د. الجيلالي المريني
الشريعة الإسلامية عنيت بالعلم أبلغ العناية بياناً لشرفه، وتعظيماً لقدره، وتوضيحاً لأنواعه ومصادره، وتوضيحاً لآثاره في الدنيا والآخرة، وإشادة بتعلمه وطلبه، وترهيباً من القعود عنه مباشرة، أو بعدم سؤال أهله.
ولذلك كان للعلم في الشريعة الإسلامية حيز كبير في كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أمر يحتاج إلى بذل جهد كبير فيه، غير أن هذا لا يمنع من إلقاء نظرات على مفهوم العلم في القرآن وأهميته؛ وذلك وفق ما يلي:
1 - مفهوم العلم:
العلم بميزان القرآن هو الإسلام، وفي مقابلة الجهل الذي هو الكفر بدليل الاستقراء: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] ، {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: 19] ، {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74] ، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] .
أ - قال ـ تعالى ـ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ، وهو الاستنكار الذي تصرح به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبئ عن الجهل المطلق المطموس (?) .
ب - وقال ـ تعالى ـ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] .
ولم يقل: يجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل: الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل. فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة، وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد، وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق.
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر، وبوحدانية هذا الخالق المدبر؛ فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، ولا يُعرض عن ذلك إلا الحمقى والجهال، ولو ادعوا العلم كما يدعيه الكثيرون (?) .
ج - وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] .
إني أعظك أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط، أو حقيقة وعد الله وتأويله؛ فوعد الله قد أُوِّل وحُقق، ومهما كان التأويل؛ فالجهل هنا جهل بحقيقة هذا الدين وبحقيقة روابطه وهو الإيمان، أي الروابط والوشائج الإيمانية.
د - وقال ـ تعالى ـ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ، والجهل هنا بمعنييه: الجهل بمعنى فقدان العلم، والجهل بمعنى السفه والحمق، وكلا المعنيين متحقق في هذا الانحراف البغيض؛ فالذي لا يعرف منطق الفطرة يجهل كل شيء، ولا يعلم شيئاً أصلاً، والذي يميل هذا الميل عن الفطرة سفيه أحمق معتد على جميع الحقوق.
يؤكد هذا المعنى ويحققه قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] .
وهي دعوة العالم لا الجاهل ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته فيريد مزيداً من عناية وحياطة تعاونه على ما يعترضه (?) ، ومنشأ المزيد من العناية هو الإسلام والإيمان.
وعليه: فالجهل بحقيقة هذا الدين، هو السبب في الدعوة إلى اتخاذ آلهة، ودعوة الآخرين إلى اتخاذ إله من غير الله، كما أنه هو المفضي إلى الحمق والسفه، وعدم طلب المدد الإلهي، كما يجعل صاحبه يزن الأمور والروابط والوشائج بغير معيار الدين والعكس صحيح.
2 - مصدر العلم في القرآن الكريم:
العلم في كتاب الله ـ عز وجل ـ كله من الله ـ تعالى ـ من اسمه العليم؛ فهو الذي علَّم غيره، علَّم آدم؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، إنه التكريم في أعلى صورة لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وُهِب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة؛ لقد وُهِب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.
كما علم الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية: خاصية سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات؛ لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم، ومن ثم لم توهب لهم، فاعترفوا بعجزهم والإقرار بحدود علمهم.
وعلم الإنسان: قال ـ تعالى ـ: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4] .
الرحمن: ويسكت وتنتهي الآية ويصمت الوجود كله وينصت.
علَّم القرآن: هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمان بالإنسان، القرآن ... الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود، ومنهج السماء للأرض الذي يصل أهلها بناموس الوجود. وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] .
