(1 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
الأمة تعني الجماعة، والجماعة إنما تكتسب قوتها ومكانتها لا من حيث العدد فحسب، ولكن من حيث الترابط الذي يربط بين آحادها؛ فالعدد المجموع الذي لا يربط بينه رابط لا يستحق لفظ «الأمة» وإن كثرت أعداده. وأقوى رابط يربط بين الناس من المنظور الشرعي هو الدين، ولذا فإن المسلمين أمة واحدة وإن اختلفت أعراقهم أو أجناسهم أو لغاتهم أو أوطانهم؛ فالأمة الإسلامية لها بذلك اتساع عرقي ولغوي وجغرافي فسيح تتباين فيها المستويات الإيمانية، والقيادية والعلمية والفكرية والإنتاجية، وقد زكَّى الله ـ تعالى ـ هذه الأمة وأثنى عليها وعدَّلها وبيَّن مكانتها، فقال في كتابه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسيرها: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» (?) ، فكانت هذه الأمة خير أمة خلقها الله تعالى. وقد بينت الآية شرط ذلك، وهو إيمانها بالله وقيامها بما أوجب عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قرأ عمر ـ رضي الله عنه ـ تلك الآية ثم قال: «يا أيها الناس! من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها» (?) ، وقد أحل الله ـ تعالى ـ هذه الأمة المكانة العالية حين جعلها تتبوأ منصب الشهادة على الأمم، وهي المكانة التي لا يرقى إليها إلا الصادقون العدول القوامون بالحق والعدل، فقال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، والوسط: العدل، وهو خيار الشيء وأفضله، وكذلك جاء قوله -صلى الله عليه وسلم- في حق هذه الأمة عندما قال مخاطباً أصحابه: «أنتم شهداء الله في الأرض» (?) ، وكررها ثلاث مرات. ويتبين مما تقدم أمران:
أ - مكانة هذه الأمة وفضلها وشرفها وعلوها.
ب - مسوغات ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح، والقيام بحق الله ـ تعالى ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمة يتحقق فيها ما تقدم لا تكون أمة مهملة لا قيمة لها، وليس لها من أمرها شيء بل تقاد رغماً عنها أو بغير اختيارها، أو أنها تختزل كلها في شخص واحد، أو عدة أشخاص، وما تقدم من الأدلة يكفي في الدلالة على دور الأمة في التشريعات العامة (التعاونية) التي لا يتوجه الطلب فيها إلى أعيان الأشخاص، وإنما يتوجه الطلب فيها إلى الأمة في مجموعها والتي يُحتاج في تنفيذها إلى التعاون على البر والتقوى، والتي منها بناء النظام السياسي.
` أدلة اعتبار الأمة في النظام السياسي:
هناك عدد من الأدلة تبين مكانة الأمة المتأصلة في بناء النظام السياسي الإسلامي؛ فمن ذلك:
1 - يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر:
لما أعلم الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله وقرب قبضه أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- انطلاقاً مما وصفه الله به {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] أن يحتاط لما يمكن أن يحدث من اختلاف بعده في عقد الخلافة لمن يستحقها؛ فإن هذا المنصب العالي قد تتشوَّف بعض النفوس إلى الوصول إليه ولو بارتقاء المراقي الصعبة التي تعرض جماعة المسلمين للخطر، فأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع ذلك باختيار رجل ممن يصلح لهذا الشأن يقوم بالأمر بعده. وكان من المفهوم جداً أن تتوجه إرادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اختيار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي جمع من الفضائل ما لا يدانيه فيها أحد من الصحابة، فعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعهد إليه، ثم لما تبين له أن ذلك كائن شرعاً وقدراً: قدراً بأن ذلك سوف يقع، وشرعاً بأن أبا بكر حائز على أعلى درجات الاستحقاق لهذا المنصب، وأن المسلمين يختارونه لذلك، تراجع عن عزمه، وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- السبب في تراجعه، كما يظهر ذلك فيما روته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حيث تروي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال ـ في المرض الذي توفي فيه ـ: « ... لقد هممت ـ أو أردت ـ أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، وأعهد؛ أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون ـ أو يدفع الله، ويأبى المؤمنون» (?) ، وفي رواية: «قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أوْلى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر (?) .
