الورقة الأخيرة
محمد نزال [*]
* توطئة:
هل نحن بحاجة إلى الكتابة عن «وثيقة جنيف» التي تم التوقيع عليها قبل
أسابيع في 1/12/2003م؟ هل تحتاج منا إلى الوقوف عند بنودها وتحليل
نصوصها كي نستنتج أنها باطلة؟
هل من جديد في تلك الوثيقة بعد خريطة الطريق، وكامب ديفيد الثانية،
وخطة تينت، وتقرير ميتشل، ومحادثات طابا، واتفاق واي بلانتيشن، واتفاق
أوسلو، ومباحثات مدريد؟
لعل من نافلة القول أن ما بني على باطل فهو باطل، وهو ما يختصر كل ما
سنورده عن تلك الوثيقة التي أُسّس بنيانها على شفا جرف هار لا أساس له ولا حق
بسنده، ولا نرى إلا أنه سينهار سريعاً على رؤوس مهندسيه والمخططين له
والموقِّعين على وثيقته.
إن الدافع الذي يجعلنا نكتب عن تلك الوثيقة هو السير على نهج نبي الله
إبراهيم - عليه السلام - حين جادل قومه في بطلان ألوهية الكواكب والقمر
والشمس وإثباتها لله الواحد الأحد، ومجادلته للنمرود، ومجادلته لقومه عقب
تحطيمه للأصنام، وقبل كل ذلك فإن مما يسعنا في هذا الأمر أن نقول قولته عليه
السلام: [قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] (البقرة: 260) ، فمثل تلك الوثيقة لا
تزيدنا إلا يقيناً بأن قضية فلسطين لا حل لها بغير جهاد وصبر ومصابرة.
أما هم فمثل خفافيش الظلام، كانوا يلتقون حتى ظهر ما خطَّطوه ودبروه،
فإذا به يفيض سوءاً عن كل ما سبق من اتفاقات جائرة ظالمة؛ وهو ما يجعلنا
نصطف إلى جانب كل من أدانها ورفضها بل واعتبرها جريمة بحق شعبنا وأمتنا.
* الزمان:
أما التوقيت الذي اختاره الموقِّعون على وثيقة التفريط ليخرجوها فيه إلى
العلن؛ فقد تزامن مع محاولات محمومة أخرى من أطراف عديدة لتقديم ما
يسمى بـ «المبادرات السلمية» بزعم «لحلحة» الأوضاع على الساحة
الفسلطينية، والتي رافقها عقد العديد من اللقاءات العلنية بين أطراف
صهيونية وأخرى فلسطينية؛ كذلك اللقاء الذي جمع جبريل الرجوب مستشار
عرفات لشؤون الأمن القومي، وعمري شارون نجل الإرهابي شارون العضو في
الكنيست الصهيوني، وذلك في منطقة «ديتشلي بارك» القريبة من إكسفورد،
حيث جرت بينهما مفاوضات سُميت إعلامياً «ندوة عمل» ، وتم الاتفاق على
تواصل اللقاءات والمباحثات بينهما، وهو ما يمكن تفسيره بأنه جزء من «الأفكار
السياسية الجديدة للتسوية» ، والتي قيل إن الإرهابي شارون عاكف على بلورتها في
مواجهة «هجمة المبادرات السلمية» التي انطلقت من حوله.
وبالتوازي مع هذه الندوة عُقدت ندوة بعنوان «بحثاً عن حل دولي
لفلسطين» في مدريد، شارك فيها محمد دحلان وزير شؤون الأمن الفلسطيني
السابق وشلومو بن عامي وزير الخارجية الصهيوني الأسبق وغيرهما من
الشخصيات الفلسطينية والصهيونية. كما تزامن ذلك مع إعلان حزب العمل
الصهيوني أن لجنة برئاسة الوزير السابق حاييم رامون قد انتهت من إعداد «خطة
سلام» كحل دائم للنزاع الفسلطيني الصهيوني، إضافة لإعلان مماثل عن حزب
«شينوي» الشريك في الائتلاف الحاكم مع المجرم شارون.
كل ذلك الصخب تزامن مع تصاعد وتيرة العمليات النوعية للمقاومة في
العراق ضد الاحتلال الأمريكي؛ مما جعل الإدارة الأمريكية تتيقن أنها بدأت تغوص
في المستنقع العراقي، وهو ما شغلها كثيراً عن متابعة التفاصيل الدقيقة على جبهة
الصراع العربي الصهيوني، خاصة بعد إخفاقها الذريع في فرض رؤيتها المتمثلة
بخريطة الطريق، ونجاح حركات المقاومة في تخطي الضغوط الهائلة التي رافقت
الترويج لتلك الخطة لتستمر الانتفاضة ولو بحدها الأدنى.
