د. عبد الله اليحيى
جذوة الأصولية اليهودية قديمة قِدَم اليهود، وانطلاقتها المعاصرة في فلسطين من المدارس الدينية المستقلة وخاصة (ميركازهاراف) التي أسسها الحاخام (تسفي يهوداكوك) ، وتخرج منها زعماء وقادة وجماهير الطوائف اليهودية الأصولية المعاصرة. ومراحل نموها:
1 ـ مرحلة التبعية: منذ الخمسينيات إلى منتصف الستينيات، نظراً لقوة الحركة الصهيونية العلمانية ووجود المؤسسين، وتمتاز هذه المرحلة بالاعتدال.
2 ـ مرحلة الاستقلال: وذلك بعد حرب حزيران 1967م، والصحوة الدينية اليهودية بسبب النصر المفاجئ، ثم حاجة الحركة الصهيونية الجديدة التي يحتاج أمنها إلى مجموعات سكانية يهودية.
3 ـ مرحلة العمل الأصولي: وذلك بعد حرب أكتوبر 1973م، ودخول الأصولية اليهودية العمل السياسي (حزب غوش إيمونيم) ، وإلى العمل الشعبي المنظم (حركة كاخ) ومنظمات الهيكل والمنظمات الإرهابية.
وقد توسعت مساحات ومصادر الأصولية اليهودية في فلسطين بعد مرحلة الاستقلال، وأخذت في التفاعل والحضور المميز من خلال:
أـ المستوطنات التابعة للتيارات والأحزاب الدينية المتطرفة.
ب ـ المدارس الدينية المستقلة (إليشفوت) وهي التي تخرج الحاخامات، وفيها 33% من أطفال الكيان الصهيوني في فلسطين.
ج ـ الأحياء المغلقة وخاصة في القدس، وشعارهم لبس السواد.
- ومن مظاهر الأصولية اليهودية في فلسطين المحتلة:
1 ـ الالتزام العملي بالحلال والحرام بحسب الشريعة اليهودية، ومحاولة إلزام اليهود بها، واحترام الآخرين لها.
2 ـ احترام يوم السبت، وإلزام سيارات النقل وشركة الطيران بعدم حمل الركاب ذلك اليوم، إضافة إلى وصايا كثيرة تصل إلى (600) وصية يمكن اختراقها بالحيل.
3 ـ محاولات الاعتداء على المسجد الأقصى أو هدمه، والدعوة إلى بناء الهيكل الثالث، وممارسة الإرهاب لخدمته من خلال أعمال فردية أو جماعية أو منظمات تعمل فوق السطح.
4 ـ تغطية الرأس بـ (الكيبا) وخاصة في الجيش، وعند الأطباء، والمهندسين، والمحامين.
5 ـ الدعوة إلى حفظ العائلة اليهودية الملتزمة عن طريق الجمعيات الدينية، والنشرات، والصحافة الدينية، وتنمية أعدادهم، وإقامتهم في أحياء متجانسة.
6 ـ رفض عملية السلام، أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، والتطلع إلى حدود إسرائيل الكبرى.
