مجله البيان (صفحة 4919)

قضايا ثقافية

مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة

(2 ـ 2)

د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي

في الحلقة السابقة ألمح الكاتب إلى ارتباط مفهوم انهيار الإمبراطورية الغربية

في اللاشعور الغربي بتحول شعوبها من الوثنية إلى النصرانية دون التنصل من

آثار تلك الوثنية التي امتزجت بالدين الجديد في النظرة إلى الإسلام والمسلمين. كما

أشار إلى أن النزعة الإنسانية لدى قطاع كبير من المجتمعات الغربية مدينة كلياً

للحضارة الإسلامية، وقد طاف بالقارئ في شتى تطورات الفكر الغربي ليبين مأساة

أمة لم تُسلم وجهها إلى الله، ولم تعرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. وفي

هذا العدد يتابع الحديث عن «البنيوية» وتطور الفكر الغربي والحداثة.

- البيان -

ونظراً لما حظيت به النظرية ولا تزال في عالمنا العربي، ولكونها تمثل

المَعْلَم الفاصل بين مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة فسوف ينحصر جل اهتمامنا هنا

بها مع شيء من التفصيل عن مدارسها وحلقاتها وتطبيقاتها في فروع المعرفة:

1- مدرسة جنيف:

في القرن التاسع عشر نادى الباحث الاجتماعي اليهودي «دوركايم»

بالنظرية المسماة «العقل الجمعي» ودعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية

باعتبارها «أشياء مستقلة» وتبعاً لذلك ظهر الباحث اللغوي السويسري «فرديناد

دي سوسيور» بنظريته في «ظاهرة اللغة» حيث جرد اللغة من دلالاتها الإشارية

المألوفة، وعدها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية، ومن هنا ظهرت فكرة

«البنية» ومن أبرز ما قرره سوسيور بقوة مبدأ «اعتباطية الرمز اللغوي» [1] ،

وهو ما يعني أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من

العلاقات التعسفية، أي العلاقات التي لا ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً

بمدلولات العالم الطبيعي [2] ، وأن «كل نظام لغوي يعتمد على مبدأ لا معقول من

اعتباطية الرمز وتعسفه» أي تماماً كما يعتبط العقل الجمعي عند «دوركايم»

ويتعسف فيفرض على الناس ما هو خارج عن ذواتهم. ومن هنا انبعثت فكرة

«السيمولوجيا» أي علم الدلالة أو العلامة والإيحاء، وتطورت فيما بعد.

2 - المدرسة الشكلية الروسية:

ويرجع أصلها إلى «حلقة موسكو اللغوية» وهي نوع من الإلحاد غير

الماركسي في روسيا، وقد أدمجها ستالين قسراً ضمن الواقعية الاشتراكية؛ لكن

نفراً من روادها هاجروا إلى الغرب، وهناك طوروا الفكرة، ومنهم معلمها الشهير

«جاكوبسون» ، ومن أهم آرائها «تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية

والدينية» [3] ، والانطلاق من «دراسة العمل الأدبي في ذاته؛ فهي تؤكد» أن

العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده

الخاص المستقل « [4] .

وتؤكد أن» العمل الفني لا يتطابق بشكل كامل مع الهيكل العقلي للمؤلف ولا

المتلقي «أو كما يقول:» موخاروفسكي «فإن» الأنا للشاعر لا ينطبق على أية

شخصية فعلية ملموسة ولا حتى شخصية المؤلف نفسه؛ إنه محور تركيب القصيدة

الموضوع « [5] .

هذا هو الأساس الذي بالاعتماد عليه يحمِّل البنيويون النصوص فلسفات

وأفكاراً ورؤى لم تخطر لقائلها ببال، بل لم تظهر في عصره إن كان قديماً وعليه

نادى» رولات بارت «أكبر ناقد في أوروبا كما وصفه الدكتور الغذامي بنظرية

» موت المؤلف «!!

وهكذا ابتدأت الشكلية الروسية من دعوتها إلى استقلال الكلمة الشعرية كشيء

قائمٍ بذاته، وانتهت إلى استقلال العمل الأدبي عن نفسية مؤلفه من ناحية، وعن

الموضوع الاجتماعي الذي يشير إليه بأدواته وإجراءاته الخاصة من ناحية أخرى»

[6] .

