التحرير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
خطبة الجمعة لها مكانة عظيمة في الإسلام كشف عنها أمر الله ـ عز وجل ـ لعباده المؤمنين بالسعي إليها وترك أمور الدنيا لأجلها، كما سميت سورة من سور القرآن باسمها، وقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التبكير بالذهاب إليها وبين فضل ذلك، حتى إنه يُندَب أن يذهب الناس إلى المسجد قبل موعد النداء لها بوقت كبير، ولأهمية الارتقاء بخطبة الجمعة، وضرورة استثمارها الاستثمار الأمثل في بناء الوعي وتعليم الناس، يسعدنا في مجلة البيان أن نستضيف خطباء فضلاء لهم باع مشكور محمود في الخطابة، وهم:
فضيلة الدكتور سليمان بن حمد العودة: أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة القصيم.
فضيلة الدكتور محمد بن عبد الله الخضيري: أستاذ العقيدة الإسلامية في جامعة القصيم.
فضيلة الدكتور صالح بن عبد العزيز التويجري: أستاذ العقيدة الإسلامية في جامعة القصيم.
فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل: المحاضر في قسم السنة في جامعة القصيم.
` دواعي العناية والاهتمام بخطبة الجمعة:
البيان: نرحب بضيوفنا الكرام، ونستهل ندوتنا بالحديث عن الأسباب التي دعت إلى العناية الشديدة بخطبة الجمعة.
- الدكتور سليمان العودة: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين. الجمعة ابتداءً فضلٌ من الله ـ تعالى ـ على هذه الأمة، ضلت عنه الأمم الأخرى وهدى الله إليه هذه الأمة، وإذا قيل في تعريف الخطبة بشكل عام: «إنها فن مخاطبة الجماهير بطريقة إلقائية تشتمل على الإقناع، والاستمالة» ؛ فخطبة الجمعة أكثر من ذلك. تستقي خطبة الجمعة أهميتها من الجمعة ذاتها التي دعا الله ـ تعالى ـ المؤمنين إليها وسمى سورة في القرآن باسمها. خطبة الجمعة درس أسبوعي يزيد في الإيمان، ويهذب الأخلاق، ويهدي لأحسن الآداب، ويحذر من منكرات الأخلاق والأعمال، إنها حلقة من حلقات وعي الأمة، بل هي أحد المؤشرات لوعيها. هي وسيلة هامة في الدعوة، ولغة راقية في البلاغ والإنذار. والخطيب ليس مجرد موظف بل صاحب رسالة عظيمة، والخطبة ليست سداً للفراغ، ولا حديثاً يلقى كيفما اتفق، بل هي أمانة ومسؤولية ينبغي أن يتصدر لها أولو العزم من الرجال، وأن يصبروا ويصابروا على لأوائها، ويتحملوا مسؤوليتها. الخطبة وعاء نظيف لحمل هموم الأمة ولطرح قضاياها، بل وللتبصير بالمخارج من أزماتها. الخطيب مؤتمن على التبصير والتفاعل والمساهمة، المساهمة الفعالة في رسم الداء وتشخيص العلاج. إن خطبة الجمعة رسالة تستحق العناية والاهتمام، هي تقوى بقوة الخطيب، ويضعفها ضعفه أو قلة اهتمامه، ولو أردنا أن نأتي على بعض المظاهر لأهمية هذه الخطبة أو الأسباب التي تدعو إلى الاهتمام بها لذكرنا الأمور التالية:
أولاً: أن الناس مُلزَمون شرعاً بالسكوت، والاستماع إلى الخطيب، «ومن مسَّ الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» .
ثانياً: أنه: يجتمع للخطيب قطاع عريض من الناس لا يتوافر مثلهم في غير خطبة الجمعة، يوجد فيهم الغني والفقير، والكبير والصغير، العالم الجليل، الصالح ومن هو دون ذلك. ومن الملاحظ أن جمهور الجمعة يزيد بعكس غيرها من الخطب أو المحاضرات؛ إذ إن الخطيب قد يبدأ بعدد قليل فما هو إلا وقت حتى يزيد العدد، أما غيره من الخطباء فقد يبدأ بعدد جَمٍّ، ثم يبدأ الناس بالتناقص شيئاً فشيئاً.
ثالثاً: من مظاهر أهمية الخطبة أنها في الأسبوع مرة لا تكرر، وليست على مزاج المتحدث، بل هي رهينة بوقت محدد؛ ولذا ينبغي أن يتوفر لها دواعي المصداقية، والإعداد الجيد حتى يقتات الناس عليها إلى الجمعة القادمة.
رابعاً: وينازع الخطبة منابر أخرى تؤثر على الناس في عالم الإعلام والقنوات الفضائية والإنترنت وغير ذلك، وهذا يضاعف من مسؤولية الخطيب ويعاظم من قدر الخطبة.
خامساً: من أسباب أهمية خطبة الجمعة أن عماد الخطبة: (قال الله، قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-) فالخطبة إذن توقيع عن الله، والخطيب متحدث باسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك يؤكد أهمية الخطبة ويعاظم من مسؤولية الخطيب.
سادساً: سؤال يطرح، وهو مؤشر إلى أهمية خطبة الجمعة: كم في السنة من خطبة؟ في السنة بحدود الخمسين. وفي هذا الكمِّ فرصة للتعليم وللإرشاد وللتوجيه، ولهذا يعاد السؤال مرة أخرى: كم يوجه الخطيب في خطبة الجمعة لجمهوره من رسالة في السنة؟
سابعاً وأخيراً: الخطبة ثابتة ومستمرة في حال السلم وفي حال الحرب، في حال الأمن وفي حال الخوف، وهذا يعطي خطبة الجمعة أهمية، وأيضاً يؤكد على إفادة الخطيب من كل هذه الأجواء.
` إعداد الخطيب الجيد لموضوع الخطبة:
البيان: شكر الله لكم، ذكر فضيلة الدكتور سليمان أن من جوانب الأهمية في الخطبة الإعداد الجيد لها؛ فكيف يمكن أن توظف الخطبة توظيفاً صحيحاً من خلال الإعداد المناسب لها؟
- الشيخ عبد الرحمن العقيل: إعداد الخطيب أو المتكلم لما يريد أن يتكلم به أمر معهود حتى عند بلغاء الصحابة وأقحاحهم؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ البليغ المفوَّه يقول كما في صحيح البخاري في قصة البيعة في سقيفة بني ساعدة كما ـ يروي عنه ذلك ابن عباس رضي الله عنهما ـ: «أردت أن أتكلم، وكنت قد زوَّرت (*) مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر الصديق رضي الله عنه» وفي رواية عائشة: قال عمر: «واللهِ! ما أردتُ لذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر» ؛ فهذا دليل على أهمية الإعداد والتهيؤ للخطيب. وللأسف أن الملاحظ على كَمٍّ غير قليل من الخطباء أنهم لا يقيمون للخطبة وزناً، ولا يُعِدُّون لها إعداداً كافياً؛ بعضهم لا يعد للخطبة إلا صبح الجمعة أو قبل دخوله بسويعات، فتأتي الخطبة مهترئة منقوصة غير مؤثرة، وهذا القدر غير الكافي في الإعداد إن كان قليلاً وعلى سبيل الندرة، وبسبب ظرف أو ضرورة فلا لوم على الخطيب فيه؛ لأنه قد لا يسلم من ذلك أحد. أما إن كان ذلك على سبيل الديمومة، وديدن الخطيب فيها عدم الاكتراث بالإعداد، وعادته اقتلاع إحدى الخطب من بعض الدواوين أو مواقع الإنترنت دون النظر في ماهية الخطبة، ومدى مناسبتها لوقتها ولجمهوره فيلقيها من على المنبر من باب الأداء الوظيفي فحسب من غير مراعاة لأحوال الناس ومتطلبات الزمن؛ فهذا في الحقيقة لم يؤد رسالة المنبر على وجهها الذي ينبغي، وإنما اتخذ المنبر عادة أو تكسُّباً.