قال ابن حجر: «قوله فأعهد: أي أعيِّن القائم بالأمر بعدي، هذا هو الذي فهمه البخاري، فترجم به (يعني بذلك ترجمة البخاري على الحديث بقوله: باب الاستخلاف) ، ثم ذكر ابن حجر عدة روايات تشهد لصحة ترجمة البخاري، ثم قال: «فهذا يرشد إلى أن المراد الخلافة» (?) .
فدفْعُ الله وإباؤه هو ما يقدِّره من القدر من كون الخلافة لأبي بكر، ودفع المؤمنين وإباؤهم هو في عقدهم الخلافة لأبي بكر دون غيره وعدم قبول أحد لها بخلافه؛ فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يأبى المؤمنون» يبين مدخل الأمة في الاختيار، وأن هذا الأمر منوط بها، وأن لها أن تأبى تولية من لا تريد توليته ممن لا يستحق، أو ممن يكون هناك من هو أوْلى منه، كما أن عليها أن تولي من يستحق، أو من يكون أكثر استحقاقاً، وفي هذا الدليل على أن الأمة هي التي تعقد الخلافة لمن تعقدها له، وهي التي تأبى أن تعقدها لمن لا تعقدها له، ولو لم يمكن لها ذلك لما كان لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يأبى المؤمنون» تأثير في الموقف، فعلم من ذلك أن الأمر من الناحية الشرعية راجع للمسلمين أي للأمة، وقد كان بالإمكان أن يقتصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله: «ويأبى الله» وما قدَّره الله فهو واقع لا محالة، ولكنه أضاف: «والمؤمنون» أي ويأبى المؤمنون للدلالة البينة على مكانة الأمة ودورها في ذلك، وللدلالة على أن القدر لا بد له من شرع يحققه، وأنه لا ينبغي الاتكال على القدر وترك العمل المشروع الذي به يتحقق القدر؛ إذ القدر والشرع متوافقان ولا يتعارضان.
2 - لا يعطيناها الناس:
في المرض الذي توفي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال العباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: اذهب بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلنسأله فيمن هذا الأمر: إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله! لئن سألناها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني لا أسألها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-» (?) . أراد العباس ـ رضي الله عنه ـ أن يعلم «فيمن هذا الأمر» أي الخلافة، فكان منه قوله الذي تقدم، وكان من جواب علي ـ رضي الله عنه ـ: «لا يعطيناها الناس بعده» دليل على مكانة الأمة في الاختيار، وأنها تملك المنع؛ فإذا منعت أحداً عن تولي الأمر فليس له أن يتولى، ومن يملك المنع يملك الإعطاء.
3 - البيعة بمشورة من المسلمين:
يقول عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم (عمر) فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر، لقد بايعت فلاناً؛ فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إني ـ إن شاء الله ـ لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم» (?) .
