ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
كمال السعيد حبيب
يمثل القرن الجديد قرناً فاصلاً في التاريخ الإنساني، وفي التاريخ العربي
والإسلامي خاصة، فهو أشبه بمذراة كبيرة هائلة قلبت الأمور رأساً على عقب،
وأثارت زوابع وعواصف وضباباً محيراً، وكيف يكون هذا القرن فاصلاً، والعالم
العربي والإسلامي يواجه وحده دون بقية حضارات العالم وأممه هجمة لا ترحم هي
في الحقيقة التي لا مراء فيها هجمة صليبية عاتية وعنيفة يوجهها ما يمكن أن
نصنفهم بأعلى طبقات الأصوليين الإنجيليين (الصليبيون الجدد المتحالفون مع
اليهود) الأمريكيين والبريطانيين؛ متسلحين بقوة عسكرية وتقدم تقني لا مثيل له
في التاريخ.
في الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، والتي قادتها بشكل أساسي
الكنيسة الكاثوليكية فيما عُرف باسم «حملات الاسترداد» ، والمقصود بها استرداد
العالم العربي والإسلامي إلى حظيرة الصليبية، هذه الحملات استمرت مئتي عام
كاملة في موجات لم تهمد أو تهدأ إلا على يد صمود إسلامي، عبّرت عنه الأمة
بكامل قوتها وطاقتها شعوباً وقادة.
وبالمناسبة فهذه الحملات الصليبية كانت موضع دراسة وافرة من قِبَل اليهود
لمعرفة الأسباب التي أدت إلى إخفاقها رغم نجاحها في بعض الأحيان في إقامة
مواطئ أقدام لها على سواحل البحر المتوسط في فلسطين مركز الصراع بين عالمنا
العربي والإسلامي منذ الحملات الصليبية. وانتهى اليهود إلى فهم أسباب إخفاق
الحملات الصليبية في أن تكوّن وجوداً استعمارياً استيطانياً ثابتاً لا يتزعزع في هذه
المنطقة المقدسة، وإبّان الموجات اليهودية الاستعمارية الجديدة للسيطرة على
فلسطين كان المشروع الصهيوني يحاول استكمال المشروع الصليبي؛ أي أن
التكامل بين المشروع الصليبي القديم والمشروع الصليبي الجديد هو في جوهره
تعبير عن موقف الحضارة الغربية في مواجهة الحضارة الإسلامية، فالمشروع
الصهيوني هو بالأساس مشروع غربي في مواجهة العالم الإسلامي، يحاول
استكمال المشروع الصليبي القديم [1] .
واليوم تأتي الحملة الأمريكية الجديدة على العالم الإسلامي تمثل إعادة التكامل
والتلاحم بين المشروع الصليبي واليهودي معاً في مواجهة العالم الإسلامي المعاصر
[2] ، وهنا نجد المحافظين الجدد المتربعين على سدة الحكم في البيت الأبيض
يمارسون الدور القديم نفسه لرجال الكنيسة الكاثوليكية الذين قادوا الحملات الصليبية
على العالم الإسلامي، وروجوا لها ولكن بثياب مدنية؛ أي أن الروح الصليبية
القديمة لا تزال في حكام العالم الغربي وإن اختلفت الثياب والبزات والموضات
والأشكال، إنها الروح القديمة في ثياب جديدة [3] .
ومع انتهاء الحروب الصليبية على عالمنا العربي والإسلامي بالإخفاق الذريع،
وقدرة الأمة المسلمة على أن تستعيد زمام المبادرة، وتصمد للتحدي الصليبي؛
بدأنا نسمع عما يمكن أن نطلق عليه بذور الحرب الجديدة على العالم الإسلامي،
هذه البذور هي ما أطلق عليه في الأدبيات الإسلامية «الغزو الفكري» ،
و «الغزو الثقافي» ، و «الغزو الحضاري» ، بدأ الغرب يكوّن طبقات جديدة،
هذه الطبقات لم تنتجها الكنيسة ولا روح التعصب الديني الغربي في العصور
الوسطى، أنتج هذه الطبقات عصر التنوير الأوروبي، وعصر النهضة والتقدم
والعقل والإنسانية؛ ذلك لأن مرجعية العقل والتنوير والتحديث والتقدم والتطور
وكل ما آثاره الفكر الغربي؛ لم ينفصل عن روح الحضارة الغربية التي ورثتها عن
اليونان الوثنية، وعن روما الصليبية، وعن أفكار الفترة الكنيسية نفسها، الروح
العنصرية البراجماتية التي تنظر للآخر باعتباره موضوعاً وليس ذاتاً. ومن هنا
قادت هذه الأفكار الإنسانية إلى الاستعمار وإلى ابتلاء العالم العربي والإسلامي
بل والعالم القديم كله ببلاء الحضارة الغربية [4] ، هذه الطبقة الجديدة المستلهمة
للأفكار العلمانية؛ أسست قواعد جديدة لإدارة العالم واستعماره، كان على رأسها
«تحقيق ما نريد بوسائل جديدة» ، هذه الوسائل هي فهم خصائص العالم
الإسلامي، واختراقه عبر الجواسيس والسفراء والدراويش والدراسات
الاستشراقية، ومن هنا كان فهم روح الشرق أداة لاستلابه واستعماره، وسمعنا
عن التبشير والاستشراق ثم الاستعمار [5] .