وهذه المظاهر لا تُعفي أولئك الذين لا يلتزمون بها من المسؤولية، لكن تبقى الأصولية اليهودية متجذرة في كل الفرق اليهودية المعاصرة، على اختلاف ألوانها ودروبها ودرجاتها؛ حيث يتميز الدين اليهودي بالعديد من الأصوليات التي ترتوي من جذور متقاربة، وتلتقي في هدف واحد وإن اختلفت مساراتها؛ فأصولية الخلاص المسيس (المسيحانية) تجمع بين التعاليم التوراتية والتلمودية، والتوجهات القومية، والآمال السياسية؛ للوصول إلى دولة اليهود الكبرى أو الكاملة ويمثلها (غوش إيمونيم) ، وأصولية اليهود القوميين العلمانيين تسعى إلى تحقيق الآمال الصهيونية بالهيمنة على الشرق الأوسط، لا على أساس أنها وعود إلهية، ولكنها بشرى وتطلعات العبقرية اليهودية الأولى، ومن التزاوج ما بين هذا وذاك ستظل الأصوليات اليهودية (قوة حية في السياسة الإسرائيلية، وستتمتع بفرص جديدة للتقدم نحو أهدافها القصوى) (?) ، وفي قمة القائمة الأصولية الأرثوذكسية اليهودية (القائمة على التلمود البابلي وبقية الكتابات التلمودية ومجمل الشريعة اليهودية «الهالاخاه» ما زالت صالحة، وسوف تظل كذلك أبداً. ويؤمن الأصوليون اليهود بأن الكتاب المقدس نفسه لا يُعتد به ما لم يفسر على النحو الصحيح من خلال كتابات التلمود) (?) ، وقد أخذت الأرثوذكسية أقسى صفات الأصولية المتمثلة في الجمود، والتصلب، والعناد، والانغلاق، والعودة إلى الماضي ومعارضة التطور، ورفض الواقع، وعدم التكيف، بل تجاوزت كل ما سبق برفضها للقيم الإنسانية المشتركة بين الأمم ولدى الحضارات؛ فالحاخام (شلو موافنير) يرى أن (الوصايا الإلهية للشعب اليهودي تسمو على الأفكار الإنسانية، وحينما يطلب الله من سائر الأمم الخضوع للقوانين الأخرى المجردة الخاصة بالعدل والفضيلة؛ فإن هذه القوانين لا تنطبق على اليهود؛ لأن الله يتكلم مع شعبه، أي إسرائيل مباشرة) (?) .
ومن خلال المواقف تنكشف الأصوليات. والأصوليات اليهودية لها مواقف متعددة من بعض القضايا، وأكثرها وضوحاً علاقتهم بالسلطة اليهودية في فلسطين؛ حيث تتشكل مواقفهم تجاهها في مسارات ثلاثة:
الأول: أصولية تحترم حكومة الكيان الصهيوني، وترى أنها دولة مقدسة وحكومة يهودية؛ فالحاخام (صفي يهوداكوك) يعتقد أنها (مقدسة ولا خلل فيها، إنها شكل من أشكال التجلي السماوي العلوي) (?) ، وأنها قاعدة العرش الإلهي.
الثاني: أصولية ترى أن حكومة الكيان الصهيوني علمانية منحرفة، ولكنها وسيلة لحكومة الحاخامات القادمة، والعلاقة بينهما في حالة مدّ وجزر؛ فأحياناً يسيرونها وحيناً تسيرهم، وهي تسبق مجيء المخلص، ويحاولون أن يقنعوا الحكومة في أن لا تفكر (فيما يجري في الخارج، بل دعونا ننظم أرضنا وأنفسنا مصغين إلى كلمة الله وكلام أنبيائه) (?) ، وهي ـ في نظرهم ـ حكومة لليهود وليست حكومة يهودية، يشاركون الحكومة في الحكم، ويحرضون على قتل رابين.
الثالث: أصولية تكفِّر حكومة الكيان الصهيوني في فلسطين وتتهمها بالزندقة والخروج عن إرادة الله، ويعبر عن هؤلاء حركة «ناتوري كاراتا» الأصولية.
أما موقف السلطة من الأصوليين فهي تمتاز بالرفق واللين معهم، وتقديم المساعدات لمدارسهم ومؤسساتهم الاجتماعية، والتنازلات الدينية المتتالية خاصة في أيام الانتخابات وتأليف الحكومة، وهي لا تخرج عن موقف الشرائح العلمانية والقومية اليهودية في فلسطين؛ فهي وإن كانت لا تلتزم بالتعاليم الدينية إلا أنها في حالة رضى على المتدينين؛ لأنهم يحملون الوهج اليهودي التاريخي، وينطلقون من خلاله لخدمة الدولة، ويضحون بالسكن في المستوطنات النائية وتحمل المشاق من أجل دولة اليهود أو الدولة اليهودية القادمة.