كان ذلك في منى في موسم الحج في آخر حجة حجها الفاروق رضي الله عنه؛ فلما بلغه أن رجلاً يريد أن يبايع لرجل محتجاً في ذلك بما تم في قصة بيعة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ غضب، ورأى ـ رضي الله عنه ـ أن في استبداد واحد بالبيعة دون الرجوع إلى الناس غصباً لأمور الناس، ثم عزم على أن يبين للناس أن ذلك لا يصلح؛ إذ إن أمر الخلافة أمر الأمة وليس أمر فرد من الأفراد، ولذلك ينبغي بيان ذلك للناس وتحذيرهم ممن يريد أن يغتصب أمرهم، وعمر عندما أراد أن يوجه هذا الخطاب لم يكن ليوجهه إلى فرد أو طائفة أو مجموعة من الناس، وإنما كان يريد توجيهه إلى المسلمين الذين حضروا موسم الحج وهم أعداد غفيرة تأتي من أمصار المسلمين كلها؛ فبين عمر بذلك المسلك أن هذا الأمر أمر المسلمين كلهم في أمصارهم، ورأى أن اقتصار واحد ونحو ذلك واستبداده بالعقد غصب لحقوق الناس؛ ومن أجل ذلك عزم على ما عزم عليه، وهذا يدل على دور الأمة في بناء نظامها السياسي، ولكن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ نصح عمر بأن الموسم يجمع الكثير من الناس، ومنهم من لا يحسن أن يضع الكلام مواضعه، وطلب منه أن يؤخر كلامه حتى يرجع إلى المدينة فيلتقي أهل الفقه وأشراف الناس فيحدثهم بما يريد، فكان مما قال: «فأمهِلْ حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها» ، وعندما رجع عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى المدينة، ووقف على المنبر في أول جمعة حذرهم من قول ذاك القائل، ثم قال: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرّة أن يقتلا» . ثم يقص قصة مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ثم يعيد في نهاية كلامه الجملة السابقة: «من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين..» مرةً أخرى تأكيداً لذلك وترسيخاً في أذهان السامعين، وقد ورد في بعض الروايات أن الرجل الذي قيل ببيعته هو طلحة بن عبيد الله، ورغم أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يراه أهلاً لذلك بدليل جعله واحداً من الستة الذين رشحهم للخلافة عندما طُعن، إلا أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يرض استبداد أحد من الأمة بذلك، وأنه لا بد من الشورى بين المسلمين في هذا الأمر العظيم.
ومما يدل على أن دور الأمة في التولية كان أمراً منشوراً في الثقافة العامة للأمة وفي وعيها ما نجده في التاريخ ـ حتى في الفترات التي قيل عنها إنها فترات استبداد ـ من حرص الخليفة على أخذ البيعة لمن يريد استخلافه من أهل الحل والعقد، وهو ما يدل على رسوخ ذلك في فكر الأمة وتصورها، وإنما الذي يعيب ذلك هو الشكلية التي كان يتم بها ذلك، أو الاحتيال في التجاوز الحقيقي للأمة مع الحرص على الشكل. وقد نقلت إلينا كتب التاريخ أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ لما أراد العهد كان ذلك بناءً على إشارة من أحد عماله، ومع ذلك فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ أرسل يستشير في ذلك والي البصرة، ووالي المدينة، ويقول في رسالته لوالي المدينة: «كبرت سني، ورق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك. وكتب أيضاً إلى عماله أن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فقدمت عليه الوفود من البصرة والكوفة والمدينة، وتكلم الخطباء فأعربوا عن تأييد البيعة، وبايع أكثر الناس ليزيد» (?) .
` أقوال أهل العلم في دور الأمة:
أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة (?) ، وهذا يعني أنه مفروض على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال إن الأمة مفروض عليها القيام بذلك العمل بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه؛ هذا كلام متناقض يدفع بعضه بعضاً. قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: «ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم؛ حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه» (?) ، وقال النووي: «وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة» (?) ، وقد تحدث الماوردي عن حالة ما إذا وقع الإمام في أسر يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، ثم قال: «وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة» (?) ، وبين أنه لو عُقدت الخلافة لرجلين، وأشكل معرفة المتقدم منهما فلو تنازعاها، وادعى كل واحد منهما أنه الأسبق لم تُسمَع الدعوى، وعلل ذلك بقوله: «لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعاً» (?) .
فكون نصب الإمام واجباً على الأمة، يعني أن الأمة هي التي يصح منها ذلك، وأنه لو استبد بذلك واحد أو جماعة دون موافقتها لم يصلح ذلك، وهذا هو الذي يليق بمكانة هذه الأمة الشريفة التي هي خير أمة أخرجت للناس من ذرية آدم عليه السلام.
` دور الأمة في خلافة الراشدين:
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك ـ أو ملكه ـ من يشاء» (?) ، وقال: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها..» (?) الحديث.
فقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الخلافة التي جاءت بعده هي خلافة نبوة، ومدتها ثلاثون سنة، وهذه المدة تشمل مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ والتي تعرف بـ «الخلافة الراشدة» وقد استنبطت هذه التسمية من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ... » (?) الحديث. فهذه الخلافة هي خلافة نبوة وخلافة راشدة، ويستفاد من ذلك أمور، ويخصنا هنا أمران:
1 - أن هذه الخلافة ظهر فيها دور الأمة كما أرشدت لذلك الشريعة.
