مجله البيان (صفحة 4837)

السياسة الشرعية.. تعريف وتأصيل

السياسة الشرعية

السياسة الشرعية..

تعريف وتأصيل

محمد بن شاكر الشريف

alsharef@albayan-magazine.com

حاجتنا إلى السياسة الشرعية

السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة

وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من

العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائله في

بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم

ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في

الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضَّح ذلك شيخ

الإسلام ابن القيم فقال: «وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك،

ومعترك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا

أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة

إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له

وعطلوها.. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوَّغت من ذلك ما

ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أُتيَت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله

به رسوله، وأنزل به كتابه» [1] .

وإدراكاً منّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا

أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها،

وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، والله من وراء

القصد.

- البيان -

* السياسة في اللغة:

لفظ «السياسة» في لغة العرب محمّل بكثير من الدلالات والإشارات

والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه

والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو

الرئاسة. وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في

مادة سوس: «سستُ الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء

بما يصلحه» [2] ، وفي لسان العرب في المادة نفسها: «السَّوْس: الرياسة، وإذا

رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسُوِّس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس

الرجل على ما لم يُسم فاعله: إذا مُلِّك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به،

والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.

والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها،

والوالي يسوس رعيته» [3] .

والإصلاح في «السياسة» ليس مجرد هدف أو غاية تسعى السياسة في

حركتها لتحقيقه، بل هو السياسة نفسها وحقيقتها، إذا فقدته فقد فقدت نفسها.

* السياسة في النص الشرعي:

لم يرد لفظ «السياسة» ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى،

وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من

المعاني التي اشتمل عليها لفظ «السياسة» .

وأما السنَّة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم

الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي....» الحديث [3] ، وقوله صلى الله عليه

وسلم: «تسوسهم الأنبياء» ؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة

بالرعية « [4] .

ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استُخدمت بمعناها اللغوي، وهي

تعني:

القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد

والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى

تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو

الأمور المنافية.

وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال

وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة

الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح؛ عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما

يُراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة

من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه

الأمثل الذي يحقق المراد المطلوب.

وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن

جرير الطبري - رحمه الله - في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر - رضي

الله عنه - أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم:» لم يكن في أهل الإسلام أحد له

من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة

الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم « [5] .

وقال ابن حجر - رحمه الله -:» والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه

الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم

إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها « [6] ، ومما ورد في

ذلك أيضاً ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:» يا عائشة، لولا

قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضتُ الكعبة، فجعلتُ لها بابين؛ باب يدخل الناس،

وباب يخرجون « [7] ، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله:» باب مَنْ

ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه «،

قال ابن حجر:» ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان

مفضولاً، ما لم يكن محرماً « [8] .

والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو

محجوزة عن شيء؛ إذ هي» القيام على الشيء بما يحمله لفظ الشيء من العموم

والشمول بما يصلحه «، فيعمل بها كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.

ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين - رضي الله عنهم - ما قام به أبو

بكر - رضي الله عنه - من استخلافه لعمر - رضي الله عنه -، وما قام به عمر

من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان - رضي

الله عنه - المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن

ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف،

وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها

مضيعاً لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما

افتُتنت بعض النساء بجماله من غير ذنب أتاه لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة

والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير

السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوّغ يدعو

لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار،

والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير

مخالفة للشريعة.

* السياسة عند الفقهاء:

هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:

الاتجاه الأول: ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي:» السياسة ما كان

من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم

يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي «، وقد قيده بقوله:» ما

لم يخالف ما نطق به الوحي « [9] ، وعلى هذا النحو يُحمل كلام ابن نجيم الحنفي،

حيث يقول في باب حد الزنا:» وظاهر كلامهم ها هنا أن السياسة هي فعل شيء

من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي « [10] ، وكلام ابن

نجيم يحتمل أن يصب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسدَّ؛

لأنه قيَّد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضاً

مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره

من أمثلة السياسة.

والاتجاه الثاني: وهو اتجاه يضيِّق مجال السياسة ويحصرها في باب

الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحياناً مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه

غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي:

» السياسة شرع مغلظ « [11] .

وقد» نقل العلامة ابن عابدين (الحنفي) عن كتب المذهب: أن السياسة

تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته

وإن لم يحكم بكفره.. ولذا عرَّفها بعضهم بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسماً

لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم

ينص عليها بخصوصه ... ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل

شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي « [12] .

وقال بعض علماء الحنفية:» والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان، ولذا

عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما «

[13] .

وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛

» إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو

تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله

عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة،

وقال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» [14] ، وترك تأديب أو تعنيف

الأعرابي الذي بال في المسجد [15] تقديراً لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع

الأيدي أو إقامة الحد في الغزو [16] ؛ تأخيراً للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة

المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين « [17] .

وأيضاً فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة

من الصحابة، وعمل عمر للديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه

ليس من العقوبة في شيء.

* السياسة الشرعية:

تنقسم السياسة بحسب مصدرها إلى قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة

عقلية، وقد بين ذلك ابن خلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية

مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال:» فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من

العقلاء وأكابر الدولة وبُصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله

بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية « [18] .

وانطلاقاً من تقسيم ابن خلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة

عليه، فيقول:» الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في

جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر

الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها « [19] .

وابن خلدون - رحمه الله - في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب

الكُلِّي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال

يقترب من الحديث عن» الأحكام السلطانية « [20] .

ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كُلِّي

(تأصيلي) ، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع

في الجانبين: تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.

والذي يظهر لي أن عبارة» السياسة الشرعية «لم تكن مقيدة أولاً بقيد

» الشرعية «؛ انطلاقاً من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقياً إلا

بالشرع، فكان إطلاق لفظ» السياسة «بدون قيد كافياً في إفادة المطلوب من

عبارة» السياسة الشرعية «، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول

صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت» السياسة «

تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة

من حد القبول، وتسمّى السياسة الشرعية أحياناً بالسياسة العادلة.

وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبيَّن سببه،

فقال:» لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد

لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة

العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية

شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع

والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو خصمه إلى السياسة ...

والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصّروا في معرفة السنة، فصارت

أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء،

وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون

بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة « [21] .

ويقول ابن القيم - رحمه الله -:» ومَنْ له ذوق في الشريعة، واطلاع على

كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل

الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من

المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من

له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحَسُنَ فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها

البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج

الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها «

[22] ، إلى أن يقول:» فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع،

بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً

لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله « [23] .

* الفقه في السياسة الشرعية:

تواجه السياسة الشرعية نوعين من المسائل:

أحدهما: جاءت فيه نصوص شرعية.

والثاني: لم تأت فيه نصوص بخصوصه.

والفقه في النوع الأول يكون عن طريق:

1 - فهم النصوص الشرعية فهماً جيداً، ومعرفة ما دلت عليه، والتنبه

للشروط الواجب توافرها في تطبيق الحكم والموانع التي تمنع من تنفيذه، ثم يلي

ذلك تطبيق الحكم وتنفيذه.

2 - التمييز بين النصوص التي جاءت تشريعاً عاماً يشمل الزمان كله،

والمكان كله وهذا هو الأصل في مجيء النصوص، وبين النصوص التي جاءت

الأحكام فيها معللة بعلّة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفاً موجوداً زمن

التشريع، أو نحو ذلك.

والأول يسميه ابن القيم:» الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة «،

بينما يسمي الثاني:» السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً «

[24] .

ومن مسائل هذه السياسات (النوع الثاني) منع عمر بن الخطاب - رضي

الله عنه - سهم المؤلفة قلوبهم عن قوم كان يعطيهم إياه، وذلك لزوال تلك الصفة

عنهم، فإنما كانوا يعطون لاتصافهم بهذه الصفة لا لأعيانهم، فلما زالت الصفة منع

السهم عنهم، وليس في هذا تغيير للحكم وإنما هو إعمال له، وهو من باب السياسة

الشرعية، وكذلك أمر عثمان - رضي الله عنه - بإمساك ضوال الإبل مع أن المنع

من إمساكها مستفاد من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن

إمساك الإبل فقال:» ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها (ترد الماء وتأكل من

الشجر) حتى يلقاها ربها « [25] ، ومع النظرة الثاقبة في الحديث يتبين دقة فهم

عثمان - رضي الله عنه -، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر من كلامه

أنه يفتي عن حالة آمنة تأكل فيها الإبل من الشجر وتشرب من الماء، من غير أن

يلحقها ضرر حتى يجدها صاحبها، فأما إذا تغير حال الناس وَوُجد منهم من يأخذ

الضالة؛ صار هذا الحال غير متحقق، فإنها إذا تركت في هذه الحالة لن يجدها

صاحبها، ومن هنا أمر بإمساكها وكذلك نقول: لو أن حالة الناس من حيث الأمانة

لم تتغير، وإنما كان الناس يعيشون بجوار أرض مسبعة، وكان في تركها هلاك لها

حتى يأكلها السبع؛ لكان الأمر بإمساكها هو المتعين حفظاً لأموال المسلمين، وهذا

من السياسة الشرعية، والأمثلة في ذلك كثيرة [26] .