وأكدت هذه المدرسة ضمن استقلالية العمل الأدبي أن لهذا العمل زمنه

الخاص، وعارضت «الأفكار الأكاديمية التقليدية» عن تطور الأدب ومساره

التقدمي المطرد، وأنكرت فكرة التوالي الطبيعي للمذاهب الأدبية أو توالدها فيما

بينها، وحرصت على إبراز حقيقة عدم الاستقرار في الأشكال الأدبية « [7] .

وغايرت المدرسة الشكلية الاتجاهات النقدية الأخرى التي تهتم بالمضمون؛

حيث صرفت الاهتمام الأكبر إلى الشكل جاعلة إياه وسيلة للوعي وتجديد الرؤية؛

فوظيفة الفن عندها ليس إعطاء رؤية ولا تصوير الواقع أو التعبير عن العالم

الطبيعي الموضوعي وإنما هي» استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً

باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا

الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة على حد تعبير «جورج لوكاش» [8] . وهكذا

نصل إلى الفكرة نفسها «موت المؤلف» كما نادى بها «رولات بارت» [9] .

3 - حلقات «براغ، كوبنهاجن، نيويورك» اللغوية:

ويهمنا منها أمور نوجزها ما أمكن:

أ - أن أصلها جميعاً هو الشكلية الروسية نفسها، وخصوصاً «جاكوبسون»

المحرك الأساسي لحركة براغ؛ حيث كان يعمل ملحقاً ثقافياً لروسيا بها [10] ، ثم

أسست على منوالها مدرسة «كوبنهاجن» [11] .

ثم حلقة «نيويورك» التي أسست بعد هجرة «جاكوبسون» إليها حيث

التقى بـ «كلود ليفي شتراوس» [12] وهناك نبت من علاقتهما الفكرية الكثير من

عناصر البنيوية الحديثة وأركانها، ثم ما لبث شتراوس أن أصبح زعيم البنيوية

الفرنسية كما سيأتي.

ونبغ من هذه الحلقة «نعوم جومسكي» أبرز ممثلي البنيوية الأمريكية!!

وهنا لا بد أن يستوقفنا دور «جاكوبسون» الكبير في تأسيس وتطوير

البنيوية حتى إن بعض الباحثين يلخص «تاريخ نشأة البنائية وتشكلاتها المختلفة

في شخصيته ومغامراته العلمية ابتداءً من مطلع شبابه في موسكو حتى تخرج على

يديه أجيال من الباحثين في أوروبا وأمريكا، وأصبح الحجة الأولى والمرجع

الأخير في علم اللغة الحديث» [13] .

فهل الأمر مصادفة؟ أم عبقرية فردية؟ أم أن هذه الحركة والشهرة الواسعة

وراءها ما وراءها؟!

لعل الإجابة تأتينا من معرفة أن كلاً من زعيمي المدرستين الأمريكية

والفرنسية «جومسكي وشتراوس» يهودي، بل إن جومسكي تربى في الأرض

المحتلة [14] .

ومع أنني لم أجد من خلال بحثي المحدود ما يدل على دين «جاكوبسون»

لكن ما علمناه عن دوره وما نعلمه عن دور المؤسسات المريبة في احتضان الأفكار

الشاذة وتوجيهها وما هو واضح من صلته بالماركسية [15] التي هي فكرة يهودية

يجعلنا على الأقل نستريب في انتمائه، ونتساءل: أليس من السذاجة أن نغض

الطرف عن كون رجال هذا المذهب يهوداً ورموزه توراتية ونحمِّل المصادفة وحدها

عبء ذلك؟!

ونزيد: أليست النفسية اليهودية منذ حلول غضب الله عليها مسؤولة عن كثير

من المفاسد والشرور في الفكر والواقع من غير اشتراط دافع للإفساد عمداً

بالضرورة؛ فليس من شرط الأفاعي (هكذا كما سماهم المسيح - عليه السلام -)

لكي تكون شريرة أن تضع بروتوكولات للإيقاع بالحمام!!

ب - المدرسة الأمريكية «نيويورك» : «هي التي لقيت أكبر قدر من

الذيوع في العالم العربي» كما يقول الدكتور صلاح فضل [16] .

