مجله البيان (صفحة 4927)

دراسات في الشريعة

كيف يكون قلبك إذا اجتمع الناس حولك..؟!

د. علي بن عبد الله الصياح [*]

aliasayah@maktoob.com

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوسف الأَصْبَهَانِيّ [1] لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ [2] :

«حَدِّثِ النَّاسَ وَعَلِّمهُم، وَلكن انظرْ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَيْفَ يَكُونُ قَلْبكَ؟»

[3] .

وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: كنتُ أجلسُ يومَ الجُمُعة في مَسْجِدِ الْجَامِعِ،

فيجلس إليَّ النَّاس؛ فإذا كَانوا كثيراً فَرحتُ، وإذا قَلُّوا حَزنتُ، فسألتُ بشرَ بنَ

منصور [4] ، فَقَالَ: هَذا مجلسُ سوء لا تعدْ إليه، قَالَ: فَمَا عُدتُ إليهِ.

وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يوماً وقام من المجلس وتبعه الناس فَقَالَ: يَا قومِ! لا

تطؤوا عَقبي، ولا تمشوا خَلْفي، وَوَقَفَ فَقَالَ: حَدّثَنا أبو الأشهب عَن الحَسَنِ قَالَ:

قَالَ عُمَرُ بنُ الخطّاب: إنَّ خَفْقَ النّعالِ خَلْفَ الأحمق قلَّ مَا يبقي مِنْ دِينهِ [5] .

وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: «أَخِّرُوا عَلَيَّ خَفْقَ نِعَالِكُمْ؛

فإنها مُفْسدةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى [6] الرِّجَال» [7] .

إنَّ المُسْلمَ وَخَاصةً العالِم المُرَبّي، والدّاعية لأنَّهُما عُرْضةٌ لخَفْق النّعالِ خَلْفَهُما

أكثر مِنْ غَيرهِما بحاجةٍ مُلحة لتفقد قلبه وما يَرِدُ عَليهِ مِنْ خَطَرات وأفكار وهواجس؛

فالقلبُ إنَّما سُمي قلباً لكثرة تقلبهِ.

والمُسْلمُ الفطن لدينه يستشعرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ

وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال: 24) إنَّ هذه الآية تستوجب اليقظة الدائمة،

والحذر الدائم، والاحتياط الدائم؛ اليقظة لخلجات القلب، والحذر من كل هاجسة

فيه وكل ميل مخافةَ أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف

والهواجس. كما تستوجب التعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أنْ يقلّب هذا القلب في

سهوة من سهواته.

إنَّ هذه الآية تهز القلب حقاً، ويجد لها المؤمن رجفة في نفسه حين يخلو إليها

لحظات ناظراً إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة الواحد القهار، وهو لا

يملك من تصريف قلبه شيئاً، وإن كان يحمله بين جنبيه.

وقد كَانَ أكثر حَلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: لا، ومقلب القلوب. قَالَ

البخاريُّ في صَحيحهِ [8] : بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ

وَأَبْصَارَهُمْ] (الأنعام: 110) ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ

مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمر قَالَ: «أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله

عليه وسلم يَحْلِفُ: لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» .

وعَنْ أَنَس بنِ مَالك قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:

يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! آمَنَّا بِكَ وَبِمَا

جِئْتَ بِهِ؛ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ! إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ

اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا» [9] . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك وهو

سيّد الخلق؛ فكيف بالناس وهم غير مرسلين ولا معصومين؟!

ولذا كان مِنْ دعاء الراسخين في العلم: [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] (آل عمران: 8) .

وقد تفاوت الفضلاء في العناية بهذا الجانب أعني ملاحظة القلب وما يَرِدُ عليه:

1- فصنفٌ لا يلتفت لهذا أصلاً، وكأنه في مأمنٍ من هذه الخطرات

والواردات، بل ربما عدَّ الخوف من هذا والعناية به ضرباً من الوسوسة والتنطع.