وهي منة الله على الإنسان في هذه الأرض؛ المنة التي وُلِدَ الإنسان معها ميلاداً جديداً، ونشأ بها (الإنسان) كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى، المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب؛ المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام، وذاق حلاوة الإسلام، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} ؛ فهو علم رباني. وعليه: فلا علم إلا من الله؛ فالله هو مصدره، ومنه تفرع العلم، وعنه أخذ نسبياً، سواء الذي وهب لآدم، أو للملائكة، أو للإنسان، والهدف واحد، وسَنُّه للإنسان هو ربطه بالسماء، وفق منهاج رباني فريد بعيد عن برائن الجهل والجاهلية.
3 - أنواع العلم:
يتنوع العلم بحسب العالِم إلى: علم الله، وغير الله.
أ - علم الله: قال ـ تعالى ـ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] ؛ إنه الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوباً بالتوكل على الله السميع العليم، الذي يسمع ما يقال، ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر، وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
وقال ـ عز وجل ـ: {إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ، والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم وتخفيه ظواهرهم ... والله سميع لما يقولون بما يظهرون وما يكتمون، وقال ـ عز وجل ـ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59] ؛ لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر وما يصلحها من الآداب، ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب. والله قد أحاط بكل ما في ملكه الواسع العريض، وبما يسرونه في حنايا القلوب، فهو يحيط بكل ظروفهم وملابساتهم ومصالحهم واستعدادهم. وقال ـ عز وجل ـ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] ، يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم ـ في طلب الرحمة للناس ـ إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء يحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء، وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليها يلجؤون.
وقال ـ سبحانه ـ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، إنه ـ سبحانه ـ هو الذي يعلم وحده كل شيء علماً مطلقاً شاملاً كاملاً، وهو ـ سبحانه ـ يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه تصديقاً لوعده الحق.
إن الله ـ سبحانه ـ وهب الإنسان المعرفة منذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه، ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس، ووعده أن يريه آياته في الآفاق. وصدق وعده.
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا السر فما يزال خافياً، وما يزال عصياً، وروي عنه أسرار كثيرة، ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرق من العلم الذي أحاط به بعد الإذن. والخلاصة أن الله ـ تعالى ـ يعلم ما وراء المخبآت وما يكتمون، كما يعلم ما بنفوس البشر، وعلمه هذا في درجة الإحاطة بكل شيء؛ فمن هذا العلم يستمد الإنسان بعد أن يتأذن ـ سبحانه ـ فيكشفه للعباد بقدر.
ب - حسب المعلوم: غيب شهادة:
1 - علم الغيب خاص بالله تعالى. قال ـ تعالى ـ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] ، عالم الغيب لوحده، إلا أن هناك استثناء واحداً فقط، وهو ما يأذن به الله من الغيب فيطلع عليه رسله في حدود ما يعاونهم على تبليغ إلى الناس؛ فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر، ويرعاهم وهم يبلغونه، وقال ـ عز وجل ـ: {إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18] .
والذي يعلم غيب السموات والأرض يعلم غيب النفوس، ومكنون الضمائر، وحقائق الشعور.
وقال ـ سبحانه ـ: {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] ؛ فإن سائر الرسل انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل الذي يدع العلم كله لله، ويدع الأمر كله بين يديه سبحانه.
2 - علم الشهادة: علم ما يشاهَد، والإحاطة به خاصة بالله تعالى، والإنسان يعلم منه ما يشاء الله سبحانه. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33] ، وعلم الشهادة بالنسبة للإنسان قال فيه ـ تعالى ـ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [القصص: 75] .
وعليه؛ فعلم الغيب استأثر ـ سبحانه وتعالى ـ به وأذن فيه لرسله في حدود ما يعاونهم على تبليغه دعوتهم، وهو أمر شهد به سائر الرسل، كما أنه ـ سبحانه ـ أحاط إحاطة خاصة بعلم الشهادة.
ج - وينقسم بحسب طرق تحصيله:
1 - الوحي: علم الوحي لا يمكن للعبد أن يدركه؛ فقد أراح الله عقل الإنسان من خوض البحث فيه بدون دليل. قال ـ تعالى ـ: {إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
2 - مستنبط: من الوحي: القرآن والسنة، قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، أو مما يشاهَد في الكون.
