حسن الرشيدي
والعراق اليوم عراق دموي مخضب تختلط فيه الأشلاء والدماء: تفجيرات يذهب ضحيتها العشرات ولا تترك مدينة سواء في الشمال أو الجنوب فضلاً عن وسط العراق إلا وقد نالها نصيب من هذه الأعمال الدموية التي لا ترحم، اغتيالات تخلف قتلى من جميع الطوائف والأعراق: علماء دين، رجال شرطة، قضاة، مسؤولين في الحكم، متعاونين مع المحتل، وآخرين رافضين للاحتلال، أبرياء ليس لهم أثر في شيء؛ بالإضافة إلى جنود الاحتلال والمقاومين.
والأطراف المتحاربة والمتصارعة لا يبدو أنها تملك أفقاً سياسياً للحل، وتصر على الوصول إلى أقصى درجات القوة للحسم.
وفي هذا الخضم المائج تطل علينا الرأس الإيرانية تريد أن تضع قدماً لها في هذه الأرض المستباحة تساعدها في ذلك عوامل كثيرة على الساحة الإقليمية والدولية والمحلية.
وللبحث في الدور الإيراني الذي تلعبه في العراق لا بد من تتبع حقيقة الأهداف الإيرانية في العراق واستراتيجيتها لتحقيق تلك الأهداف، وأخيراً رصد المتغيرات المؤثرة على تلك الاستراتيجية.
وتحليل الأهداف والاستراتيجيات والسياسات التي يتبعها الشيعة ينبغي أن يتبع مواصفات خاصة؛ لأن جوانب الخفاء والتلون دائماً ما تطغى على تصرفاتهم وأفعالهم مع الآخرين على مدار القرون الماضية، وخاصة أن التَّقِيَّة أصل من أصولهم؛ لذلك ينبغي لمن يخوض في تحليل ما يقومون به ليس التعامل مع الأقوال والأفعال الظاهرة فقط، بل يتتبع بدقة الجوانب الخفية. ولا نعني في هذا المقام التفسير التآمري، بل إثبات الوقائع بوثائق، والاعتماد على مقاربات المقارنة والمنهج التاريخي ونظريات اللعب وهي مناهج في علم السياسة تلقى قبولاً وتجاوباً لدى الخبراء والمحللين.
` الأهداف الإيرانية في العراق:
يمثل العراق للسياسة الإيرانية عدة معطيات هامة:
1 - بوابة مهمة لتحقيق الحلم الفارسي بإقامة إمبراطورية شيعية في العالم الإسلامي؛ هذا الهدف الذي يمثل حلم إيران الشيعية منذ حدوث ما يعرف بثورة الآيات. وفي وثيقة حديثة وسارية المفعول في عهد خاتمي نفسه أوضحت الغاية العظمى لهذه الدولة الشيعية؛ فقد أرسل مجلس شورى الثورة الثقافية الإيرانية رسالة إلى المحافظين في الولايات الإيرانية، وكتب عليها: (سري للغاية) ، كان مما جاء فيها:
«الآن بفضل الله، وتضحية أمة الإمام الباسلة قامت دولة الإثني عشرية في إيران بعد عقود عديدة، ولذلك فنحن ـ وبناء على إرشادات الزعماء الشيعة المبجلين ـ نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً وهو تصدير الثورة؛ وعلينا أن نعترف أن حكومتنا فضلاً عن مهمتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب فهي حكومة مذهبية، ويجب أن نجعل تصدير الثورة على رأس الأولويات. لكن نظراً للوضع العالمي الحالي والقوانين الدولية ـ كما اصطُلح على تسميتها ـ لا يمكن تصدير الثورة، بل ربما اقترن ذلك بأخطار جسيمة مدمرة.
