مجله البيان (صفحة 5068)

حقيقة التنوير

ما هو التنوير الغربي؟ وهل نحتاج إليه؟

محمد إبراهيم مبروك

` مدخل تاريخي:

قد تكون النصرانية (الثالوثية) هي المعضلة العظمى التي تعرَّض لها العقل الغربي في تاريخه، والمبعث الأساسي لكل أزماته حتى وقتنا الراهن. وتبدأ هذه المعضلة بإشكالية وجود المسيح ـ عليه السلام ـ نفسه عندهم؛ حيث يقول (هـ. ج ويلز) في ذلك: «يكاد يكون المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن السيد المسيح محصوراً في الأناجيل الأربعة» (?) .

وعلى ذلك فإن المؤرخ الشهير (ول ديورانت) يذكر أن هناك بعض المفكرين الغربيين يشكُّون في كون المسيح قد وُجِدَ أصلاً، ويقول عن ذلك: «لقد كان (بولو سجبروك) والملتفون حوله وهم جماعة ارتاح لأفكارهم (فولتير) نفسه. يقولون في مجالسهم الخاصة: إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق» ، ولما التقى (نابليون) في 1808م بـ (فيلاند) العالم الألماني لم يسأله القائد الفاتح سؤالاً في السياسة أو الحرب، بل سأله: هل يؤمن بتاريخ المسيح؟» (?) .

أما الإشكالية الثانية فتتعلق بصحة تواريخ الأناجيل ومدى نسبتها إلى أصحابها.

يقول هـ. ج ويلز: «الأناجيل الأربعة كلها كانت بالتأكيد موجودة بعد رحيل المسيح بعشرات السنين. ويظن الكثيرون أن الأناجيل الثلاثة الأولى (متَّى، ومُرْقُص، ولوقا) مستمدة من بعض الوثائق الأقدم منها» (?) .

والإشكالية الثالثة هي صحة ما جاء في هذه الأناجيل والتناقضات فيما بينها. يقول (ول ديورانت) : «ملاك القول أن ثمة تناقضاً كبيراً بين بعض الأناجيل وبعضها الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوكاً في صحتها، وكثير من القصص الباعثة على الريبة والشُبَه بما يروى عن آلهة الوثنيين» (?) .

أما الإشكالية الرابعة ـ ويا لغرابتها ـ فتتعلق باختلاف مقررات وتعاليم هذه الأناجيل عن المقررات والتعاليم الأساسية للكنيسة؛ فليس في الأناجيل مبدأ التثليث، أو ألوهية الروح القدس، أو ألوهية السيدة مريم، أو عقيدة الخطيئة الأولى، أو القربان المقدس، أو حتى الكنيسة ذاتها فضلاً عن الصلوات والرهبنة، وأحكام شهيرة أخرى مثل إباحة لحم الخنزير. يقول (ول ديورانت) : «كانت المسيحية حسب تعاليم المسيح وبطرس يهودية، ثم أصبحت في تعاليم بولس نصف يونانية، وأضحت في المذهب الكاثوليكي نصف رومانية» (?) .

وكان الناتج لهذه الإشكاليات الأربعة أن (رجال الدين) النصارى أنفسهم كانوا يدركون أن الديانة التي يحملون مسؤوليتها لا تحتمل على وجه من الوجوه أي إعمال للعقل، وهو الأمر الذي يعني أن استمرار وجودها ومن ثم استمرار مسؤولياتهم وامتيازاتهم رهين بضرب حجاب كثيف على العقل لإعاقة قدرته على العمل، وهو الأمر الذي تمثل في مقولة القديس (أوغسطين) الذي سادت أفكاره القرون الوسطى الأوروبية: «لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إنني أعتقد كي أفهم» .

بل إن (مارتن لوثر) نفسه الذي جاء بعده بعشرة قرون قرر بكل وضوح: «لا تستطيع أن تقبل كُلاً من الإنجيل والعقل ـ معاً ـ؛ فأحدهما لا يفسح الطريق للآخر.. إن العقل عندهم هو أكبر عدو للإيمان» . ولأن إلغاء العقل هو في ذاته أمر غير معقول ولا يتفق مع الطبيعة الإنسانية؛ فقد جاء التمرد من جانب العقول المفكرة في أوروبا، حيث مورست أبشع الوسائل الوحشية في مواجهة الخصوم الداعين إلى الحرية والفكر مما لا نظير له في التاريخ على امتداد قرون عصر النهضة الغربية أي منذ نهايات القرن الثاني عشر إلى نهايات القرن السابع عشر لتعود السيادة مرة أخرى على الحضارة الغربية للفكر العلماني الذي يقتصر على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة، وليبدأ التخطيط لمرحلة جديدة من هذا الفكر هي مرحلة عصر التنوير.