وهذا التصور فيهِ غفلةٌ عن نصوص الكتاب والسنة التي تبين أهمية القلب،

وأنَّ عليه مدارَ القولِ والعملِ. وفي الحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى

قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» [10] .

وأدلُّ شيءٍ عَلَى أهميةِ العنايةِ بالقلب وأحوالهِ قولُه صلى الله عليه وسلم:

«أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ

كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ» [11] .

وفي الأثرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «الْقَلْبُ مَلِكٌ، وَلَهُ جُنودٌ؛ فَإذا صَلَحَ المَلِكُ

صَلَحَتْ جُنُودُهُ، وإذا فَسَدَ المَلِكُ فَسَدَتْ جُنُودُهُ» [12] .

كمَا أنَّهُ فيهِ غفلةٌ عن سير الصحابة والتابعين والعلماء المحققين الذين كانت

لهم عناية عظيمة بجانب الإخلاص والصدق والخوف من الرياء والنفاق.

قال البُخاريُّ في صَحيحهِ [13] : بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا

يَشْعُرُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ

مُكَذِّبًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.

وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ

الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى

مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران: 135) .

قال ابنُ رَجَب: «كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على

أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر،

ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر. كما تقدم أنَّ

دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة» [14] .

وتجد عند بعض هذا الصنف من الجرأة في إظهار النفس، وحب الشهرة ما

يعجب منه الناظر، وقد قالَ إبراهيمُ بنُ أدهم: «مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أحبَّ الشهرة»

[15] :

- فمنهم من يسجل تلاوته ليُعرف [16] .

- ومنهم من يكتب ويؤلف ليشتهر.

- وربما يحزن هذا الصنف إذا رأى فلاناً يحضر عنده المئات والألوف من

النّاس، وهو لا يحضر عنده إلاّ عددٌ قليل، وربما وَقَعَ في الحسد المحرم، ورُبّما

استعدى عليه الولاة كما وقع ذلك من خصوم شيخ الإسلام ابنِ تيمية. قال الشيخُ

بكر أبو زيد مبيناً ذلك: «ولمَّا بلغ - رحمه الله - الثانية والثلاثين من عمره وبعد

عودته من حجته، بدأ تعرضه - رحمه الله - لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال،

والترسيم عليه الإقامة الجبرية خلال أربعة وثلاثين عاماً، ابتداء من عام 693هـ

إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين 20/11/728هـ، وكان سجنه

سبع مرات: أربع مرات بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها

نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما

هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب عسى أنْ يفتر عنهم، وأنْ يُقصر لسانه

وقلمه عمَّا هم عليه، لكنه لا يرجع» [17] .

- وهذا المُعجب لا يقنع بأن يكونَ عضواً في لجنة، بل لا بدَّ أن يكون رئيساً

يُرجع إليه في هذه اللجنة. فليتنبه الدعاة الفضلاء الذين يتنافسون على رئاسة

المراكز الإسلامية لهذا المدخل على قلوبهم، والذي ربما كان على حساب دينهم

وقلوبهم، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيم الكَرْجيّ [18] ، يَقولُ لسبط أخيهِ والنّاس ينتابون

بابه على طبقاتهم لسؤدده: يا أسفي على ابن أبي القاسم! سَالَ بهِ السيلُ أينَ هُوَ

والحالة هذه مِنْ دِينهِ؟ وكان يقولُ إذا خلا بهِ: يا بنيَّ! عليك بدينك؛ فإن خَفْقَ

النّعالِ خَلْفَ الإنسان وعلى بَابِ دَارهِ مَعَاول تهدم دينه وعقله [19] .

- ورأيه هو الصواب المعتمد، ورأي غيره خطأ دائماً.

- وأيّ كتابٍ أوْ مَقال يُعْرضُ عليه: ضعيف.

- وأي محاضرة: هزيلة.

- وأيّ عالمٍ أو طالبِ علمٍ أو داعيةٍ: منهجه كيتَ وكيت..، عنده قصور في

كذا وكذا.. مِنْ غيرِ عَدلٍ ولا نَصَفة.

