها، ذلك أنها تتصادم مع الشروط الموضوعية والعوامل الذاتية التي أنتجت الفعالية الإسلامية، وأوجدت بدورها مشروعيتها السياسية في تمثيل المجتمعات العربية؛ فالحركات الإسلامية تمثل طموح الأمة المشروع في استعادة روحها الحضارية، وفي الوصول إلى مطالبها في النهضة والاستقلال والتنمية والتحرر، وهذه المطالب تتناقض بدرجة كبيرة مع المصالح والمشروع الأمريكي في العالم العربي القائم على قاعدة الاستغلال والتبعية والهيمنة.
فنحن إذن ـ هنا ـ أمام مشروعين متضادين على المستوى السياسي، وعملية الشراكة بينهما تقوم على تنازل، والتنازل المطلوب أمريكياً تنازل كبير مبني على تقدير أن تدهور المجال السياسي العربي سيخدم حصول الولايات المتحدة على هذا التنازل من أحزاب إسلامية، سعياً لتحقيق مكاسب لها، كما هو الحال في الحزب الإسلامي العراقي. بينما الأحزاب الإسلامية لا يمكن أن تحصل على تنازل من الولايات المتحدة في ضوء المعادلة الحالية من حسابات القوة العسكرية والسياسية.
لذلك فإنّ فكرة الشراكة ستكون محدودة وغير فاعلة وعلى هامش الحياة السياسية العربية والإسلامية، ويعزز هذه النتيجة أن الحركات الإسلامية تحمل مشروعاً حضارياً يستند إلى جملة من القيم الحاكمة التي تختلف كثيراً عن القيم الثقافية الأمريكية، ومن ثم من الصعوبة بمكان تصور وجود حزب إسلامي يقبل بالتصور الثقافي الغربي كإطار فكري حاكم لمشروعه الإصلاحي، وإلاّ فلماذا يرفع الشعار الإسلامي؟ بل إن عدداً كبيراً من الحركات الإسلامية السلمية المعتدلة قامت في التاريخ الحديث والمعاصر على أساس رفض البديل الثقافي الغربي وعدم صلاحيته للتطبيق في العالم الإسلامي.
كما أن عملية تعميم نموذج حزب العدالة والتنمية في المنطقة العربية، عملية غير منطقية؛ لأن حزب العدالة والتنمية قد ولد في إطار ظروف خاصة ليتجاوب مع معادلة سياسية مختلفة تماماً عن المعادلة السياسية في العالم العربي، وكثير من مواقفه السياسية والفكرية تمليها عليه طبيعة المعادلة الداخلية التركية وليس المنطلقات الفكرية الأصلية له كحزب إسلامي، وبالضرورة فإن التجربة التركية مختلفة تماماً عن التجربة العربية، كما أن التحديات التي تواجه الحزب تختلف جذرياً عن التحديات التي تواجه الحركات والأحزاب الإسلامية العربية، وهو الأمر الذي يجعل من فكرة تعميم نموذج حزب العدالة فكرة وهمية غير قابلة للتطبيق.