` عصر التنوير في أوروبا:

ما أن بدأ القرن الثامن عشر حتى أصبح الانحلال طاغياً، والإلحاد هو المذهب السائد، وكما يقول (ول ديورانت) عن صورة ذلك في فرنسا: «أصبح التحلل من الأخلاق شارة التحرر ورقي الثقافة. وكانت النصرانية قد أخذت في الاضمحلال قبل أن يصوِّب لها (فولتير) سهام قلمه حتى قال ماسينين في 1718م: «يكاد الكفر اليوم يضفي على أصحابه مظهر التمييز والفخار؛ إنه فضيلة توصل إلى العظماء.. وتجلب للمغمورين شرف الألفة بأمير الشعب» وقد كتبت أم ذلك الأمير قبل موتها في 1722م تقول: «لست أعتقد أن في باريس سواء بين رجال الدين أو الدنيا مائة شخص يدينون بإيمان مسيحي صادق ويؤمنون حقيقة بمخلِّصنا، وهذا ما يجعلني أرتعد فَرَقاً» (?) .

` حاجة الغرب للتنوير:

وعلى الرغم من انسحاب النصرانية من الحياة العامة إلى حد كبير وذهاب سطوتها القاهرة المرتبطة بالدولة إلا أن كل ذلك لم يعد كافياً، ولم تعد المسألة مسألة تمرد وثورة، وإنما الاحتياج إلى رؤية جديدة شاملة للكون. ونرى أن تنويريي ذلك العصر كانوا محقين إلى حد كبير؛ فالإنسان بحاجة إلى التحرر من مثل تلك الخرافات والقيود والأغلال التي تثقله بها (النصرانية الثالوثية) إلى الأبد رابطةً إياه إلى التعاسة؛ فلا يستطيع العقل أن يعيش على استقامته دون الإطاحة بكل ذلك.

وكما يقول كرين برينتون: «ولنأخذ عقيدة التثليث النصرانية: كانت الرياضيات ضد هذا؛ إذ لا تجد نسقاً رياضياً سوياً يقبل القول بأن الثلاثة ثلاثة وفي الوقت نفسه يكون واحداً» (?) .

ثم لماذا يحمل الإنسان عبء عقيدة الخطيئة الأولى، وأنه يميل ميلاً فطرياً إلى الشر؟ وهذا القيد الأبدي في علاقات الزواج غير المحتملة، وتحريم الطلاق مهما كانت دوافعه التي لا تطاق، وهو الأمر الذي دعا (مارتن لوثر) نفسه إلى القول بهذه الشناعة: «أي امرأة تتزوج من رجل عِنِّين يجب أن يُسمح لها - إذا وافق زوجها - بأن تضاجع رجلاً آخر لكي تنجب منه طفلاً، ويجب أن يُسمح لها بأن تدعي أن الطفل هو ابن زوجها» . ومن ناحية أخرى «فقد أوضح العقل أن من غير الطبيعي تماماً أن يمسك الأصحاء عن ممارسة الجنس باسم الرهبنة، ويحرِّمونه على أنفسهم نهائياً، وأن التبرير اللاهوتي لمثل هذا الضرب من السلوك غير الطبيعي هراء» (?) . بل إن مسألة السعادة نفسها كانت كما قال (القديس جوست) أمام الجمعية العامة الفرنسية: «فكرة جديدة على أوروبا» (?) أضف إلى ذلك وضع (النبالة الموروثة) بمعنى أفضلية طبقة محددة بامتيازات خاصة متوارثة. هل هذا أمر يخضع للمعقولية؟

وغدا الانقلاب على كل ما سبق يحتاج إلى بناء نظرة جديدة ورؤية شاملة للكون.

` البحث عن رؤية جديدة للوجود:

لقد استطاع (نيوتن) أن يقدم قانونه الرياضي الهام عن العلاقة بين الكواكب وقوانين الجاذبية، وهي إنجازات بدت لمعاصريه كافية تماماً لتفسير كل ظواهر الطبيعة، أو أن توضح على الأقل كيف يمكن فهم كل هذه الظواهر بعد أن كانت عالماً مجهولاً بفعل رؤية الكنيسة لها، والآن المراد إبداع رؤية مماثلة لتفسير وضبط سلوك الإنسان، وهذا ما تكفل به (لوك) الإنجليزي أيضاً. (وهنا ملاحظة سريعة هو أن أغلب الفكر التنويري كان نتاجاً للإنجليز، لكنه ذاع بوجه خاص على يد الفرنسيين) فماذا فعل لوك على وجه الدقة؟

إنه استعاض بالخبرة الحسية عن النفس الإنسانية تماماً؛ فقد رفض المبادئ المفترض انطباعها في ذهن الإنسان؛ حيث تتلقاها النفس منذ بداية إنشائها، ورأى أن العقل صفحة بيضاء خالية من أي رسم أو نفس ومن أية أفكار، وأنه يتم تزويده بكل ذلك من خلال الخبرة وعليها تنبني كل المعرفة، ومنها تستمد في النهاية؛ فكل الأفكار مستمدة إما من الإحساس أو الانعكاس على نتاج إحساسنا، والأحاسيس كلها مادية، ونتائجها العقلية هي الإدراك الحسي، وهو أول مواهب العقل.

