الورقة الأخيرة
الأستاذ: عصام العطار [*]
izaachen@t-online.de
لقد صدمتني وآلمتني وزادتني شعوراً بالضآلة والمهانة الصُّوَرُ التي أذاعتها
الفضائيات، ثم نشرتها الصحف والمجلات لصدام حسين عقب اعتقاله، بصرف
النظر عن الموقف منه والحكم له أو عليه.
لقد أقامت الولايات المتحدة، وأقام الغرب والأمم المتحدة الدنيا، باسم
الإنسانية، وحقوق الإنسان، والقوانين الدولية، واتفاقات جنيف، عندما عرض
الإعلام العراقي، في الحرب الأخيرة، صُوَرَ بعض الجنود الأمريكان الأسرى.
وصُوَرُ صدام، رئيس جمهورية العراق، التي عُرِضَت وما تزال تعرض أَبْشَعُ
منها مائة مرّة وأفظع، وأدعى إلى الاشمئزاز والإنكار؛ ولكنها تعدّديّة المقاييس في
عالمنا الراهن:
مقاييسُ للأقوياء، ومقاييس للضعفاء.
مقاييسُ للأغنياء، ومقاييس للفقراء.
مقاييسُ للأصدقاء، ومقاييس للأعداء.
مقاييس حيث تشرق الشمس، ومقاييس حيث تغرب الشمس.
ومقاييس للشمال المتقدم، ومقاييس للجنوب المتخلف.
ومقاييس وا أسفاه! للعرب والمسلمين، ومقاييس لغيرهما من البشر.
أنا لم أُؤَيّد قطُّ «صدام حسين» ونظام صدام حسين، ولم أؤيّد قطُّ أيّ نظام
عربيّ أو إسلاميّ دكتاتوريّ استبداديّ قمعيّ، عسكريّاً كان أو مدنيّاً، فرديّاً كان أو
حزبيّاً.
ولن يجد لي أيُّ باحث أمين، على امتداد حياتي، واختلاف ظروفي،
وخطورة بعض هذه الظروف وقسوتها، وما تعرضت له من ضغوط وضربات،
ومواجهة للموت مرّة بعد مرّة؛ وعلى كثرة المساومات والمغريات الكبيرة الكبيرة
التي واجهتُها فرفضتُها.. لن يجد لي أيُّ باحث منقّب موقفاً واحداً أو كلمة واحدة
أيدت به أو جاملت بها رَهَباً أو رَغَباً طاغوتاً من الطواغيت، مهما كان وكانت
الظروف؛ فأنا أبعد الناس عن أن أدافع عن صدام حسين ونظام صدام حسين.
إنما أدافع عن القيم الإنسانية والإسلامية والذوقية والجمالية التي أؤمن بها،
وعن العدالة الخالصة الشاملة التي أطلبها للمذنب والبريء، والعدوّ والصديق،
وعن كرامة أيّ عربيّ ومسلم، وأيّ إنسان من أيّ عرق ودين، يتعرّض لمثل هذا
العبث الشائن، من المحتل المستكبر الغاشم أو من سواه.
عندما اشتدّ الخلاف والنزاع بين بعث سورية وبعث العراق، وبين القيادة
القطريّة في دمشق والقيادة القوميّة في بغداد، وبلغ ذروته بين حافظ الأسد وصدام
حسين؛ حرص صدام حسين وكان لي تأثير شعبيّ كبير في سورية في ذلك الحين،
وكنت قد مُنعت من دخول سورية لدى عودتي من الحجّ سنة 1964م، ثمّ صودرت
ممتلكاتي المنقولة وغير المنقولة وأنا في الغربة، واحتالوا لسحب جواز سفري مني،
وقد انقضت مدته ولم يعد صالحاً للاستعمال حاول صدام حسين، كما حاولت
جهات عربية ودولية أخرى قد أتحدث عنها في يوم من الأيام، أن يستميلني بأي
ثمن، وأن يدخلني في معركته التي يخوض، ودعاني دعوة شخصيّة مُلِحّةً أكثر من
مرة لزيارته ولقائه في بغداد؛ ولكنني رفضت هذه الدعوة، كما رفضت دعوات
أخرى من مؤسسات أخرى في العراق، ولقد كنت صريحاً كلّ الصّراحة مع الرُّسُل
والوسطاء الذين سعوا بينه وبيني للتفاهم والتعاون، قلت لهم: إنني ضدّ الدكتاتوريّة
والاستبداد والظلم من حيث المبدأ في أيّ مكان من العالم العربيّ والإسلاميّ، فلا
أقبل لنفسي أن أحارب الدكتاتوريّة الغاشمة في سوريّة، وأن أتعاون معها في العراق،
وصرَّحت أكثر من مرة لصحفيين وصحف ووسائل إعلام، عندما كنت أُسأل في
هذا الموضوع، بما خلاصته: «أنا لا أقبل أن أخوض معركة صدام حسين ضد
حافظ الأسد، ولا معركة حافظ الأسد ضد صدام حسين، ولا معركة أيّ دكتاتور
مستبدّ ضدّ أيّ دكتاتور آخر؛ مهما عظمت في ذلك المكاسب الشخصيّة، وأَلْجأَتْ
إلى ذلك الظروف. معركتي إنما هي معركة الإسلام والإنسان العربيّ والمسلم؛
ضدّ الدكتاتورية والاستبداد والظلم السياسيّ والاجتماعيّ، من أجل الحرية والكرامة،
والحق والعدالة وحقوق الإنسان، ونظامٍ شوريٍّ دستوريّ صحيح، يُمَكِّن الشعب
من أن يختار لنفسه بنفسه أهدافه ونهجه ومن يمثلونه أصدق تمثيل» .
