مجله البيان (صفحة 4943)

حوار

الدكتور مثنى الضاري في حوار مع البيان..

إخوانكم لا يألمون من سهام العدو

ولكن يألمون من جهل بعض إخوانهم

* ضيفنا هو:

الدكتور مثنى حارث الضاري: دكتوراه في أصول فقه (السياسة الشرعية)

مدرس في كلية العلوم الإسلامية - جامعة بغداد، ومسؤول الإعلام في هيئة علماء

المسلمين في العراق.

من الفلوجة مدينة المساجد التي استهدفتها قوات الاحتلال لتدمر معالمها

وسكانها.

نبدأ الحوار مع فضيلته عن الواقع شؤونه وشجونه.

حبس العالم أنفاسه لعدة أسابيع مع ما سيسجل في التاريخ على أنه (ملحمة

الفلوجة) تلك التي أحيت الأمل في الأمة كلها، بأن في استطاعتها أن تجابه

الطغيان مهما تجبر، وتنتزع النصر من العدو مهما تكبر، وحول الفلوجة وتركته

أحداثها من بصمات على ساحة الأحداث، كان لنا هذا الحوار.

لماذا الفلوجة؟

البيان: هل اختارت قوات الاحتلال الأمريكية مدينة الفلوجة؛ لأنها مدينة

المساجد وأكثر مناطق العراق تديناً، ولذا كانت المقاومة الإسلامية فيها أشد من

كل مناطق العراق؟

- المقاومة في العراق شديدة في كل مدنها، ولكن بعض المدن تميزت بأنها

كانت منطلقاً مهماً لعمليات المقاومة لقوات الاحتلال، ومنها مدن الفلوجة

والضلوعية وبعقوبة وغيرها، وقد تم استهداف الفلوجة لأسباب عديدة منها:

1 - البعد الإسلامي الواضح للمدينة.

2 - كونها شهدت أبرز العمليات العسكرية المقاومة لقوات الاحتلال.

3 - قربها من بغداد، وسهولة محاصرتها من أغلب جهاتها.

4 - معاقبتها بسبب إذلالها المستمر لقوات الاحتلال؛ وخاصة بعد استهداف

قائد المنطقة الوسطى لقوات الاحتلال (جون أبي زيد) .

البيان: هل هناك رابط بين ما يحدث اليوم للفلوجة وبين ما حصل بالأمس

لحلبجة؟ لكونهما تشتركان بميزتهما بكثرة المساجد؟

- نعم! هناك رابط كبير؛ إذ إن الصفة الإسلامية هي الرابط بين المدينتين،

وكثرة المساجد فيهما هي من العلامات الفارقة لهما، فحلبجة هي المدينة الأولى من

حيث عدد المساجد في العراق، والفلوجة هي الثانية، وكلاهما تعرض للطغيان

والإفراط في استخدام القوة ومحاولة استئصال البعد الإسلامي وتصفية الوجود

الحركي له.

كما يجمع بينهما العدو المشترك؛ فالأمريكان هم الذين زودوا النظام السابق

بالسلاح الكيمياوي الذي استخدمه في حلبجة، وهم الذين يقومون بحصار الفلوجة

ومحاولة قتلها الآن.

البيان: ما هو دور هيئة علماء المسلمين في العراق في الهدنة التي حصلت

في الفلوجة؟ وهل هناك مكاسب من هذه الهدنة؟

- الهيئة شاركت مضطرة في المفاوضات التي أدت إلى عقد الهدنة بين أهالي

مدينة الفلوجة وقوات الاحتلال؛ فقد فاتح الحزب الإسلامي العراقي الهيئة حول

الاشتراك في المفاوضات في وقت حرج كانت فيه الطائرات والدبابات تقصف

المدينة وتقتل العشرات من أهاليها الأبرياء؛ وعليه فإن الرفض كان يعني عدم

المشاركة في إنقاذ المدنيين وتفويت الفرصة لوقف إراقة الدماء، وكان القبول في

الوقت نفسه يعني إعطاء الفرصة لقوات الاحتلال لأخذ النَّفَس. كان خياراً صعباً

والوقت يمر بسرعة، ولجأ الحزب الإسلامي إلينا لندعم مبادرته التي لن تجد صدى

كبيراً ما لم تشترك الهيئة معه؛ لذلك قبلنا هذا الخيار على الرغم من كل سلبياته،

وتحملنا تبعات بعض آثاره الجانبية.

ونعتقد أن الكاسب الأكبر من هذه الهدنة هي قوات الاحتلال التي استغلتها

لإنقاذ نفسها وإعادة ترتيب أمورها، ولكن في الوقت نفسه كسب أهالي المدينة

وضع المفاوض الذي يدخل في هدنة مع عدوه، وقد أبطلت الهدنة فرية أن المقاتلين

في المدينة هم قلة من (الإرهابيين) ؛ إذ كيف يمكن لقوات الاحتلال المتفردة

بأمرها في العالم أن تتفاوض مع هذه (الثلة) ؟!