2 - أنه ينبغي علينا اتباع ذلك في إعطاء الأمة دورها في الاختيار.
وقد اتُّبِعَ في تولية الخلفاء الراشدين طريقتان: العقد عن طريق أهل الحل والعقد، والعقد عن طريق الاستخلاف أو العهد. قال الماوردي: «والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما: باختيار أهل العقد والحل، والثاني: بعهد الإمام من قبل» (?) .
` بيان دور الأمة في الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد:
أهل الحل والعقد هم طائفة من الأمة ذوو صفات مخصوصة يقومون باختيار الخليفة وعقد الولاية له، وهم يعدون في فقه السياسة الشرعية الممثلين للأمة والمعبِّرين عن رغبتها، فاختيارهم هو اختيار الأمة، ويظهر ذلك من وجوه:
الوجه الأول: التسمية: فتسمية هؤلاء بأهل الحل والعقد دال على مكانتهم ودورهم في المجتمع؛ فإن أهل الحل والعقد يعني الذين يملكون إبرام الأمور ونقضها، ولا تتمكن جماعة من ذلك إلا أن يكون لها قبول واسع عند الناس، ورضا عام عندهم؛ بحيث يكونون معبرين عن طموحاتهم ورغباتهم، ويحوزون ثقتهم لعلمهم وأمانتهم، ولا يكون ذلك إلا للكبار أصحاب الشهرة والمكانة عند الناس الذين يرجع إليهم الناس، يستنصحونهم، ويستشيرونهم، ولا يملك هذا في الحقيقة فرد واحد أو اثنان أو أربعة ـ مثلاً ـ في أمة لها هذا الاتساع، كما لا يملكها أيضاً من يكون خاملاً بين الناس لا يشاركهم، بل هو منعزل عنهم، حتى وإن كانوا أشخاصاً مؤهلين تأهيلاً ممتازاً ما داموا قابعين في أبراجهم لا يعرفون الحياة من حولهم، ولا يعرفهم الناس؛ فأهل الحل والعقد إضافة إلى تأهيلهم الممتاز وأمانتهم وعلمهم، هم أناس مشهورون منغمسون في الحياة العامة للأمة، ولهم جهد بارز في إدارة حركة المجتمع، وقد بين ذلك الشيخ محمد رشيد رضا فقال: «وكان ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم؛ إذ المتبادر منه أنهم زعماء الأمة وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم؛ بحيث تتبعهم في طاعة من يولونه عليها؛ فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها عليه ... إلى أن يقول: فإذا لم يكن المبايعون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد الإمامة بمبايعتهم» (?) ، وقد دل على ذلك كلام غير واحد من أهل العلم، فقال الشربيني: «المعتبر ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم؛ لأن الأمر ينتظم بهم، ويتبعهم سائر الناس» (?) ، فبين أن سائر الناس يتبعهم، وهذا يعني أن أهل الحل والعقد يستندون إلى قبول واسع بين الأمة مكنهم من أن يكون لهم القدرة على البت في الأمور المهمة، وقبول ذلك منهم. وقد عبر بعض أهل العلم عن هذا القبول الواسع لأهل الحل والعقد بلفظ الشوكة، والشوكة تعني القوة، ولا يمكن أن تكون هناك شوكة حقيقية ـ بعيداً عن الشوكة الظالمة المرتكنة للقوة الباغية ـ إلا في ظل ذلك القبول الواسع لأهل الحل والعقد. ويعبر عن ذلك إمام الحرمين فيقول: «فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة؛ بحيث لو فرض ثوران خلاف لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام» (?) . ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم تنعقد ببيعة واحد؛ فليست هذه أقوال أهل السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة؛ فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً؛ فإن الإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم؛ بحيث يصير ملكاً بذلك ... إلى أن يقول: فمن قال: إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلُّف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضر فقد غلط» (?) ، وهذا ونحوه من كلام أهل العلم مما يبين أن طريقة الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد إنما هو اعتداد بدور الأمة في هذا الأمر الجليل، ويتبين مما تقدم أنه لا يشترط عدد معيَّن في أهل الحل والعقد، كما لا يشترط إجماعهم؛ إذ المطلوب أن يكون ذلك معبراً عن رأي الأمة؛ فأي عدد من أهل الحل والعقد حصل به ذلك كفى.