ولعل الأصح أن يقال في المشرق العربي وهي التي تربى في أحضانها

الكاتب النصراني «كمال أبو ديب» [17] الذي سار على خطاه الدكتور عبد الله

الغذامي وتلميذه السريحي عندنا [18] .

ج - الاتجاهات التطويرية للبنيوية [19] : انبثق من البنيوية اتجاهات قامت

بتطوير الفلسفات المعروفة وفق منهج بنيوي، أي بصياغة جديدة للفلسفات

والنظريات المشهورة، ومن رواد تلك الاتجاهات (إضافة إلى شتراوس وتطويره

للدراسات الانتربولوجية) :

1- «لوى التوسير» أعاد صياغة الماركسية بحيث تُقرأ من منظور بنيوي

لا منظور هيجلي!! وقريب منه «هنري لوفيفر» الزعيم الماركسي الحركي.

2 - «جاك لاكان» أعاد صياغة الفرويدية، بل إن كتاباته تعد في مجملها

صدى لتلك النظرية، خاصة رسالته «وراء مبدأ الواقع» التي كان عنوانها

محاكاة لعنوان كتاب فرويد «وراء مبدأ اللذة» .

3 - «ميشيل فوكو» الذي صاغ نظرية جديدة في اللغة وأصلها وتراكيبها

ووظيفتها، من خلال مصدره الخاص لاستكناه الحقيقة الإنسانية وهو «الجنون»

معلناً أن المجنون يمكن أن يؤدي دور النبي عند المؤمنين بالأديان!! [20] .

4 - «رولان بارت» صاغ نظرية بنيوية لتغير الأزياء (الموضة) هي

في جزء منها تطوير لآراء «دوركايم» كما أحدث أثراً بالغاً في النقد الأدبي

خاصة بعد أن أصبح عضواً في مجلة «Tصلى الله عليه وسلمLQUصلى الله عليه وسلم» صوت الاتجاه الذي يسمى

ما بعد البنيوية أو (التفكيكيين) الذين ينتمي إليهم الغذامي في كتابه السالف ذكره.

د- المدرسة الفرنسية: وهي المدرسة الرائجة في القارة الأوروبية والمغرب

العربي، وانتشرت في المشرق العربي تبعاً لانتشار الحداثة، ولن نفصل القول فيها

وإنما نوجز أهم اتجاهاتها:

1- البنيوية الانتربولوجية: (أي التي تبحث في الإنسان وتطور حياته

وعاداته الاجتماعية) وزعيمها هو اليهودي «كلود ليفي شتراوس» السالف الذكر،

وقد طور اتجاهات دوركايم وفريزر عن الأساطير والعادات الاجتماعية للبدائيين

وفق منظوره البنيوي، وهو كثيراً ما يعلن عن ولائه الماركسي واعتناقه لمبادئ

المادية الجدلية، كما أنه يميل إلى البرنامج الاشتراكي سياسياً واقتصادياً ويرى أن

مستقبل الغرب والعالم كله مرهون بانتصار الاشتراكية [21] .

2 - الاتجاه الماركسي: ويمثله رواد الروس المهاجرين إلى فرنسا أو

الفرنسيين الماركسيين ومن أشهرهم «لوسيان جولدمان» و «لوكاش» وهما

مهاجران، وتسمى بنيويتهما «البنيوية التكوينية أو التوليدية» في حين تسمى

بنيوية شومسكي «التحويلية» ، وقد استمدا النظرية من «جان بياجيه» مؤسسها

الأصلي، ولكنهما حولاها إلى ماركسية [22] .

* البنيوية فلسفة ومنهج:

زعم الدكتور كمال أبو ديب أن البنيوية «ليست فلسفة، لكنها طريقة في

الرؤية ومنهج في معاينة الوجود» وعلى هذا الأساس اعتمد الحداثيون في الدفاع

عنها كالغذامي والسريحي؛ وتصريحهما في أكثر من مناسبة بانتهاج هذا المنهج

يجعلنا نبين حقيقة هذا الادعاء [23] .

جاء في «مجلة فصول» ذات الاتجاه الحداثي المعروف: «يتفق السيد

زكريا إبراهيم مع السيد ياسين وغيره في النظر إلى البنيوية على أنها تنطوي على

موقف عقائدي، أو تمثل منظوراً خاصاً» [24] .