ما الذي فعله (لوك) لإنكار هذه المبادئ الفطرية مثل: ما هو كائن (مبدأ الهوية) ، ومحال أن يكون الشيء موجوداً وغير موجود معاً (مبدأ التناقض) ؟

إن جهوده في هذا الاتجاه لا تتجاوز أي ضرب من ضروب الاعتقاد عند غيره، وهو الأمر الذي يعني قيامها على التحيز، ومن ثم فإن المسألة لها علاقة بالموقف الأخلاقي. فعلى الرغم من إقراره بأن هذين المبدأين هما بداية كل بحث إلا أنه يذهب إلى أنهما لم يعلنا أنهما فطريان.

وهذه النقطة تحديداً هي نقطة الأصل في الفلسفة؛ فعلى أساسها يتحدد مصدر المعرفة، ويفقد العقل الإنساني القدرة على إثبات أي من الموقفين (كون هذه الأفكار فطرية أو غير فطرية) إثباتاً يقابَل بالتسليم من الجميع، وما قاله (لوك) هنا هدمه الفيلسوف (كانط) تماماً بعد ذلك. ولكن تظل المسألة ـ كما أقول ـ لها علاقة بالموقف الأخلاقي؛ فإذا كان الفيلسوف (أَمْيَل) إلى الإيمان بالله انحاز إلى فطرية هذه المبادئ، وإذا كان أَمْيَل إلى إنكاره انحاز إلى عدم فطريتها.

المهم في الموضوع أن لوك قدم للتنويريين من خلال أفكاره عن الخبرة كمصدر للمعرفة تلك الرؤية التي يحتاجونها للنفس الإنسانية في مقابل رؤية نيوتن للكون، وهو الأمر الذي تم تلخيصه بعد ذلك في قول (لا متري) : «الإنسان إله» .

ولكن هيوم (الإنجليزي أيضاً) انتقل بالموضوع فيما بعد إلى خطوة أبعد من ذلك؛ فقد انتقل من مادية لوك البحتة إلى التشككية الكاملة من خلال فكرته عن العِلِّيَّة التي تعني أنَّ تعاقُبَ الحرارة بعد إدراك اللهب لا يعني أنه علة لها، وإنما الأمر مسألة تعاقب إدراك لا ندري مدى استمرارها؛ فكل استدلالاتنا العقلية المتصلة بالسبب والنتيجة لا مصدر لها غير العادة.

وبإسقاط هيوم لمبدأ العِلِّيَّة لم تعد العقلانية فقط محل شك، وإنما المادية أيضاً محل شك (?) .

وهكذا بعدما كانت العقلية التنويرية تبحث عن رؤية عقلانية وإنسانية بديلة للرؤية الخرافية النصرانية المعادية للإنسان تراوح تفكيرها الآن بين المادية البحتة والتشككية الكاملة، وهذا ما نجد صداه في أن الفلسفات التي سادت في القرن العشرين تراوحت ما بين الماركسية وما بعد الحداثة. بل وهذا ما يفسر أيضاً لماذا كانت السيادة للفلسفة البراجماتية في النهاية؛ وذلك لأنها تجمع بين البعدين معاً: المادية والعبث.

` حقيقة مونتسكيو:

قد يكون مونتسكيو (روح القوانين) المثل الأكبر الذي يمكن ضربه على مدى ارتباط الاستجابة للفكر التنويري بالنوازع والميول أكثر كثيراً من ارتباطها بما يحمله من عمق.

فكتاب مونتسكيو الذي اعتادت الدراسات على اعتباره أحد علامات عصر التنوير (*) ، والذي اعتبر في عصره بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر لا يمكن اعتباره من المنظور العلمي البحت إلا مجموعة مقالات من الأدب المفكك تجمع فيما بينها من الشطحات الفِجَّة أكثر مما تجمعه من النظرات الفكرية العامة.

فالبارون (مونتسكيو) أقام فلسفة التاريخ في كتابه هذا اعتماداً على التأثيرات المختلفة لتغيرات المناخ بين الأقاليم، وأن تلك التأثرات هي التي تصنع العادات والتقاليد التي تكون ملائمة لكل إقليم عن الآخر، ولهذا ـ واتساقاً مع ميوله الأرستقراطية والعنصرية ـ كانت الفوارق البشرية بين الشمال والجنوب أو كما يقول: «إن الناس أكثر نشاطاً وحيوية في الأجواء الباردة، وهذا التفوق في القوة لا بد أن ينتج آثاراً مختلفة.. وعلى سبيل المثال جرأة أكبر، أي مزيداً من الشجاعة وشعوراً أكبر بالتفوق؛ أي رغبة أقل في الانتقام وشعوراً أكبر بالأمن أي مزيداً من الصراحة» (?) . أما تأثير ذلك على القوانين فيضرب له المثل التالي: «في الشرق (تركيا وإيران والهند والصين واليابان) يُرغِم المناخ على حجاب النساء وعزلتهن؛ لأن (الهواء الحار يثير الشهوات) وقد يتعرض الزواج للخطر إذا أُطلق اختلاط الجنسين كما هو الحال في بلادنا في الشمال؛ حيث عادات النساء فاضلة بطيبعتها وحيث العواطف هادئة، وحيث يتسلط الحب على القلب تسلطاً وديعاً سوياً إلى حد أن أقل من الحزم والحكمة يكفي لتوجيهه وقيادته» (?) ، وكان أقوى نقد لهذا الكلام هو ما وجهه (فولتير) له حيث «لاحظ أن النصرانية نشأت في أرض اليهود الحارة، وأنها لا تزال مزدهرة في النرويج القارسة البرد، ومن الأرجح أن إنجلترا تحولت إلى البروتستانتية؛ لأن (آن بولين) كانت جميلة لا لأن هنري الثامن كان فاتراً» (?) ، وذهب (فولتير) أيضاً إلى أنه «ما كان بمقدور أحد أن يجعل من سكان إيرلندا أو الإسكيمو محاربين؛ على حين أن العرب فتحوا في ثمانين عاماً من الأقاليم ما فاق فتوحات الإمبراطورية الرومانية بأسرها» (?) .