وينبغي ألا يخالج الخطيب شك في أن إعداد الخطبة وتحضيرها لا يعيب القدرة ولا يشكك في أهلية الخطيب، إنما يعيبها ويشكك فيها الكلام المبتذل الذي لا يزوَّر في النفس ابتداءً، ولا يعد إعداداً كافياً. على الخطيب أن يحترم عقول الناس، ويقدم لهم الجديد والبديع الهادف، وهذا بلا شك لا يتم إلا بالتهيؤ، والاستعداد، واستشعار أن من بين السامعين طبقة ناقدة تتسقط هفواته، وتتتبع سقطاته، وتحصيها عليه إحصاء. من المعين للخطيب في إعداد الخطبة ألا يغيب عن ذهنه أنه حين يعتلي المنبر كالخائض غمار معركة عليه أن يتدرع بدروعها، ويتترس بتروسها، ويلبس لأَمَتها، ويستعد لمواقفها.
إن أول ما ينتظم في سلك الإعداد للخطبة ابتكار الموضوع، وحسن اختياره، ولعل هذا من أشق ما يواجه الخطيب كما يصرح به فحول الخطباء؛ حيث إن بواعث الاختيار متعددة، والظروف متبانية ومختلفة، وحاجات الجمهور كثيرة ومتعددة، ولكن كلما كان الخطيب صادقاً في قصده، جاداً في طرحه، عارفاً بظرف زمانه، مهتماً بجمهوره، فسيحسن الاختيار، وسيقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار.
كما أن حصافة الخطيب وألمعيته ستدله على تقديم ما يستحق التقديم، وتأخير ما حقه التأخير؛ وذلك بالنظر إلى الظروف والمناسبات، والزمان، والجمهور.
ثم بعدما يزمع الخطيب على الموضوع وينتقيه انتقاء جيداً مناسباً لزمانه وظروفه ولجمهوره؛ فلا بد أن يبنيه على أمور ثلاثة:
الأول: المقدمة التي يستهلها الخطيب بعبارات يشد فيها الانتباه، ويهيئ فيها النفوس لأهمية الموضوع.
وللمقدمة أهمية بالغة إذا أحسن فيها الخطيب الدخول إلى قلوب السامعين، وأجاد في طريقة جذبهم واستمالة قلوبهم.
وللخطيب أسوة في افتتاحيات بعض سور القرآن التي تثير في النفس الشوق والرغبة في المتابعة، والتلهف لما سيذكر بعدها. قال أبو هلال العسكري ـ رحمه الله ـ: «إذا كان الابتداء حسناً بديعاً ومليحاً ورشيقاً كان داعية للاستماع لما يجيء بعده من الكلام، ولهذا المعنى يقول الله ـ عز وجل ـ: (الم) و (حم) و (كهيعص) فيقرع أسماعهم بشيء بديع ليس لهم بمثله عهد ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده»
ثانياً: الموضوع، وهو مقصود الخطبة الأعظم. والأجمل للخطيب أن يدخل إليه دخولاً متدرجاً، بحيث يتناوله تناولاً غير مباشر ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي، ويصل إلى مبتغاه بعد ذلك بعرض شامل واف، فيعطي الموضوع حقه، ويستوفي أجزاءه.
واستيفاء الموضوع واكتمال عناصره من مهمات الخطيب التي قد يشرد الذهن عنها حين الإعداد للخطبة، وقد امتدح حسان ـ رضي الله عنه ـ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في هذه الصفة حين قال:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع
لذي إربة في القول جدّاً ولا هزلا
ثم إن من الأسس الهامة لعرض الموضوع، والتي لا بد من العناية بها عند الإعداد تدعيمه بالأدلة، والحجج والبراهين، والشواهد، وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة، ومن أقوال السلف، وأيضاً إيراد بعض الوقائع والأحداث التي يستلهم منها الدروس والعبر، ولا بأس من الاستفادة في هذا المضمار ممن ألَّف في الخطب، والاستفادة أيضاً من الصحف، ومن المجلات، والشبكات العنكبوتية، ونحو ذلك مما يمكن أن يستفيد منه. وبخصوص الموضوعات الاجتماعية لا بد للخطيب فيها من معرفة واقع الناس، والقرب منهم، ومعرفة أحوالهم عن كثب كي يتحدث الخطيب عن هذه الجوانب ببصيرة ودراية واطلاع.
ثالثاً: في خاتمة المطاف بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه، وسَوْق أدلته، وضرب أمثلته يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة مناسبة تجمع شتات أفكاره وتلخص موضوعه بعبارات قوية موجزة، وبطريقة مختصرة مؤثرة مقنعة؛ لأنها آخر ما يطرق سمع السامع، وكأنه يُشعر جمهوره في هذه الخاتمة بأنه انتهى إلى رأي لا يقبل الجدل ولا يحتمل النظر.
` وسائل معينة لإعداد الخطبة:
البيان: لكن هل ترى أن الإعداد للخطبة هو مهمة الخطيب وحده فقط، أم أنه ينبغي له أن يستعين بغيره من أهل الفضل والعلم ممن يحضرون عنده في مسجده، ويستعين بغيره من الخطباء والدعاة؛ بحيث يكون الإعداد إعداداً جاداً يستوفي فيه الخطيب الوسائل المتعددة المتاحة بين يديه حتى يكون إعداده بإذن الله ـ تعالى ـ في أفضل صورة؟
- الشيخ عبد الرحمن العقيل: بلا شك أن الأجود والأكمل للخطيب أن يستفيد من كل أحد يمكن الاستفادة منه، وإذا رأى عنده نقصاً في جانب من الجوانب فلا بأس أن يستفيد من غيره ليكمل هذا النقص؛ فمثلاً إذا كان عنده ضعف في العربية؛ فلا بأس أن يرجع إلى من هو أجود منه وأحسن في هذه الناحية، ويمكن أن يعينه على إصلاح الأخطاء النحوية لكي يلقي الخطبة بجدارة وقوة.
الدكتور سليمان العودة: من مهارة الخطيب أن يستفيد من الآخرين، لكن الشيء الآخر الذي ينبغي أن ينبه إليه أن منبر الجمعة في الحقيقة ليس ملكاً للخطيب، ولذلك فهو مسؤولية طالب العلم، مسؤولية المثقفين المتميزين في ثقافتهم، مسؤولية كل غيور، على الأقل أن يقترح موضوعاً، أن يرشد إلى عنصر، وهذه ـ مع كل أسف ـ المساهمة فيها قليلة وهي من سلبيات الآخرين، ومن ثم ينبغي ـ في الحقيقة ـ أن يسهموا في اقتراح في معاونة الخطيب؛ لأن المنبر ـ كما قلت ـ ليس ملكاً للخطيب وحده.