الوجه الثاني: صفات أهل الحل والعقد: يدور كلام أهل العلم على أن الصفات المطلوب وجودها فيهم هي العدالة الجامعة لشروطها: (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والاستقامة، والأمانة، والعلم بأحكام الإمامة لمعرفة من يستحقها على الشروط المعتبرة فيها، والحكمة والرأي المؤديان إلى حسن المفاضلة والموازنة بين أهل الاستحقاق) (?) ؛ هذه الصفات متى توافرت عند مجموعة من الأفراد فإن الأمة تلتف حولهم وترجع إليهم، وتصدر عن آرائهم، وتفزع إليهم في مهماتها وملماتها، وتركن إلى اختياراتهم وترجيحاتهم فكان تحقق هذه الشروط فيهم من الضمانات التي تجعلهم مقبولين عند الأمة، ومعبرين عن إرادتها.
الوجه الثالث: مَلَكات أهل الحل والعقد وقدراتهم واستعداداتهم: المجتمع الإنساني في عموم الزمان والمكان ليس كله مثالاً واحداً، بل تتفاوت فيه الملكات والقدرات والاستعدادات بين الناس تفاوتاً عظيماً؛ وهذا ما لا يمكن إنكاره أو جحده؛ فمن الناس من له القدرة على الاجتهاد والقيادة والتوجيه، وله مع ذلك عناية خاصة بالمسائل العامة، والمصالح التي تخص الأمة، ومنهم من له القدرة على حسن تقدير الأمور وتقويمها والموازنة بينها، ومنهم من ليس له قدرة إلا على المتابعة والتنفيذ، ومنهم من لا يحسن غير عمله اليومي أو الشخصي الذي لا يتجاوز به دائرته المحدودة، ومنهم من لا يكاد يحسن شيئاً. ومن المعلوم من طبائع النفوس أنها تسلم في الغالب لمن هو أجود منها رأياً، وأسَدّ فهماً، وأقدر على حل المشكلات، ولا شك أن ملكات وقدرات أهل الحل والعقد هي في الدرجة العالية، وهذا ما يجعلهم حائزين على رضا الأمة وقبولها.
من كل ما تقدم يتبين أن تدبير الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد إنما هو إعمال لدور الأمة في بناء النظام السياسي وليس تهميشاً لها، أو تقليلاً من شأنها في ذلك، وهو طريقة عملية اهتدى إليها المسلمون لتحقيق الحكم الشرعي في الواقع، وقد طبقت هذه الطريقة في الخلافة الراشدة مرتين: مرة في اختيار أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أول الخلفاء الراشدين، ومرة في اختيار علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ رابع الخلفاء الراشدين؛ ففي اختيار أبي بكر اجتمع الصحابة بعد موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سقيفة بني ساعدة وحدثت بعض المناقشات، ولما خشي عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ من الاختلاف بادر إلى مبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد كانت مكانته معلومة محفوظة عند الصحابة، وكانوا موقنين بأنه جدير بل الأجدر بها؛ إذ هو في الذروة العليا من ذلك؛ لذلك فبمجرد أن بايعه عمر أقبل على مبايعته المهاجرون ثم الأنصار مبايعة رضا واختيار؛ لأنه لم يكن يملك إكراههم على ذلك، ولم ينازعه في ذلك أحد حتى الذين تأخروا عن البيعة في أول الأمر لم يكونوا ينازعونه فيها، ثم عادوا فبايعوا، وقد كان الصحابة الموجودون في ذلك الوقت هم عظماء الأمة وأفاضلها، وهم خلاصة الأمة؛ فلم يكن يمكن لأحد من المسلمين خارج المدينة أن ينازعهم فيما ذهبوا إليه، أو يعترض عليهم.