إذن ما الذي أكسب هذا الكتاب كل هذه الشهرة؟ الأمر يكمن ببساطة في هجومه المستتر والواضح على النصرانية والاستبداد حيث أحل المناخ محل العناية الإلهية أي الإيمان بوجه عام. وفي مقابل الحكومة الاستبدادية ـ بوصفه من النبلاء ـ حكومة مختلطة فيها ملكية وأرستقراطية وديمقراطية معاً: ملكاً ونبلاء وجمعية عامة (إرضاء لكل الأطراف) . ومن هنا كان أشهر آرائه (نظرية الفصل بين السلطات) التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة. وتضم السلطة التشريعية مجلسين: واحداً يمثل العامة (مجلس العموم) والآخر يمثل الأرستقراطية (مجلس اللوردات) . فالملكية تكبح جماحها ديمقراطية مجلس العموم، كما يكبح جماح مجلس العموم الأرستقرطية في مجلس العموم الأرستقراطي وفي مجلس اللوردات، ومن المحاكم العادية بل أمام قضاة من نفس طبقتهم في هيئتهم» (?) . وعندما تقارن هذه الآراء بما جاء في الإسلام إزاء نفس القضايا قبل ذلك باثني عشر قرناً يتضح مدى كونها مغرقة في العنصرية والأرستقراطية والتفرقة بين البشر؛ ومع ذلك فما زالت الصفة التي تقترن بـ (مونتسكيو) كلما جاء ذكره في الدراسات والكتب الفكرية أنه هو الذي دعا إلى المساواة.

` روسو: وعقده الاجتماعي:

ولقد أسهم الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) في الفكر التنويري بفكرته عن العقد الاجتماعي؛ فعلى الرغم من أن روسو كان يعاني اضطراباً صحياً ونفسياً جعله أقرب في أول الأمر إلى النزوع الفوضوي، وينادي بالعودة إلى الطبيعة إلا أنه اضطر إلى استبدال حالة الطبيعة بحالة الحضارة. وإذا كان الإنسان في حالة الطبيعة لا يطيع أحداً؛ فإنه لزاماً عليه في حالة الحضارة أن يطيع أوامر يعرف أنها لم تنبع من ذاته مباشرة وإنما أملتها إرادة شارك فيها هو وغيره حتى غدت (إرادة عامة) صنعها «العقد الاجتماعي» . والعقد الاجتماعي عند روسو هو ذلك الذي يحذو حذو نمط (هوبز) حيث يدخل كل عضو من أعضاء المجتمع طرفاً في العقد مع كل إنسان آخر. غير أن الجماعة الناتجة عن هذا التعاقد لا تحوِّل الحكومة إلى ملكية مطلقة على نحو ما قال (هوبز) بل تعامل كل سلطة من السلطات الحاكمة باعتبارها مجرد وكيل يمكن عزله كلما ارتأت الإدارة العامة أن هذا العزل هو الأسلوب الأمثل (?) . وهكذا عمل روسو على تسويغ فكرة الديمقرطية، وهي الفكرة التي ظلت مستهجنة على امتداد قرون من الفلاسفة منذ عهد أفلاطون وأرسطو إلى روسو مروراً بـ (الفارابي) و (هوبز) .

` فولتير: لماذا عدّوه رمزاً؟

إذا كان الفلاسفة هم مبدعو الأفكار فإن ذيوعها يحتاج إلى شيء أكثر من الفلسفة، وأفلاطون ذاته مدين إلى قدرته ككاتب في ذيوع صيته كفيلسوف، ومن هنا جاء دور فولتير بالنسبة للتنويريين.

كان فولتير هو الثاني في كل شيء كما قال ديدرو (أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين له) ولكن هذا نفسه أهَّله لأن يكون له التأثير الأكبر في انتشار أفكار عصر التنوير حتى طبع العصر بطابعه على حد قول بعض المفكرين، ولقد قاد فولتير عصره في الثورة على النصرانية.

يقول فولتير في مقال المتناقضات: «مَنْ خوّل الكنيسة سلطة الحكم بأن تقول إن أربعة فقط من الخمسين إنجيلاً التي دونت في القرن الذي تلا موت المسيح هي وحدها - أي الأناجيل الأربعة - معتمدة، أي موحى بها من عند الله؟ وأي سهو فاضح أن يتحدث الكتاب عن مولد المسيح من مريم العذرا، ثم يتعقب نسبه إلى داود ( ... ) عن طريق يوسف المزعوم الخامل؟ ولماذا نبذت المسيحية شريعة موسى على الرغم من تكرار توكيد المسيح عليها؟ وهل كان بولس الذي نبذ هذه الشريعة (من أجل قطعة صغيرة من الجلد) سلطة أو مرجعاً أقوى من المسيح؟» (?) .