ولهذا فإننا من خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء اللجان وضعنا خطة خمسينية تشمل خمس مراحل، ومدة كل مرحلة عشر سنوات لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول، ونوحد الإسلام أولاً؛ لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب؛ لأن هؤلاء (أهل السنة والوهابيين) يناهضون حركتنا، وهم الأعداء الأصليون لولاية الفقيه والأئمة المعصومين، حتى إنهم يعدُّون اعتماد المذهب الشيعي مذهباً رسمياً ودستوراً للبلاد أمراً مخالفاً للشرع والعرف. وإن سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم، ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بادئ ذي بدء أن نحسن علاقاتنا مع دول الجوار، ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسِّن علاقتنا مع العراق بعد الحرب؛ وذلك أن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد. إن الهدف هو فقط تصدير الثورة؛ وعندئذ نستطيع رفع لواء هذا الدين الإلهي وأن نُظهر قيامنا في جميع الدول، وسنتقدم إلى عالم الكفر بقوة أكبر، ونزين العالم بنور الإسلام والتشيع حتى ظهور المهدي الموعود» .
ويعترف الباحث الشيعي اللبناني هاني فحص بأن التوجهات الإيرانية ذات أفق يتعدى جغرافيتها الوطنية.
هذا الهدف كامن في جميع تصرفات القيادات الإيرانية، وهم لا يعلنون عنه، ويخططون له ويرسمون الاستراتيجيات لتحقيقه كما تدل الوثيقة السابقة، وتدل عليه أيضاً ممارساتهم عندما استدعت الضرورة إظهاره كما حدث يوم الجمعة 21 مايو الماضي من تحديد موعد المظاهرات في يوم واحد واختيار مظاهرات الأكفان، كما حصل بالتوازي في مظاهرة حزب الله في لبنان ومظاهرة المعارضة الشيعية في البحرين فإنهما رسالة مكشوفة بأن كلمة السر جاءت من طهران وتحديداً من المرشد علي خامنئي.
وثمة معلومات عن أن فحوى الخطب التي ألقيت والصور التي رفعت في المظاهرات ومنها «صورتا المرجع الشيعي العراقي السيستاني وآية الله الخميني» كانت من ضمن خطة معدة سلفاً بكل تفاصيلها، وإلا فكيف يمكن فهم التوافق المفاجئ لشيعة إيران ولبنان والبحرين وباكستان على تحديد ذلك اليوم؟
2 ـ مخزن نفطي هام يضاف للثروة النفطية الإيرانية لتصبح الحصيلة ثروة هائلة في أيدي الإيرانيين؛ حيث يبلغ احتياطي نفط العراق ما يقارب 112.5 مليار برميل مكتشف حتى الآن، ويتوقع أن يوجد خزين آخر يقدر بـ250 مليار برميل غير مكتشف. ويقول رعد القادري المتخصص في الشؤون العراقية في مؤسسة (بتروليوم فاينانس) : «النفط العراقي كنز القرن الميلادي الحادي والعشرين» . وهو لا يعني بطبيعة الحال إنتاج العراق حالياً من النفط الخام، وقد أصبح دون 4% من مبيعات السوق العالمية، إنّما يعني الاحتياطي النفطي العراقي الذي يحتل المرتبة الثانية بعد السعودية، ويمثل زهاء 12% من الاحتياطي العالمي المعروف، وسترتفع هذه النسبة وإن لم يتم اكتشاف المزيد من الحقول النفطية العراقية؛ ذلك أن الاحتياطي الموجود حالياً في مناطق أخرى غير منطقة الخليج آخذ في النضوب تدريجياً، ومن المتوقع أن ينتهي كلية خلال فترة لا تتجاوز 15 عاماً، ويسري هذا بالترتيب على النفط الأمريكي فالأوروبي، ولا يتوقع أن يبقى الاحتياطي النفطي في منطقة بحر قزوين فترة زمنية أطول.
ويقول الباحث نبيل شبيب: إن البئر العراقية كانت وما تزال تعطي من النفط الخام يومياً أكثر من 13 ألف برميل في غالب الحالات، أي ما يعادل ما تعطيه 900 بئر أمريكية، وأضعاف ما تعطيه الآبار السعودية والكويتية والإيرانية بنسب تتراوح بين 50 و600%.
وتنتج إيران حالياً ما يزيد قليلاً عن 4 ملايين برميل يومياً في حين بدأ إنتاجها يتناقص سنوياً بمعدل 250 ألفاً إلى 300 ألف برميل.
وتحتل إيران المركز الثالث في احتياطي النفط (90 بليون برميل) ، ويتراوح الإنتاج الإيراني بين (3.5 و4) ملايين برميل يومياً.
