الحضارة المعاصرة ... الوجه الآخر
اميركا: الصَيف الأسْوَد
د. عبد الله أحمد عمر
قد لا يتصور الإنسان مدى معاناة الأمريكان السود حتى تطأ قدماه الأرض
الجديدة، هذه المخلوقات البشرية التي كرمت لإنسانيتها، تزهق معنوياً ومادياً
وأخلاقياً وصحياً في ما يعرف اليوم بالعالم الحر.. والمتقدم.
ولعل فترة الستينات من هذا القرن قد شهدت تحولاً كبيراً في أوضاع السود.
فلأول مرة يعترف بهم كآدميين ويسمح لهم بممارسة حقوقهم المدنية التي تثير دهشة
كثير منا من الذين يحملون خلفية راقية لمفهوم الإنسان كما حدده المنهج القرآني..
وأخيراً سمح للأمريكي الأسود الذي استوطن الأرض الأمريكية لقرون بأن
يركب نفس الحافلة، ويأكل في ذات المطعم، ويرسل أولاده إلى تلك المدرسة التي
ظلت مغلقة في وجهه مشرعة لذوي الدماء الزرقاء " السادة البيض " وظل الرجل
الأبيض البروتستانتي غالباً هو المسيطر على السلطة حتى اليوم مع إعطاء حق
الضجيج والاعتراض أو ما يسمى بحرية الرأي للأقليات المستوطنة مع مشاركة لها
في السلطة حسب اتجاه رياح المصلحة.
ويمكن القول أن الأقلية الوحيدة المستفيدة من هيكل السلطة الأمريكية هي
الجالية اليهودية.. لحسن تنظيمها وتوزيع الأدوار فيما بينها بين أقصى اليمين إلى
أكثر فئات اليسار تطرفاً.. وبين القوى المتدينة بالمفهوم المسيحي / اليهودي، أي
بمفهوم العهد القديم، إلى أكثر الأصوات ارتفاعاً في صف العلمانيين: الليبراليين..
ولعل سائلاً يتساءل: أين الأقلية الكبرى عن هذه الحمى.. أعني أين السود عن
التأثير في مجرى الأحداث.. مع كونهم أكبر الأقليات وأقدمها على الصعيد
الأمريكي.. والجواب يأتي من خلال الأحداث المتلاحقة التي شهدتها أمريكا هذا
الصيف، وبالذات نيويورك قلب أمريكا المتناقض فهي التي تحاول الإجابة عن هذا
السؤال المحير..؟ ولتحدد قطعاً مدى " الحرية " " والمساواة " " والإنسانية " التي
يرفع الغرب شعارها.
صدر التقرير الفدرالي لهذا العام ليقول: إن الأمريكي الأسود قد تقهقر دخله
مقارنة بأوائل السبعينات.. ففي حين شهدت معظم الأقليات ازدهاراً اقتصادياً؛ كان
نصيب السود مزيداً من الفقر وأمراضه الفتاكة في مجتمع لا يقيم للإنسان قيمة إلا
بقدر " القوة " التي كانت بصورة طلقات رصاص في عهد الأجداد من رعاة البقر.
والتي أصبحت " الدولار " في عالم القرن العشرين.
إن فهم عقلية الأمريكي مهم جداً. فمهما كانت شعارات الحرية، والازدهار
الحضاري براقة فإنها تحمل لغة واحدة للتفاهم.. " القوة " لقد أزاح الأمريكي الأول
خصومه من الهنود الحمر بها.. وثبت أركانه كأقوى قوة دولية من خلالها.. هذا
على صعيد الأمة، أما الأفراد فإن القوة بشتى أشكالها كقوة التنظيم والضغط، وقوة
التحالفات، وقوة المال بشكل خاص هي التي تصوغ مركز أي فرد علواً ونزولاً..
