مريم بنت أحمد الأحيدب
في إحدى الليالي.. وبعد فراغي من كتابة واجباتي وترتيب كراساتي.. أويت إلى فراشي.
وقبل أن يطرق الكرى الأجفان أخذت أقلّب الأفكار.. وأستعرض الخواطر فيما قد جرى وصار.
عندها بدأت مخيلتي تسبح في أغوار الماضي مقتبسةً منه أروع الصور، وأجمل الذكريات.
استوقفتني إحداها.. ولعلها كانت من أكثر الصور في ذهني رسوخاً.. وأشدها ثباتاً.
قبل بضع عشرة سنة.. وتحديداً عندما بلغت السابعة.. أمسكتِ يا أمي الحبيبة بيدي الصغيرة.. تسابقين الخطى.. يسألك الرائح والغادي: أين يا أم الأشبال؟
تردين بكلّ فخرٍ وَاعتزاز: سأُلحق ابنتي بمدارس تحفيظ القرآن.
الجميع باستنكار: ما لكِ ولهذه المدارس يا أم الأشبال؟! فحصص القرآن فيها كثيرة.. ومناهجها كثيفة.. ارفقي بالبنية؛ فهي ما زالت صغيرة.
كنت تردين بكلّ عزة وإباء: (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) .
أماه! كنتِ بالفعل جبارة.. قاومتِ المجتمع والأقارب وأهل الحارة.. لم يثنكِ عن عزيمتكِ تثبيط مثبط.. ولا تخذيل متخاذل.
تهافتت الذكريات.
دلفتُ بوابة المدرسة متأبطةً حقيبتي.
كنتِ برفقتي تشدين أزري، وتقيلين عثرتي.
رمقتِني بنظرات كلها حنانٌ وعطف.
ربَّتِّ على كتفي بلطف.
وعدتني بالبقاء.. وأن لا تتركيني وحيدة.
أدخلتني غرفة الصف، وجلست خارجه.
عيناكِ كانتا تراقباني.. وكفاكِ كانتا تدعوان لي.
مرّت الأيام والسنون.. كانت سعادتكِ بي غامرة.. وفرحتكِ بي بالغة.
كلما طرق مسمعي حديث رسولنا الكريم ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ أن حامل القرآن يُوضَع على رأسه يوم القيامة تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا.. فيقولان: بِمَ كُسينا؟.. فيقال: بأخذ ولدكما القرآن.. تخيّلت ذاك المشهد.. وسألت الله أن يبلغني إياه.
إنه العز الحقيقي والراحة السرمدية التي تذوب فيها جميع المصاعب، وتتكسر أمامها كلّ التحديات.
أمي الحبيبة! عندما أردتِ أن أكون متميزة.. أردتِ أن تصنعي مني فتاة صالحة، وداعية ناجحة، ومربية فاضلة.
عندما أردتِ أن أكون متميزة.. اخترتِ لي العيش في ظلال القرآن حيث الأمان والاطمئنان.
أردتِ أن تحافظي عليَّ كما يُحافَظ على الدرّ والياقوت والمرجان.
لكن بقي في ذهني سؤال.. سؤال صال في خاطري وجال.
بعد مضيّ هذه السنوات الطوال: هل أنا حقاً حفظت القرآن؟
أكان حفظي للقرآن يعني فقط تجويدي لحروفه، وضبطي لمخارجه؟
أكان حفظي للقرآن يعني فقط ترديدي لآياته، وإتقاني لحركاته وسكتاته؟.. أم أن هناك للحفظ معنى آخر أعمّ وأشمل؟
كما طرحتُ هذا السؤال.. فأنا من سيتولى الإجابة:
إن حفظي للقرآن يعني لي الكثير.. الكثير..
يعني لي الحفظ بكافة صوره.. فأجوّد حروفه، وأقف عند حدوده.
أردد آياته، وأعمل بأحكامه.
أن أُعرف به بين الناس عِلماً وعملاً وسلوكاً.. مظهراً ومخبراً.
يؤسفني كثيراً.. عندما أعقد بعض المقارنات بيني وبين بعض الأقران.. ممن لم ينفقن أعمارهن في حفظ سورة من القرآن.. بل قد لا يقرأنه إلا في رمضان.. فأجد الفروق بيننا ليست بالكبيرة.
فالاهتمامات متشابهة.. والطموحات متقاربة.. حتى الشكل واحد.. لا فرق يُذْكر.
أين بصمات كتاب الله على سلوكي ومظهري؟
لقد قضيت في حفظي لكتاب الله عُمُراً.. فأين التحصيل؟
أين الثمرة التي تعاهدتِها بالسقاية والرعاية يا أمي؟
أمي الحبيبة! عندما أدخلتني المدرسة قاومتِ كلام الكثيرات.
استسهلتِ الصعب في سبيل التحاق ابنتكِ بركب الحافظات.
هيأتِ لي السبل كي أحفظ كتاب الله، فأرجوكِ ثم أرجوكِ.. واصلي معي المسير.
إن دورك يا أماه لا ينتهي عند بوابة المدرسة.. أو عند انخراطي مع الطالبات في الصف.. لا يا أمي.. إن متابعتك إياي ـ وخاصّة فيما يتعلق بسلوكياتي ـ أمر في غاية الأهمية؛ فأنتِ أقرب الناس إليّ.
قد تشغلك مهام الحياة ومتطلباتها عني.. ولكن تذكري دائماً أنكِ برعايتك إياي لا تبنِينَ فرداً بل تصنعينَ أمّة!
قد ينتابني ما ينتاب بنات جنسي من لحظات العناد.. وتقلبات المراهقات.. فتعاملي معي بحكمة.
حذريني من الانسياق خلف رغباتي التي لا حدود لها.. فلا تغضّي الطرف عنها، ولا تنساقي خلفها.. بل اعرضيها معي على الشرع.. على الشرع يا أمي!
اصنعي داخلي ميزاناً حساساً أميّز به الغث من السمين!
أذكي في داخلي روح العزة والكرامة!
ذكّريني بمن أكون.. ذكريني أنني ابنة عائشة وحفصة وزينب وأم عمارة!
أشعلي في داخلي الحماس والرغبة في طلب العلم!
ذكريني دائماً بما يجب عليّ تجاه ديني ومجتمعي، وبالأخصّ بنات جنسي.
فأنا الآن في مقام المسؤولية.. الكلّ يشير إليَّ بالبنان.. فأنا ابنة القرآن.
واعلمي يا أماه أن تاج الوقار الذي طالما تمنيتُه ثقيل الميزان.. لن تناله إلا من اتسمتْ بالوقار وكان خُلُقها القرآن.
التميز مطلب عظيم تتمناه كلّ أم لابنتها.. ولا أشك لحظة يا أماه في أنك تطلبينه لي.
فاجعليه تميزاً في الحياة وفي الممات!.. في الدنيا والآخرة.
ودائماً اسألي الله لي الثبات.. وألِحّي عليه بالدعاء أن يجعلني ممن يَصدِّق قولَه فعلُه.
إنه سميعٌ مجيب الدعوات.. التوقيع: حافظة.