3 ـ عمق استراتيجي طبيعي لإيران، وخط دفاع أول ضد اجتياحها أو احتوائها ومحاولة تغيير نظامها. وعلى مدى التاريخ كان العراق الباب الرئيسي للحملات العسكرية التي اجتاحت إيران (بلاد فارس) ، وزاد من خطورة هذه الجبهة حديثاً أن الثروة النفطية الإيرانية بمجملها تتركز على الحدود العراقية الغربية والجنوبية. وجاءت الحرب العراقية ضد إيران غداة انتصار ما أطلق عليه ثورة الخميني لتؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذا الهدف.
4 ـ ورقة سياسية في سوق المساومات على الساحة الدولية: فإيران لها مشروعها النووي الطموح، ولها مشروعها الإمبراطوري، ولن تتخلى عنهما بسهولة؛ ولذلك تسعى إيران بكل قوة لامتلاك أوراق على الساحة الدولية تقايض بها استمرارها في هذين المشروعين. ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق في أبريل 2003م لعبت إيران دوراً انتهازياً في المسألة العراقية، وسعت بانتظام إلى اعتبار دعمها للمحتلين الأمريكيين، ودورها هناك ورقة للمساومة مع الأمريكيين وخاصة السعي لامتلاك السلاح النووي؛ فالمسألة النووية الإيرانية لم تعد تحتمل كثيراً من التأجيل. أو كما قالت واشنطن تايمز الناطقة باسم المحافظين الأمريكيين المتطرفين: (الوضع لم يعد يطاق) .
وهناك ورقة اعتقال البحَّارة البريطانيين وابتزازها لبريطانيا، وأيضاً التعمد الإيراني الواضح في تصعيد ما عرف باسم حرب سفن الصيد في الخليج؛ ففي أقل من أسبوع تناقلت التقارير الصحفية تسريبات إيرانية منظمة عن أخبار اعتراض سفن حربية إماراتية وقطرية وعمانية لسفن صيد إيرانية في مياه الخليج أدت ـ أحياناً ـ إلى سقوط قتلى واعتقال الطواقم. ويبدو أن ما تناقلته وسائل الإعلام في هذا الإطار ذكرت مصادر صحفية أن بعض سفن الصيد الإيرانية التي ضبطت لم تكن في الواقع مجرد سفن صيد، بل كانت مجهزة بأجهزة تجسس وتنصت ومعدات إلكترونية، وأن الملاحين لم يكونوا صيادين، بل ضباط مخابرات، وهو ما عزز المخاوف من استخدام الحرس الثوري لسفن الصيد للتجسس على المواقع والتجهيزات العسكرية الأمريكية في المنطقة وهو ما يُسوّغ لجوء هذه السفن إلى دخول المياه الإقليمية للدول الخليجية.
ومن أوراقها أيضاً إرسالها للانتحاريين؛ فقد ذكرت مصادر إيرانية أن الاجتماع الأول لمنظمة تكريم الاستشهاديين في إيران أنهى أعماله بقرار يقضي بإيفاد المئات من الانتحاريين إلى العراق وبعض الدول العربية لتنفيذ عمليات انتحارية ضد المواطنين الغربيين إضافة إلى أصدقاء أميركا حسب قول أحد مسؤولي المنظمة.
وقال نائب إصلاحي سابق: «أعتقد أن مثل هذه الأحداث توضح أن الضغوط الدولية ومدى حساسية إيران لها قد ارتفع كلاهما» .
` الاستراتيجية الإيرانية في العراق:
لتحقيق هذه الأهداف تحركت القيادات الإيرانية على محورين:
المحور الأول: احتواء شيعة العراق.
المحور الثاني: التعامل مع الشيطان الأكبر.
