أحمد الشهري
` وعد القرآن بالتمكين لدعوة الحق:
الوعد بالتمكين لدعوات المرسلين وأتباعهم من المؤمنين استفاضت به آيات التنزيل، وكادت لا تذكر تحدياً بين الحق والباطل أو صراعاً أو دولة دالت بأتباع الحق إلا وعقبت على ذلك الحال بالطمانة بأن العاقبة للمتقين، والنصر للمرسلين، والغلبة للجند المؤمنين. قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}
[الأنبياء: 105 - 106] .
قال أكثر أهل التفسير: أي كتب الله ذلك عنده من اللوح المحفوظ وهو الذكر، وجزم به ـ سبحانه ـ بعد ذلك في «الزبور» وهو اسم جنس للكتاب المنزل على الأنبياء من التوراة والإنجيل والقرآن وما هو من جنسها (?) . فالوعد إذن بالتمكين مؤكد غاية التوكيد مجزوم به من الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أم الكتاب عنده وفي سائر كتبه المنزلة، ولقد تكاثرت الآيات وتظاهرت على توكيده كذلك في القرآن الكريم. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ؛ وقال ـ سبحانه ـ: {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20 - 21] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13 - 14] .
والوعد بالتمكين يأتي أحياناً في الذكر الحكيم مجزوماً به، ولكن يُذكر فيه الرسل فقط، وأحياناً يُذكر الرسل والمؤمنون في سياق بعض آيات الوعد بالتمكين أو النصر، وتارة ثالثة يفرد ذكر المؤمنين فقط في سياق الآيات، ولا إشكال في ذلك أو عظيم تباين؛ فالوعد للرسل ينسحب كذلك على المؤمنين باعتبار أن الرسل لا يمكن أن يجاهدوا أو يُمَكَّنوا إلا في أتباع من المؤمنين، وكذلك الوعد للمؤمنين ينسحب على الرسل باعتبارهم من أهل الإيمان.
لكننا نلحظ في القرآن مجيء الوعد بالنصر والغلبة والعاقبة والتمكين المذكور فيه الرسل أكثر وآكد ـ بمؤكدات لفظية ظاهرة ومعنوية ـ من الوعد بالتمكين والنصر المذكور فيه المؤمنون فقط، وما ذاك إلا أن دعوات الرسل خصوصاً من أمر منهم بقتال؛ فلا يمكن أن يغلبه أعداؤه أبداً، بل النصر مجزوم به له ولأتباعه وهم الغالبون القاهرون.
وقال ـ تعالى ـ: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] ، وهنا أكد الله ـ سبحانه وتعالى ـ غلبة الرسل بمؤكد ما بعده مؤكد؛ فقد عطف الرسل على ذاته العلية (أنا) فتأكدت الغلبة كل تأكيد؛ فالله معهم، وهو غالب لا يُغلب سبحانه. والتحقيق أن الأنبياء الذين ذكر القرآن أن أقوامهم قتلوهم أنهم لم يكونوا في قتال (?) . أما من قاتل منهم فإنه لا يتصور بحال، ولا يليق بحال العزيز القهار ذي الانتقام أن يكلف ويرسل رسولاً ويأمره بقتال، ثم يُقتل وهو لم يرَ ما وُعِدَ من نصر، والآية المذكورة شاهدة في هذا المعنى بذلك.
ومما يلاحظ كذلك أن الآيات التي جاء فيها الوعد بالتمكين ونحوه وذكر لفظ الرسل فيها فهي في الغالب تجزم بالوعد دون تعليقه على أي عمل أو شرط أو تقديم يتقدم به الرسل لينالوا الوعد ويتحقق لهم؛ بينما الآيات التي يذكر فيها الوعد بالتمكين ونحوه للمؤمنين يعلق الوعد بالتمكين أو النصر أو نحوها بأعمال وأحوال إذا هي تحقق لهم متعلقها من الموعود به من النصر والتمكين؛ وذلك أن الرسل على صلة مباشرة بالوحي فلا حاجة لتنبيههم لحالة أو صفة ليتحلوا بها، وهم قد تحلوا بالصفات المؤهلة لنيلهم النصر منذ تأهلوا واستحقوا أن يكونوا موضع رسالات الله سبحانه وتعالى. وكذلك فهم لصلتهم المباشرة بالوحي وعناية الإله ورعايته لدعوتهم لا يمكن أن يخطئوا الطريق، أو يَعْشَوْا عن عوامل النصر وأسباب تحقق الوعد بالتمكين.