ويقول فولتير: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت النصراني، والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أتجول في مستشفى للأمراض العقلية..» (?) .

وقد رأى فولتير في تاريخ النصرانية «شقاء بالغاً للجنس البشري؛ فصوفية بولس، وخرافات الأناجيل المعترف بها أو المشكوك في صحتها، وأساطير الشهداء والمعجزات، وبراعة الكهنة في التخطيط والتدبير تضافرت كلها مع السذاجة المتغلفة بأهداب الأمل عند الفقراء لإيجاد الكنيسة النصرانية» (?) .

لم يقل فولتير في النصرانية شيئاً لم يسبق قوله ـ كما يقول ديورانت ـ ولكن كل ما في الأمر أنه حين تكلم انطلقت كلمته مثل اللهيب سرى في أوروبا وأصبحت قوة شكلت عصره ومن ثم عصرنا الحالي.

ويرى فولتير أنه من المنطق التسليم بذهن ذكي عاقل بما في الكون مثلما هو منطق افتراض أن الساعاتي قد صنع الساعة. ففي كلتا الحالتين رأى دليلاً على التصميم والتخطيط في تهيئة وسائل معينة لغايات بعينها، ولكن كما أن الساعة من تصميم العقل تعمل وفق قوانين ثابته فكذلك الكون.

كما يرى أن ليس ثمة وحي مقدس سوى الطبيعة نفسها، وهذا كاف، وهو مَعِين لا ينضب. وقد يكون ثمة بعض النفع في الدين، ولكن الرجل الأريب لا يحتاج إليه تعزيزاً للفضيلة، وغالباً ما استخدمه رجال الدين على مدى التاريخ لإرباك أذهان الناس؛ على حين ابتز الملوك أموالهم. وينبغي تعريف الفضيلة على أساس الخير الاجتماعي لا على أساس طاعة الله، ويجب ألا نتوقف على الثواب والعقاب بعد الموت.

وهذا المذهب يمثل الحد الأدنى لموقف دعاة التنوير من العلمانيين عندنا من الدين؛ فهؤلاء على أفضل الأحوال غاية ما ينشدونه هو ترسيخ هذه الفكرة عند الناس: نحن لا نقول لكم لا تؤمنوا بالله أو بالإسلام، وإنما نقول لكم إن هذا الإيمان لا علاقة له بما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني أو الاجتماعي؛ فهذه أمور ينبغي أن نحتكم فيها إلى عقولنا وخبراتنا فقط مسترشدين بالتنويريين الغربيين في ذلك.

بقي أن نذكر عن فولتير هذا الذي قال عنه بعض المفكرين أنه طبع العصر بطابعه وعده بعضهم في فرنسا إلهاً ـ والعياذ بالله ـ في آخر حياته، وكان مقرباً من الملوك والملكات في عصره مثل فردريك الأكبر حاكم ألمانيا، وكاترين إمبراطورة روسيا، وكذلك ملك السويد، أقول: بقي أن نذكر عنه أنه كان على علاقة غرامية معلنة بكونتيسة كان يعيش معها ومع زوجها في قصر واحد، وقد خانته بعد سنين طويلة مع أحد تلاميذه، ولكنه لم يغضب لهذا، وعاش الأربعة في القصر نفسه؛ بينما أكد الباحثون أنه كان على علاقة غرامية في الوقت ذاته بابنة أخته. أذكر هذا مع ما ذكرته من قبل عن أخلاق عصر التنوير ليدرك الناس القواعد الأخلاقية التي آل إليها فكر التنوير العلماني الذي يبشر به العلمانيون عندنا، ومدى ما يمكن أن يجرنا إليه من انحطاط.

` تأثير التنويريين في الثورتين الأمريكية والفرنسية:

يذهب (ول ديورانت) إلى أن الفلسفة اتفقت مع الدبلوماسية في المساندة الفرنسية للثورة الأمريكية «فمؤلفات فولتير وروسو وديدرو ورينال وعشرات غيرهم أعدت الذهن الفرنسي لمناصرة تحرير المستعمرات كما ناصرت التحرير الفكري، وكان الكثيرون من الزعماء الأمريكيين ـ كواشنطن وفرانكلين وجيفرسون ـ أبناء التنوير الفرنسي؛ ومن ثم فحين قَدِمَ (سيلاس دين) إلى فرنسا (مارس 1776م) ملتمساً قرضاً للمستعمرات الثائرة كان الرأي العام الفرنسي شديد التعاطف معه» (?) .

ومن الصعب القول بأن الشخص العادي الذي كان يعمل بالمستعمرات كان يتبع الحركة التنويرية الأوروبية، ومع ذلك فقد توافرت للأسرة الميسورة الحال نسبياً كل من الموارد والوقت اللازمين للمشاركة في التنوير الأوروبي.