وعندما حُدِّدَتْ حُرِّيّاتي السياسية في ألمانيا منذ آخر سنة 1980م، ومُنعتُ من
«الكلام والكتابة، والعمل المباشر وغير المباشر، الفعّال وغير الفعّال» ؛ لأسباب
وأسباب وأسباب.. وقُتِلَتْ زوجتي الشهيدة - إن شاء اللَّه - أم أيمن رحَمِها اللَّه
تعالى، وكان المقصود أن نقتل جميعاً في 17/3/1981م في بيتنا في «هرستالر
شتراسة» ؛ صبرنا على محنتنا، ولم نقبل بحال من الأحوال أن نخرج عن خطنا
خوفاً من الموت، أو تَلَمُّساً لأسباب الحياة؛ وبقيت المعاني الأصيلة المتقدمة التي
تلتزم الاستقلال والتميز، واستقامة النهج، وتأبى أن تُسْتَغَلّ وتتحوّل إلى أداة في
أيدي من يملكون السلطانَ والمال، وأسبابَ الحماية والوقاية والدنيا في شرق أو
غرب؛ رغم العزلة المفروضة والموت المحدق.
قلت: بقيتِ المعاني الأصيلة المتقدّمة تتسرّب بصور مختلفة في كلماتي التي
كنت أكتبها وكانت تنشر في «الرائد» [**] ، ومن ذلك على سبيل المثال: نحن لا
نُقارع الباطل بسيف الباطل ولكنْ بسيف الحقّ، ولا نحارب باطلاً من أجل باطل
آخر، ولكن من أجل الحق، فالحقُّ عندنا هو الوسيلة وهو الغاية.. وهذا ما يُمَيِّزُنا
عن كثير ممن يخوضون المعارك ويحملون السلاح.
نحن لا نكفر بالطاغوت في مكان ونؤمن به في مكان، ولا نحاربه في بلد
ونكون جنده في بلد، ولكننا نكفر بالطاغوت ونحاربه حيثما كان، ونقف مع الحق
في كل مكان وزمان.
هيهاتَ! هيهاتَ! .. إن مخاصمتي لطاغوت لا يمكن أن تضعني في خدمة
طاغوت آخر مهما كانت الظروف. وندّدتُ بالحرب العراقية الإيرانية، وندّدتُ
باستخدام السلاح الكيماويّ في «حلبجة» وغيرها من الأماكن، وأَدَنْتُ غزو
الكويت، وأهبت بالعرب والمسلمين جميعاً أن يبادروا إلى إنهاء الاحتلال، وحلّ
المشكلات التي نتجت عنه أو أَدَّت إليه، وأن يمنعوا كارثة الغزو الأجنبي.. إلى
أشياء أخرى نقدت بها تصرّفات النظام العراقي، أو نصحته بها، ونصحت سائر
العرب والمسلمين.
لم أكن قطُّ في صفّ صدام حسين، ونظام صدام حسين، بل كنت ناقداً
ومعارضاً لهُ ولأمثاله من الأنظمة، ومع ذلك فقد صدمتني وآلمتني وزادتني شعوراً
بالضآلة والمهانة الصورُ التي أذاعتها الفضائيات، ثمّ نشرتها الصحف والمجلات
لصدام حسين عقب اعتقاله. لم يكن الذين اعتقلوه وأظهروه بهذه الصورة البشعة
المزرية من العراقيين، مهما كان شأن هؤلاء العراقيين؛ بل كانوا من الغزاة
المحتلين الذين اقتحموا العراق بقواهم الأسطورية الباغية، ومسوِّغاتهم الكاذبة
الزائفة، وأهدافهم الآثمة الفاجرة التي تهدّد العرب والمسلمين في هذه المنطقة من
العالم، وتهدّد العالم كلّه من خلال هذه المنطقة، وقتلوا الألوف من الجنود، وقتلوا
الألوف من المدنيين، الأبرياء: الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، واعتقلوا
الألوف في شروط من أسوأ الشروط، ودمّروا ما بقي للعراق، بعد ضرباتهم
السابقة، من البنية التحتية، وتحكّموا بالعراقيين، ومختلف أمورهم، كما لم يتحكّم
دكتاتور سابق، ولا يمكن أن يتحّكم دكتاتور لاحق.