أما أهل الإيمان من بعد الرسل فإنهم لا يلبثون بين فينة وأخرى حتى يقصِّروا عن أسباب النصر، وعوامل التمكين، أو يبحثوا عنها أحياناً، ويخطئوا الطريق إليها أحياناً، أو تفقد منهم صفات وأحوال هي حتمية لنيل النصر وإحقاق وعد الله لهم بالعاقبة؛ ولذلك جاء الوعد بالتمكين لهم معلَّقاً بصفات وأعمال وتقدمات يجب أن يحفظها أهل الإيمان ليتحقق لهم وعد النصر والتمكين.
وإليك الآيات في ذلك؛ فهي ظاهرة الدلالة واضحة في ترتيب الوعد لهم وتعلقه بأمور عدة بخلاف ما سبق سرده من آيات ذكر فيها الرسل، وذكر فيها الوعد لهم بالنصر والتمكين دون تعليق إلا نادراً.
وهذه الآيات التي ذكر فيها وعد المؤمنين:
قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ، فعلق الوعد بالتمكين هنا بأربعة أمور:
1 - وجود الجماعة المؤمنة وتحقيق الإيمان فيها.
2 - عمل الصالحات: من القيام بشرائع الدين وتنفيذ أوامر الله عملاً وليس دعاء فقط.
3 - التزام نهج الصحابة، لقوله: {مِنكُمْ} فالخطاب لهم، وينسحب على من نهج نهجهم.
4 - انتفاء الشرك في العبادة: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} .
قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ، وهنا علق الله ـ سبحانه وتعالى ـ نصره للمؤمنين بقيامهم بنصر دينه سبحانه.
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] . فرتب النصر والفتح هنا على الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس.
` نتيجة تمايز الوعدين:
ومن خلال امتياز وعد الرسل بالتمكين عن وعد المؤمنين في القرآن حيث تظهر الميزتان السابقتان وهما:
1 - كثرة المؤكدات اللفظية والمعنوية.
2 - عدم تعليق الوعد بتمكينهم بشرط أو عمل كما في وعد المؤمنين.
من خلال ذلك نخرج بنتيجة هامة جداً وهي أن التزام منهج الرسل في نصرة الدين أعظم عوامل تمكين الجماعة المؤمنة من بعدهم، وذلك أن هذا الالتزام التزام لمنهج قد ضمن الله ـ سبحانه ـ له التمكين، وكتبه على نفسه، وأكده أعظم تأكيد، ولم يعلقه بشرط أو أمر، مما يدل على أنه منهج شامل متكامل يضم كل عوامل النصر والتمكين ويضمنها؛ فالثبات عليه هو جماع الأمر في تمكين المؤمنين ودعوتهم، والسبب الأول والأخير في سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولقد بيَّن الله ـ جل وعلا ـ هذا أتم البيان، وجعل ذلك سنة لا تتخلف في نصر المؤمنين إذا ثبتوا على مناهج المرسلين، وسماهم بذلك «المحسنين» . قال ـ تعالى ـ عن الجموع الغفيرة من المؤمنين الذين ثبتوا بعد قتل النبي: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ *فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] .
فتأمل قوله ـ تعالى ـ: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ} أي كم من نبي قتل؛ فهذا ليس بحال نبي واحد ولا مجموعة بل كثرة، وهذا حال المؤمنين بعدهم، وهذا حال نصر الله لهم فآتاهم الله (ثواب الدنيا) أي «النصر والظفر والعاقبة» (?) ، مع حسن ثواب الآخرة كذلك.
وجعل هذا ـ سبحانه ـ سُنَّةً ثابتة في سورة الصافات للمؤمنين إذا ترسموا مناهج النبيين، فعقب على نصر نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ كلاً على حدة ـ بقوله: {إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 121 - 122] أي نصر الله هذا لهم ليس خاصاً بهم فقط، وإنما لكل جماعة مؤمنة أحسنت على نهج إحسانهم، وعبدت الله على حقيقة إيمانهم.
ومن هنا نعلم مدى الحكمة عند الصحابة، وعظيم الحرص على الثبات على الحال التي فارقهم عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في بناياتهم ومقتنياتهم وحالتهم المادية ـ عند كثير منهم ـ فكيف بحرصهم على البقاء على الدين والمعتقد والإيمان والمنهج وهو سبيل النصر العظيم في الدنيا، وسبيل النجاة في الآخرة؟