اليوم تمثل الحملة الأمريكية البريطانية على العالم الإسلامي «أعلى»
مراحل الموجات الاستعمارية ضد أمة من الأمم، وهي «أعلى» موجات المد
الغربي في مواجهة العالم الإسلامي، نقول «أعلى» بمعنى أنها تمتلك خبرة الغزو
الفكري الحضاري الثقافي والغزو العسكري الاستعماري الاستئصالي معاً؛ أي أن
بذور الغزو الفكري المتخلف القديم بلغت ذروتها اليوم، فالمؤسسات التي تدير
معركة الأفكار والعقول والثقافة والحضارة اليوم؛ لا تقارن بالأساليب المتخلفة
القديمة ذات الطابع الفردي، لكن القضايا هي نفسها، والاستراتيجية هي نفسها،
استراتيجية عدم الاقتصار على الغزو العسكري كأداة للتطويع والامتلاك والسيطرة
والهيمنة، وإنما يسبق ويرافق الغزو العسكري غزو ثقافي وحضاري وعسكري.
بل إن الغزو الحضاري الثقافي هو الأسبق والأهم، وإذا قامت المعارك العسكرية
لن تستمر، فإن معركة الأفكار يجب أن لا تهدأ ولا تنام [6] .
السؤال الأساسي في معركة الحضارة الممتدة بيننا وبين الغرب هو: كيف
استطاع العالم الإسلامي الصمود في مواجهة الحملات الصليبية القديمة والجديدة دون
أن تموت روح المقاومة فيه؟ ما الذي يجعل الناس في هذا العالم وحده يقفون
مناوئين للأفكار القديمة التبشيرية الأمريكية؟
إننا بإزاء أمة لا تموت وحضارة كتب لها البقاء، لماذا؟ إن الإسلام هو الدين
الحق، وكلمة الله الخاتمة للبشر، ولذا لا بد من الهجمة عليه، وإعادة تعريفه من
جديد بحيث يتسق مع النصرانية، وبحيث لا يكون عاملاً مميزاً للأمة الإسلامية في
مواجهة الاكتساح الغربي، لا بد من تفكيك عناصر التمسك في العالم الإسلامي
وعلى رأسها الإسلام نفسه، بحيث حين يعرّف المسلم نفسه كمسلم لا يجد فرقاً بينه
وبين النصراني أو البوذي أو الهندوسي ... لم نسمع مثلاً عن حملة صليبية على
اليهود لإعادة هندسة أفكارهم وعقائدهم لتتكيف مع الصليبية الجديدة؛ على الرغم
من أن الأفكار اليهودية كلها قائمة على أسس أسطورية عنصرية، وهي ضاربة في
أطناب التخلف والرجعية والوثنية.
دعك من الحديث المزيف لبوش أو غيره من العصابة التي تحكم البيت
الأبيض عن الإسلام واحترامه، وانظر إلى حقيقة ما يحدث على الأرض ... إن
السياسة العملية هي تعبير كامل عن فكر طبقة الاستراتيجيين الجدد في دوائر البيت
الأبيض، مثل «هنتنجتون، فوكوياما، نيكسون، وولفويتز، كارل روف،
كوندوليزا.. وغيرهم كثيرون» ، وهذا الفكر في جوهره يقوم على صِدَام ماحق
مع الحضارة الإسلامية للإجهاز عليها. والمراقب للعلاقة بين الحضارة الغربية
وعالم الإسلام حتى قبل أحداث سبتمبر؛ سوف يلاحظ نمو موجة عدوان وتصعيد
على العالم الإسلامي لإخضاعه وتركيعه، وسوف يلاحظ المراقب أيضاً أن الغرب
في علاقته بمناطق الدنيا قاطبة يرتب استراتيجية وفق مصالحه ورؤى أهل هذه
المناطق؛ فيما عدا عالمنا العربي والإسلامي، حيث يرتب أوراقه من منظور
صهيوني صليبي، يأخذ العمق الحضاري في الصراع مع العالم الإسلامي في
اعتباره. وفلسطين وكشمير والشيشان والهجرة والأقليات المسلمة والعلاقة بين
الجنوب والشمال؛ كلها شاهدة على أنها حرب صليبية حقيقية.