` ما ينبغي أن تتضمنه خطبة الجمعة:
البيان: في بعض الأحيان قد يريد الخطيب أن يتحدث في مسألة سياسية أو في مسألة اقتصادية أو اجتماعية، وليس من واجب الخطيب أن يكون ملماً بكل هذه العلوم والموضوعات المختلفة، لكن الناس في حاجة إليها، وهذا يتطلب أن يستعين الخطيب بالسياسي، وبالاقتصادي والاجتماعي، وبالفقيه ونحو ذلك؛ بحيث يستطيع أن يعالج حاجات الناس بإتقان وإحكام قدر الإمكان.
ننتقل الآن إلى مضمون الخطبة مع فضيلة الشيخ محمد الخضيري:
البيان: ما تحدث به المشايخ الفضلاء يؤكد أن الإعداد إنما يكون ناجحاً إذا حققت الخطبة أهدافها؛ فلو تحدث فضيلتكم عن مضمون الخطبة؟
- الدكتور محمد الخضيري: نعم! مضمون الخطبة هو الجانب الأهم فيها. هو الذي عليه مدار إصلاح القلوب، والأعمال، والأخلاق، والسلوك؛ تثبيتاً للصواب وتكثيراً له، وتحذيراً من الخطأ وتقليلاً له. وفي هذه القضية عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها، وهي ست قضايا أو معالم:
القضية الأولى: تقرير الأصول: فلا بد أن يكون عامة مضمون الخطبة تقرير الأصول والأركان؛ حيث يكون للخطيب عناية خاصة بمسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أياً كانت، فيستغرق فيها كثيراً ويهمل تلك الجوانب العظيمة.
ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء اعتماداً على سبق معرفة المستمعين لها أو دراستهم إياها، وهذا على فرض ثبوته فإن لغة الخطيب، وقدسية المكان، وعبودية الاستماع تختلف عن لغة التعليم والدراسة فهماً وتأثراً وتطبيقاً، إضافة إلى أن في المستمعين ـ ربما ـ من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو تعلم ولكن هذه القضايا ليست من ضمن فقرات ومفردات المنهج، ولهذا كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مشتملة على هذه القضايا الأساسية كما حكى ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله: «كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي تقرير لأصول الإيمان: من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبه إيماناً وتوحيداً» .
ويؤكد ابن القيم في خطبته -صلى الله عليه وسلم- وخطبة الصحابة على دور هذا المضمون في تقريب السامعين إلى الله وتحبيبهم إليه، يقول: «ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى، والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون ـ أي الخطباء ـ من عظمة الله وصفاته ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون بطاعته وذكره وشكره وما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم» .
القضية الثانية: التنويع في مضمون الخطبة: الخطبة النافعة الناجحة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها، كل خطبة بما يناسب مقامها وظروفها الزمانية والمكانية؛ بحيث لا يكرر ولا يعيد، بل يرسم لنفسه خطاً بيانياً علمياً يحاول أن يأتي عليه جميعاً في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب وهذا الجامع يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه وأخراه، ولم يفته شيء من ذلك، وقد يعيد بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير وعرض مختلف.
وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلاً موضوع معين أو أكثر، أو تخصص معين، فتجده أبداً لا ينفك عن طرحه في خطبه إلا قليلاً، وكان سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- يراعي مقتضى الحال في خطبه، ولهذا يذكر عنه ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في الزاد، يقول: «وكان -صلى الله عليه وسلم- يخطب في كل وقت بما تقضيه حاجة المخاطَبين ومصلحتهم» .
ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبه القضايا الإيمانية والعبادية والمعاملات والأخلاق وما يتعلق بالأحداث أو المناسبات.
القضية الثالثة: العلمية: فالخطبة الناجحة المؤثرة هي التي يعتمد الخطيب في موضوعها على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعاً خاصاً أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته. على الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، ولا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحرٍّ وبحث، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنياً على وجهة نظر شخصية عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما بلغ الخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تثبَّت منه دون ما ظنه واشتبه عليه. يقول أحد السلف: «من أُعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل» .
وأعجبني بهذه المناسبة كلام للشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث عن عيوب الخطبة في زمانه حيث يقول: «ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو أو خطرات ذهنه ... » إلى أن يقول: «ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلَّمة عند أهل العلم يفتي بها على المنبر ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافيات لمجالس العلماء لكان أحسن» .
القضية الرابعة: تتعلق بمضمون الخطبة الاستدلالية؛ فالخطبة المؤثرة هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولاً، وليثبت القضية المطروحة ثانياً.
ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك من آية أو حديث؛ فإذا سمعته بعد ذلك وعته وعقلته وأحسنت ربط القضية بدليلها كما فعل الخطيب. والدليل القرآني هو وشاح الخطبة وحِلْية الموعظة، ومهما كانت بلاغة الخطيب إذا عريت خطبته عن كثرة الاستدلال ضعفت ووهنت. يقول عمران بن حطان: «خطبت عند زياد خطبة عصماء، ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لقائل أن يقول علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخاً يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن» . وفي قضية الاستدلال يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبه، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة. ووسائل التخريج وتمييز الصحيح من غيره أصبحت متيسرة جداً بحمد الله بأكثر من طريقه وأسلوب.
البيان: هل يدخل في الاستدلال ـ فضيلةَ الشيخ ـ الاعتماد على الأدلة العلمية الأخرى كالإحصاءات الموثقة، والشواهد المعاصرة والوثائق العلمية المتاحة الآن في توظيف النتيجة التي يريد أن يصل الخطيب إليها؟!
- الدكتور محمد الخضيري: نعم! هذا صحيح؛ لأن مفهوم الاستدلال العلمي يشمل ذلك، ولهذا فإن استخدام لغة الأرقام غاية في الأهمية، وإثبات للمعلومات، وهي متوفرة في كثير من مراكز الدراسات والمراجع العلمية ومن المواقع العنكبوتية. إذن لا عذر في التقاعس والتقصير في إثبات الاستدلال أياً كان.
لكن اسمح لي أن أعود إلى القضية الخامسة في المضمون: وهي الوعظية: لا بد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ كما كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس الوعظ قسيماً للعلم، أو مقابلاً له كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيبي فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب، ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [يونس: 57] ، وفي الأحكام قال ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 232] . من هنا يتضح أن الموعظة وعاء ومركب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية أو العبادية أو الأخلاقية أو الاجتماعية؛ فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ أو أخبار مسرودة، وإنما لا بد أن تساق بسياق وعظي من ندب للفعل إن كان الموضوع علمياً، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبراً وقصصاً قرآنياً، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرَّ وجهه، وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: «صبَّحكم ومسَّاكم» ، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة لا يُتصور أن ينفصل عنها أي مضمون.
القضية الأخيرة وهي السادسة: الاستباقية: لا بد لكي تكون الخطبة ناجحة ومؤثرة أيضاً أن تناقش إضافة إلى القضايا الحاضرة الراهنة وما يحتاجه المسلمون في كافة أمورهم ومسائلهم أن تناقش أيضاً القضايا التي يتوقع وقوعها وحدوثها، أو الأحداث والفتن التي يُخشى وقوعها؛ وذلك توضيحاً لأحكامها إن كانت مناسبات ومواسم، أو تحذيراً من أسبابها إن كانت مصائب وفتناً ومنكرات.
