اقتصاد
صندوق النقد الدولي
ومديونية العالم الثالث [*]
حمد سليمان البازعي
تعتبر مشكلة الديون الخارجية لدول العالم الثالث من أهم المشاكل التي تهدد
استقرار الاقتصاد العالمي، لذا تجمع دول العالم على ضرورة إيجاد حل لهذه
المشكلة، لكن هذه الدول تختلف على كيفية الحل. فمن دول ترى أن من الأنسب
إعفاء الدول المدينة من ديونها، إلى دول ترى أن الأنسب تشجيع الدول المدينة
على الوفاء بالتزاماتها عن طريق إقراضها قروضاً جديدة حتى تتمكن من سداد
الديون القائمة. وهذا الإقرار لابد أن يتم عن طريق المؤسسات المتخصصة، أو
يخضع على الأقل لإشرافها. ومن هذه المؤسسات صندوق النقد الدولي والذي
سنعرض في هذه المقالة - بإيجاز - لدوره في هذه المشكلة.
لكن قبل ذلك لابد من مقدمة عن:
حجم ديون العالم الثالث:
تميز عقد السبعينات الميلادي من هذا القرن بأنه عقد التنمية قامت فيه دول
العالم الثالث رغبة في الانطلاق من حلقة التخلف المفرغة بمشاريع جبارة تطلبت
رؤوس أمول ضخمة، ولم يكن أمام هذه الدول من وسيلة لتمويل هذه المشاريع
سوى الاقتراض الخارجي، خصوصاً من الدول المتقدمة وبنوكها، لكن هذا
الاقتراض لم يجلب معه ما كان مؤملاً من نمو وزيادة، وإنما أوقع هذه الدول في
شرك المديونية، فالدخل الناتج من هذه المشاريع لا يكفي لسداد الأموال المقترضة
مما استدعى الاقتراض لسداد الديون القائمة وهكذا.
وبنظرة عاجلة لأرقام ديون العالم الثالث نرى أنها وصلت إلى أرقام خيالية، فطبقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، زادت هذه الديون من 722 بليون دولار في عام 1982 إلى 890.6 بليون دولار في عام 1985، ثم قفزت إلى 117 بليون دولار في عام 1988، أي بمعدل زيادة سنوية قدرها 24 %.
وبنسبة هذه الديون إلى مجمل إنتاج دول العالم الثالث من سلع وخدمات نجدها بلغت في عام 1982، 35.9%، كما بلغت 45.2% في عام 1985، أما في عام 1988 فقد بلغت 47.4%، وهكذا فإن هذه الديون تستهلك ما معدله 43% من مجمل إنتاج هذه الدول، ويعتبر هذا استنزافاً لثرواتها في وقت هي أشد ما تكون حجة إليه، لكن لصورة تبدو أكثر إيلاماً عند نسبة هذه الديون إلى مجمل إيرادات الصادرات في الدول المدينة، فقد بلغت هذه النسبة لعينة من 112 دولة 166 % عام 1958، أما في عام 1988 فقد بلغت هذه النسبة 189.7 % [1] ، أي إن مجمل إيرادات صادرات هذه لدول لا تكفي ـ أو بمعنى أصح لا تغطي ـ سداد ثلث هذه الديون.
وقد يتساءل القارئ الكريم: ما سبب هذه الزيادة الخيالية في حجم هذه الديون؟ والجواب على ذلك يتطلب تحليلاً لكل العوامل التي يعتقد الاقتصاديون أنه وراء
هذه لزيادة، وهذا خارج عن نطق هذه المقالة إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة العابرة
إلى أهم هذه العوامل، وهي:
1 ارتفاع أسعار واردات دول العالم الثالث، وبخاصة أسعار السلع الرأسمالية، والتي تعتبر أساساً لانطلاق عملية التنمية، هذا الارتفاع صوحب بانخفاض في
أسعار صادرات هذه الدول، أو على الأقل بقاءها على ما هي عليه مما جعل
الحاجة ماسة لتمويل الفرق بالاقتراض الخارجي.
2- سياسات التوسع في الإقراض من قبل البنوك الغربية، حيث وجدت هذه
البنوك نفسها تحتفظ بفوائض عالية وذلك بفضل الفوائض المسماة بـ "
الدولابترولية " هذه الفوائض جعلت الحاجة ماسة للبحث عن أسواق مربحة
لتصريفها، وكان سوق العالم الثالث هو الأكثر ترشيحاً لاستقطاب هذه الفوائض،
وهذا الإقراض يتم غالباً على أساس أسعار فائدة (تتغير حسب سعر السوق) وتحت
شروط قاسية.