احتواء شيعة العراق:
انطلق النشاط الإيراني على الساحة الشيعية في العراق في عدة مسارات:
1 ـ احتواء القيادات والتيارات الشيعية المتنافسة: ويسيطر على الشارع الشيعي في العراق عدة مرجعيات وتيارات أهمها: مرجعية علي السيستاني، وتيار الصدر الذي يقوده مقتدى الصدر، وجماعة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بزعامة آل الحكيم، وبدرجة أقل حزب الدعوة بفروعه المختلفة، وهناك تيار آخر مدعوم من إيران يعمل بصمت داخل مدن الجنوب وبعيداً عن الضجة الإعلامية كما يمارسها الآخرون وهو تيار المرجع (المدرِّسي) الذي يقود ما يعرف بـ (منظمة العمل الإسلامي) وهذه المنظمة أكثر قوة وتنظيماً، وتمتلك الشرعية الدينية الشيعية التي تؤهلها أن تكون مرجعية دينية قوية مدعومة بمليارات إيران. ولا شك أن السياسة الإيرانية في العموم تقوم على احتواء التيارات الشيعية كلها، والتعامل مع كل فصيل وشخصية قيادية تبرز على الساحة لحصد أي نجاح يحققه أي طرف شيعي. ويبقى التعامل مع هذا الفصيل أو ذاك مرتبطاً إلى حد بعيد بالتداخلات المختلفة داخل الساحة الإيرانية والخلافات بين المحافظين والإصلاحيين، وبقدرة هذا الفصيل على تحقيق الهدف الشيعي بهيمنتهم على أوضاع العراق. ولعل موقف إيران من مقتدى الصدر وحركته يوضح لنا جانباً كبيراً من طبيعة الدور الذي تقوم به إيران في احتواء الشيعة العراقيين؛ فهناك تياران داخل القيادة الإيرانية حول الموقف من العراق: الأول: يقوده الزعيم الإيراني علي خامنئي ويدعمه الرئيس السابق هاشمي (رفسنجاني) ويدعم هذا التيار الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر. ويقود التيار الثاني الرئيس محمد خاتمي والإصلاحيون، وهو يرفض التعامل والتعاون مع مقتدى الصدر إلى حد أن خاتمي رفض استقباله لدى زيارته إلى طهران، كما أن هذا التيار يفضل دعم المرجع علي السيستاني والقيادات والقوى العراقية المؤيدة للتعاون السلمي مع الأمريكيين والبريطانيين على أساس أن ذلك يشكل أفضل ضمانة لحصول الشيعة العراقيين على مطالبهم، وعلى حصة كبيرة في تركيبة الحكم الجديدة.
وفي لقاء عقده خاتمي مع إبراهيم الجعفري عضو مجلس الحكم الانتقالي العراقي (حزب الدعوة - شيعي) الذي ذهب إلى طهران في مهمة ذكر أنها لإقناع الإيرانيين باستضافة مقتدى الصدر كمخرج لأزمته مع قوات الاحتلال، لمح خاتمي إلى عدم موافقة طهران على تحركات مقتدى الصدر الأخيرة، وقال إن أسلوب الشيعة هو منطق الاعتدال، وأكد على ضرورة حرية الشعب العراقي، ووضع الأمور في يد الشعب، وهو ما يتجلى في مواقف حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية ومواقف المرجع الشيعي علي السيستاني. كما أكد خاتمي على أن إيران ترفض أي تحرك عنيف من شأنه أن يؤزم الوضع في العراق؛ ويعرض الاستقرار العراقي والإسلام والشيعة للضرر.
هذه اللغة الحادة والصريحة للرئيس خاتمي كانت مؤشراً لتحوُّل حقيقي في الموقف الإيراني ضد مقتدى الصدر بدعم من علي خامنئي الذي ذُكر أنه أمر بوقف الدعم عن مقتدى الصدر، كما أمر بتجميد أنشطة اللجنة الخاصة التي شكلها مكتبه بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين لتحديد سياسات ومواقف إيرانية تعرقل الأهداف الأمريكية في العراق من ناحية، وتدعم الموقف الإيراني في العراق من ناحية أخرى.
الانقلاب الدرامي في الموقف الإيراني من مقتدى الصدر عبر عنه غلاة المتطرفين في التيار المحافظ بوصفهم لأنصار مقتدى الصدر بأنهم أشبه بتنظيم مجاهدي خلق الإيراني المعارض الذين درج على وصفهم في إيران بالمنافقين، وأن مقتدى الصدر يزرع بذرة النفاق في أوساط الشيعة في العراق على نحو ما كتب (رسول جعفريان) بإسهاب على موقع بازتاب الخاص بمحسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري؛ حيث أسهب في توجيه انتقادات لاذعة لآية الله محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر، وأسهب في امتداح محمد باقر الحكيم مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الموالي لطهران، وكذلك لآية الله علي السيستاني.