وفي اختيار علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما حاول قَتَلَةُ عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن يبايعوه لكنه لم يقبل ذلك منهم؛ إذ ليسوا هم أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم الناس في ذلك، رغم ما كان عندهم من قوة تمكنوا بها من قتل الخليفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتى جاءه المهاجرون والأنصار الذين بالمدينة، وألحوا عليه في ذلك؛ درءاً للفتنة وحفظاً لدماء المسلمين، فقَبِل ذلك منهم مرغَماً، وقد كان من بينهم طلحة والزبير ـ رضي الله عنهما ـ وهما من المبشرين بالجنة، ولم يكن بعدهما في المسلمين مثلهما، ومع ذلك فإن علياً ـ رضي الله تعالى عنه ـ قد خرج إلى المسجد وخطب فيهم مبيناً حق الأمة في ذلك، فقال: «يا أيها الناس عن ملأ وإذن! إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم» . فهاتان البيعتان تمتا عن طريق بيعة أهل الحل والعقد المعبرة عن رأي الأمة واختيارها، وقد حدث أن امتنع بعض الصحابة عن مبايعة علي رضي الله عنه. وبالتدقيق في هذا الامتناع نجده مما يشهد لقضية دور الأمة في بناء النظام السياسي ولا يعارضها؛ إذ إن من امتنع يرى أن مَنْ عقد البيعة لعلي لم يكن معبراً عن الأمة، وأن الأمة لم تجتمع على ذلك. وأما الذين قبلوا البيعة، وبايعوا علياً فهم يرون أن الذين عقدوا البيعة يعدون معبرين عن الأمة، ولا سيما أن أفضل الصحابة في ذلك الوقت كان ممن عقد البيعة لعلي؛ فالخلاف إذن بين المبايعين والممتنعين ليس في دور الأمة ومكانتها في عقد البيعة، وإنما هو: هل تحقق في هذه البيعة ذلك الأمر، أم لم يتحقق؟ فالخلاف إذن في تحقيق المناط، والصحيح أنها تحققت، والصواب كان في مبايعة علي رضي الله عنه. ومما يدل على اعتبار رأي الأمة فيمن يتولى أمرها، وأن أهل الحل والعقد يراعون ذلك في الاختيار ما يذكره الماوردي أن الشخص الذي يقدمونه بعد اكتمال الشروط يكون ممن «يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته» (?) .
` مكان أهل الحل والعقد:
ظهر مما تقدم في بيعة أبي بكر وعلي ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن أهل الحل والعقد الذين عُوِّل عليهم في عقد البيعة كانوا في المدينة، ولم يثبت أنهم رجعوا إلى غير هؤلاء؛ فهل يعني هذا عدم الاعتداد برأي الأمة في التولية، وأن ذلك مقصور على من كان ببلد الإمام؟ وعند التدقيق في الأمر يتبين أن المدينة في ذلك الوقت ـ وهي مهجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعدن السنة النبوية، وبها أفاضل الصحابة وخيارهم من المهاجرين والأنصار ـ كان لها عند المسلمين مكانة خاصة، وكان ما يصدر عن أهلها يُتلقى بالقبول منهم، فكانت موافقة أهل الحل والعقد بالمدينة كافية في قبول المسلمين لذلك؛ ومما يدل على ذلك أنه بعد اختيار أبي بكر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ لم يعارض أحد في الاختيار، ولم يقل: لماذا لم يؤخذ رأينا في ذلك؟ حتى ما كان من معاوية ـ رضي الله عنه ـ في موقفه من علي ـ رضي الله عنه ـ فإنه لم يجادل في أحقيته في ذلك، ولم يعترض بأنه لم يؤخذ رأي أهل الشام في ذلك، كما أنه لم يدع إلى بيعة أحد غير علي ـ رضي الله عنه ـ ولم يمتنع من الدخول في البيعة، وإنما كان يطالب بالقصاص من قتلة عثمان ـ رضي الله عنه ـ أولاً، ثم يدخل في البيعة بعد ذلك. ومما يدل على مكانة المدينة في ذلك الوقت أن إماماً عظيماً كمالك ـ رحمه الله تعالى ـ كان يجعل إجماع أهل المدينة من مصادر الحجة الشرعية (ولا شك في صواب ذلك في فترة الخلافة الراشدة كما حقق ذلك ابن تيمية رحمه الله) . ومما يبين مكانة المدينة في ذلك عند الناس ما يقوله طارق بن شهاب: «لما قتل عثمان قلت: ما يقيمني بالعراق؟ وإنما الجماعة بالمدينة عند المهاجرين والأنصار» (?) ، وقد مر بنا قول عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ لعمر ـ رضي الله عنه ـ: «فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها» . ومن هنا يتبين أن الاقتصار على أهل الحل والعقد بالمدينة (بلد الإمام) كان وضعاً مرتبطاً بذلك الزمان؛ لأنهم هم المعبرون في الحقيقة عن الأمة، وليس تشريعاً عاماً تلزم به الأمة في كل عصر ومصر.