كما أوقفت الهدنة القتل الجماعي لأهالي المدينة الذين يكفيهم شرفاً أنهم حققوا

نصراً كبيراً وفق كل مقاييس (حرب الأنصار) ؛ فقد استطاعوا أن يكيلوا لقوات

الاحتلال ضربتين موفقتين عسكرية، وسياسية. وأنوه هنا إلى أن الهيئة قد نبهت

أهالي الفلوجة في مناسبات عديدة إلى أن المفاوضات مع قوات الاحتلال قد تصل

إلى طريق مسدود، وأن هذه القوات قد تكسب من خلال الهدنة مكاسب أكبر من

مكاسب أهل المدينة، ويبدو أن ظننا كان في محله؛ فالملاحظ أن قوات الاحتلال

ماطلت لتضييق الخناق على المدينة المحاصرة، وخرقت بين حين وآخر الهدنة،

ولم تفِ ببعض وعودها التي التزمت بها في جلسات التفاوض.

البيان: هل الهيئة على علم واطلاع بكل ما يجري داخل مدينة الفلوجة؟

- نعم! الهيئة تتابع ما يجري داخل الفلوجة متابعة يومية عن طريق موفديها

إلى المدينة والهاتف وأخبار قوافل الإغاثة التي تسيرها الهيئة أو تسيرها جهات

أخرى بالتعاون مع الهيئة.

كما أن فرع الهيئة في الفلوجة برئاسة الشيخ الدكتور مكي الكبيسي يقوم بدور

كبير في إدارة شؤون المدينة وتسيير الأمور فيها وإطلاعنا على أحوالها، وقد

تعززت الصلة بالمدينة من خلال أعضاء الهيئة المشاركين في وفد التفاوض، كما

أننا نستقبل في مقر الهيئة الكثير من أهالي الفلوجة الذين يأتون لعرض قضايا

مدينتهم ويتباحثون مع أعضاء الهيئة حول سبيل إنهاء الأزمة بالشكل المرضي لهم.

وأؤكد هنا على أن الهيئة لا تتقدم خطوة أو تتأخر حول الفلوجة إلا بعد أن

تتصل بالمعنيين فيها والاستفهام منهم حول كيفية معالجة التطورات الحادثة في

المدينة أو حولها من منطلق أن أهل المدينة هم الأدرى بأوضاعها وأعرف بخفايا

الأمور فيها.

البيان: ما مدى تجاوب المقاومة العراقية مع قرارات الهيئة وتوجهاتها؟

- أثبتت الأحداث الأخيرة أن الهيئة بفضل الله تحظى بـ (مصداقية) وقبول

لا بأس بهما في أوساط الشعب العراقي، وبما أن المقاومة في العراق إسلامية في

الغالب كما أثبتت الأحداث على أرض الواقع؛ فإنه من الطبيعي أن تلقى توجهات

الهيئة استحساناً عندهم باعتبارهم من هذا الشعب الذي يبدو أنه يتوق بشدة إلى

الخطاب الإسلامي الذي يغلِّب مصالح الوطن على المصالح الشخصية، ويعلي من

نوازع الوحدة وجمع الكلمة، ويخفض نوازع الفرقة وتشتيت الصفوف.

البيان: ما هي طبيعة المقاومة في العراق؟

- سبق أن بينَّا في موضع متقدم من هذا الحوار أن الصبغة الإسلامية هي

الصبغة التي تلون أغلب جماعات المقاومة العراقية، ولا أنطلق في تقييمي هذا من

فراغ، وإنما هو نتيجة بحث وتتبع ودراسة علمية قمت بها قبل حين، وتوصلت

فيها إلى هذه النتيجة، وقد دلت التطورات الأخيرة في الفلوجة وغيرها على صحة

النتائج التي توصلت إليها.

ومن مؤشرات هذه الطبيعة الإسلامية للمقاومة العراقية البعد الديني الظاهر في

خطابها ومسمياتها التي تستلهم رموزاً وقيماً إسلامية، وانطلاقها من المساجد،

والتفافها حول مبدأ الجهاد لطرد المحتل غير المسلم، واستمرارها وتجددها الدال

على صفائها وبعدها من المطامع الدنيوية.

البيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي

ظاهرين على الحق - وفي رواية يقاتلون على الحق - لا يضرهم من خذلهم حتى

يأتي أمر الله وهم كذلك» رواه مسلم. والطائفة التي أخبر عنها رسول الله صلى

الله عليه وسلم موجودة في الشيشان وأفغانستان وفلسطين.. وهي الآن في

العراق تقاتل على الحق؛ فمَنْ برأيك المقصود بمن خذلهم في العراق؟

- الذين يخذلون المقاومة في العراق هم الذين لا يفهمونها (أولاً) فيقعون في

خطأ سوء الظن بها (ثانياً) فيؤدي بهم ذلك إلى التقاعس عن نصرتها (ثالثاً)

فيقعون في شرك التخوف منها (رابعاً) فينتهون إلى التهوين منها (خامساً)

فيسلمهم ذلك إلى التشكيك فيها (سادساً) وينتهي بهم الأمر (سابعاً وأخيراً) إلى

تفهم أفكار العدو وعدم تفهم أفكار إخوانهم في الدين.