«ولقد كوَّن العديد من الصفوة التي تبنت الآراء التنويرية رؤية غير تقليدية للدين؛ فالدين نفسه كان يجري تحليله بطريقة عقلانية» (?) ، وإذا كان رجال الثورة الأمريكية استعاروا من مونتسكيو نظرية الفصل بين السلطات؛ فإن جيفرسون قد استعار الكثير من جون لوك حين كتب نظريته السياسية كما جاءت في الفقرة الثانية من دستور الثورة.

أما بالنسبة للثورة الفرنسية فإن الواقع التاريخي يؤكد أن جميع الفلاسفة المرموقين كانوا معارضين للثورة على حكومات أوروبا القائمة آنذاك، ويذكر ول ديورانت «أن منهم من وضعوا إيمانهم في الملوك؛ لأنهم أكثر أدوات الإصلاح عملية، واحتفظ فولتير وديدرو وجريم بعلاقات صداقة إن لم تكن إعجاباً شديداً بواحد أو آخر من أشد الحكام المعاصرين استبداداً (فردريك الثاني ـ كاترين الثانية ـ جوستاف الثالث) » (?) . ومع ذلك فإنه يمكن القول إنهم قدَّموا التمهيد الطبيعي للثورة بتوفير الإعداد الأيديولوجي لها. وقد يكون الخلاف كبيراً حول العامل الأساسي للثورة: هل هو العامل السياسي أو الاجتماعي أوالاقتصادي؟ ومع ذلك يظل الوقود الدافع لهذا الانقلاب الرهيب الذي حدث في فرنسا هو الرغبة في التخلص من كل الميراث الكهنوتي الرهيب المتحالف مع الملوك والإقطاع والطبقات الأرستقراطية. وقد ذهب توكفيل إلى أن «سوء السمعة العام الذي انحدر إليه الإيمان الديني كله في نهاية القرن الثامن عشر كان له ولا ريب أعظم الأثر في سير الثورة برمته» (?) .

` التنوير والربوبية:

من المعروف أن معظم التنويرين (الفرنسيين منهم على وجه الخصوص) كانوا ربوبيين أي أنهم يؤمنون بإله ما، ولا يؤمنون بأي دين. ويمكن تلخيص المذهب الربوبي في التالي:

- يؤمن الربوبيون بمعبود (إله) هو خالق الكون.

- يطلق على هذا المعبود أحيانا الرب، ولكن في كثير من الأحوال يشار إليه بألفاظ مثل «الخالق» أو «رب الطبيعة» أو «حاكم الكون» أو «مبدع الوجود» أو «الفنان العظيم!!» .

- تتجاوز طبيعة هذا المعبود قدرة البشر على الإدراك، ولكنه لا يتدخل في شؤون البشر، وإنما يحكم العالم من خلال القوانين التي وضعها في الطبيعة (نظرية الساعة لفولتير) (?) .

«لقد زعم الربوبيون بوجود نور العقل داخل جميع البشر، وهذا النور يمكِّنهم من إدراك جميع الحقائق الدينية الضرورية دون أن يكونوا في حاجة إلى دعم من وحي أو إلهام» (?) .

ولا تكاد تخالف الربوبية الماسونية في الاعتقاد، ولكن الأخيرة تزيد عليها فيما أبدعته من طقوس. ونظراً للسرية الشديدة لتلك الطقوس فإن المؤرخين يجدون صعوبة شديدة في التفرقة بين من ينتمون لكل منهما.

` علاقة التنوير بالماسونية:

يكاد يكون ارتباط التنوير بالماسونية شبه مؤكد نظراً لكثرة العلاقات التي تذكرها الدراسات بين التنويريين والمحافل الماسونية.

ولكن السؤال الذي يسبق هذا هو: ما هي الماسونية أصلاً؟

يذهب نورمان ماكنزي في الكتاب الذي قام بتحريره (الجمعيات السرية) إلى أن هناك أكثر من تسعة نظريات تتحدث عن أصل الماسونية منها:

- أنها نتاج فرسان الهيكل بعد قمع هذه الجماعة عام 1312م.

- أنها جُلبت مع الصليبيين العائدين إلى أوروبا.

- أنها ترجع إلى بناة الأحجار في العصور الوسطى.

- أنها تعود إلى هيكل سليمان (?) .

ويرجح (مرفين جونز) في دراسته المنشورة بالكتاب السابق أن الماسونية بدأت مع العمال البنائين المتنقلين في القرن الرابع عشر، ومن هنا كان إطلاق لقب البنائين الأحرار على الماسونيين، وهو الأمر نفسه الذي يذهب إليه عبد الوهاب المسيري تقريباً في موسوعته عن الصهيونية (?) . ولكن الماسونية الحديثة أو التأملية انطلقت من إنجلترا في القرن التاسع عشر، وقد نسبت نفسها إلى بناة هيكل سليمان، ودعوا إلى التسامح مع الأديان، وأنه من الممكن للماسوني أن يؤمن بأي ديانة، لكن من غير المسموح له أن يكون ملحداً، وأنها امتازت بالكثير من الطقوس السرية.