وتمثل المنظومة العقيدية للإسلام موضوعاً للحرب الصليبية الجديدة على
العالم الإسلامي، فهي منظومة من وجهة النظر الغربية تولد العداء للآخر غير
المسلم خاصة، وهم يقصدون بذلك إلغاء صفة الكافر عن غير المسلم، وهم
يقصدون إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء الإسلامي الذي يجعل من الأمة بنياناً
مرصوصاً، وهم يريدون إلغاء كل ما يتصل بمفهومات الجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، والبراءة من الكفر وأهله؛ أي أن مفهوم الكوكبة والعولمة
(globalization) هو بالأساس مفهوم ثقافي يريد أن يفرض على العالم المفهوم
الديني الغربي الأمريكي فقط. وليس شرطاً أن يفرض عليك مفهومات صليبية كما
يفعل المنصرون، وإنما يفكك (عز وجلissolution) ما تتمسك أنت به، وهذه
معركته الكبرى وأرض المواجهة الحقيقية والمدافعة بين الحق والباطل. وفي متابعة
لعلاقة الدين بالدولة في أمريكا وجدت تعبيراً أعتقد أنه صحيح، وهو ما يسمونه
الدين المدني الأمريكي؛ أي أن أمريكا ليس لديها دين حقيقي منزل فيه شرائع ونظم
كما هو في الإسلام، وإنما هو إطار تملؤه الأفكار والعادات والتقاليد التي لها طابع
مدني ثابت.
ومن ثم فالأفكار الأمريكية عن الإصلاح الديمقراطي، وعن حرية المرأة،
وعن تغيير مناهج التعليم، وعن الخطاب الديني الجديد، وعن الحجاب والاختلاط
ونظم الأسرة والأحوال الشخصية؛ جميعها ذات طابع مدني تحمل روح الأفكار
الأمريكية إلى العالم، أو رسالة أمريكا إلى العالم، وبناءً على ذلك؛ فإن أمريكا
تريد تفكيك ما لديك لتتبع أنت ما عندها.
والسؤال هو: وما الذي يفيد أمريكا في أن تبقى المرأة محجبة أو أن تمارس
تقدمها وتطورها وهي غير مختلطة بالرجال؟ وما الذي يجعل أمريكا تصر على
إعادة بناء قوانين الأحوال الشخصية في العالم الإسلامي؟ لماذا تتدخل السياسة
الأمريكية في العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة لدى المسلمين فقط؟ لماذا تمثل
المرأة المسلمة محوراً للاهتمام الأمريكي؟
كل هذه الأسئلة تكشف عن حقيقة يتبناها الفكر الغربي، وهي أنه لكي تغير
أمة أو شعباً فإن مفتاح تغييره هو المرأة [7] ، من هنا لاحظنا مؤتمراً عالمياً عن
المرأة في المغرب، وقانوناً جديداً للأسرة هناك، وفي مصر مجلس قومي للمرأة،
وفي السعودية وهي المنطقة الأساسية الآن، المقصودة بالحملة الغربية على
المستوى الفكري والحضاري يراد للمرأة أن تخرج وتختلط وتتبرج كما فعلت في
منتدى جدة الاقتصادي الأخير [8] ، ونحن بالطبع لسنا ضد المرأة، فهي أم وأخت
وزوجة وبنت، ولكن أن تكون أداة العدو لتحطيم ثوابتنا وهز مجتمعاتنا، وهزيمة
قيمنا وثوابتنا؛ فهذا ما نرفضه بقوة. لماذا يفرح الأمريكيون حين تعمل امرأة
أفغانية مصففة للشعر، ولماذا يفرحون حين تشارك في فريق كرة القدم؛ هل المرأة
العراقية أو الأفغانية تحررت بمجيء الاحتلال الأمريكي لبلادها؟ ولماذا يؤرخ
العلمانيون لتحرير المرأة بنزع حجابها في مصر؟ هنا بعد رمزي، فحيث تتخلى
المرأة المسلمة عما يربطها بدينها وإسلامها؛ فهذا معناه من المنظور الغربي الدخول
إلى عالمي الحداثة والتحديث الغربيين. ألا يمكن للمرأة المسلمة أن تجمع بين
الحداثة وبين الإسلام؟ أن تكون مسلمة وقادرة على التعامل مع أدوات العصر
وتقنياته؟
لم تعد الحداثة عنواناً لنبذ الدين، وإنما الحداثة في مفهومها التقدمي الغربي
هي التي تجمع بين أصول الدين وبين حقائق العصر، ولمن لا يصدق؛ عليه أن
يراجع كتاب المفكر الفرنسي الكبير «آلان تورين» (نقد الحداثة) [9] .