وهنا قاعدة شرعية تقول: (الدفع أوْلى من الرفع) ؛ لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة المؤونة وضآلة المفسدة ما لا تكون بعد وقوع الشيء ورجحان مفسدته. وإذا تأملنا بعض خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وجدناها على هذا النسق في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للعرب من شر قد اقترب» هذا بيان استباقي قبل أن يقع، وقوله ِ-صلى الله عليه وسلم-: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» ، وقوله: «والله! ما الفقر أخشى عليكم» ، وقوله: «إن بين يدي الساعة سنوات خدَّاعات» إلى آخر هذا النوع من حديثه -صلى الله عليه وسلم- التي يبين فيها شيئاً مما سيكون، فيأخذ المسلمون أُهبتهم لذلك.
` أسلوب الخطيب الناجح والمؤثر:
البيان: ما ذكره فضيلة الشيخ يؤكد أن المضمون هو لب الخطبة، لكن أيضاً طريقة عرض هذا المضمون وأسلوب الخطيب له تأثير كبير جداً في إيصال هذه الرسالة للمستمعين؛ فلعلكم فضيلةَ الشيخ عبد الرحمن تحدثنا عن أهمية العناية بأسلوب الخطبة.
- الشيخ عبد الرحمن العقل: كما أنه ليس كل من تطبب يعد طبيباً؛ فكذلك ليس كل من تصدر للخطابة يعد خطيباً؛ إذ إن الخطابة تفتقر إلى أمور من أجلِّها اللسان المعبر والأسلوب المؤثر. إن الأسلوب إذا كان أخاذاً ومؤثراً يعتبر كالسلطان المهيمن على العقل؛ فهو نهار لا يمحوه ليل، وأثر لا يزيله دليل. الأسلوب المؤثِّر المقنع ألفاظ وجمل بليغة ينطق بها الخطيب، فتمتد الأعناق له احتراماً ... ألفاظ يتفوه بها لا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين من شدة وقع الألفاظ على قلوبهم. أسلوب الخطابة المؤثر ألفاظ وعبارات تثير في النفوس صوراً من المعاني ليس لها حد ولا انحصار، تحرك في القلوب المكامن والأسرار. إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره؛ فكيف يكون تأثير المعنى المحكَم إذا كُسِيَ بقالب جميل، وألقي بلفظ منسجم أخاذ يترك في النفوس أشياء وأشياء. ذكر بعض أهل العلم أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ خطب بمكة وعثمانُ ـ رضي الله عنه ـ محاصَر خطبة لو شهدتها الترك والديلم لأسلمتا؛ وذلك لقوة أثرها ولروعة أسلوبها.
والأسلوب الخطابي المؤثر هو ما اجتمع فيه ثلاث خلال:
الأولى: الوضوح وعدم الغموض، بألفاظ منتقاة في غير إغراب، وببيان سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء. الكلمات في الأسلوب الخطابي ينبغي ألا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها، فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد. وأما السجع فلا يحمل منه إلا ما لم يكن متكلَّفاً، وكان قصير الفقرات، خفيفاً على السمع، يحرك المشاعر بحسن جرسه، والألفاظ فيه تابعة للمعنى، وليس المعنى تابعاً للألفاظ؛ ذلك أن السجع حلية، والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة، حسنة التوزيع، تبرز المحاسن ولا تغطيها، وتظهر المعاني ولا تخفيها.
الثانية: مراعاة اللغة العربية ومجانبة اللحن: فينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية، فينطق بلغة عربية صحيحة فصيحة؛ إذ اللحن يُفسد المعنى، ويقلب المقصود أحياناً، وإذا فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن موقعها، وقد كان السلف والأئمة يعيبون اللحن من طالب العلم والخطيب والمتحدث. قال ابن شبرمة: «إن الرجل ليتكلم فيلحن فكأن عليه أسمالاً (وهي الثياب البالية) » ثم قال: «إن أحببت أن يصغر في عينك الكبير، ويكبر في عينك الصغير فتعلم النحو» .
الثالثة: أن يشتمل على تحريك المشاعر، وهز الوجدان، وإثارة الشعور، وإذا فقدت الخطابة هذا العنصر فإنها تفقد أكبر خصائصها، ولا شك أن الهدف الأجَلَّ من الخطبة التأثير في السامعين تأثيراً إيجابياً يقودهم إلى تصحيح مفهوم، أو مبادرة بعمل، أو إقناع برأي، وهذا لا يتم إلا بتوافر صفة التأثير التي تعتمد كثيراً على ما لدى الخطيب من ثروة لغوية ثرَّة، وعلى قدرته على تنويع الأساليب، واختيار الألفاظ التي تثير خيال النفس، وتحرك الوجدان: «ويكون ذلك بأن يأخذ الخطيب سامعيه بالكلمات الساحرة، والصوت العذب المتردد انخفاضاً وارتفاعاً وإثارة وهدوءاً، وبالتفنن في التعبير، والمغايرة في التصوير، بالتقرير مرة، وبالاستفهام أخرى، وبالاستنكار ثالثة، والتهكم رابعة، وهكذا، وهذا التنويع في الأسلوب والتصوير من أروع وأبدع طرائق التأثير في الجمهور» . ويحسن بالخطيب أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار السامعين وأقدار الظروف والأحوال، فيجعل لكل طبقة كلاماًِ، ولكل حال مقاماً؛ فالحديث إلى طبقة أهل العلم والمتعلمين يختلف عن الحديث إلى العامة، كما أن الحديث إلى المثقفين يختلف عن الحديث إلى الأميين، وأيضاً الكلام في حال الخوف يختلف عنه في حال الأمن، ومخاطبة الثائرين غير مخاطبة الفاترين؛ فالثائر يُقمَع، والفاتر يستثار، وهكذا. ومن حَذَقِ الخطيب وألمعيته أن يدرك أن خطب الحماسة غير خطب التفتير، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، ومن حَذَقِه أيضاً أن يدرك الفرق بين أسلوب التفاؤل وبث الأمل وبين أسلوب التخويف والتقريع، وألا ينصرف وراء نوع منها بسبب إملاءات وظروف معينة. والخطيب البارع المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه. وقد عتب ابن القيم ـ رحمه الله ـ على نوع من خطباء عصره غلَّبوا أسلوب التخويف والنوْح على الحياة، وقال ـ رحمه الله ـ: «ليت شعري! أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟» . وأقول: «إنا لنجد في زماننا هذا قوماً أمعنوا في بث روح اليأس في الناس وقَنّطوهم من صلاح الحال والمآل؛ وهذا بلا شك مخالف لهدي القرآن الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] ومخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يبث روح التفاؤل في أحلك الظروف وأقساها. فينبغي للخطيب أن يهتدي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه. وقد عقد ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الزاد فصلاً خاصاً بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه يحسن بالخطيب أن يرجع إليه؛ ففيه كلام ماتع جميل. وأشير في نهاية الكلام عن الأسلوب أنه يجمُلُ بالخطيب إذا أراد أن يَنهَى جمهوره عن شيء أو يحاسبهم على شيء ألا يوجه اللوم إليهم مباشرة؛ وإنما ينكر على نفسه تصريحاً وهو يعني السامع تلميحاً، كأن يقول: ما لنا لا نتقي الله؟ ما لنا لا نأمر بالمعروف، ولا ننهى عن المنكر؟ وهكذا. يشير إلى هذا الأسلوب المؤدب قوله ـ تعالى ـ عن الرجل الذي دعا قومه إلى الإيمان بالله ـ: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] ؛ فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئاً، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه تلطفاً في الخطاب، وإظهاراً لصدق النصيحة؛ حيث اختار لهم ما اختار لنفسه.