أما عن علاقة التنويريين بالماسونية فيذكر مرفين جونز أن «ديدرو كان قومياً في نظرته الفلسفية، ومتطرفاً، في السياسة والدين، وكان أيضاً ماسونياً هو وعدد ممن كانوا سيقومون بالعمل في موسوعة التنوير (رغم أن هذه الحقيقة موضع شك في حالات عدة) وكتب ديدرو نفسه أقساماً كبيرة من الموسوعة. وشارك بأقسام أخرى أناس كانوا يسمون فلاسفة التنوير أمثال فولتير وروسو ومونتسيكو ودولباش ودالمبير، وكانت الموسوعة مثلها مثل الماسونية تعبيراً عن الإنسانية الجديدة والكونية والعقلانية» (?) .

وهذا الذي قرره جونز بقدر من الشك يؤكده ول ديورانت إلى درجة أنه يذكر عن فولتير في آخر حياته «في 7/4/1778م أُخذ فولتير إلى محفل «الأخوات التسع» الماسوني فقُبل عضواً دون أن يُلزَم باجتياز المراحل التمهيدية المألوفة. وكلل رأسه بإكليل من الغار، وألقى رئيس المحفل خطاباً قال فيه: «إننا نقسم بأن نساعد إخوتنا، ولكنك كنت المؤسس لمستعمرة كاملة تعبدك وتفيض بإحسانك ... لقد كنت أيها الأخ المحبوب جداً ماسونياً قبل أن تنال الرتبة، وقد حققت التزامات عضو الماسونية قبل أن تتعهد بالوفاء بها» (?) .

ويذكر جونز عن التنويريين الأمريكيين «أن بنيامين فرانكلين الذي تبنت جمعيته الفلسفية النظرة العقلانية أصبح ماسونياً عام 1731م، وسرعان ما صار رئيساً أعظم لدولة بنسلفانيا. ومن بين الشخصيات الأمريكية الماسونية الشهيرة في تلك الفترة جورج واشنطون الذي كان رئيس ميثاق محفل الإسكندرية، والجزندر هميلتون، وأبطال ثوريون من أمثال بول ريفير والأميرالاي جون بول جونز» (?) .

وعلى الرغم من كوني من الأشخاص الذين يطرحون الفكر التآمري جانباً عند القيام بأي من الدراسات؛ إلا أنه من الملحوظات التي تفرض نفسها هنا وتثير علامات استفهام شديدة الضخامة أن الماسونية متهمة عادة بانتمائها لجمعيات يهودية شديدة السرية في الوقت نفسه؛ فإن الفلاسفة التنويريين الذين مهدوا للثورة الفرنسية والساسة التنويريين الذين قادوا الثورة الأمريكية كانوا من الماسون أو متهمين بذلك؛ فإذا وضعت هذا بجانب ما تقرره بروتوكولات حكماء صهيون من أن الجمعيات السرية اليهودية هي التي عملت في الخفاء على قيام الثورتين؛ أفلا يثير كل ذلك علامات استفهام كبيرة؟

وإذا كنا نطرح الفكر التآمري جانباً عند القيام بالبحث؛ فإن نفي ذلك الفكر لا يمثل لنا أيضاً هدفاً محورياً نبتغيه، وقد يكون ذلك تحديداً ما نستشعره عند الباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة عند تعرضه لمثل هذه المواضيع. وعلى الرغم من اجتهاده الكبير في دفع الروابط التآمرية بين اليهود والماسونية التي أقر بصلات التنويريين الربوبيين الوثيقة بها اضطر المسيري إلى أن يقر بالكلام التالي:

ورغم أن هذا هو رأينا إلا أننا نود أن ننبه إلى أن نموذجنا التفسيري يترك قدراً لا يستهان به من الحوادث والوقائع دون تفسيره. فعلى سبيل المثال من المعروف أن عدداً كبيراً من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة (ومنهم جورج واشنطن) كانوا من الماسونيين. كما لوحظ أن عدداً كبيراً من قادة الثورة الفرنسية كانوا أيضاً من الماسونيين. والواقع أن هناك شخصيات مهمة في كثير من الحكومات الغربية (في المعسكر الرأسمالي) أو الحكومات الشرقية (في المعسكر الاشتراكي) كانوا أعضاء في المحافل الماسونية، ولكن عضويتهم تظل طي الكتمان. كما أن بعض الجرائم تشير إلى وجود شبكة ماسونية، ولكن الوصول إلى الحقائق ما زال في حاجة إلى المزيد من البحث الذكي والموضوعي (ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن نوادي الروتاري والليونز التي يثار حولها لغط شديد في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي دون أن تكون شواهد معينة تشكل أساساً لمثل هذا اللغظ» (?) .