` دور الأمة في الاختيار عن طريق الاستخلاف:
والاستخلاف هو أن يحدد الخليفة شخصاً يتولى الخلافة بعده، وقد حدث هذا في استخلاف عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين استخلفه أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما حضرته مقدمات الوفاة، كما حدث هذا أيضاً في تولية عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين طُعن عمر، فجعلها شورى في ستة يختارون من بينهم واحداً. وقد ينظر إلى هذه الطريقة على أنه لا دور للأمة فيها، وأن الأمة كلها قد اختُزلت في اختيار فرد منها ألا وهو الخليفة، لكن مع النظر السليم والفهم السديد لا يظهر من ذلك إلا أنها طريقة عملية أخرى لاشتراك الأمة في الاختيار؛ وذلك بالنظر في أمور ثلاثة:
1 - أن الخليفة الذي يستخلف هو الخليفة الشرعي الذي وصل إلى مكانه بالطريق الصحيح، وهو لا شك أحد أعضاء جماعة أهل الحل والعقد.
2 - أن الشخص المعهود إليه هو شخص مستجمع للشروط الواجب توافرها فيه.
3 - أن الخليفة المستخلف يستشير أهل الحل والعقد في هذا الاستخلاف ولا يستبد به.
وقد كان الأمر على ذلك النحو في حوادث الاستخلاف في الخلافة الراشدة، ولما كان دليل الاستخلاف هو تلك السوابق في الخلافة الراشدة إضافة إلى العزم المستفاد من عزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاستخلاف أبي بكر فينبغي أن يتم الاستخلاف على مقتضى الدليل الذي دل عليه.
` دور الأمة في طريقة التغلب والقهر:
ذكرت كتب السياسة الشرعية أن من تغلب على الأمة وقهرها بسيفه فإنه يصير إماماً وإن لم يختاره أهل الحل والعقد وإن لم يستخلف من الإمام السابق؛ ومن البين أن مثل هذا الإمام لا دخل للأمة في نصبه، وهذه الطريقة لا تعد طريقة من طرق تولي الأمور المشروعة، والفقه الإسلامي لا يدعو إليها ولا يأمر بها، وإنما يتعامل معها من باب الاضطرار؛ إذ يعد هذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات؛ فالاعتراف به والإقرار له هو من هذا الباب، ومع ذلك فإنه يتبقى للأمة دور في النصيحة والاحتساب، وعدم المعاونة أو المشاركة في باطله، ويبقى مع ذلك حد أدنى لا يمكن تجاوزه وهو أن يكون المتغلب مسلماً؛ فإن كان المتغلب غير مسلم فلا يحل موافقته أو إقراره، وكذلك إذا غيَّر شيئاً من الشرعة فإن ذلك لا يحتمل؛ فإنه وإن احتُمل منه بعض المعاصي والمنكرات والاستئثار بحظوظ الدنيا في سبيل استقرار أحوال الأمة، وعدم تعريضها للفتنة، وحقناً لدمائها، ومحافظة على إمكاناتها وطاقاتها فلا يحتمل منه الكفر أو تغيير الشرعة، وعلى الأمة في هذه الحالة أن تسعى بكل سبيل لإيجاد البديل؛ فهذا دورها وواجبها. أما إذا كان المتغلب صالحاً للإمامة قائماً بحقوقها، وتم له الأمر فإن دور الأمة يتمثل في إقراره وعدم منازعته.