والنوع الثاني من المسائل: وهو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن

الفقه فيه يكون عن طريق الاجتهاد الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد،

والاجتهاد هنا ليس لمجرد تحصيل ما يُتوهم أنه مصلحة أو درء ما يُتوهم أنه

مفسدة، بل هو اجتهاد منضبط بضوابط الاجتهاد الصحيح، وذلك من خلال:

1 - أن يجرى ذلك الاجتهاد في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء

مقاصد الشريعة تحقيقاً لها وإبقاءً عليها، والاجتهاد الذي يعود على المقاصد

الشرعية أو بعضها بالإبطال هو اجتهاد فاسد مردود، وإن ظهر أنه يحقق مصلحة،

أو يدرأ مفسدة.

2 - عدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع التفصيلية؛ إذ لا مصلحة حقيقية وإن

ظهرت ببادي الرأي في مخالفة الأدلة الشرعية.

والنوعان الأول والثاني من المسائل قد يحتاج كل منهما وخاصة في هذا

العصر لضمان حسن تطبيقه وتنفيذه إلى إنشاء هيئات أو مؤسسات تكون مسؤولة

عن التطبيق والتنفيذ، وإنشاء هذه الهيئات أو المؤسسات في ظل موافقة مقاصد

الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.

والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى» استنباط أحكام اجتهادية

جديدة تبعاً لتغير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية

سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير

مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة

أكثر تحقيقاً للمصالح ودفعاً للمفاسد « [27] .

* السياسة الشرعية والنظم السياسية:

مما تقدم يتبين أن موضوعات السياسة الشرعية كثيرة، وأن أحد موضوعاتها

هو التشريعات السياسية التي تسير بمقتضاها الدولة أو بالتعبير القديم» الأحكام

السلطانية «، أو بالتعبير المعاصر» النظام السياسي «، فإن البحث في النظام

السياسي الإسلامي وتطبيقه في الواقع والاجتهاد في تكوين مؤسساته، ووضع النظم

واللوائح المنظمة لذلك؛ هو مما يدخل في السياسة الشرعية، ولمكانة هذا الموضوع

من السياسة الشرعية؛ فإن بعض أهل العلم المعاصرين قد عرَّف السياسة الشرعية

به فقال:» فالسياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل

تحقيق المصالح ودفع المضار؛ مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية،

والمراد بالشؤون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت

(دستورية) أم مالية أم (تشريعية) أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها

الداخلية أم علاقاتها الخارجية، فتدبير هذه الشؤون، ووضع قواعدها بما يتفق

وأصول الشرع هو السياسة الشرعية « [28] ، وعلم السياسة الشرعية على ذلك هو

» علم يبحث فيه عما تُدبّر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق

وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص « [29] .

ولا شك أن هذا من السياسة الشرعية لكنه جزء من أجزائها كما تقدم، ويدخل

في ذلك الرد على الشبه التي تثار حول السياسة الشرعية، وعليه فإن التعرض

للنظم المناقضة للنظم الإسلامية وبيان فسادها وبطلانها يدخل في علم السياسة

الشرعية.

* متطلبات النظر في السياسة الشرعية:

نظراً لطبيعة السياسة الشرعية على الوجه المتقدم بيانه، فإنه يلزم الناظر فيها

والمتفقه أمور منها:

- المعرفة التامة بأن الشريعة تضمن غاية مصالح العباد في المعاش والمعاد،

وأنها كاملة في هذا الباب صورة ومعنى؛ بحيث لا تحتاج إلى غيرها؛ فإن الله

تعالى قد أكمل الدين وقال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] (المائدة: 3) ، ومنها

الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة

الإلهية أو النبوية، ومنها المعرفة الواسعة الدقيقة بمقاصد الشريعة، وأن مبناها

على تحصيل المصالح الأخروية والدنيوية ودرء المفاسد، ومنها التفرقة بين

الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية التابعة للمصالح

التي تتقيد بها زماناً ومكاناً، ومنها المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه،

والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية، ومنها دراسة السياسة الشرعية

للخلفاء الراشدين والفقه فيها، ومنها معرفة أن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية

ليس بمجرد ما يُتصور أنه مصلحة وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة

شرعاً، ومنها رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضاً عند الاختلاف في

مواطن الاجتهاد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015