وأمسكوا برئيس العراق الفعلي مغتصِباً كان أو منتخَباً كما كان يُمسك السيّدُ في
بلادهم بعبده الفارّ، وتصرفوا به كما يريدون، وأبرزوه كما يحبون، بتلك الحالة
الإنسانية المزرية المؤلمة، والصورة المثيرة البشعة، والقصد البيّن للإهانة
والإذلال، فعلوا ذلك به دون أن يَسْتَأْمِروا أو يسألوا أحداً من العراقيين في شأنه!
ودون أن يشعروا بحاجة إلى مثل هذا السؤال! فأيّ إهانة للعراق وشعبه مثل هذه
الإهانة والاستهانة واللامبالاة؟! وأيّ إهانة للعرب والمسلمين الذين لم يُقِم لهم
الاحتلال المستكبر أيّ وزن، ولم يضع أحاسيسهم ومشاعرهم وآراءهم في كفة
الميزان؟!
والأدهى والأَمَرّ أن المسؤولين الجدد في العراق لم يشعروا بأيّ غضاضة أو
تجاوز في إهمالهم وإغفالهم في هذا الأمر الذي هو من أخصّ خصوصيات العراق
والعراقيين، وكأنَّ المحتلّين عندهم هم أصحاب الحق الأصلي والطبيعي في البلاد،
يفعلون فيها ما يشاؤون، ويتصرفون فيها وفي أهلها بما يريدون، وأنه ليس عليهم
أي على المسؤولين العراقيين إلا القبول والطاعة وتنفيذ الأوامر.
لقد كنت أصف صدام حسين على الدوام بأنه دكتاتور قاس سفّاح، ولكن هل
عادَتْهُ الإدارات الأمريكية لأنه دكتاتور قاس سفاح؟!
لقد كان الأمريكان أصدقاءه وعونه وهو يحارب في إيران، ويقذف في أتون
الحرب بمئات الألوف، ويشيع الموت والدموع والدّمار.
وكانوا أصدقاءه والسلاح الكيماويّ يفتك بالألوف من الأكراد؛ فكيف نصدّقهم
أَنَّهم إنّما يغزون العراق، ويحتلونه الآن، لتحريره من الدكتاتورية والدكتاتور
الظالم السفاح؟!
كيف نصدّقهم ونحن نرى دم الأبرياء ينسكب على أيديهم كلّ يوم، وما يقع
على أيديهم كلّ يوم من الفواجع والآلام؟!
* هل أطلب شيئاً لصدام حسين؟
نعم! أطلب له ما أطلبه لكلّ إنسان، كائناً من كان أو ما كان، أطلب له ما
أطلبه لكلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً، عابداً كان أو فاسقاً، بريئاً كان أو مجرماً..
العدلَ والإحسانَ وصيانةَ الكرامة الإنسانية.. [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
أطلب أن يؤخذ من أيدي أعدائه الأمريكيين، الذين كانوا وما زالوا يريدون له
الموت، ويتربصون به كلّ شرّ، والذين لا يعترفون له بوضع قانوني واضح
يحميه من الضغط والإكراه، والعذاب والإذلال. وأن يوضع في يد الأمم المتحدة،
أو أيّة جهة أمينة نزيهة أخرى، تحت إشراف دوليّ، أو رقابة دوليّة حقيقيّة، توفّر
له محاكمة عادلة تتحقّق فيها الضمانات القانونية والأخلاقية والسياسية الفعلية.
وعلى رجال القضاء، ونقابات المحامين في العراق، وفي العالم العربيّ والإسلاميّ،
أن يفكروا في هذه المحاكمة الخطيرة التي سيكون لها ما بعدها على الصعيد
التاريخيّ والسياسيّ النظريّ والواقعيّ، وفي المحكمة المرجوّة: كيف تتكوّن،
وممن تتكَوّن، وكيف تعمل، بما يساعد على جلاء الحقائق، واستبانة الأمور،
وتحقيق العدل، الذي يأمر به اللَّه، ويطمئن إليه الناس، وبعد ذلك فليحكم القضاء
النزيه بما يمليه العدل والقانون والضمير، ويرضاه اللَّه عزَّ وجلَّ.
وبعد: أفما آنَ لحكامٍ ظالمين مستبدّين في بلاد العرب والمسلمين أن يعتبروا
بما يشهدون كلّ يوم وبما يستمعون، وأن يفكروا ويفكروا ويفكروا بمآل أمورهم
وسوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة؟!