3- الارتفاع المذهل لأسعار الفائدة، وخصوصاً في بداية الثمانينات حيث
تجاوزت أسعار الفائدة معدل 20% مما أدى إلى الزيادة في عبء خدمة هذه الديون. بالإضافة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار (عملة تقويم الديون) مقابل عملات كثير
من الدول المدينة مما زاد في قيمة الديون الفعلية.
4 -الكساد الذي عم الدول الصناعية خلال الفترة ما بين 1981 -1983 مما
انعكس سلباً على دخول دول العالم الثالث وذلك من خلال:
أ- انخفاض طلب الدول الصناعية على منتجات تلك الدول.
ب- هذا الانخفاض في الطلب أدى إلى انخفاض في أسعار تلك المنتجات.
ج- لجوء الدول الصناعية إلى سياسات الحماية كفرض التعاريف الجمركية،
مما أدى إلى صعوبة دخول منتجات دول العالم الثالث إلى أسواق هذه الدول.
كل هذه العوامل الأربعة ساهمت بتفاقم أزمة المديونية، التي باتت تهدد
استقرار الاقتصاد العالمي، وقد بلغت هذه الأزمة حد الانفجار في شهر أغسطس من
عام 1982 م عندما أعلنت المكسيك (ثاني أكبر دولة مدينة في العالم بعد البرازيل)
أن احتياطياتها قد شارفت على النضوب، وأنه ليس باستطاعتها الوفاء بالتزاماتها.
في تلك الأثناء برز صندوق النقد الدولي كعامل حسم في علاقة الدول الدائنة
مع الدول المدينة.
دور صندوق النقد الدولي:
أنشئ صندوق النقد الدولي في عام 1944 م بموجب اتفاقية بريتون
وودز [2] ، وطبقاً لهذه الاتفاقية فقد انحصرت مهمة الصندوق في:
1 - وقوفه مستعداً لإقراض أي دولة عضو تعاني من عجز في ميزانها
التجاري مع العالم الخارجي، في حين أن تبني أي سياسة داخلية لمعالجة هذا العجز
(كتخفيض الإنفاق الحكومي مثلاً) يمكن أن يؤدي إلى آثار سلبية على مستوى
العمالة في الداخل [3] .
2 - مراقبة التزام الدول الأعضاء بنظام أسعار الصرف الثابتة والمقرة في
تلك الاتفاقية [4] .
استمر الصندوق في ممارسة مهمتيه هاتين حتى انهارت اتفاقية أسعار
الصرف الثابتة فعلياً عام 1971 فتغيرت تبعاً لذلك مهمة الصندوق، وبدأ الصندوق
منذ ذلك الحين بمهمة من نوع جديد وهي الإقراض لا بغرض تصحيح الاختلال
الطارئ على الموازين التجارية للدول الأعضاء، وإنما لمعالجة الاختلالات الهيكلية
في اقتصادياتها. بذلك بدأ الصندوق يمارس دوراً أكبر بدخوله شريكاً مع الدول
المقترضة في تقرير السياسات الاقتصادية، والتي يجب على الأخيرة الأخذ بها.
هذه السياسة غالباً ما يطلق عليها سياسة: " التقشف " أو السياسات المشروطة ولم
يأت هذا الدور طبيعياً ومن دون معارضة، وإنما أتى مفروضاً من قبل الدول
المتقدمة، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ارتأت أن إقراض الدول
الغربية أو بنوكها لدول العالم الثالث لا يعطي للدول الدائنة الحق في إملاء شروطها
على الحكومات المدينة، ولو فرض أن هذه الأخيرة قبلت هذه الشروط فإن شعوبها
من الممكن أن لاترضى بوصاية دولة أجنبية في تقرير سياسة داخلية. لذا كان
الصندوق من أفضل من يقوم بهذا الدور دون إثارة الحساسية الوطنية، فأصبح
الصندوق بذلك ملجأ للدول الباحثة عن قروض، لكن هذه القروض غالباً ما تكون
مصحوبة بإملاء السياسات الاقتصادية التي يجب على الدولة المستفيدة الأخذ بها.
ومن هذه السياسات:
1 - رفع القيود المفروضة على أسواق السلع والعملات، والعمل على جعل
هذه الأسواق حرة كما تفترض النظرية الاقتصادية.