2 ـ تسلل المخابرات الإيرانية إلى العراق: كانت الأداة الرئيسية لإيران في تنفيذ استراتيجيتها للمخابرات الإيرانية ونتيجة التنسيق الأميركي ـ الإيراني دخلت المخابرات الإيرانية إلى العراق. ونتيجة أبوتها للتنظيمات السياسية المذهبية تسلَّلت إلى مجلس الحكم الانتقالي.
وتشير تقارير صحفية إلى أن جهاز مخابرات فيلق القدس الإيراني ومخابرات الحرس الثوري الإيراني يقومان بالدور الأخطر على صعيد أجهزة الاستخبارات داخل العراق، ولعل الكشف عن الدور المزدوج للجلبي وعلاقته الطويلة مع المخابرات الإيرانية يوضح إلى أي حد وصل الدور الذي مارسته المخابرات الإيرانية على الساحة العراقية.
وتشير معلومات صحفية إلى افتتاح 18 مكتباً للاستخبارات الإيرانية تحت مسميات مختلفة أبرزها الجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء، وتوزيع المال والأدوية والمواد الغذائية، وترتيب الانتقال إلى العتبات المقدسة وضمن ميزانية تتجاوز مئة مليون دولار.
وضمن المخطط الإيراني شراء ولاء رجال دين أغلبهم شيعة وأقلية سنية رصد فيه مبلغ 5 ملايين دولار سنوياً للترويج والدفاع عن إيران، وتجميل صورة مواقفها في الشارع العراقي وأحياناً عبر المنابر.
وفي المعلومات الاستخباراتية أن إيران استأجرت واشترت 2700 وحدة سكنية من البيوت والشقق والغرف في مختلف أنحاء العراق، وخاصة فى النجف، وكربلاء ليسكن فيها رجال الاستخبارات الإيرانية ورجال فيلق القدس الاستخباراتي.
3 ـ تدفق الأفراد والأموال على العراق: ويشير حجم المساعدات النقدية الإيرانية المدفوعة إلى مقتدى الصدر وحده عدا التيارات الأخرى خلال الأشهر الأخيرة أنها تجاوز سقف 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب رجاله، وإرسال معونات إنسانية شملت الغذاء والأدوية والمعدات والأثاث. ومثال على ذلك ما ذكرته صحيفة (جمهوري إسلامي) الإيرانية أن إمام جمعة شيراز الشيخ الحائري الشيرازي أرسل 150 حاجاً على حسابه إلى العتبات المقدسة الشيعية وإلى كربلاء، وسيراً على الأقدام بناء على طلبهم. وهذا الاندفاع البشري الإيراني نحو العراق والأموال التي ينفقونها جعل قيمة الدينار العراقي ترتفع، كما قامت بلديات إيرانية عديدة أبرزها بلدية طهران بدور كبير في تولي الخدمات في الأماكن المقدسة كالنظافة والتشجير وزرع شتول الزهور، ورش المياه عبر صهاريج قادمة من إيران وعمالة إيرانية يساعدها عمال عراقيون موظفون تدفع لهم بلدية طهران أجورهم. أحد التجار الإيرانيين تبرع بحمولة 10 أطنان من المياه المعدنية أرسلها إلى كربلاء في أربعين الإمام الحسين منتصف أبريل من العام الماضي، ومؤسسة الأوقاف وهي مؤسسة غير رسمية أخذت على عاتقها تأمين كل المصاحف وكتب الأدعية المطلوبة للعتبات المقدسة الشيعية، وكل مؤسسة أهلية تقدم للعراق في هذه المناسبة عطاء أو مساعدة تعتبر جزءاً من ميزانيتها الخاصة.
هذا فضلاً عن حضور الآلاف من الإيرانيين للتطوع لطهي الطعام وتوزيع المياه أو العصائر أو التنظيف في العتبات المقدسة، وأخيراً للخبز الإيراني الساخن وجبة تقدم للفقراء.