هذا والدكتور زكريا إبراهيم (نصراني) من أكبر المتخصصين في هذا

المجال، وله كتابه المتعمق «مشكلة البنية» وقد تحدث فيه عن «انزلاق البنيوية

من مجال المنهجية العلمية إلى مجال» الأيديولوجيا «؛ وآية ذلك أن المنظور

الفكري الذي انطوت عليه هذه البنيوية الجديدة قد جاء مؤكداً للدعوى القائلة بأن في

تضاعيف هذا الاتجاه الفلسفي الجديد إنكاراً لقدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص،

ورفضاً لكل نزعة إنسانية، ومن ثم فقد راح البعض يؤكد أن النداء الخاص الذي

اتحدت عنده كلمة البنيوية هو إعلان موت الإنسان» [25] .

هذا مع أننا نسأل أبا ديب هذا: ما هي الفلسفة إن لم تكن طريقة في الرؤية

ومنهجاً في معاينة الوجود؟!

ويقول «جان ماري بنو» في كتابه «الثورة البنيوية» : «إذا كان

الوجوديون قد تخلصوا من» الله «فقد نجح سوسير في التخلص من الإنسان» .

وقال: «كان الإنسان خالق المعنى ومصدره الحي ولكنه اختفى تماماً في ظل

العلم الجديد الذي جعل المعنى حصيلة مجموعة من العلاقات اللغوية البنيوية

والسيميولوجية التي تفرز العلاقات وتحدد المعاني، وفي ظل هذا التصور أصبح

الإنسان إفرازاً لغوياً بدلاً منه صانعاً للغة» .

إنها جبرية من نوع غريب لم تعرف البشرية له نظيراً من قبل!!

وفي مقال فصول: «وربما كان أكبر دليل على أن البنيوية قد اكتسبت طابع

المنظور الفكري أو الموقف العقائدي هو هجوم بعض البنيويين وعلى رأسهم

» ليفي شتراوس «على» سارتر «والوجوديين، ودحض آرائهم في التقدم

والمبادئ التاريخية، ويتجلى هذا الطابع العقائدي أيضاً في محاولة بعضهم وعلى

رأسهم» التوسير «إعطاء تفسير جديد للماركسية بحيث حولها من منهج عمل

ثوري يرتكز على الإنسان إلى نظرية رجعية تؤكد حتمية سيادة نظام لا سلطان

للإنسان عليه ... إلخ» .

كما أن الدكتور صلاح فضل عقد مبحثاً بعنوان «محاولة عقد زواج بين

البنائية والماركسية» [26] .

وهنا نشير إلى ما تنضح به كتابات السريحي والغذامي ومن لف لفهما من

إضفاء القوة المطلقة للغة وسلب لإرادة الإنسان (خاصة الشاعر) حتى من نسبة

وضع لفظة مكان أخرى!! [27] فأي ربوبية قهرية يريد هؤلاء أن يجعلوها للغة؟!

على أن مما يؤكد أن البنيوية فلسفة ذات تطبيقات ثورية واقعية ارتباطها

ببعض الأحداث السياسية مما كان سبباً في ظهور نقيضها «التفكيكية» .

ذلك أن (التفكيكية هي رد فعل لانهيار البنيوية في فرنسا بعد أحداث 1968م.

فهي إفراز طبيعي لحالة الإحباط والكفر بالنظريات الشاملة المتماسكة ومنها

الماركسية التي اجتاحت فرنسا في تلك الآونة.

لقد قامت البنيوية على فكرة سيادة منطق البنية المتماسكة فوق الإنسان

والمتغيرات، وكانت صدمتها شديدة حيث جعلتها أحداث الثورة الطلابية في أوروبا

بصفة عامة في أواخر السبعينيات وفي فرنسا بصفة خاصة في 1968م تدرك

الدلالات الحزينة لنظريتها التي أثبتت الأيام صحتها، أي حين أثبتت البنية

السياسية في فرنسا قوتها أمام أي معارضة، وأصبحت فكرة البنية عدواً لدوداً

للمفكرين، وارتد الكثيرون عن البنيوية كما فعل الناقد رولان بارت في كتاباته

الأخيرة، واتجه الكثيرون إلى الهجوم على جميع الأنظمة والنظريات العقائدية التي

تخنق الفرد) [28] .