2 - تخفيض سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.
3-تخفيض القيمة الفعلية للأجور.
بالإضافة إلى هذا الدور يعتبر الصندوق جهة حكم وتقييم لمقدرة الدول المدينة
على السداد والوفاء بالتزاماتها. فالصندوق تبعاً لذلك يقوم بمهمة تصنيف الدول
حسب قدرتها على السداد. فالدولة التي يصنفها الصندوق على أنها دولة " موثوقة "
تجد من السهل الحصول على ما تريد من قروض سواء من الصندوق مباشرة، أو
من غيره من الدول [5] . هذه الثقة تحصل عليها الدولة بتمسكها بحرفية شروط
الصندوق وسياساته. أما الدولة التي ترى الأولوية لمصلحة غالبية شعبها فإنها
ستجد من الصعب -إن لم يكن من المستحيل - تطبيق شروط الصندوق، وبذا
تصل الثقة بمثل هذه الدولة إلى أدنى درجاتها. ويصبح من العسير على مثلها
الحصول على معونة أو قرض، لذا أصبح الصندوق عاملاً محدداً لغرض دول
العالم الثالث في الحصول على قروض.
نقد دور الصندوق:
إن للصندوق دوراً مهماً في تقرير السياسات الاقتصادية على المستوى الدولي. ونظراً لحجم وأهمية هذا الدور فقد حظي هذا الدور وآثاره بدراسات مستفيضة.
ونظراً لأن سياسات الصندوق قد جربت في كثير من دول العالم الثالث فقد
كانت هذه السياسات وآثارها ولازالت محل دراسات متعددة لتقييم هذه الآثار.
هذه الدراسات دلت على نتائج متطابقة في كثير من الأحيان، متعارضة في
أحيان أخرى، فأغلب هذه الدراسات ترى أن دور الصندوق ممثلاً بسياساته هو
دور سلبي في مجمله فلم ينتج عن توصيات الصندوق لمعظم دول العالم الثالث
سوى غرقها في ديون أصبح من العسير الانعتاق منها، كما أدت إلى الكساد وإعاقة
النمو.
وحتى في الحالات النادرة التي يستشهد بها على أنها نجاح للصندوق في
مهمته؛ لا يمكن الجزم بأن نتائج سياسات الصندوق كانت كلها محبذة. وحتى
النتائج الإيجابية منها لم تكن بمستوى ما بشر به الصندوق وخبراؤه [6] ؛ فمثلاً
يلاحظ أن كثيراً من الدول المستفيدة من خدمات الصندوق وجدت نفسها قد تورطت
في إنتاج لا يتمشى مع أولوياتها واستيراد استهلاكي حمّل ميزان مدفوعاتها عبئاً قد
فاق حجم ما حصلت عليه من معونة!
هذه النتائج -لكثير من المراقبين - تعتبر غير مستغربة وإلا فماذا يمكن أن
تنتظره دول العالم الثالث من مؤسسة أنشئت ونظمت بطريقة تضمن سيطرة العالم
الغربي عليها؟
وبنظرة سريعة لتوزيع أوزان الأصوات في نظام الصندوق يبدو ذلك جلياً؛
فالولايات المتحدة الأمريكية تتحكم بأكثر من عشرين بالمائة من الأصوات، وأوربا
الغربية بثمان وعشرين بالمائة. أما دول العالم الثالث فتتحكم فقط بحوالي ثلث
الأصوات على حين أن عددها يبلغ ثلاثة أرباع الأعضاء!
وباختصار يرى كثير من المراقبين أن سياسات الصندوق لم تؤد إلى النتائج
المأمولة، بل أدت إلى العكس من ذلك. ومن أهم السلبيات التي نجمت عن تطبيق
مثل هذه السياسات ما يلي:
1 - استنزاف موارد الدول النامية من خلال إيقاعها في شرك المديونية.
2 - تكريس التبعية لدول الغرب بأن أصبح كثير من دول العالم الثالث يدور
في فلكها وتحت رحمة بنوكها.