دع عنك كل تلك الشعارات الجميلة المهذبة.. فبقدر قوتك كفرد بقدر حاجة المجتمع
من حولك لك، بقدر الكسب الذي تحققه في الحياة العامة مهما كنت عنصرياً،
شريراً، حاقداً أو مدمراً.. إن اللغة هنا ليست لغة التهذيب، والتضحية
والأخلاق.. هي ذات المفاهيم المتوحدة التي تأخذ صوراً متعددة غاية في السذاجة كقوة العضلات أو غاية التعقيد كقوة الضغط بشتى وسائله كما تتقنه بعض الشخصيات والأقليات التي فهمت بعمق العقلية الأمريكية العاشقة لهذا الاصطلاح.
وهكذا فإن السود قد عاشوا مرحلة " تآكل " بطيئة فغدوا خلالها سلاحاً مهماً
من أسلحة المقارعة لخصوم أخذوا في التضخم والنمو.. من الناحية المتفق عليها..
مادياً. ولم يكن هذا التقرير سوى اعتراف رسمي بمدى الظلم المحيق الذي يعيشه
الإنسان القلق في هذه القارة ما لم يدرك خفايا اللعبة، لقد دفع الفقر هذه الأقلية إلى
الجريمة بشكل بدا منظماً ومبرمجاً حتى اقترنت الجريمة بصورة الرجل الأسود
وأخذ زعماء الجريمة البيض يتلاشون تدريجياً من ذهن الأمريكي ليحل محلها
مفتولو العضلات، غلاظ الشفاة، قساة القلوب من السود.
ولما عصفت مشكلة المخدرات بالمجتمع الأمريكي مؤخراً لتصبح الهم الأول
لأمة ممزقة بمشاكلها الداخلية.. كان السود الأرض الخصبة لتسويق وترويج
واستهلاك المخدرات هرباً من عالم قاس موحش لا يجدون فيه نافذة للأمل.. بينما
وجد البعض فيه طريقاً لفرض مفهوم القوة من خلال الكسب الاقتصادي الضخم
والسهل الذي تدره تجارة السموم.
ومن خلال التراكمات المتلاحقة أصبح لون البشرة مرتبطاً بسلوك مشين،
فكلما ازداد سواد البشرة قفز إلى الذهن بصورة تلقائية الجريمة، والمخدرات،
والفقر، والضياع.. من خلال تعميق الصورة عبر أجهزة الإعلام الموجهة، وشهد
الصيف المعركة الحتمية لذلك الصراع المتواصل وتلك الصورة المغروسة..
فالأمريكي الأبيض أصبح لا يريد أن يرى مجرد رؤية ذلك المخلوق المتوحش..
المجرم.. القذر.. وليس هناك أوضح من ذلك المثال الذي شهدته شوارع نيويورك
في نهاية ليلة صيفية هادئة كان خلالها يوسف يبحث عن عنوان في حي غالب
سكانه من البيض الذين رأوا في تواجده كارثة مزلزلة.
إنها خلايا " الميلانين " التي تلون ذلك لآخر، وتصبغ صورته بتلك المشاهد
المفزعة التي يراها (السيد) الأبيض من خلال وسائل الإعلام يومياً.
وشرع السيد الأبيض في استخدام سلاحه القانوني وزاده الظافر " القوة " في
صورتها الساذجة عضلياً.. مما أودى بحياة الفتى الأسمر على أيدي أربعة من
السادة المهذبين، المتحضرين، المتواضعين جداً.. واجتاحت الحي الأبيض
مظاهرات السود تندد بالظلم.. ولكن قطعان السادة اعترضتها لتردد تلك المقولة
السمجة " نحن لسنا عنصريين.. ولكننا لا نحب السود.. فقط ".
ولم يكن ذلك الصراع يأخذ جانباً واحداً، فقد أطلقت صناعة السينما خلال
الصيف الماضي شريطاً يختلف عن أشرطة الغثاء والعبث الشيطانية، ذلك أن
الشريط كتبه أحد السود وقام ببطولته وإخراجه وهو شاب في العشرينات من عمره، لقد رأى أن يستخدم صورة من صور القوة المؤثرة.. (الإعلام) فأطلق شريطه ...
