دراسات في الشريعة
د. خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
ما أن يُخبت قلب العبد لرب العالمين، وتذوق جوارحه لذة النَّصَب في العبادة؛
حتى يفيض الكريم الوهاب على صاحب هذا القلب بنور البصيرة، هذا النور
الذي يرافقه في سَيْره إلى الله تعالى، يهديه إلى مسالك الرشد، فيفرق به بين الحق
والباطل، والصدق والكذب، والسنة والبدعة، إلى أن يرزقه الله عز وجل حسن
الخاتمة. إن هذا النور منحة ربانية لا تشاهدها الأبصار، ولا تحدها الكلمات، بل
يحسها كل صادق في إيمانه؛ ليعلم مَنْ فَقَدَ هذا النور أنه في العبادة يلعب، فما
ضُرب عبد بعقوبة أعظم من ظلمة القلب.
* تعريف البصيرة:
قال علماء اللغة: البصيرة: الفطنة. تقول العرب: أعمى الله بصائره؛ أي
فطنه. وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاوية - رضي الله عنه -
لما قال لهم: يا بني هاشم! تصابون في أبصاركم. قالوا له: وأنتم يا بني أمية!
تصابون في بصائركم. وإنه لبصير بالأشياء أي عالم بها. ويقال للفراسة الصادقة
فراسة ذات بصيرة [1] . وقال الراغب: البصر يقال للجارحة الناظرة، كقوله
تعالى: [وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ] (الأحزاب: 10) ، وللقوة التي فيها، ويقال
لقوة القلب المدركة بصيرة، نحو قوله تعالى: [أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ]
(يوسف: 108) [2] .
أما في الشرع فيعرّفها ابن القيم بقوله: «هي نور يقذفه الله في القلب، يفرّق
به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب» ، وفي تعريف آخر له يقول: «هي
نور يقذفه الله في قلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين،
فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى
قول بعض العارفين: (البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به) » [3] .
* البصيرة في القرآن الكريم:
قال تعالى: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
(الأنعام: 122) .
فهذا مثل للذي هداه الله بعد الضلالة، وأضاء بصيرته بنور الحجج والآيات،
يتأمل بها الأشياء فيميز بين الحق والباطل (ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛
فتتكشف له حقائق الوجود وحقائق الحياة وحقائق الناس وحقائق الأحداث التي
تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور
فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث، يجد الوضوح في نفسه
وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته، ويجد الوضوح فيما يجري حوله، سواء من
سنة الله النافذة أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة، ويجد
تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله كأنه يقرأ من كتاب،
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه،
ويجد الراحة في باله وحاله وقاله، ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها
وفي استقبال الأحداث واستدبارها، ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي
كل حين) [4] .
وقال تعالى: [قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا
وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] (الأنعام: 104) ، قال القرطبي: «قد جاءكم آيات
وبراهين يُبصر بها ويُستدل. جمع بصيرة وهي الدلالة، ووصفها بالمجيء لتفخيم
شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية
وقد انصرف المرض» [5] .
وقال تعالى: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ
وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] (الشورى: 52) ، [رُوحاً] أي وحياً من أمرنا. وسمَّاه روحاً لأنه
تحيا به القلوب الميتة لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة.
وقال تعالى: [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي
وَالأَبْصَارِ] (ص: 45) ، يقول ابن القيم: «أي البصائر في دين الله عز وجل،
فبالبصائر يُدرك الحق ويُعرف، وبالقوة يُتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه،
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين والبصر بالتأويل، ففجرت من
النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورُزقت فيها فهماً خاصاًَ، كما
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد سُئل: هل خصكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال:» لا، والذي فلق الحبة
وبرأ النسمة! إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه «. فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ
والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض» [6] .