إن غاية ما نستهدفه من الكلام السابق أن هناك الكثير من علامات الاستفهام التي تدفعنا إلى عدم التعامل مع ما يسمون بدعاة التنوير باعتبارهم دعاة فكر مجرد؛ يعزز ذلك الموقف أن أياً من التنويريين الفرنسيين الكبار لم يكن من الثقل الفكري ما يدفع أفكاره ليس فقط إلى درجه الانتشار الكبير في فرنسا (التي قد يؤهلهم لها احترافهم لمهنة الأدب) ولكن لاستمرارها وانتقالها إلى أقاليم أخرى في الوقت الذي يتم فيه تجاهل الناتج الفلسفي لفيلسوف كبير بوزن الفيلسوف الألماني كانط الذي عاصر تلك المرحلة، وكان متناقضاً إلى حد كبير مع فكر التنويريين. ولا تتوقف علامات الاستفهام عند مدى صحة اتهامات علاقة هؤلاء بجماعات سرية يهودية أو تحريك الأخيرين لهم في الخفاء، ولكن أيضاً يجب الحديث عن الصيغة التوفيقية لهذه الأفكار التنويرية التي تستجيب لمتطلبات تستر التمرد الإلحادي اللا ديني بوجه عام في الواقع الاجتماعي المحاط به؛ حيث نلاحظ طردية العلاقة بين مدى تدين ذلك الواقع وشدة الحاجة إلى تلك الأفكار. والحد الأدنى الذي نستطيع الجزم به أن هناك شبكة من المصالح الدنيوية الفعلية تربط بين دعاة هذه الأفكار وتتجاوز بشكل كبير الغايات الفكرية التي يدعونها.

` هل نحن نحتاج إلى التنوير الغربي؟

أشرت من قبل إلى أن التنويريين في الغرب كانوا محقين في ثورتهم على الكنيسة والنصرانية الثالوثية بالأصالة، وكذلك في حاجاتهم إلى رؤية جديدة للكون والإنسان، وكان يبدو أن لديهم إحدى سبيلين إلى ذلك: إما اختيار التعرض للقتل باللجوء إلى الإسلام حيث كانت تلك مسألة غير قابلة للنقاش؛ لأنها تمثل التحول إلى معسكر العدو التركي المهدد للغرب على الدوام في ذلك الوقت، وإما الاعتماد على الفكر العلماني المقتصر على العقل الذي نجم عنه كل ذلك الشطح والمبالغة؛ لأن الإنسان لا يحتاج فقط إلى التفكير الذكي لكي يصل إلى الحقيقة، ولكن لا بد أن يصاحب ذلك دائماً البعد عن الهوى.

وما كان يؤرق الغربيين من ظلامية النصرانية الثالوثية كان الإسلام بريئاً منه تماماً؛ فعقيدة الله الواحد الأحد لا تتناقض مع أي قانون رياضي في الوجود، بل تستمد منها كل القوانين الرياضية منطقيتها في شروح يضيق عنها المجال هنا.

فالإسلام لا يرى الإنسان نزَّاعاً إلى الشر بطبيعته، وإنما الإنسان يولد على الفطرة بمعنى الطبيعة الخيرة كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة ... إلخ» . ليس هذا فقط، بل إن إيمان الإنسان بالله أصل يولد به كما أشارت الآية الكريمة: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . والإسلام يجعل من حرية الإرادة محور الوجود ومناط التكليف؛ فهي الأمانة التي ورد ذكرها في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72] .

والزواج في الإسلام ليس قيداً أبدياً اضطرارياً، وإنما هو مودة ورحمة؛ فإذا انعدمت المودة والرحمة فقد الهدف منه وكان الطلاق حلاً لرفع المشقة عن الجانبين. ومن ناحية أخرى فإن موقف الإسلام من الرهبنة واضح صريح كما جاء في الحديث النبوي: «لا رهبانية في الإسلام» . كما أنه دعا الناس إلى الحياة الطيبة، بل رفع الشقاء عنهم {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] . والناس في الإسلام سواسية كأسنان المشط حيث يقول الله في كتابه العزيز: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .

وفي هذا الخلاف بين موقفي النصرانية والإسلام من هذه القضايا ما يفسر الرواج السريع للأفكار التنويرية في الغرب النصراني نظراً لتلبيتها لحاجة المجتمع هناك، واستجابتها لنوازعه وميوله بعكس الاستغراب والفتور الذي قوبلت بهما في المجتمعات الإسلامية (باستثناء جماعات المصالح) حيث يتم التساؤل: إلامَ يدعو هؤلاء؟! هل وقف الإسلام ضد العقل كي يدعوا إلى العقل؟ هل وقف الإسلام ضد العلم كي يدعوا إلى العلم؟ أما عن الاستبداد فإن الإسلاميين هم الذين يقاسون ويلات الاستبداد من أقوام يتحالف معهم هؤلاء التنويريون. بقيت الدعوة إلى الإباحية؛ والمجتمعات الإسلامية بعكس المجتمعات النصرانية في العصور الوسطى لا تحتاج إليها، وإنما تسعى لاتقاء شرورها. إذن فإلامَ يدعو هؤلاء؟!

وما أريد قوله من كل ما سبق: أن الإسلام يدعو إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والتنوير الإسلامي تنوير شامل، تنوير للروح والجسد، للدين والدنيا، لعالم الغيب والشهادة.

وحقاً؛ فإن العقول المفكرة في أوروبا عانت كثيراً من ظلمات النصرانية الثالوثية للدين والدنيا معاً. ولكن جهود أغلبهم أثمرت فقط في كشف الظلام عن متع الدنيا، بينما مضوا في عماء تام بالنسبة لعالم الروح.

محمد إبراهيم مبروك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015