وهذا النص الصريح يذكرنا بما حصل من انهيار فكرة القومية العربية بعد

هزيمة 1967م، والسؤال هو: ما الذي ينهار بتأثير الأحداث السياسية: أهي

المناهج المجردة، أم الفلسفات التي قامت عليها تلك السياسات؟

فإن أصر القوم على تسميتها مناهج لا فلسفات فلن نجادل في مجرد الألفاظ،

فالمنهج الذي تقوم عليه أنظمة شمولية تارة وتسقط تارة هو «عقيدة» . والسلام.

ومن هنا كان السؤال الذي جعله الدكتور صلاح فضل عنواناً لمبحث خاص:

«هل البنائية تعبير عن فشل اليسار؟» [29] .

ومع كل ما سبق من نشأة البنيوية وما تطور عنها في سياق تاريخي معرفي

مغاير ومناقض لما تنتمي إليه هذه الأمة فلا بأس أن نتنزل في الجدل ونفرض أن

البنيوية ليست سوى منهج مجرد في الدراسات اللغوية والأدبية ونسأل: أليست

البنيوية منهجاً مطرداً بقوانين وتحليلات شمولية قاطعة لا تستثني قائلاً ولا نصاً ولا

لغةً؟ ثم أليس «الموقف الألسني يجرد كل قاعدة من قدسيتها، بل لا يرى قاعدة

إلا فيما هو متداول وممارس من طرف المجموعات البشرية، وفي بعض الأحيان

يرى تكسير القاعدةِ قاعدةً؟» [30] .

إن كل من يشك في الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب هو في نظر البنيويين

عدو لدود، ورجعي تقليدي؛ ذلك أن قوة النظرية تستمد من شموليتها واطراد

قانونها بخلاف سائر المناهج والاتجاهات المنطقية كما يزعمون؛ وعليه فليس لدى

البنيويين نص مقدس لا يخضع لنظريتهم؛ وتبعاً لذلك جرت دراسة التوراة

والإنجيل بنيوياً مثلها مثل سائر النصوص، ومن هنا ندرك مدى خطورة الدعوة

إلى البنيوية وتطبيقاتها على اللغة العربية التي أسمى ما فيها وذروة نصوصها باتفاق

كل ناطق بها أو دارس لها هو «النص الموحى» أي كلام الله ورسوله صلى الله

عليه وسلم [31] .

كيف يمكن أن تطبق على القرآن الكريم نظرية موت المؤلف واستقلال النص

وقيامه كوناً مستقلاً بذاته يفهمه كل قارئ كما يشاء؛ حيث إنه لا مانع لدى البنيوية

من أن يكون له تفسيرات بعدد القراء بل أكثر من ذلك؟!

فانظر إلى ما يقوله الدكتور الغذامي - بعد أن أطال في تقرير هذا الأمر،

وجعله من أعظم ميزات المنهج وأسمى خصائصه -: «الكاتب صاغ النص حسب

معجمه الألسني، وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً وعى

الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر، ولكن هذا الغائب إنما غاب عن ذهن

الكاتب ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها، والقارئ حينما يستقبل

النص فإنه يتلقاه حسب معجمه، وقد يمده هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن

تلك التي وعاها الكاتب حينما أبدع نصه، ومن هنا تتنوع الدلالة وتتضاعف،

ويتمكن النص من اكتشاف قيم جديدة على يد القارئ، وتختلف هذه القيم وتتنوع من

قارئ وآخر بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوته، وكل هذه التنوعات هي دلالات

للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها البعض» [32] .

* أيقبل مسلم تطبيق هذا الكلام على القرآن؟

إن إقرار تطبيقه على شعر العرب ولغتهم وهدم قواعدهم النحوية والبلاغية

جملة لا بد أن يؤدي إلى ذلك حتماً.

إن موقف طه حسين ومَنْ وراءه أخف من هذا الموقف ولو من بعض الوجوه؛

ذلك أنه وشيوخه المستشرقين حين أرادوا هدم البيان القرآني توصلاً إلى هدم

الإسلام اتخذوا ذريعة لذلك إنكار الشعر الجاهلي في ذات نصوصه، أما هذا المنهج

البنيوي فهو يتنكر للقواعد والأصول والمعايير النحوية واللغوية، بل للفطرة العربية

من أساسها. إنه يستبقي النصوص أشباحاً وهلاماً فقط!!