ومن صور تغلغل الأصولية اليهودية في التيار الصهيوني وحيلهم أن الحاخام (شاخ) رفض أن يتولى أحد من طائفته مناصب وزارية في حكومة نتنياهو؛ لما في ذلك من مشاركة الصهيونية بالعمل، ولكن نتنياهو أعطاهم وزارة الإسكان مكافأة لهم على تأييدهم له في الكنيست، وتولى إدارتها بنفسه، ووضع نائباً ـ ليس وزيراً ـ من مؤيدي الحاخام (شاخ) ومن حزب ياهدوت هاتوراه، وأخذ نتنياهو بالتوقيع على ما يراه ويطلبه النائب في وزارة الإسكان.
وهذا الموقف وغيره أقرب ما يكون إلى النفاق، وقد وجد استهجاناً من الرأي العلماني الواسع؛ حيث يصورونه بالرياء (السافر الذي يقوم من خلاله الوزراء بأداء الطقوس الدينية، لا يؤدي إلا إلى الإضرار بتماسك الحكومة) (?) ، بينما يرى (عزمي بشارة) أن ما بين الصهيونية والتيار الديني علاقة تكاملية؛ لأن (الفكرة الأساسية والأهم التي تأسست عليها الحركة الأصولية الحديثة تنبع من قيام تيار ديني خالص باتخاذ المفاهيم الصهيونية العلمانية أساساً لعمله بعد إضافة المصطلحات والنظم الدينية عليها) (?) ، وقد وافق الكنيست عام 1985م، وبأغلبية ساحقة على رفض أي حزب يرغب المشاركة في الانتخابات إذا كان يعارض مبدأ (الدولة اليهودية) ، أو يريد تغيير ذلك عبر القنوات الدستورية، كما أن رئيس الوزراء (مناحيم بيجن) سمح بتأجيل الخدمة العسكرية ـ رغم أهميتها ـ عمن درس في الثانوية العلمانية، ويرغب التزود بالعلوم الدينية من خلال معهد ديني، وهذا التأجيل قدم موجة مهمة من موجات المد الأصولي اليهودي.
ومن ثمار استقطاب السلطة للأصوليين الاتفاق غير النظامي بين الحاخامات، ووزارة الدفاع للكيان الصهيوني في أن يكون المرشحون للدراسة العسكرية من المتدينين في مجموعة واحدة، ولهم معسكرهم المتجانس مع توجهاتهم، ويشرف عليهم حاخاماتهم من أجل المحافظة على نقائهم الديني، كما أن الدولة خفضت الخدمة العسكرية من ثلاث سنوات إلى ثمانية عشر شهراً، وما بين كل ستة أشهر يعودون فيها إلى دراسة التلمود، وينظفون أرواحهم مما علق بها من تلوُّث يخدش دينهم نتيجة التقائهم باليهود العلمانيين، ومع هذه المنح اللامتناهية قام الحزب الديني القومي باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء، لمعرفة من ينتهك التعاليم الدينية اليهودية.
إن الأصوليات اليهودية بأنواعها نراها في فلسطين من خلال المنظمات الإرهابية اليهودية، وحركات بناء الهيكل، والمدارس الدينية، ووصول المتطرفين من اليهود إلى أعلى المراتب في سلطة الكيان الصهيوني، وفتح أبواب الكنيست للأصوليين، والموقف من السلام، ومقتل رابين، وجريمة المسجد الخليلي. والمؤلم ما يراه الكاتب اليهودي إسرائيل شاحاك من أن (الأصولية اليهودية ليست قادرة على التأثير فقط في السياسة الإسرائيلية التقليدية، ولكنها قادرة ـ أيضاً ـ على التأثير على السياسات الإسرائيلية النووية) (?) ، وخاصة أن الأصوليات اليهودية تنطلق من أربعة مبادئ تتفق عليها، وتجد التشجيع والتأييد من قِبَل اليهود التقليديين والعلمانيين والقوميين وهي:
ـ اليهود شعب الله المختار.