فهو لا يبقي ولا يذر.

عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعنده رَجلٌ،

تخوَّفتُ إنْ قمتُ مِنْ عنده أنْ يَقَعَ فيَّ، قَالَ: فَجَلَستُ حَتى قَامَ؛ فَلمَّا قَامَ ذَكرتُهُ

لإيَاس قَالَ: فَجَعَلَ يَنْظر في وَجهي، وَلا يقولُ لي شيئاً حَتى فَرغتُ، فَقَالَ لي:

أغزوتَ الدَّيْلمَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ السِّند؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الهند؟

قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الرُّوم؟ قُلتُ: لا، قَالَ: يَسْلمُ مِنْكَ الدَّيلم والسِّند والهند

والرُّوم، وَلَيسَ يَسْلمُ مِنْكَ أَخُوكَ هذَا؟!! قَالَ: فلمْ يَعُدْ سُفْيَانُ إلى ذاكَ» [20] .

2 - وصنفٌ بالغَ في الحذر والتحري حتى وصل به الأمر إلى ترك بعض

العبادات والعمل، وربما حصل لهذا الصنف نوعٌ من الوسوسة، وقد قال بعضُ

العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهل بالشرع أو خبل في العقل، وكلاهما

من أعظم النقائص والعيوب.

قال ابنُ رَجَب: «والقدرُ الواجبُ مِن الخَوفِ مَا حَمَلَ عَلَى أداءِ الفَرائضِ

وَاجتنابِ المَحَارمِ؛ فَإنْ زَادَ عَلَى ذَلكَ بحيث صَارَ بَاعِثاً للنّفوسِ عَلَى التشميرِ في

نوافل الطاعاتِ وَالانكفافِ عَنْ دقائق المكروهاتِ وَالتبسطِ في فُضولِ المُبَاحاتِ كَانَ

ذَلكَ فَضْلاً مَحْموداً، فَإنْ تَزايدَ عَلَى ذَلكَ بأنْ أورثَ مَرَضاً أوْ مَوتاً أوْ هَمّاً لازماً

بحيث يَقْطعُ عَنْ السّعي في اكتسابِ الفضائلِ المطلوبةِ المحبوبةِ لله عز وجل لم يكنْ

مَحْموداً ... ، والمقصودُ الأصلي هُوَ طاعةُ الله عز وجل وَفعل مراضيه ومحبوباته،

وترك مناهيه ومكروهاته، وَلا نُنكر أنَّ خشيةَ اللهِ وَهيبته وعظمته في الصدور

وإجلاله مقصودٌ أيضاً، ولكن القدر النافع من ذلكَ مَا كَانَ عوناً عَلى التقرب إلى الله

بفعل ما يحبه، وترك ما يكرههُ، وَمَتى صَارَ الخوفُ مانعاً مِنْ ذلكَ وقاطعاً عنه فَقد

انعكس المقصود منه، وَلكنْ إذَا حَصَلَ ذَلكَ عَنْ غَلَبة كَانَ صاحبه مَعْذوراً» [21] .

3 - وصنفٌ توسط واعتدل فلم يُغِفل هذا الجانب، وكذلك لم يبالغ في الحذر،

بل يعملْ ويدعُ، ويتحرز من تقلُّب القلب؛ فهو دائماً يدعو: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ

قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. وَمِنْ عَلاَمةِ هذا الصنف أنَّه لا يبالي إذا ظَهَرَ الحق والخير على

لسان مَنْ كان. قال الإمام الشافعي: «ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفَّقَ ويُسدَّد

ويُعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بَيّنَ الله الحق على لساني أو لسانه» [22] ،

وقال أيضاً: «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ» .

فأسأل الله تعالى مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ أنْ يثبتَ قَلْبِي وَقَلْبَكَ عَلَى دينهِ، وأنْ لا يزيغه

عَنْ سبيل الهدى والإيمان بعد أنْ هداه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015