إننا في عالمنا العربي والإسلامي نشاهد عن كثب نكسة الغرب وحيرته بسبب
فصامه الفكري مع دينه، وهو يريد أن يحقق عندنا هذا الفصام، فليحذر العقلاء
وأولو الأمر، خاصة في السعودية، من وسوسة الغرب ونفثه ونفخه الماكر لفرض
صيغة حداثية علينا ثبت إخفاقها عنده.
ثم تأتي معركة الحجاب في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، وهي معركة تكشف عن
البعد الحضاري الصليبي العميق في العلمانية الفرنسية، فالعلمانية وفق التعريف
العلمي لها هي فصل السياسة عن الدين بحيث لا يكون للدولة أي دور في الموقف
الديني أو العقيدي لأفرادها، فالدولة العلمانية هي دولة محايدة تجاه الدين لا يهمها
أن يكون لمواطنيها دين معين، كما لا يهمها أن يكونوا بلا دين أصلاً، كما لا يهمها
أن يكونوا متدينين، فحرية العقيدة هي من الحريات المكفولة في كل الدساتير
الغربية، وهي مأخوذة من أفكار الحق الطبيعي للبشر وهي أفكار ذات طابع مسيحي،
وترفع فرنسا شعار الحرية والإخاء والمساواة، وترى أنها مدينة النور والعقل
والحرية، لكن ما الذي حدث لها اليوم حتى تضيق بالنساء المسلمات المحجبات في
المدارس والمؤسسات العامة وفي الشوارع؟ ما الذي جعل فرنسا التي اتسعت
شوارعها وآفاقها لكل شارد مطرود ومتسكع ومتحرر وملحد وهيبز أن تضيق على
الحجاب الإسلامي؟
إن المتابع لخطب شيراك الذي أعلن فيه تأييده لمشروع القانون الذي يقضي
بمنع الحجاب الإسلامي في المدارس والمؤسسات العامة بدعوى حماية العلمانية؛
يكتشف الوجه الاستبدادي للعلمانية، إن العلمانية هي أيديولوجية الدولة القومية التي
تعطي الحرية للبروتستانت لكنها لا تمنحها للمسلمين، فالعلمانية هي التي أعطت
البروتستانت الحق في التعبير عن عقائدهم في مواجهة الشمولية الكاثوليكية.
والعلمانية هي التي أعطت اليهود الحق في التعبير عن عقائدهم وأفكارهم
ووجودهم، لكنها اليوم تنتفض لمنع المسلمين حقهم في إقامة فرائض دينهم؛ ذلك
لأن العلمانية تستبطن التقاليد الكاثوليكية في فرض صيغة كلية ذات طابع شمولي
على مواطنيها؛ هي أيديولوجية الدولة القومية الفرنسية. لكن هذه الدولة الفرنسية
العلمانية ذات طابع كاثوليكي، فهي تحتفل بأعياد الميلاد وتمول المدارس الكنيسية
وتدعم الكنيسة وتستخدمها كأداة أيضاً في السياسة الدولية.
إن بعض المحللين الفرنسيين تحدث عن أن العلمانية لم تكن سوى قلب
للكاثوليكية لكنها استلهمت روحها، فهي استبدلت الحرية والإخاء والمساواة بـ
الأب والابن والروح القدس. واستبدلت الطابع الشمولي للكنيسة بالطابع الشمولي
للدولة القومية - التي يعبر بعضهم عنها بالدولة الإله -، واستبدلت طابع الإيمان
بالله بالإيمان بالعقل والإنسان، وبقيت الروح العنصرية التي ترفض التسامح كامنة
في جذورها، لكن التساؤل هو: لماذا ظلت العلمانية عاملاً محايداً حتى إذا بلغ
المسلمون في فرنسا ستة ملايين نسمة، فإذا بها تنصب لتفرض عليهم سلوكاً يتنافى
مع حريتهم العقيدية؟ العلمانية الفرنسية اليوم هي تقليد لما يطلق عليه العلمانية
النضالية secularism Militant [10] ، وهي في ذلك مثل العلمانية الكمالية في
تركيا وعلمانية بورقيبة في تونس؛ أي هي علمانية استبعادية في مواجهة الإسلام،
وعلمانية متحررة مع المذاهب الأخرى.
