د. محمد يحيى
في تصريحات لأحد المسؤولين عن هيئة إسلامية دولية في معرض الحديث عن تجديد الخطاب الديني الذي جعل منه بعض الكتاب قضية لا تعلوها قضية أخرى في الأهمية ذكر الرجل أنه لا بد أن يكف الدعاة عن العداء للمرأة في مواعظهم وأحاديثهم وعما أسماه بالعدوانية المفتعلة ضدها. وبصرف النظر عن أن هذا المسؤول كان يجاري موضة انتشرت وفرضت فرضاً، وكان يقول ما ينتظر في مثل هذه المناسبات الإعلامية، فإن حديثه هذا أثار نقطة مهمة للغاية هي الخلط الفادح ـ بوعي أو بدون وعي ـ بين ما يمكن أن يسمى عداء للمرأة كجنس بشري على إطلاقه، وبين انتقاد أفكار وسلوكيات معينة تُرَوَّج من جانب بعض الفئات باعتبارها ممثلة للنساء ومدافعة عنهن، وباعتبار هذه الأفكار هي وحدها المعبرة عن حقيقة وأوضاع وآمال وحقوق النساء.
إن هذا الخلط بين ما هو عام ومطلق وشامل وبين ما هو جزئي ونسبي يعيب الكثير من جوانب حياتنا الفكرية، ويؤدي إلى الخلل الجسيم في النظر إلى الأمور وتقديرها مما يترتب عليه نتائج جسيمة في العمل والسلوك؛ ذلك لأن دعاة الإسلام وعلماءه ومفكريه عندما يهاجمون ويرفضون الأفكار التي يروِّج لها بعضهم باسم تحرير المرأة، أو المساواة بين الجنسين، أو التقدم الاجتماعي من خلال فرض سياسات عامة للنساء لا ينطلقون في ذلك في عداء للنساء أو للمرأة كنوع بشري، وإنما من رفض لمفهوم معين حول المرأة يراد فرضه على الساحة والحيازة للاحتكار له في وجه المفاهيم الأخرى وأبرزها النظرة الإسلامية.
والداعية الإسلامي مهما كانت درجة ثقافته أو فهمه لا يمكن أن ينطلق من منظور العداء النوعي لجنس المرأة؛ لأنه لن يجد في الدين والعقيدة والفقه الإسلامي ما يسند ذلك، وحتى لو وجد مأثورات شعبية ورواسب جاهلية يبدو من ظاهرها أنها تنادي بمثل ذلك؛ فإنه لن يجد ما يسند هذه المأثورات من دين أو شريعة أو فقه، كما أنه سوف يجد في مقابلها مأثورات شعبية أخرى يبدو من ظاهرها أنها تعادي جنس الرجال على إطلاقه، وهذه المأثورات في الحالتين لا تعدو أن تكون تعليقات حول بعض السمات العامة لسلوك النساء والرجال في فترات تاريخية أو في ظل مجتمعات معينة، وهي في وضعها هذا لا تمثل أبداً عداءً لأي جنس على الإطلاق. وفي معظم الأحوال فإن النظر الإسلامي الصحيح كفيل بموازنة هذه الرواسب أو التقاليد حتى لو فهمت على أنها تعادي جنساً معيناً، وكفيل بفتح الأفق الفكري على رؤية أشمل وأرحب وأصدق لخصائص وسمات كل من الرجل والمرأة؛ كذلك فإن الداعية الإسلامي لا يعتمد في فكره ولا في دعوته على تلك المأثورات، بل هو يهتدي منذ البداية بهدي القرآن والسنة والشريعة والتاريخ الإسلامي.
والذي يفسر حقيقة دعوى عداء الدعاة المزعوم للمرأة ـ باستثناء ظواهر شاذة نادرة لا يعوَّل عليها في أي حال ـ هو أن الذين يطلقون هذه الدعوة يرفضون من البداية ومن الأساس النظرة الإسلامية للإنسان رجلاً كان أم امرأة، ولوجوده وأهدافه وطبيعته، وهم على وجه الخصوص يرفضون هداية الإسلام للنساء ويريدونها فتنة يدخلون فيها من باب المرأة بوضع تصورات معينة لها تصادم مفاهيم الإسلام، ولذلك يبادرون على سبيل الأسلوب الدعائي في الحجج إلى وصم النظرة الإسلامية بأنها معادية لنوع النساء على إطلاقه، ولا يقولون من باب النزاهة الفكرية إن هذه النظرة تختلف عن منطلقاتهم رغم أنهم عادة يبشرون بتعددية الأفكار وتنوعها ونسبية المفاهيم وتاريخيتها، وهذا الزعم الأخير في حد ذاته كان يفرض على من يوجهون إلى الإسلام أو دعاته زعم معاداة المرأة أن ينظروا إلى المفاهيم الإسلامية عن المرأة باعتبارها منظوراً فكرياً مختلفاً عما يرونه لكنه يستحق الاحترام والتدبر الذي يطلبونه هم لأفكارهم؛ لكنهم بدلاً من ذلك فضلوا اللجوء إلى الأسلوب الدعائي الرخيص بوصم الخصوم بأنهم مجرد معادين لجنس النساء، وهذا الأسلوب الدعائي انتقل للأسف إلى بعض المسلمين الذين تلقفوه وكأنه حقيقة واقعة، وراحوا الآن يطالبون الدعاة المسلمين بالتخلي عن عدائهم المزعوم للمرأة.