(المنعوت) بافعل الشيء الصحيح (عز وجلo the right thing) وخلاصته أن شاباً أسود يقتل على يد أبيض يملك مطعماً في حي غالب سكانه من السود.. الذين لا يحتملهم السيد الأبيض مما يعبر عنه من خلال تلك الجريمة.. الدامغة.. ولكن
الشرطة التي يسيطر عليها السيد الأبيض تدافع عن المعتدي وتحميه من هؤلاء
الرعاع.. فيثور الدم النافر في سكان الحي الذين يرون الظلم بأبشع أشكاله ينال من
أعراضهم.. فيفعلون الأمر الصحيح في رأي الكاتب وهو أن يثوروا على السلطة
الغاشمة وأن يستخدموا العنف والقوة التي لا يعرف (السيد) سواها عنصراً للتفاهم.
لقد أثار الشريط موجة نقاش حادة خصوصاً أن نفس المفهوم الخاص بالقوة
واستخدامها قد رفعه قبل ربع قرن المغدور به مالكوم اكس.. أو زعيم المسلمين
السود الذي كان يمثل خطراً على أساسات الصراع الذي يسيطر عليه السيد الأبيض
فسقط مضرجاً بدمائه.. بعد أن عرف أصول اللعبة.
ويبدو أن تسلسل الأحداث قد دفع السود إلى إعادة التساؤل: (لماذا نحن؟ !
ومن نكون؟ ! وما هي هويتنا؟ ! وما العمل؟ !) وإن كانت تلك الأسئلة بديهية
وأساسية فإنها تشهد عرضاً ملحاً وشهية مفتوحة للإجابة عليها.. لهؤلاء الذين
جردوا من إسلامهم حينما جلبتهم سفن السيد المتحضر الذي عرف أن الرقيق
المستعبد خطر عليه إذا حمل عقيدة.. مهددة لأصل حضارته.. فعمل بجد على
تجريدهم من أهم أسلحة المواجهة.. وجعلهم نظرياً يحملون ذات الملة كأتباع في
المعتقد كما هم أتباع في الرق.
ويظهر أن الإجابة واضحة وسهلة كما هي عميقة ومتشابكة بفعل ضعف
الطرح الإسلامي القوي الذي يعيد لهذه الفئة كرامتها وعزها وجذورها.. لكن جزءاً
من المخطط الذي يتكشف لأمريكا السوداء يحتاج إلى جهد عميق وعمل مثابر..
وإن كانت الأحداث قد كشفت كثيراً من الأقنعة فإن الأسئلة الملحة تحتاج
لأكثر من كشف أقنعة وفضح مخططات.. إنها تحتاج إلى توجه مباشر نحو الأسئلة
الحادة التي يطرحها الإنسان المعذب عن هويته وأصله ومستقبله.
إن هذا المأزق الذي تعيشه الأقلية السوداء في أمريكا لشاهد عيان على الظلم
الصارخ لهذه الحضارة المعاصرة وإدانة واضحة للمبادئ الجوفاء التي تتغنى بها
أمريكا اليوم، فهؤلاء القوم يحرمون من ممارسة حقوقهم المشروعة في ظل الهيمنة
المبطنة للرجل الأبيض والتي تبدو شرعية في ظل قوانين المساواة التي تسطر على
الورق.. أي أن عملية القهر تتم ضمن إطار الشرعية وحتى لو ارتفعت أصوات
هؤلاء بالمساواة والمشاركة السياسية والاجتماعية لضمان حقوقهم فإنها لا يمكن أن
تسفر عن واقع ملموس لأن الديمقراطية المزعومة تسمح للضحية برفع صوت
الاستنكار والاحتجاج والمعارضة.. أما أن تتحول هذه الاعتراضات إلى قوة مضادة
لدفع الهوان فهذا مالا يمكن أن يحدث حتى ولو لاكت الألسن شعارات الحرية
والمساواة والانسانية التي تجيد استخدامها القوى المؤثرة في صنع القرار الأمريكي،
لأنها شعارات وهتافات ليس إلا..