وأخيراً فإن ملامح الحرب الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي تهدف بشكل
وافر إلى تفكيك المحاضن الاجتماعية والعقيدية والحضارية التي حمت الإسلام منذ
ظهوره، فلم يعد الأمر متصلاً بما تسميه السياسة «احتلال الدول» ، وإنما تغيير
التركيبة الحضارية الشاملة لأمة الإسلام بدءاً من الإسلام نفسه وحتى اللحى [11]
وأنماط اللبس والأكل.
ومجيء أمريكا إلى المنطقة هو بقصد الإشراف على تنفيذ ما يطلقون عليه
«حرب الأفكار ومعارك العقول والعقائد» ، وهم في ذلك يريدون البدء بالدول
التي تعتبر معاقل للإسلام، وبالمناطق التي حافظت على التقاليد الإسلامية
الاجتماعية خاصة الحجاب.
وهذا واضح في منطقة الخليج والسعودية تحديداً، فرغم اقتحام الحداثة
الغربية فقد ظلت التقاليد الإسلامية حية فيما يتصل بنمط الملبس سواء بالنسبة
للرجل والمرأة، والعلاقات الاجتماعية، وعدم الاختلاط، وهنا فإن أحد أهداف هذه
الحرب تفكيك التواصل الاجتماعي مع نمط الحياة الإسلامية في هذه المجتمعات،
وعلينا أن نأخذ العبرة من الدولة العثمانية التي أذعنت للضغوط الغربية في فرض
أنماط جديدة للعلاقات داخلها وفق النمط الغربي، وهو ما أدى إلى تفكيك الدولة
العثمانية فيما بعد، وأيضاً «البروسترويكا» و «الجلاسنوست» اللتان أطلقهما
جورباتشوف قبل تفكك الاتحاد السوفييتي؛ هما اللتان أدتا إلى انهياره، ونحن فقط
نأخذ العبرة، نحافظ على خصوصياتنا وننفتح للغة العصر وقواعده، دون إهدار
لهذه الخصوصية إزاء خصائص العصر، في وسطية عاقلة ورزينة.
المعركة اليوم حول إعادة رسم وبناء أسس الحضارة الإسلامية وفق الرؤية
الغربية التي لا تمتلك في الواقع رؤية، لكنها فقط تريد التفكيك لما نملكه نحن؛ لذا
فالحرب شرسة وتحتاج إلى يقظة ووعي، الإصلاح والتجديد مطلوبان لكن وفق
قواعدنا وليس وفق إملاءات الخارج وشروطه.. بالطبع الحرب لها رجال وأموال،
وهذا ما تفعله أمريكا، فهي تنشئ شبكة من المثقفين الموالين لأفكارها، وهو ما
يعرف باسم حزب أمريكا في العالم العربي والإسلامي، «وهي تنفق المال لإعادة
تغيير المناهج ونظم التعليم وحرية الصحافة والنقابات والمرأة. وبعض هذه القضايا
قد يكون مطلوباً وحقيقياً، ولكن بأيدينا نحن ووفق مقتضيات ومطالب مجتمعاتنا لا
وفق إرادة الغرب، [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا]
(البقرة: 217) ، [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
(البقرة: 120) ، والملة هنا معنى أوسع من مجرد الدين، فهي تعني نمط حياتهم،
ورضا الأمريكان والغرب هو بداية الانهيار والسقوط، من هنا كان قولنا بأن العالم
الإسلامي يمر بمرحلة مفصلية في تاريخه؛ فإما أن يصمد وإما أن يستبدله الله
استبدالاً: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
إن بعض الناس يتحدث عن القتال هل هو فرض عين أو كفاية في حال دهم
العدو ليلاً لبلاد المسلمين؟ لكن الدهم الثقافي لعقولنا ولأفكارنا ولضمائرنا ولإسلامنا
هو الذي عناه الحديث:» وليس وراء ذلك أدنى حبة خردل من إيمان «؛ أي أنه
فرض لا يجوز الترخص فيه أو المهادنة أو السكوت؛ لأنه يقصد الإسلام نفسه،
ويقصد الأمة نفسها، ويقصد الذكر نفسه.
وعلينا - نحن المسلمين - أن نتمسك بحبل الله ونستعين به، ونرابط على
الأمانة التي كلفنا الله بها، [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران:
103) ، والدفع والدفاع والمرابطة هو سبيل هذه الأمة للبقاء. [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة:
251) .