- الدكتور سليمان العودة: مما يؤكد أهمية الأسلوب أنك ترى تفاوتاً في خطبتين موضوعهما واحد لشخصين مختلفين، وقد يكون الاستدلال واحداً. يعني: استخدام النصوص، أو إيراد النصوص واحد؛ لكن كيفية استخدام، أو طرح، أو أسلوب الخطبة يفاوت بين هذه الخطبة وتلك، وهذا يؤكد ـ في الحقيقة ـ أهمية الأسلوب.
البيان: صحيح؛ فأحياناً تجد عند بعض الخطباء الذين يقرؤون من الأوراق أن كلامه ربما يكون متميزاً جداً، والاستدلال عميق، لكنه يَهذّه هذّاً بلا تفاعل ولا حيوية، فيشعر المستمع بالملل. لكن حينما يكون الخطيب مؤثراً في طريقة الأداء، ويخطب بصدق، ويعرف متى يرفع الصوت ومتى يخفضه، فإنه يأسر السامعين، ويكون تأثيره في خطبته أشد من تأثير الإنسان الذي يَهُذّ الكلام هذّاً دون تفاعل معه، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب كأنه منذر جيش؛ لأنه يتفاعل مع الموضوعات التي يذكرها في خطبته.
- الشيخ عبد الرحمن العقيل: لا شك أن النائحة المستأجَرة ليست كالثكلى؛ فالإنسان الذي اجتهد في الإعداد وأعد خطبة قوية، وبذل وقتاً في إعدادها سيتفاعل معها بلا شك؛ بخلاف من يقرأ من ورقة دون أي استعداد أو جدية؛ فهذا يهذها هذّاً خالية المعنى والتأثير.
` طول الخطبة وقصرها بين الإفراط والتفريط:
البيان: لو ننتقل إلى مدة الخطبة؛ لأن هذه واحدة من القضايا التي يكثر فيها النقاش بين الخاصة والعامة؛ فبعض الخطباء يرى ضرورة الإطالة خاصة في هذا الزمن الذي قلَّت فيه المنابر الدعوية المفيدة، وآخرون يرون أن الأوْلى أن تكون الخطبة قصيرة ومركَّزة؛ فلعلنا نسمع من فضيلة الدكتور صالح شيئاً في هذا الباب.
- الدكتور صالح بن عبد العزيز التويجري: المدة التي تستغرقها الخطبة ـ قصراً وطولاً ـ الناسُ فيها بين إفراط وتفريط وتوسط، هناك التطويل الممل، والتقصير المخلّ؛ وهذا كله خارج عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي الحديث الذي رواه عمار كما هو في مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنة من فقهه» ، وعلى هذا كره الشافعي ـ رحمه الله ـ إطالتها، وقال: «أُحب أن يكون كلام الخطيب قصداً بليغاً جامعاً» ، وقال ابن حزم: «لا تجوز إطالة الخطبة» كأنه يميل إلى التحريم.
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «المراد من الحديث: أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة» .
وعند مسلم من حديث جابر بن سمرة: «كنت أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» .
قال النووي: «أي بين الطول الظاهر، والتخفيف الماحق» .
قال ابن القيم في الزاد: «كان -صلى الله عليه وسلم- يقصر في خطبته أحياناً، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس، وكانت العارضة أطول من الراتبة» ، والعارضة: النازلة التي لها سبب حادث؛ فهي أطول من الراتبة التي هي ديدنه في خطبه، فلا يصلح أيضاً أن يكون القِصَر مطلوباً لذاته. ومن مطالب بعض الناس أن يكون جمع الجمهور بحجة القِصَر؛ فإذا كان هذا هو الهدف الذي يحدو بالخطيب إلى ذلك فهو خطأ؛ لأنه ليس مقصوداً من مقاصد الشريعة، وإنما المقصود أن تتعدد المنافع: منها الرفق بالناس، ومنها تركيز المعلومة؛ بحيث يخرج كل إنسان والمعلومة معه؛ لأن الحديث إذا طال قلَّت فائدته وأنسى بعضه بعضاً» . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «واتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بألفاظ يسيرة» . وهناك تطبيق عملي ذكره الشيخ (سعود الشريم) قال: «إن قراءة سورة (الجمعة والمنافقون) تمتد غالباً من 10 إلى 15 دقيقة، وقد تصل القراءة المرتلة المجوَّدة إلى 20 دقيقة، فيكون قصر الخطبة بالنسبة للصلاة أقل من 20 دقيقة» وهذا كأنه يشير إلى أن هناك إمكانية تحديد عن طريق قراءة السور إلا في حالات مستثناة قد تطول فيها الخطبة. إذا قرأ الإمام سورة (ق) في الخطبة فإنها ستكون الخطبة أطول. ومما ينبغي أن يلاحظه الخطيب أيضاً حالة الجو بالنسبة للناس؛ فالجو البارد غير الحار، كذلك الظروف من مطر، أو خوف، أو أن يكون الموقع في محلات تجارية، أو أسواق، أو أن يكون على سابلة الطريق وقارعة الطريق حينما يقف الناس ومعهم عائلاتهم يريدون الصلاة في غير المساجد التي في الأحياء ونحوها فإنها أمور يدركها الخطيب وينزلها على الواقع. ومثله الموضوع؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب خطباً طوالاً، وخطب خطباً قصيرة، بحسب الموضوع الذي يستدعي ذلك؛ فهو حينما يتكلم عن الآخرة وأحوالها وما يحدث فيها يطيل؛ لأن الموضوع لا يُملّ، ويشد الناس إليه عدد من نصوص الترغيب والترهيب، وهناك موضوعات يكتفي منها بالإشارة.
` مصداقية الخطبة:
البيان: لعلنا ننتقل إلى مصداقية الخطبة؛ لأن لها تأثيراً كبيراً جداً في مقدار تجاوب الناس مع الخطيب وتأثرهم بكلامه؛ فبعض الناس ربما يذكر أحياناً في خطبته من الآراء والمواقف ما قد يؤثر على تجاوب الناس معه، واطمئنانهم لسلامة رأيه.
- الدكتور محمد الخضيري: فيما يتعلق بمصداقية الخطبة هناك عدة قضايا تؤكد هذا الجانب:
القضية الأولى: أن يكون مبتغى الخطيب رِضى الله ـ تعالى ـ وحده، فيقول الحق لوجه الله لا ينظر فيه إلى أهواء الجمهور ولا غيرهم.
والخطيب قد يعتريه حالتان:
ـ إما أن يُرضي جمهوره ومستمعيه بخطبة فيها نوع من القوة في النقد والمبالغة في التشخيص والتوصيف دون روية أو نظر في المقاصد والمآلات، أو في حسن التوقيت.