3 - علم اليقين: العلم في أقصى درجاته الذي يطابق الواقع في أقصى درجاته.
4 - علم ظاهر الدنيا: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] ، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] .
فالعلم سواء كان وحياً أو مستنبطاً، أو علم اليقين، أو علم ظاهر الدنيا، فهو علم الله ومنه أُخِذ.
4 - معيار العلم الذي ينبغي الحرص على تعلمه:
العلوم متنوعة، وليس كل ما يطلق عليه اسم العلم يجب الحرص عليه وتعلمه والانكباب عليه والاستفادة منه وتعليمه للآخرين، بل لا بد أن يخضع لمعايير ومقاييس منها:
معيار الأصالة: الذي قال عنه الإمام الشاطبي إنه الأصل والمعتمد وعليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس، ثابت الأركان.
والعلم الذي هو من الصلب لا من القشور والزوائد، له ثلاث خواص:
1 - العموم والاطراد.
2 - الثبوت من غير زوال.
3 - كون العلم حاكماً لا محكوماً عليه.
والعلم الذي اكتملت فيه هذه الخواص الثلاث هو الذي يكون من صلب العلم لا مُلَحِه، وهو الذي ينبغي أن يُطلب ويُرحل إليه ويستكثر منه العلماء والطلبة والتلاميذ.
المعيار الثاني: ما هو من مُلَح العلم؟
ما ليس في صلبه وهو ما لم يكن قطعياً، ولا راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني أو كان راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني أو كان راجعاً إلى أصل قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره؛ فإذا كان هكذا صح أن يعد في هذا القسم.
فأما تخلف الخاصية الأولى وهو الاطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوِّي جانب الاطراح، ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم، ويقر به من الأمور الاتفاقية الواقعة من غير قصد، فلا يوثق به ولا يبنى عليه.
وأما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت، فيأباه صلب العلم وقواعده؛ فإنه إذا حكم في قضية، ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال، كان حكمه خطأ وباطلاً، من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عم فيما هو خاص، فعدم الناظر الوثوق بحكمه؛ وذلك معنى خروجه عن صلب العلم.
وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكماً، ومبنياً عليه، فقادح أيضاً؛ لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس، فاستوى مع سائر ما يتخرج به، وإن لم يصح فأحرى في الاطراح كمباحث السوفساطئيين، ومن نحا نحوهم.
ولتخلص بعض هذه الخواص أمثلة منها.
ومثاله: التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة، لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخداً له عن شيوخ كثيرة، ومن جهات شتى، إن كان راجعاً إلى الآحاد في الصحابة أو التابعين أو غيرهم؛ فالاشتغال بهذا من المُلَح لا من صلب العلم. خرَّج أبو عمر ابن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني قال: خرَّجت حديثاً واحداً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق ـ شك الراوي ـ.
قال: فدخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك، فرأيت يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا! قد خرَّجت حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق. قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] هذا ما قال هو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلاً.
القسم الثالث: ما ليس من الصلب ولا من المُلَح.
وهو ما فقد معيار الأصالة، والمُلَح، أي ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال، مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها، في الأعمال والاعتقادات أو كان منهضاً إلى إبطال الحق، وإحقاق الباطل على الجملة، فهذا ليس بعلم؛ لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مطرد أيضاً، ولا هو من مُلَحه؛ لأن المُلَح هي التي تستحسنها العقول، وتستحسنها النفوس؛ إذ ليس يصحبها منفِّر، ولا هي مما تعادي العلوم؛ لأنها ذات أصل منبئ عليه في الجملة بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شيء من ذلك.