ـ العودة إلى فلسطين من أسس عقائدهم.
ـ الإرهاب والقتل للآخر من الأعمال التي يثاب عليها اليهودي.
ـ إن لم تكن مع المخلِّص المنتظر فلا أحد يحول بينك وبين تعجيل مجيئه والتبشير به.
وثمار هذه الأصوليات نلمسها في عدة زوايا ومنعطفات، يعبر عنها تصريح الحاخام (مئير كاهانا) : (إن طرد الفلسطينيين من البلاد هو عمل أكثر من كونه قضية سياسية، إنه موضوع ديني، واجب ديني، أمر بإزالة المعصية، وبدلاً من أن نخشى ردود الغرباء إذا فعلنا ذلك يجب أن نرتعد خوفاً من غضب الله إذا لم نفعل ذلك ونطرد العرب) (?) ، وصحيفة (الجيروزاليم بوست) في 3/11/1988م كتبت في افتتاحيتها أن (الأحزاب الدينية تتنافس فيما بينها على تمزيق إسرائيل وجعلها تتخلى عن ميثاق الاستقلال وتعميق ارتباطها بقوانين التوراة، ومن شأن ذلك إعطاء دفعة لمسيرة تحويل إسرائيل إلى دينية) (?) ، ومن استشراف (أريئيل) اعتقاده أنه (من المتوقع لأعدائنا أن يقبلوا بقيم التوراة، وأن يقوموا بثورة فعلية في طريقة عيشهم وتفكيرهم، ذلك هو السبيل الوحيد إلى السلام الحقيقي الدائم) (?) ، وقد تجاوزت الأصوليات اليهودية في فلسطين مرحلة المجموعات المتطرفة السرية أو الصغيرة، وهي وصلت ـ أو تكاد ـ إلى التلاحم ما بين النواة والأطراف، ومن أبسط الخطوات أن تجد أمثال الطالب الجامعي (يهوشع كراتز نيكر) البالغ من العمر سبعة وعشرين عاماً يعبر عن رأيه من خلال الأجوبة على الأسئلة التالية:
س: هل تتمنى أن تقوم في إسرائيل دولة تحكمها قوانين الشريعة؟
ج: طبعاً أتمنى دولة تحكمها قوانين الشريعة.
س: وسيتم رجم مرتكبي الزنا كما تقول التوراة.
ج: طبعاً ما دام هذا ما تقضي به التوراة.
س: ولن يستطيع الإنسان أن يتناول طعاماً غير حلال في إسرائىل حينئذ.
ج: بالتأكيد؛ فاليهود لن يسمح لهم بتناول طعام غير حلال، ولن يسمح بوجود متاجر للطعام غير الحلال، وتقضي الشريعة بأن المكلف يأكل ما تحله الشريعة، إذا ضبط وهو يتناول طعاماً غير حلال يعاقب بالجلد.
س: ألا يذكرك هذا البرنامج بالبلدان الإسلامية حيث تقطع يد السارق؟
ج: لا، بالمرة، إن هناك فرقاً كبيراً بين الشريعة اليهودية والشريعة الإسلامية، إن الشريعة اليهودية تعبر عن قيم أخلاقية عظيمة وجميلة.
س: إن فرض الدين بالقوة ليس موقفاً ديمقراطياً.
ج: صحيح، ولكن الأخلاق أهم من الديمقراطية.
س: هل تقبل تقديم تنازلات من أجل السلام؟
ج: أنا كرجل متدين أعلم أننا نملك أرض إسرائيل بفضل وعد الرب، ولذلك ليس هناك مسوِّغ لإعطاء العرب أية قطعة من هذه الأرض حتى مقابل السلام (?) .