ـ وإما أن يُرضي طرفاً آخر غير الجمهور كمسؤول مثلاً.
وكِلا الأمرين فيه مخاطرة غير محمودة، ووقوع في شراك التبعية، ولا منجا من ذلك إلا بصدق التجرد، وتمام الإخلاص، وتقليب النظر في الأمر المراد، وتغليب درء المفسدة أياً كانت جهتها، والسعي لتحصيل المصلحة، وتكميلها ولو بالتدرج إن لم يمكن جملة واحدة.
والقضية الثانية: الاعتدال بالطرح، ومجالات الاعتدال كثيرة جداً، فيحسن أن أشير إلى بعض هذه الحالات.
الاعتدال مثلاً في تأثير الخطبة بين الإقناع العقلي والجذب العاطفي؛ بحيث لا يطغى الجانب العقلي في الطرح فتبقى الأرواح والعزائم فاترة، ولا يطغى الجانب العاطفي فتتعطل مدارك العقل، ويُحرَم ذوو الألباب والعقول الكبيرة؛ بحيث لا يستمر وهج العاطفة مع صاحبه حتى أبواب المسجد إلا ويبدأ بالتلاشي والاضمحلال.
كذلك الاعتدال في الأسلوب؛ فلا يبالغ في الألفاظ والأساليب البلاغية الغريبة، فيحرم جمهور المستمعين الفهم والاستفادة.
كذلك ولا التنزّل الزائد واستعمال الألفاظ السوقية والعامية أو الصحفية، فينفر أهل الذوق والبيان، وطبقة المتعلمين والمثقفين.
القضية الثالثة: في هذه المصداقيه مندوحة الإمساك خشية الافتتان أو الالتباس؛ فالأصل في الخطبة هو العدل وقول الحق، ودلالالة الناس على الصواب؛ فإن لم يستطع الخطيب ذلك خاصة في النوازل والأحداث العامة التي ينتظر فيها جمهور الناس ما يقوله الخطيب؛ فإن سكوته خير، وعدم خوضه فيما لا يمكن العدل فيه أنفع له من التحدث بالخطأ أو بما لا يستيقنه، بل يكون بعضها من الفتن التي يكون الماشي فيها خيراً من الساعي، والقاعد خيراً من الماشي، والساكت خيراً من المتحدث. فعلى الخطيب أن يقول الحق إن استطاع، ومن لم يستطع أن يقول الحق فلا يقولن الباطل، وبينهما برزخ من السكوت وإيثار السلامة وتجنب موارد الفتن.
ومن جهة أخرى قد يكون إمساك الخطيب عن بعض القضايا وترك بعض المسائل خيراً لأجل جمهور المستمعين الذين فيهم العالم والجاهل، والعامي، والصغير، والكبير؛ فلربما نفروا من قضايا لم تطرق مسامعهم قبل هذه المرة.
وربما كان الخطيب حَدَثاً متحمساً يريد أن يقول جميع ما يعرفه دفعة واحدة وهو بعدُ لم يتمكن علماً وسناً ومنزلة في قلوب مستمعيه.
بوَّب البخاري باباً بعنوان: (باب من خص بالعلم قوماً دون آخرين كراهية الأ يفهموا فيقعوا في شر منه) ، ثم أردف قول علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكذَّب الله ورَسوله؟» .
وعن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: «ما حدثتَ أحداً بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالاً عليه» .
ولابن الجوزي ـ رحمه الله ـ كلام جميل في ذلك في صيد الخاطر إذ يقول: «ومن المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده؛ فالمخاطب بهذا مخاطر بنفسه؛ فاللهَ اللهَ أن تحدِّث مخلوقاً من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف» . ويقول الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ «وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه» .
` أمور مهمة في أثر الخطبة وتأثير الخطيب على المستمعين:
البيان: ما هو تأثير الخطبة؟ وما هي الأمور التي تُسهم في أثر الخطبة وتأثير الخطيب؟
- الدكتور سليمان العودة: الأثر الذي تصنعه الخطبة الناجحة عظيم وإن لم يعلمه الخطيب، والجمهور المستفيد من الخطبة كبير وإن لم يحصهم الخطيب.
ويحسن قبل الحديث عن الأثر الذي تحدثه الخطبة الإشارة إلى همِّ الخطبة وقلق الخطيب؛ ذلك الهم الإيجابي الذي يؤدي إلى حسن الإعداد وجودة التأثير، والخطيب المؤثر هو الذي تشغله الخطبة ويقلق لإعدادها ويتحسب لإلقائها؛ ولذلك فإنني أشير هنا إلى هموم خمسة على الخطيب أن يُعنى بها:
أولاً: همّ اختيار الموضوع.
ثانياً: هَمّ تحديد عناصره وترابطها.
ثالثاً: هَمّ استكمال ذلك بالرجوع لعدد من المصادر ذات العلاقة بالموضوع.
رابعاً: هَمّ الصياغة، واختيار العبارة المناسبة.
خامساً: همّ الإلقاء بطريقة مؤثرة وجذابة.
إن الضعف في أي عنصر من عناصر إعداد الخطبة أو إلقائها يضعف من شأنها، ويقلل من تأثيرها.
وإذا كان صدق الخطيب وإخلاصه في مقدمة عوامل التأثير؛ فذلك وحده لا يكفي في زمن يتطلب وعيَ الخطيب وقدرته على استخدام التأثير، ومجالات البناء، ومن ذلك قدرات الخطيب اللغوية، ومهاراته في الإلقاء، والجِدّة في المواضيع المقترحة، أو التجديد في طرح القديم وليس بالضروري أن يكون موضوعاً جديداً.
أيضاً حُسن البدء والختام، وملحض الخطبة وما يراد من المستمع، والشمولية في الموضوعات المختارة، وعدم تيئيس الناس، وذكر جوانب الخير فيهم وتشجيعهم، والدعوة إلى جوانب أخرى من الخير، وعدم اعتبار الشاذ قاعدة في الحديث عن الغالب، ولا يعني ذلك إغفال الحديث عن جوانب الشر والمكروه على سبيل التحذير منها.
وثمة أمور تسهم في أثر الخطبة وتأثير الخطيب، ومنها:
أولاً: يَحسن الاقتصار على موضوع واحد غير متشعب الأطراف، ولا متعدد القضايا؛ إذ إن ذلك يشتت الأذهان وينسي الكلام بعضه بعضاً.
ثانياً: ينبغي على الخطيب عدم التعرض لذكر الخلاف في الفروع، والانطلاق من المسلَّمات بالكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم؛ وفي ذلك متسع ثَرٌّ في الوعظ، والتوجيه، والإرشاد، والبناء.
ثالثاً: الحرص قدر الإمكان على أن يلائم موضوع الخطبة الأحداث الجارية، والملابسات الواقعية في دنيا الناس، ومخاطبة جمهور السامعين. ومما يزري بالخطيب أن تكون خطبته في واد غير وادي الناس.
رابعاً: لا بد مع هذا أن يتخوَّل الخطيب جمهوره بالتذكير بفرائض الإسلام ترغيباً، وبمحرماته ترهيباً؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم ونحوها، ووجوه البر، وصور العدوان والظلم، وأن يُعنى الخطيب بالأخلاق الفاضلة وما يناقضها، وبسِيَر أعلام النبلاء، وأمجاد المسلمين إلى غير ذلك من مواضيع تبني الثقة وتزرع اليقين وفي الوقت نفسه تحذر وتعصم من ضدها.