* درجات البصيرة:
قسم ابن القيم البصيرة ثلاث درجات:
1 - البصيرة في الأسماء والصفات: وهي أن لا يتأثر إيمانك بشبهة
تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل تكون
الشُّبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشُّبه والشكوك في وجود الله، فكلاهما سواء
في البلاء عند أهل البصائر.
2 - البصيرة في الأمر والنهي: وهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد
أو هوى، فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من
تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقي الأحكام من
مشكاة النصوص.
3 - البصيرة في الوعد والوعيد: وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما
كسبت في الخير والشر عاجلاً وآجلاًَ في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك هو
موجب إلهيته وربوبيته وعدله وحكمته، فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته
بل شك في وجوده، فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ولا يليق أن يُنسب إليه تعطيل
الخليقة وإرسالها هملاً وتركها سدى، تعالى الله عن هذا الحسبان علواً كبيراً [7] .
* المعاصي تطفئ نور البصيرة:
فمن عقوبات المعاصي أنها تُعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق
العلم، وتحجب مواد الهداية، قال تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال: 24) ، إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة
والحذر الدائم والاحتياط الدائم، اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من
كل همة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف
والهواجس، والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من
سهواته أو غفلة من غفلاته أو رفعة من رفعاته، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو المعصوم يكثر من دعاء: «اللهم! يا مقلب القلوب؛ ثبّت قلبي على
دينك» ، فكيف بالناس وهم ليسوا مرسلين ولا معصومين؟! [8] وقد قال مالك
للشافعي لما اجتمع به ورأى مخايل النجابة عليه: «إني أرى الله تعالى قد ألقى
عليك نوراً؛ فلا تطفئه بظلمة المعصية» .
ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل، وظلام المعصية يقوى حتى يصير
القلب في مثل الليل البهيم، فكم من مهلكة يسقط فيها ولا يبصرها، كأعمى خرج
بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب، فيا عزة السلامة ويا سرعة العطب! ثم
تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجه منها سواد
بحسب قوتها وتزايدها، فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ فامتلأ القبر ظلمة،
كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله
عز وجل ينورها بصلاتي عليهم» [9] ، فإذا كان يوم المعاد وحُشر العباد علت هذه
الظلمة الوجوه علواً ظاهراً يراه كل أحد، حتى يصير الوجه أسود مثل الحممة
(الفحم) ، فيا لها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها [10] .
* أسباب تحصيل البصيرة:
- صِدْقُ الإيمان بالله ورسوله: قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الحديد: 28) ، فهذا النور هبة لدنيه يودعها الله القلوب التي
تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله، هبة تنير تلك القلوب فتشرق وترى
الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر فلا تتخبط ولا
يلتوي بها الطريق.
- العلم النافع بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: [هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) . فالحكمة نور الأبصار،
وموقظة القلوب من سِنَة الغفلة، ومنقذة للبصائر من سِنَة الحيرة، ومحيية لها بإذن
الله من موت الجهالة، ومستخرجة لها من ضيق الضلالة، وهي صديقة العقل،
وميزان العدل، وروضة الأرواح، ومزيحة الهموم عن النفوس، وأنس المستوحش،
وأمن الخائف، ومتجر الرابح، وحظ الدنيا والآخرة.
ومن أحب أن يكون للأنبياء وارثاً وفي مزارعهم حارثاً فليتعلم العلم النافع،
ففي الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء» [11] ، وليحضر مجالس العلماء فإنها
رياض الجنة، ومن أحب أن يعلم ما نصيبه من عناية الله فلينظر ما نصيبه من
الفقه في دين الله، ففي الحديث: «مَنْ يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» [12] ،
وكفى بالجهل قبحاً أن صاحبه عدو للحق وأهله. قيل للحسين بن الفضل: هل تجد
في القرآن: مَنْ جهل شيئاً عاداه؟ قال: نعم، في موضعين: [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ
يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ] (يونس: 39) ، وقوله تعالى: [وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا
إِفْكٌ قَدِيمٌ] (الأحقاف: 11) .