ومثال هذا القسم: ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وإن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما يُنال من الإمام المعصوم تقليداً لذلك الإمام؛ واستنادهم في جملة من دعاويهم ـ إلى علم الحروف، وعلم النجوم؛ ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع، فكثرت الدعاوي على الشريعة بأمثال ما ادعته الباطنية، حتى آل ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلاً عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطية والمتحكمون، وكل ذلك ليس له أصل ينبي عليه، ولا ثمرة تجنى منه، فلا تعلق به بوجه.
_ معيار الفائدة العملية:
وهي أن كل مسألة علمية لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة.
فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد به عملاً مكلفاً به، وفي القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، فوقع الجواب بما يتعلق به العلم إعراضاً عما قصده السائل من السؤال عن الهلال، ولِمَ يبدو في أول الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى، فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال ـ في التمثيل ـ إتيان البيوت من ظهورها، والبر إنما هو التقوى لا العلم بهذه الأمور التي لا تفيد نفعها في التكليف ولا تجر إليه. وقال ـ تعالى ـ بعد سؤالهم عن الساعة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42 - 43] أي أن السؤال هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من علمها أنه لا بد منها؛ ولذلك لما سئل ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الساعة قال: للسائل: «ما أعددت لها» (?) ... إلى غير ذلك.
5 - مكانة العلم في الشريعة الإسلامية:
1 - العلم: نعمة من الله: قال في حق الخضر صاحب موسى ـ عليه السلام ـ وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمً} [الكهف: 65] ، فذكر من نعمته عليه تعليمه، وما آتاه من رحمته.
2 - العلم مجلبة للثناء: وقال ـ تعالى ـ يذكر نعمته على داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] ، فذكر النبيين الكريمين، وأثنى عليهما بالحكم والعلم.
3 - العلم منَّ به الله ـ تعالى ـ: حيث قال ـ سبحانه ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] .
4 - الأنبياء سافروا إلى تلقي العلم: قال ـ تعالى ـ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] ، فلم يجئ ممتحناً، ولا متعنتاً، وإنما جاء متعلماً مستزيداً علماً إلى علمه؛ وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم؛ فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقي النَّصَب من سفره في العلم ثلاث مسائل: من رجل عالم، لما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه، وطلب منه متابعته وتعليمه، وفي قصتهما عير وآيات وحكم.
5 - قرن شهادة العلماء بشهادته ـ سبحانه ـ وشهادة الملائكة: قال الله ـ تعالى ـ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] .
6 - العلم رفعَ الكلبَ؛ فبالآحرى الإنسان: فصيد الكلب المعلَّم حلال، وطيب، وصيد الكلب غير المعلَّم حرام لا يجوز أكله؛ وعليه فالعلم هو الذي أهَّل وجعل صيد الكلب المعلَّم حلالاً، والعكس صحيح.
6 - آثار العلم في الدنيا:
1 - العلم يُكسِب الإيمان: قال ـ تعالى ـ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، الراسخون في العلم الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له ... أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}
[آل عمران: 7] .
2 - العلم يكسب الخشية: قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، فالعلماء الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب هم من يعرف الله معرفة حقيقية؛ يعرفون آثار صنعته، ومن ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً، ويعبدونه حقاً، لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون، ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر.
3 - عقل الأمور: قال ـ تعالى ـ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .
4 - شهود الحق: قال ـ تعالى ـ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] وقال ـ عز وجل ـ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] .
5 - القوة بصفة عامة: إذ العلم هو المرشِّح للسيادة. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، إلى أن قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}
[البقرة: 247] .
6 - العلم مؤهل للاتباع.
قال ـ تعالى ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، فالعلم قائد العمل ومؤتم به. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] .
7 - آثار العلم في الآخرة:
قال يحيى بن معاذ في حق العلماء: «العلماء أرحم بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة» .
وقال الحسن: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم، أي أنهم بالعلم يخرجون الناس من حد البهيمة إلى حد الإنسانية.
والعلم طريق الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة» (?) وغيره كثير.