ونتيجة للضوء الأميركي ـ البريطاني الأخضر اكتظَّت الأسواق وغرف التجارة العراقية بالتجار الإيرانيين، ومنه تسلَّلت إلى أجهزة المافيات (سرقة ونهب) بدون النظر إلى عرقها أو مذهبها؛ إذ تشاركت الأحزاب الكردية مع الأحزاب السياسية الشيعية (فيلق بدر وجماعات البرازاني والطالباني) في نهب كل ما طالته أيديهم وباعوه إلى التجار الإيرانيين، وقد وصف أحد العراقيين الدور الإيراني في العراق قائلاً: خرجت إيران ـ بعد احتلال العراق ـ بأكبر حصة من وليمة ذبح الدولة العراقية.
4 ـ السيطرة الإعلامية من خلال الصحف التي تمولها وقنوات البث الفضائي والأرضي؛ وقد قامت شركة التلفزيون الرسمية في إيران والتي يسيطر عليها الإصلاحيون بافتتاح قناة فضائية على غرار قناة الجزيرة القطرية باسم (العالم) تبث باللغة العربية من محطات تقوية على طول الحدود العراقية لكسب تأييد العراقيين، وتتحدث تقارير صحفية عن وجود 300 إعلامي إيراني بشكل دائم في العراق.
التعامل مع الشيطان الأكبر:
يندهش كثيرون من حقيقة أن هناك تعاوناً بين إيران والولايات المتحدة؛ وحقيقة العلاقة بين الطرفين هي من الحقائق المغيبة والتي هي جزء من ألاعيب السياسة ودهاليزها، ولا يمكن فهم العلاقات الإيرانية الأمريكية في الخمسة والعشرين سنة الأخيرة إلا بقراءة كتاب (رهينة خميني) الذي ألفه (روبرت كارمن درايفوس) وهو باحث فرنسي متخصص في الشؤون الاستخبارية شغل في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات مدير قسم الشرق الأوسط في مجلة (أنتلجنس ريفيو) ، هذا الكتاب الذي تم تأليفه وطبعه في عام 1980م، ونسخه المتداولة قليلة جداً، ولا ندري لماذا لم يطبع مرة أخرى بعد ترجمته في أوائل الثمانينيات؟ وبعد استعراض الأدلة الكثيرة يخلص الكتاب إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر قد قام بتعمد هادئ وتدبير مسبق خبيث على حد وصف المؤلف لمساعدة الحركة الإسلامية التي نظمت الإطاحة بشاه إيران، واشتركت إدارة كارتر في كل خطوة ابتداءً من الاستعدادات الدعائية إلى تجهيز الأسلحة والذخيرة، ومن الصفقات التي تمت خلف (الكواليس) مع الخونة في جيش الشاه إلى الإنذار النهائي الذي أعطي للزعيم المهزوم في يناير 1979م لمغادرة إيران. ويمثل هذا فصلاً آخر من فصول الخيانة التي مارستها الدوائر الحاكمة في التاريخ السياسي للولايات المتحدة.
وعند رصد التعاون الأمريكي الإيراني في السنوات الأخيرة لا يفوتنا التنسيق الجاد والهادف بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية حول أفغانستان. وهو ما لم ينفه الإيرانيون فحسب، بل أكَّدوه أيضاً. وبعدها طلب الطرف الإيراني من الطرف الأميركي علناً بأن يحفظ الجميل الإيراني لقاء الخدمات التي قدَّمها في رحلة احتلال أفغانستان التي وصلت إلى درجة توفير طائرات تنقل أنصار التحالف الشمالي ضد طالبان إلى خطوط الجبهة الأمامية.
لقد عرفت إيران أنها لا تستطيع أن تغزو العراق وأن تفوز به، فيتعين أن تقوم بهذا قوة أخرى. وعدم قيام الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله في عام 1991م سبب خيبة أمل هائلة لإيران. والحقيقة أن السبب الأولي لعدم قيام الولايات المتحدة بغزو العراق آنذاك كان معرفتها بأن تدمير الجيش العراقي من شأنه أن يجعل من إيران القوة المهيمنة بين القوى المحلية في الخليج العربي. وكان من شأن غزو العراق أن يدمر توازن القوة العراقي ـ الإيراني الذي كان الأساس الوحيد لما اعتبر استقراراً في المنطقة.