فالأولون ساروا على منهج كفار قريش في الزعم بأن النص القرآني ليس

منزلاً من عند الله، والبنيويون حاكوا الباطنية في تفسيره كما يشاؤون بلا ضابط

من عقل أو نقل.

وإنه لو قدر للحداثة العربية أن تسير على الدرب نفسه الذي سلكته نظيرتها

التركية [33] لكان معنى ذلك المسخ الكامل لا للغة فحسب بل لوجه الإسلام كله.

والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:

1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، ولُهاثهم خلف «العصرنة» !!

2 - الخلط بين الحداثة وإن شئت فقل بين الهدم والتجديد.

وهما يرجعان في الحقيقة إلى أمر واحد عاشته أوروبا وتعيشه كل الأمم؛ لأنه

خطأ إنساني مشترك يمكن أن يقع فيه كل من لا يملك المعيار الرباني الثابت، وهو

خطأ الاعتقاد في التقدم المطلق واعتبار الزمن وحده معياراً للحكم على الأشياء.

في حين أن نظرة عقلية عجلى تؤكد أن الحداثة هي نفسها مفهوم نسبي بما أن

حاضرنا هو ماضي الغد.

فكما رأينا - في أوروبا - كان لوثر أكبر الحداثيين في عصره وهو الآن

نموذج للبروتستانتي الكلاسيكي.

ودانتي كان حداثياً كبيراً في زمانه وهو الآن مثال الكلاسيكية الإنسانية.

وكان ديكارت حداثي زمانه بالنسبة للفلسفة العقلية، ثم كان الرومانسيون في

القرن الثامن عشر نموذج الحداثة الثائرة على العقلانية الجامدة!

وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت الرمزية ثورة حداثية على الاتجاهات

جميعها.

ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية،

الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب معرفي حداثي، وأسمى سارتر

مجلته «العصور الحديثة» !!

وفي الستينيات كما أسلفنا زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد

التاريخ لها من نظير. ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد

نفسه مدعياً الدعوى نفسها.

وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد،

والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية.

وهذا كله غير حداثة ماركس التي حقرت كل ما قبلها، وعندما جاء «لينين»

صاغها بشكل تقدمي «حداثي» أكثر عصرية، ثم جاء عصر ستالين وتبنى

اتحاد الكتاب السوفييت آراءه الأكثر حداثة، وبظهور إعادة البناء «الغورباتشوفية»

لا نستبعد أن يصف الشيوعيون نظريتهم الجديدة بأنها حداثية للغاية؛ وهكذا.

إنه العقل البشري المحدود الضعيف الذي يتخيل كل مرحلة من مراحله أنها

نهاية التاريخ؛ والدهرُ أعظم من ذلك وأطول لو كانوا يفقهون.

ولا نستطيع أن نجرد الحداثيين العرب عن فهم هذه الحقيقة، لكنهم بذكائهم

اللماح لم ينسوا أن اطراد «الجدلية» إلى نهاية التاريخ = نهاية اللغة، يمكنه حل

المأزق بافتراض أن اختفاء عنصر النقيض في المرحلة الأخيرة من الصراع الأبدي

يؤدي إلى نهاية لا محدودة.

ولذلك تعجل هؤلاء الخطى وطالبوا من الآن بالوصول بالمعرفة إلى تلاشيها

المطلق وباللغة إلى تجريدها المطلق. وبتعبير الحداثيين «إن الوصول بالمعرفة

السائدة والنمطية إلى تلاشيها المطلق ينفي احتمال ظهور أي وضع معرفي استاتيكي

(ثابت) وسيظل الانفجار المعرفي الحداثي هو السائد والوحيد إلى ما لا نهاية» .

وحسبك بهذه النتيجة من باطل لا تنكره بدائِهُ العقول فحسب، بل يرفضه

الواقع الحي في كل البلاد ولا سيما في الأدب العربي؛ إنه ليس من سنة الله كما أن

الجمود المطلق ليس من سنته.