والقضية لا تقف عند حد الإشارة إلى الخلط الفكري المتعمد بين ما هو عام ومطلق وبين ما هو جزئي ونسبي؛ ذلك لأن المسألة يدخلها بالفعل عداء لنوع المرأة، ولكنه ليس من جانب دعاة الإسلام وفقهائه، بل من الجانب الآخر أي جانب من يدَّعون أنهم يمثلون المرأة ويدافعون عنها ويحفظون حقوقها؛ فجانب الفكر النسوي ذو الجذور والمضامين الغربية العلمانية يكشف عن احتقار مدهش ليس فقط لنوع الرجال كما هو واضح وجلي ومعلن بل لنوع النساء كذلك وبأشكال مختلفة.
فالفكر النسوي هذا وَسْط دعاوى التقدمية والاستنارة يُدخِل إلى الساحة الفكرية والثقافية مفهوماً في غاية التخلف والجاهلية، وهو مفهوم عداء النوع والجنس، وإذا كانت البداية هي العداء المَرَضي للرجال كل الرجال تحت مزاعم ضعيفة ووهمية حول اضطهاد الرجال على مر التاريخ؛ فإن النهاية تشتمل كذلك على العداء المضمر للنوع الذي يزعمون رفع راية مناصرته؛ ذلك لأن إدخال مفهوم العداء للنوع البشري المعين لا بد أن ينعكس في عداء مضاد ضد النوع الآخر؛ كما أن الحجج نفسها المستعملة للهجوم على نوع الرجال يمكن وببساطة أن تنعكس لتستخدم وبتغيير طفيف للغاية ضد نوع المرأة.
وبذلك فإن من يبني أساس فكرته على مجرد عداء النوع لا أكثر كما يفعل الفكر النسوي يمهد السبيل لبثِّ العداء للنوع الذي يقول إنه يتبنى نصرته.
وعلى مستوى أشد خطورة فإن الفكر النسوي ينطوي بالفعل على عداء للمرأة بشكل أوضح؛ ذلك لأن هذا الفكر يركز دعوته على أساليب دعائية تعتمد سبيل الإثارة والتحريض والتهييج العاطفي، وتأجيج مشاعر الكراهية والحقد والغيرة والانتقام والشك والتشفي (يكفي ما سمعناه مؤخراً من النشوة التي راجت في أوساط أصحاب هذا الفكر عندما انتشرت أكذوبة تقول إن جنس الرجال في سبيله إلى الانقراض بعد بضعة آلاف من السنين لأسباب بيولوجية) .
والفكر الذي يعتمد في دعوته على مثل هذه الأساليب لاجتذاب الأتباع والأنصار وتحفيزهم وحشدهم، ويضم إليها عدداً من الحجج التي لا تصمد أمام المناقشة والحجة العقلية والتاريخية هو فكر ينم عن احتقار لعقلية ونفسية وفهم هؤلاء الأتباع أي النساء في هذه الحالة.
إن الفكر الموجه الآن للنساء تحت مسميات التحرير والانعتاق والمساواة، بل والسيادة والهيمنة يعادي أولئك النساء؛ لأنه يتقدم لهن بخليط من الأساليب الفجة والغوغائية، ومزيج من أشباه الحجج والتلفيقات البادية الزيف تحت مسمى الحقائق والوقائع.
وهو في هذا يكشف عن أن نظرته لعقلية أتباعه أو تابعاته المزعومات هي أنهن قاصرات عقلياً ولا يعتمدن إلا على العواطف والمشاعر، وتحركهن الإثارة دون تدبر؛ مما لا يجعل هناك حاجة لمخاطبتهن بالعقل رغم كل دعاوى الحديث عن العقلانية والاستنارة، وإذا لم يكن هذا عداء لنوع المرأة فماذا يكون؟
وأخيراً: فإن الفكر النسوي في الغرب بخاصة (وإن كان بشكل مستتر في الشرق) يتحالف مع حركات وتوجهات الشذوذ الجنسي بنوعيها، وينم في ذلك في لون آخر وخطير عن العداء لنوع المرأة؛ فحركات الشذوذ الجنسي بين الرجال تعلن عن عداء صريح للمرأة ومقاطعة لها ورفض للتزاوج والامتزاج معها، ولا ننسى في هذا الصدد أن هذه الحركات تعود إلى الفلسفات اليونانية القديمة التي كانت تقرن الشذوذ بكراهية النساء، ولهذا فمن المستغرب أن يتحالف أصحاب الفكر النسوي تحالفاً وثيقاً مع توجه هو في صميمه معاد لنوع المرأة، ومع ذلك يتهمون دعاة الإسلام بأنهم هم ودينهم وفكرهم الذين يعادون النساء.