أما تدمير النظام العراقي فلم يكن من شأنه أن يجعل إيران آمنة فحسب، إنما كان من شأنه أيضاً أن يفتح آفاقاً لتوسعها. فالخليج العربي ـ أولاً ـ مليء بالشيعة، وكثيرون منهم متوجهون صوب إيران لاعتبارات دينية. وعلى سبيل المثال فإن منشآت تحميل النفط السعودي تقع في منطقة غالبيتها الساحقة من الشيعة. وثانياً: ليست هناك - دون الجيش العراقي الذي يقف بالمرصاد لإيران - قوة عسكرية في المنطقة يمكنها أن توقف الإيرانيين. فباستطاعتهم أن يصبحوا القوة المهيمنة في الخليج العربي.
أما في غزو العراق الأخير فقد سبقت الحرب جلسات ولقاءات سرية عقدت في عدة عواصم أوروبية بين ضباط إيرانيين ونظرائهم الأمريكيين كذلك عبر الضغط على حلفائها من الشيعة العراقيين للتنسيق مع الولايات المتحدة.
وتشير مصادر صحفية أن هناك مجالاً مفتوحاً للحوارات والجلسات السرية بين الولايات المتحدة وإيران بخصوص العراق والتي تُعقد في الغرف الخلفية والتي يديرها رفسنجاني من إيران، والدكتور ولاياتي من الإمارات العربية المتحدة والسفارة الإيرانية في الكويت.
ولم تكن زلة موقف أن تطلب الإدارة الأميركية من الحكومة الإيرانية أن تكون وسيطاً مع مقتدى الصدر لمعالجة التداعيات في النجف وكربلاء.
ووصل الغزل الأمريكي الإيراني في العراق إلى حد ما صرح به نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم إرلي الذي نفى فيها تورط إيران فيما يجري في العراق.
أمريكا وإيران تلتقيان على جامع مشترك هو الخلاص من أي مقاومة مسلحة على الساحة العراقية، ويبقى أن طهران تريد:
1 - قناعة أميركية بدور إيراني سياسي وأمني في العراق.
2 - لا بأس من إلزام إيراني بجنوب العراق؛ حيث العناصر المؤثرة محلياً والاستخبارات الإيرانية فعالة هناك.
ولكن فجأة حدث توتر في العلاقات بين الحليفين الإيراني والأمريكي في العراق، وأعقبه اغتيال الدبلوماسي الإيراني في العراق؛ فما الذي حدث وأدى إلى هذا الخلاف؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد فيه من تحليل الدور الذي قام به أحمد الجلبي في العلاقات الإيرانية الأمريكية، والذي كشف عنه مؤخراً عديد من الصحف الأمريكية والغربية. ولكن أبرز التحليلات التي ظهرت في تفسير هذا الدور ما كتبه جورج فريدمان مدير مؤسسة (ستراتفور) الخاصة للاستخبارات العالمية يوم 19 فبراير الماضي في نشرة مؤسسته الشهرية بعنوان (أحمد الجلبي وصلاته الإيرانية) ، وشكك فريدمان في بداية مقالته بكثير من الأخبار الصحافية التي تشير إلى أن الولايات المتحدة تعرضت للاستغلال من جانب إيران مستخدمة الجلبي أداة في ذلك لدفعها إلى غزو العراق، وكان المعنى الضمني لهذا أنه كان من شأن الولايات المتحدة أن تختار مساراً آخر لولا حملة المعلومات المغلوطة من الجلبي. وبيّن الكاتب سذاجة هذا الطرح؛ أولاً: لأن الولايات المتحدة لديها أسبابها الخاصة لغزو العراق، وثانياً: لأن المصالح الأميركية والإيرانية لم تكن شديدة التباعد في هذه الحالة. ويقول فريدمان: «إن استراتيجية إيران مع الولايات المتحدة كانت تعتمد إنه إذا ما تعرضت الولايات المتحدة لمتاعب في العراق فإنها ستصبح معتمدة إلى أقصى درجة على الإيرانيين وعملائهم الشيعة، وإذا ما هبّ الجنوب العراقي الشيعي يصبح مركز الولايات المتحدة حرجاً؛ لهذا فإنه إذا كانت هناك متاعب ـ وكانت المخابرات الإيرانية على ثقة كبيرة بأنه ستكون هناك متاعب ـ فسيصعد النفوذ الشيعي صعوداً كبيراً قبل أن ينسحب الأميركيون.