خامساً: كلما أجاد الخطيب في وصف الداء كلما نجح في رسم العلاج، وعلى الخطيب أن يكون دقيقاً عميقاً في نظراته، وتحليله وعلاجه؛ وإلا كانت الخطبة لغواً وإن شُملت بنصوص صحيحة.
سادساً: الإيجاز غير المخل قدرة من قدرات الخطيب؛ وهو سبب للتأثير والاستقصاء مع الاختصار في العبارة، ودليل على عمق الثقافة، وكلما كانت الخطبة موجزة شاملة كانت أقوى في الأثر وأبلغ في النفع، ومن الخطأ أن يظن الخطيب أن عليه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا له طوعاً أو كرهاً.
سابعاً: لا بد أن يستشعر الخطيب موقعه، وأن يقدر مكانته عند الناس؛ إن مهمته إصلاح الضمير وبناء الروادع؛ فهو بصدقه وتجرده يقتلع جذور الشر من نفوس البشر، ويبعث خشية الله فيهم، ويحببهم للحق والعدل. يُحبه سامعوه دون هيبة، وينصاعون لبيانه دون مجاملة، وهذا لا يتوفر لغيره ممن يحمل الناس بالقوة، ليهابوه أو يحبوه. على الخطيب أن يقدر هذا ولكن لا يغتر.
ثامناً: وأخيراً: وإذا احتاج الخطيب إلى الدلائل العقلية المقنعة فحاجته أكثر إلى المثيرات العاطفية، وإذا احتاج إلى مخاطبة العقول حيناً فحاجته إلى مخاطبة الوجدان أشد، وكلما تأثر الخطيب بما يلقي كان لذلك أثره وتأثيره على السامعين، وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فقد ثبت «أنه كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم، ومسَّاكم» كما روى ذلك الإمام مسلم.
وأختم هنا بنموذج مؤثر حقيقة في الخطبة، ولعل في مقدمة المؤثرين، بل في مقدمة الخطباء الناجحين قدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فكانت خطبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما صعد الصفا، فقال: «يا بني فهر! يا بني عدي ـ لبطون قريش ـ أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن الوادي تريد أن تغير عليكم ... إلى أن قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» .
كانت هذه الخطبة الانطلاقة الأولى للجهر بالدعوة، بل ولانتشار الإسلام لم تعهد مكة مثلها.
ثم أيضاً، كانت ـ كما يقولون ـ خطبة طارق بن زياد ـ رحمه الله ـ عاملاً مهماً في فتح الأندلس.
وأخيراً يقال: إن خطبة الحجاج أخضعت يوماً من الدهر العراق الثائر، وأطفأت نار الفتن المشتعلة، ثم كان التوجه للفتح، ونشر الإسلام حتى قيل: إن واحداً من قواد الحجاج فتح أكثر مما فتحته فرنسا في عصورها كلها، حتى بلغ قتيبة بن مسلم ـ رحمه الله ـ الصين وحمل الإسلام إليها، ولا يزال الإسلام اليوم هناك أثراً لهذا الفتح المجيد، والذي كانت بدايته بعد ـ فضل الله ـ ترويض العراق باللسان قبل السنان، وإخضاعه لقوة الحجة بالخطبة إلى جانب وازع السلطة.
- الدكتور محمد الخضيري: إذ على الخطيب أن يتعايش مع المأمومين وينظر لحوائجهم، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فينبغي ألا تكون حالة الخطيب حالة مقدسة عند أي مداخلة. وهنا إشارة أخرى أيضاً وهي أهمية التفريق بين المنابر واللغات؛ فمنبر الجمعة يختلف عن منبر المجلة والصحيفة والمحاضرة، ولكل لغته، ولهذا نرى أو نسمع ـ أحياناً ـ كلما أُحسِنَ أسلوب معين: لماذا الخطباء لا يفعلون ذلك؟ لماذا لا يقولون ذلك؟ وكما لا يصح أن نطالب الكاتب الصحفي بلغة الخطيب، كذلك لا يحق أن نطالب الخطيب أن يمتهن مهنة الصحفي، أو الإذاعي.
كذلك لغة المحاضرات والدروس العلمية فهذه يحسن فيها التقسيم، والتفريع، وذكر الخلاف، والتكرار، وهو الأمر الذي لا يصح أن نجعل مثله في خطبة الجمعة التي من خصوصياتها الإجمال، وتتابع العرض، وتناسق الطرح، وإرادة التأثير. فأحسب أن هذه القضايا التي ينبغي أن تكون الخطبة مدركة لها لأجل ألا تميع في طرح جديد، أو مثير. ولا بد أن تكون خطبة الجمعة على هذا النسق، ولها خصوصيتها المعتبرة.
` وسائل إعداد الخطيب والارتقاء به:
البيان: هذه الخصوصية التي ذكرتموها لخطبة الجمعة، وهذه الأهمية الكبرى التي اتفقنا عليها في هذا اللقاء، يدور عمودها الأساس على الخطيب، والإعداد الجيد للخطيب ينعكس إيجابياً على الخطبة، وأثرها في نفوس الناس؛ فهل لكم فضيلةَ الدكتور صالح أن تحدثنا عن وسائل إعداد الخطيب، والارتقاء به؟
- الدكتور صالح بن عبد العزيز التويجري: أهمية إعداد الخطيب مستمدة من أهمية رسالة المسجد أولاً، والمنبر بشكل خاص، ومكانة الجمعة في دين الإسلام، واجتماع جمهور من جميع فئات المجتمع المسلم، وقناعة الناس بما يطرحه الخطيب، وانتظار الناس تناول الخطيب أمور العبادات، والمعاملات، والعلاقات، والأخلاق، والنوازل، وكذلك محدودية الوقت هذا يؤكد أهمية إعداد الخطيب ليكون على مستوى هذه التكاليف، وهذه النظره الاجتماعية المرموقة.
جوانب مهمة في شخصية الخطيب:
أولاً: الجانب الروحي (الإيماني) وهو أن يتعاهد الإنسان إيمانه، وتقواه، وصلاحه؛ ليتفاعل حقاً مع ما يقول، وأن يكون ذا سيرة ذاتية سليمة من القوادح، أو مما يشهد عليها؛ أو من الدخول في قضايا الناس ومعاركهم أو المشاكل التي تقدح في نزاهته وشرف نفسه.
ثانياً: الجانب (العلمي) بداية التأصيل بالكتاب والسنة، وكتب التفسير، وأن يكون له إلمام بالتاريخ، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن ذلك القدرة على البحث والرصد وترتيب المعلومات والأفكار، والتوثيق العلمي يكون متوسطاً لئلا تكون الخطبة تحقيقاً علمياً أكاديمياً، أو تكون كلاماً إنشائياً مبثوثاً.
ثالثاً: مخاطبة (العقل والعاطفة) والاعتدال في ذلك؛ إذ إن التركيز على الجانب العقلي المنطقي قد لا يناسب كل الناس، ولا يطيق التواصل معه إلا النادر.