فالنشاط الأدبي العربي هو جزء من النشاط الحيوي العام الذي يخضع للمبدأ

الكلي المطلق في التصور الإسلامي «الحركة حول محور ثابت» فالتراث الأدبي

في جملته يحوي عناصر حركية مستمرة (ديناميكية) ولكنها تنطلق في حركتها من

أصول ثابتة وتلتزم بمعايير ثابتة. وهكذا يتجلى المنهج الفريد الجامع بين الاستقرار

والمرونة، لا التصور الجدلي الأدبي العقيم.

إن من دلالات الإبداع والعبقرية أن يأتي الأديب بتلك النماذج الفائقة التي لا

يستطيع سائر الناس الإتيان بمثلها مع التزامه بنفس المعايير أو الأساليب التي

يعرفون.

يظهر هذا المنهج الفذ في الشعر العربي الذي توهم كثيرون من الداخلين في

جحر الضب أن معاييره تضيق عن الإبداع وتستلزم الجمود.

كلاَّ. إن الإبداعَ تسابُقٌ، وما من سباق إلا وله مسارات وحواجز وضوابط؛

وإلا كان كل ماشٍ في الشارع متسابقاً. ولنأخذ مثالاً الالتزام بالبحور الشعرية

المعروفة: أيّ ضيق أو جمود فيها؟ إنها سعة لا نظير لها مطلقاً في شعر أي أمة

من الأمم مع الالتزام في الوقت نفسه بمعايير جمالية لا نظير لها كذلك.

فالعروض العربي يتألف من ستة عشر بحراً، والبحر الواحد غالباً يكون منه

التام والمجزوء والمشطور، وهذا ما يمكن تصنيفه حسب المعايير الأوروبية بحوراً

جديدة؛ هذا غير ما يلحق التفعيلة نفسها من تغييرات معروفة لأهل الفن ولا يستفيد

غيرهم من ذكرها هنا. إنها سعة تسمح للموهبة أن تبدع كما تشاء فيما تشاء مع

ضبط لا يسمح بتسرب الطفيليات وولوج من لا يملك المفتاح.

أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة

لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة

ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد

حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم

بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش ... و ... كل أولئك حداثيون تنطبق عليهم

معايير القوم 100% وبعبارة أوضح: ما دام لدى الإنسان مُسْكَةٌ من عقل فلا يمكن

أن تصل معرفته إلى التلاشي المطلق؛ فهذا شأن من يتعاطى أخطر ما أبدعته

العبقرية الغربية من عقاقير الهلوسة.

ولو أن المقام يتسع لعرضنا نماذج ممن تاب الله عليهم وثابوا إلى رشدهم

ليعرضوا كيف كانوا يفكرون ويكتبون وينظمون في الماضي الحداثي الحالك كما

حدثوني بذلك شخصياً أو كتبوه لي.

على أنني لو عذرت أحداً من أقطاب الحداثة لعذرت أولئك الدعاة الصليبيين

التوراتيين الذين أرادوا أن تكون الثقافة العربية كلها سائرة على النمط التوراتي

مضموناً وأسلوباً. إنهم أذكياء استخدموا عقولهم لبعث أساطير دينهم وإحياء أساليب

كتبهم المقدسة، وليسوا كبني جلدتنا الداخلين وراءهم في جحر الضب بُلَهاءَ ساروا

في طريق يهدم حقائق الدين الرباني الحق والكتاب الإلهي المحفوظ مع دعوى

إيمانهم به.

وإن تعجب فاعجب لأمة تهزها أزمات سياسية واجتماعية كبرى كالأزمة التي

داهمت الأمة في حرب الخليج الثانية ويخرج أدباؤها ومبدعوها ليسوِّدوا الصفحات

بأن سبب الأزمة هو «إشكالية النص» !!

أما سائر البشر الذين جعلوا لها أسباباً أخرى فهم نمطيون سطحيون!!

لقد كنا نحسب كما هم العقلاء في هذه الأمة جميعهم أن هذه الأزمة سوف

تجتاح الحداثة فيما تجتاح من فقاعات سني الغفلة والترف.

أما والحال كذلك وللمسوغات الموضوعية التي تجعل القضية حية متدفقة وإن

تلونت أو كمنت، ولضرورة إقامة الحجة وإبانة سبيل المجرمين فلا بد من تجدد

الإسهام من أهل الخبرة وفرسان الميدان في هذا المجال. وإنما سطرت هذه المقدمة

تذكيرا وإعذاراً؛ والله ولي التوفيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015