كانت مهمة الجلبي أن يعطي للأميركيين مُسوّغاً للغزو، وهو ما فعله بحكاياته عن أسلحة الدمار الشامل، إنما كانت له مهمة أخرى وهي حماية جانبين دقيقين من المعلومات من الأميركيين: الأول: كان عليه أن يحمي المدى الذي وصل إليه الإيرانيون في تنظيم الجنوب الشيعي في العراق، والثاني: كان عليه أن يحمي أية معلومات عن خطط صدام حسين لشن حملة حرب عصابات بعد سقوط بغداد، كان هذان أمرين دقيقين، وإذا أُخذا بجملتهما فسيكون من شأنهما أن يخلقا حالة الاعتماد (الأميركية) التي تمس حاجة الإيرانيين إليها.
ويواصل الكاتب حديثه فيقول: «أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن لها سياسة معروفة تستخدم فيها خطوط الصدع بين أعداء محتملين لإحداث انقسام بينهم، فتتحالف مع الأضعف ضد الأقوى إن خط الصدع في العالم الإسلامي هو بين السنة والشيعة، السنة مجموعة أضخم بكثير (عددياً) من الشيعة، وانتهاجاً للاستراتيجية الكبرى الأميركية يذهب المنطق إلى أن حل المشكلة هو بالدخول في تحالف من نوع ما مع الشيعة، ومفتاح الدخول إلى الشيعة هو الدولة الشيعية الكبرى إيران. ثمة شيء واحد كان لا بد أن يعرفه الجلبي ولم يخبر الأميركيين به بالتأكيد: أن صدام حسين سيشن حرب عصابات. وبشأن هذه النقطة لا يوجد أي شك في أن البنتاغون قد فوجىء، والأمر أهمه كثيراً» .
«لم يشارك الجلبي بمعلوماته المخابراتية التي كان الإيرانيون يملكونها بالتأكيد؛ وذلك لأن الإيرانيين أرادوا أن يغرق الأميركيون في حرب عصابات؛ فمن شأن هذا أن يزيد الاعتماد الأميركي على الشيعة وعلى إيران، ويسرِّع رحيل الأميركيين. كانت المخابرات الإيرانية قد توغلت بعمق في العراق. وكانت الاستعدادات لحرب العصابات واسعة للغاية. كانت إيران تعرف، وكذلك الجلبي. مع ذلك كانت الولايات المتحدة ستغزو، إنما كان يمكنها أن تستعد على نحو أفضل عسكرياً وسياسياً. لم يبلغ الجلبي البنتاغون بما كان يعرفه، وقد أدى هذا إلى جعل الحرب مختلفة بدرجة هائلة» .
ولكن الشيء الأخطر الذي يذكره الكاتب في مقالته الهامة «أن هذه اللعبة لم تَرُقْ لوكالة الاستخبارات المركزية التي كانت تفهم أن الجلبي لم يكن حقاً مصدراً بالمعنى التقليدي للكلمة إنما كان مخلباً جيوسياسياً، إلا أنها لم تتصل بوزارة الدفاع بهذا الشأن حتى كانت هذه الوزارة تواجه المتاعب في العراق» وإلى هنا ينتهي مقال الكاتب الأمريكي.
ومن هنا أدركت الولايات المتحدة مدى المستنقع الذي جرتها إليه إيران بواسطة الجلبي في العراق لتدفعها إلى مزيد من الاعتماد على الشيعة العراقيين ومن ثم إيران، ولعل إقالة (تينيت) في أعقاب هرب الجلبي إلى النجف ومساعده إلى إيران ومقتل مسؤول الاستخبارات الإيرانية في العراق يصب في هذا الاتجاه.
اللعبة الإيرانية في أراض الرافدين
«القيادة الإيرانية تقوم بدور مزدوج في العراق؛ فهي ليست راغبة في أن تنجح أمريكا بسهولة في هذا البلد، لكنها في الوقت نفسه ليست راغبة في أن يخفق الأمريكيون كلياً هناك؛ لأن هذا الإخفاق سيشكل حينذاك تهديداً للأمن القومي الإيراني» .
هذا قول مسؤول أوروبي كبير معلقاً على الدور الإيراني الذي تمارسه على الساحة العراقية.