وهكذا المبالغة العاطفية بحيث تخرج عن الاستمالة والتأثير إلى الإثارة المشاعرية فقط، وكذلك العلم بمواطن الخلاف في مسائل الاجتهاد، وتنوع المذاهب التي يتحدث مع جماهير الناس فيها.
ومثله (اللغة العربية والمحسِّنات الكلامية) ومواطن الإيجاز والإطناب، وكذلك تنوع مصادر المعرفة ووسائل التواصل واستخدام وسائل التقنية الحديثة، والاطلاع على أحوال أمته ومتابعة المستجدات على الساحة الداخلية والخارجية.
ومثله (تجنب الإغراق والمبالغة الخيالية) التي تبعد الخطيب عن المصداقية، أو التهويل والنكارة والغلظة والجفاف في العبارات، ومثله (ملاحظة عقول الناس) وتنوع الطبقات وليس كل ما يُعلم يقال أو حضر أهله وحل زمانه؛ فإنك «ما أنت محدثٌ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان للبعض منهم فتنة» ومثله ما بوَّب البخاري: «باب من خص بالعلم قوماً دون آخرين كراهية ألا يفهموا فيقعوا في شر منه» .
ومن صفات الخطيب وإعداده (أن يكون شجاعاً) ويتدرب على الشجاعة ورباطة الجأش، والثقة بالنفس؛ ذلك يدعوه بقوة إلى قول الحق؛ وإذا لم يقل الحق، فلا يقل الباطل؛ فقد لا يتسنى للخطيب كشف الحقيقة تماماً لملابسات أو غيرها، ولكن لا يجوز أن يقول الباطل.
تجنب (مجاملة الجمهور) والحديث معهم بالغموض أو مخادعة الجماهير أو الغمغمة، وكذلك التفريق بين معالجة الحالات الشاذة بشكل علني ظاهر.
(مسؤولية الكلمة) بحيث يكون مستعداً للوقوف عند كلمته، ولا تكثر في حياته المعاذير والتنصلات. أما (حُسن خُلُق الخطيب) فينبغي أن يكون ممن يألف ويُؤْلَف ويباسط الناس، ويصبر عليهم ويأخذ عن خواطرهم في التعرف على أحوال الناس وأمور المجتمع ومعالجتها من خلال المنبر.
(اختيار نخبة من الأصفياء) للمراجعة والمذاكرة حول الخطب، كذلك تقبُّل النقد، وسعة الصدر للاستفادة من المختصين كُلٌّ في مجاله، ومثله (الاستفادة من تجمعات الناس) ، والتعرف على أحوالهم العامة، وملامسة قضاء الحوائج، وتتبع أحوال الناس من حوله.
(ترشيف الخطبة) : تكون للخطيب مجموعة من خطبه السابقة مرتبة بشكل يسهل الرجوع إليها، ويطوِّر الحاضر من خلال الماضي؛ فإن التخبط والعشوائية تفقد الخطيب ثمرة الجدولة والتنظيم، وتقييد الخواطر العابرة والأفكار العارضة لتكون مفاتيح لخطب قادمة.
(مشاركة الجمهور) بأسلوب خطابي بالأسئلة والاستفهامات أثناء الخطبة، وطلب المشاركة أو الكتابة في موضوعات مستقبلية، تجنب الألفاظ النابية التي تصد المستمع، والتماس المخارج التي تشجع على التصحيح، وإعفاء الجمهور من الإدانة الجماعية، أو التعميم الذي يصورهم متواطئين على الخطأ.
كذلك الحديث بأسلوب يظهر من خلاله أن هذه أفكاركم، وطموحاتكم، ومطالبكم أصوغها بأسلوبكم، أو بأسلوبي نيابة عنكم؛ فإن هذا ادعى لصناعة الرأي العام من خلال المنبر، طرح الحلول والبدائل، وعرض المشاريع العلمية، والخطوات الإيجابية التي تحول الخطبة إلى مشروع، وكل من الحاضرين يسأل عن دوره ومجاله بعد أن يخرج من المسجد. كذلك (الواقعية) في المطالب سواء من الناس، أو من المسؤولين يحمل الآخرين على المشاركة والتفاعل، ولأن المثالية تحدٍّ يقعد بالناس عن العمل، وعليه مراعاة مقتضى الحال، فلا تكون الخطبة بعيدة عن واقعهم ليكون أدعى للمعايشة والعمل.
(لباس الخطيب وهندامه) النظافة، التمييز حسب البلاد، التواطؤ في الملبس والتجانس، الرتابة، والتنظيم لئلا يكون مبتذلاً أو غير متناسق الشخصية، ومثله (المشاركة بالدورات) التي تنمي مهارات الخطيب، وتفتح له آفاقاً أوسع في مجال استثمار المنبر، ولقاء الخطباء في الأحياء المتجاورة للاطلاع على الجهود المتشابهة في الميدان، وآراء الخطباء.
(إعداد الخطبة على أنها مؤلف في المستقبل) ، أو أصول لموضوعات معينة، ويجب أن يكون الخطيب إعلامياً من حيث تنوع مشاركته، والانطلاق من الإقليمية إلى الآفاق في بعض الأمور؛ فإنه حين يكون له أكثر من مشاركة يكون مؤثراً، أو أن يكون مسؤولاً فيكون خطيباً فإن ذلك يكون أكثر في التأثير.
(تربية الأمة) من خلال الأحداث الجارية واسترجاع التاريخ، واستنطاق الدروس والعبر كسند لتناول موضوع معين في العدل أو الرحمة، أو التوكل، أو الصبر، أو محاسبة النفس.
(التحدث مع الناس بما يحتاجون لا بما لا يريدون) إذ إن هناك من يجره الجمهور ويملي عليه رسالته، ثم يخرج عن مساره أو يتغير هدفه وينتهي به المطاف في بيداء من جمهور لا يدري أين يتوجه. كذلك تحديد (الهدف من الخطبة) والظاهرة التي سوف يتناولها يساعده على إعداد الخطبة. (وتجنب المبالغة) في تصوير الخصم، أو تضخيم الداء؛ لأن هذا يولد اليأس والإحباط.
عند (النقد) على الخطيب أن يتجنب بقدر الاستطاعة تجريح الأشخاص، وإنما نقد الأفكار والمناهج وبيان البدائل.
(قوة الملاحظة وحضور البديهة) لاحتمالات قد تطرأ على الخطيب أو في المسجد أو على المأمومين؛ كل ذلك يكون أدعى لتأثيره وقابليته وتفاعله مع الجمهور.
- الدكتور سليمان العودة: لو تجاوزنا الموضوعات المطروحة فإنني ـ ختاماً ـ أقترح على المجلة مشكورة لو تخصص فيها زاوية لخطبة الجمعة، وتتنوع مادة هذه الزاوية بما يخدم الخطباء، فتقدم أحياناً خطباً مختارة، مرئيات الخطباء بشكل عام، كتباً مقترحة تعين الخطيب، موضوعات مقترحة، أساليب للإلقاء مؤثرة ... إلى نحو ذلك؛ لأن خطبة الجمعة في هذا الوقت من أهم المنابر الإعلامية التي يملكها الدعاة، ومن ثَمَّ لو تقوم المجلة مشكورة لخدمة هذا الهدف على عدة محاور، ولو تحقق ذلك لكان ذلك حسنةً من حسناتها.