- العمل بالعلم: فمن عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، وحقيقة التقوى
أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، قال تعالى: [وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] (البقرة: 282) ، والتقوى تقود إلى نور البصيرة، قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الأنفال: 29) ، فإذا اتقى العبد ربه، وذلك باتباع
أوامره واجتناب نواهيه وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه
بالنية الخالصة وجوارحه بالأعمال الصالحة، وحفظ نفسه من شوائب الشرك
الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال
الحرام؛ جعل له بين الحق والباطل فرقاناً، ورزقه فيما يريد من الخير إمكاناً.
ولما قال حارثة: «أصبحت مؤمناً حقاً» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» قال: «عزفت نفسي عن
الدنيا وشهواتها، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي
بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون
فيها» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرفت فالزم، عبد نوَّر الله
الإيمان في قلبه» [13] .
- صِدْقُ اتباع السنة ظاهراً وباطناً: فالطريق إلى الله مسدود على خلق الله
عز وجل إلا على المقتفين آثار النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة] (الأحزاب: 21) ، وقليل في سُنَّة خير من كثير
في بدعة، وهذا يستلزم تعلم السنة، وتقديمها في الأصول والفروع على قول كل
أحد وهديه، كما قال ابن القيم في شأن الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بالقلب: «سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، وحادثة من حوادث
الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى منبع الهدى، ومصدر النور المتلقى من فم
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا
فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعدّه من أهل الريب
والتهمات» [14] .
- المداومة على ذكر الله عز وجل: فالذكر يورث حياة القلب، وكان شيخ
الإسلام ابن تيمية يقول: «الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك
إذا فارق الماء؟!» [15] ، وأشرف الذكر تلاوة القرآن وفهمه وتدبره، وبحسب
نصيبك من القرآن يكون نصيبك من نور البصيرة، فعن عبد الله بن مسعود
- رضي الله عنه - قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن» ،
وقال: «من أحب القرآن فليبشر» [16] .
- كثرة العبادة: فمن أعظم الوسائل التي ينال بها العبد نصر الله وتأييده
الاجتهاد في العبادة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب
إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،
ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن
استعاذني لأعيذنه» [17] .
ومن أفضل العبادات الصلاة، فإنها خيرٌ موضوع، قال تعالى: [كَلاَّ لاَ
تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] (العلق: 19) ، وفي الحديث: «والصلاة نور» [18] ،
وفيه: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا من الدعاء» [19] ،
فكلما اقترب العبد من ربه رأى الأمور على حقيقتها، وقدَّرها حق قدرها، ووزنها
بميزان الحق، وكلما أخلد إلى الأرض ولم يرتفع واتبع هواه؛ التبس عليه الحق
بالباطل وترك الحق. ومن خير العبادات أيضاً الصوم، فإنه نصف الصبر، وفي
الحديث: «والصبر ضياء» [20] .
- غضّ البصر وحفظ الفرج وتجنب الاختلاط المحرم: فغضّ البصر يُلبس
القلب نوراً، كما أن إطلاقه يُلبسه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب
الأمر بغضّ البصر: [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ
شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (النور: 35) ،
أي مَثَل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا
استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت
سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، ونور القلب يورث صاحبه فراسة صادقة
يميز بها بين الحق والباطل، وكان شجاع الكرماني يقول: «مَنْ عمَّر ظاهره
باتباع السُّنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكف نفسه عن
الشبهات، واغتذى بالحلال؛ لم تخطئ له فراسة» [21] ، وكان شجاع لا تخطئ له
فراسة.
إن نور البصيرة عبق من الجنة، يأنس به الموحدون الذين نزَّهوا الخالق عن
أي شائبة من شوائب الشرك، فانقادوا له؛ لا يقدمون قولاً على قوله، ولا أمراً
على أمره، ولا نهياً على نهيه.
أولئك هم المفلحون.. أولئك هم المفلحون.