الصندوق والاستقرار السياسي في العالم الثالث:
كان من آثار سياسات الصندوق الاقتصادية ما امتد إلى الجانب السياسي،
ويكاد يجمع كثير من كتاب دول العالم الثالث على ربط المناخ السياسي المتأزم في
كثير من هذه الدول بتدخل الصندوق في تقرير السياسات الاقتصادية الداخلية، فكما
مر معنا يشترط الصندوق على الدولة طالبة القرض أن تتبنى السياسات الخاصة
بحد النفقات الحكومية، وذلك برفع الإعانات عن السلف الضرورية وتخفيض الدعم
الحكومي للإنتاج المحلي مما يؤدي إلى رفع الأسعار. كما أن اشتراط تخفيض قيمة
العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية يؤدي إلى رفع أسعار السلع المستوردة التي
تمثل بالنسبة لكثير من هذه الدول مخرجاً من محدودية الإنتاج المحلي مما يعيق
برامج التنمية. كما إن ارتفاع أسعار هذه السلع يجعلها بعيدة عن متناول (وأحياناً
حتى عن نظر) غالبية السكان.
من هذه المنطلقات النظرية نرى أن سياسات الصندوق تحمل غالبية السكان
من ذوي الدخول القليلة عبئاً ليس باستطاعتهم تحمله. وحتى لو تحملت هذه الجموع
بتأثير حملة دعائية تعدها بنيل فردوس الصندوق المزعوم؟ سرعان ما يبلغ السيل
الزبى فتنطلق هذه الجموع بمظاهرات وأعمال عنف تبرماً بالوضع القائم، والأمثلة
على ذلك كثيرة لا مجال لذكرها، لكن يكفينا - كمثال - ما حدث في فنزويلا قبل
بضعة شهور فبعد اتفاق فنزويلا مع الصندوق رفعت الحكومة الدعم عن كثير من
السلع الضرورية تشكل قوت غالبية السكان، كما سرحت الحكومة عدداً من
موظفيها تخفيضاً وحَدّاً لنفقاتها فكانت النتيجة أن خرجت مظاهرات عنيفة خلفت
وراءها مئات القتلى والجرحى.
وكمثال على أن سياسات الصندوق تجعل العبء على غالبية السكان دون
الصفوة الغنية ما حدث في بيرو في بداية الثمانينات فخلال ثلاث سنوات ومنذ العام
1980م فُقد حوالي مليون فرصة عمل كما أن أجور الوظائف الباقية انخفضت
بشكل كبير. أما في البرازيل -أكبر دولة مدينة حالياً ب (115) بليون دولار - فقد
انخفض معدل الأجر الحقيقي بحوالي الربع عما كان عليه في عام 1980 [7] .
هذه السياسات ساهمت وتساهم في تأزيم المناخ السياسي في دول العالم الثالث، مما يجعل الدول الرأسمالية - في النهاية - هي المستفيدة الوحيدة، فاضطراب
المناخ السياسي يجعل رؤوس الأموال في دول العالم الثالث تهاجر إلى حيث
الاستقرار المزعوم في الدول الرأسمالية. هذه الأموال المهربة والمسروقة من أفواه
الجوعى والمستنزفة من موارد هذه الدول تساهم في تكريس تبعية دول العالم الثالث
للغرب الرأسمالى. وباختصار شديد: إن تدخل الصندوق في تقرير السياسات
الداخلية لدولة معناه شل مقدرة هذه الدولة على اتخاذ القرار، حيث ينتقل مكان
صنعه من العاصمة المحلية إلى واشنطن حيث مقر الصندوق.
وختاماً نعلق بالتالي:
إن فشل الصندوق في تقديم المعونة المثمرة والاستشارة المفيدة يرجع بشكل
أساسي إلى الأسس النظرية التي قامت عليه سياسات الصندوق، فعوائق التنمية
تتمثل طبقاً لهذه الأسس في نقص المدخرات. فما على الدولة الراغبة في الانطلاق
إلى عالم أرحب حيث النمو والتنمية سوى شد الأحزمة أو الاقتراض من الخارج إن
لم تجد عملية شد الأحزمة، لذا فمشكلة الصندوق تكمن في فشله في الإحاطة
بجوانب التنمية المتعددة. فالتنمية عملية حضارية معقدة، ومن غير الممكن
تبسيطها من خلال علاقات رياضية، ومن ثم تتركها لميكانيكية السوق هذه العملية
تقتضي إخضاع طرائق الانتاج والتفكير لاحتياجات المجتمع وليس العكس كما أن
الطريق إلى ذلك ليس بالضرورة أن يكون تكراراً للتجربة العربية. فالطريق الذي
سلكته الدول الغربية للنمو ليس الطريق الوحيد كما أنه ليس بالأمثل وبشكل أدق:
إن لكل دولة ظروفها التي تملي عليها طريقاً معيناً دون سواه.