أما من يناصب المقاومة العداء فيصفها بالإرهاب؛ فأولئك لا يخذلون المقاومة

وإنما يحاربونها.

البيان: الحركات السياسية والأحزاب كلها تنادي بعراق حر (ديمقراطي)

بغض النظر عن الموقف من هذا المفهوم بما فيها الحزب الإسلامي العراقي.. أين

هيئة العلماء من هذا؟

- هيئة العلماء تجمُّع شرعي يأخذ بطرفي الأمر: الدين والدنيا. ولا يغلِّب

أحدهما على الآخر، ولا يهمل أحدهما مكتفياً بالآخر، وهي تنادي بمثل ما ينادي به

غيرها بغض النظر عن توجهاتهم ما دام المطالَب به مشروعاً؛ فالعراق الحر

الموحد مطلب مشروع وهو من أولويات عمل الهيئة، وهي تطرح نفسها كهيئة

لجميع العراقيين لا لفئة خاصة.

وهي تسعى إلى أن تصبغ الحياة في العراق بصبغة إسلامية، ولكنها تعي أن

الظروف غير مهيأة الآن لإنجاح هذا المسعى، وأن طريق تحقيق ذلك طريق طويل

وليس بالهين، ولكن لن يحدَّ هذا من أملها، ولن يضعف من مساعيها.

أما بخصوص (الديمقراطية) فإن المفهوم الرائج عنها الآن في العراق والذي

يروج له الكثيرون يتصادم كلياً مع ما نؤمن به، ومن ثم فالهيئة لا تتفق فيه مع

غيرها، وتدعو بدلاً عن ذلك إلى إشاعة مفاهيم الشورى وحرية الرأي والتعبير مما

لا يتعارض مع ثوابت الإسلام الذي يدين به 96% من سكان العراق، وتتوافق مع

التوجه الإسلامي الملاحظ للعراقيين الآن.

البيان: لم نسمع أن الهيئة قدمت مشروع دستور، وإن كنا نعلم مسبقاً أنه

سيُرفض، لكن نسأل عنه كتسجيل موقف لهيئة علماء المسلمين؟

- ما الفائدة إذن من تقديم دستور إذا كان سيُرفض؟ ثم إلى من يقدم المشروع؟

نحن لا نعترف بشرعية القائمين بأمر العراق اليوم؛ فهم مؤسسة من المؤسسات

التي أقامتها قوات الاحتلال، وهي لذلك تفقد أي صفة للقبول؛ فضلاً عن إقرار أي

مشاريع سياسية ودستورية في العراق.

ومع ذلك لم تغفل الهيئة هذا الأمر وعملت منذ مدة على تشكيل لجنة فرعية

منبثقة عن لجانها السياسية والعلمية لبحث هذا الموضوع وإعداد دراسات متكاملة

حول الموضوعات المثارة على الساحة العراقية، ومنها قضية الدستور، وبين يدي

العاملين في هذه اللجنة عدة مشاريع لدساتير إسلامية معدة منذ زمن وحتى قبل

احتلال العراق، مقدمة من بعض أعضاء الهيئة وغيرهم، كما قدمت الهيئة أفكاراً

عديدة حول هذه الموضوعات خلال لقاءاتها مع بعض الجهات داخل العراق

وخارجه تشكل بمجملها رأي الهيئة في الأمور التي تدور حولها.

وتحت الطبع الآن مشروع الهيئة الفكري المسمى (نظام الرأي والفتوى

والسياسة الشرعية لهيئة علماء المسلمين في العراق) يبحث هذا النظام كثيراً من

المسائل المتعلقة بجوانب النظر السياسي والقانوني المثارة الآن.

ولا زالت الهيئة تتلقى بين حين وآخر كثيراً من الأوراق والدراسات

والمشاريع حول قضايا الدستور والحكم وما إلى ذلك، وتقوم بدراستها وإعطاء

الرأي فيها.

البيان: من خلال مجلة البيان، ما هي الرسالة التي يوجهها المسلمون في

العراق لمسلمي العالم؟

- نقول لهم جميعاً: اطمئنوا إلى جذوة الإيمان في نفوسنا؛ فإنها لن تخبو أبداً

بإذن الله، ولكن نريد منكم أن تحسنوا ظنكم بالعاملين للإسلام في العراق، وأن

تتفهموا جيداً طبيعة الظروف التي مر بها العراق ويمر بها الآن، وأن تعلموا أن

إخوانكم لا يألمون من سهام العدو وإنما يألمون من جهل بعض إخوانهم أو تجاهلهم

وتغافلهم.

ويقولون لكم: إن الغفلة هي سلاح الشيطان الذي نفذ من خلاله عدوهم

وعدوكم، وسينفذ من خلاله مرات ومرات ما لم تنتبهوا، حسبنا أنَّا بلغناكم ونبهناكم،

ونترك الأمر لكم، والله يحفظنا ويحفظكم جميعاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015