وبالنظر إلى الأهداف الحقيقية للاحتلال الأمريكي للعراق؛ فالورطة الأمريكية
تشمل العدو الصهيوني بمعنى أن الإخفاق الأمريكي في العراق يضاف تلقائياً
للإخفاق الذي تعاني منه حكومة شارون، والمتمثل بدرجة أولى في وقف المقاومة
وإنهاء الانتفاضة، مع استنفاد كل وسائل القمع والبطش والإرهاب في مواجهة
الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني.
من هنا يتبين أن أصحاب «وثيقة جنيف» قدّموا خدمة جليلة لبوش
الحريص على تهدئة المنطقة، وتحقيق أي إنجاز سياسي قبل أن يخوض معركة
الانتخابات القادمة، كما أنهم بطريقة أو بأخرى قدموا خدمة للإرهابي شارون
الغارق بدماء ضحاياه بالتغطية على كل ما ارتكبه من جرائم خلال السنوات الأخيرة،
وذلك من خلال العودة إلى أجواء ما قبل الانتفاضة التي تهافت فيها فريق أوسلو
على موائد المفاوضات؛ دون أن ينالوا من ذلك سوى المزيد من السخط الشعبي
على نهجهم التفريطي، والالتفاف المتعاظم على برنامج المقاومة، والذي تجسد في
انتفاضة الأقصى المباركة.
إن مجرد عقد لقاءات مع شخصيات صهيونية في هذا الوقت، حيث المدن
الفلسطينية ما زالت ترزح تحت حصار خانق والجرائم الصهيونية، وعمليات القتل
والاغتيال والاعتقال لأبناء شعبنا لم تتوقف يوماً واحداً، وفي ظل تنامي بناء
المستوطنات وتسمينها، وإصرار على إتمام بناء جدار الفصل العنصري، إن
مجرد اللقاء مع الصهاينة هو إقرار لهم بما ارتكبوه ويرتكبونه من جرائم، واستهانة
بتضحيات شعبنا وبدمائه وجراحه وأنات أبنائه في سجون العدو، وفي السجن
الكبير الذي حشرهم فيه داخل الوطن.
* المكان:
في البلد الذي احتضن المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل، ودعا فيه
ثيودر هيرتزل إلى إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين؛ تم التوقيع على
«وثيقة جنيف» لتشكل امتداداً للمؤامرات التي حيكت وما تزال تحاك على أرضنا
المقدسة لانتزاعها من المالك الشرعي لها وتسليمها لإخوان القردة والخنازير، ولعل
من المفارقات اللافتة أن اسم جنيف ارتبط في سبعينيات القرن الماضي
بـ «مؤتمر السلام» الذي حاولت الأطراف الدولية آنذاك عقده في جنيف، ولم
يتجرأ أحد وقتها على الإذعان للضغوط الدولية في مواجهة الرفض الشعبي
للحلول الاستسلامية، ومما يؤرخ لتلك الحقبة قول شاعر فلسطيني:
كل الدروب سوى جنيف مغلقة ... ودرب جنيف فيه ضيعة القيم!!
* الأطراف الموقعة:
على الرغم من أن وثيقة جنيف استحوذت على اهتمام غير معتاد، حيث
شارك في حفل التوقيع عليها رؤساء دول سابقين؛ من بينهم الرئيس الأمريكي
السابق جيمي كارتر مهندس اتفاقات كامب ديفيد، ونيلسون مانديلا رئيس جنوب
إفريقيا السابق، وليخ فاونسا رئيس بولندا السابق، إضافة لمئات من المدعوين
البارزين، وعلى الرغم من الصخب الإعلامي الكبير الذي صاحب التوقيع عليها
والاهتمام الدولي بها؛ فإن أصحاب الوثيقة في واقع الأمر ليس لهم أي وزن سياسي
سواء لدى الطرف الفلسطيني أو الطرف الصهيوني، والذي ترأسه بيلين رئيس
حزب شاحار الصهيوني الذي لا يحظى بأي وزن معتبر في الخريطة السياسية
الصهيونية، أو حتى عمرام ميتسناع رئيس حزب العمل السابق الذي لم يطل بقاؤه
فيه بسبب تدهور أوضاعه على جميع الأصعدة، حيث شارك كعضو في الوفد
الصهيوني مع أبراهام بورغ (رئيس المكتب الصهيوني السابق) وعدد آخر من
الشخصيات اليسارية.
وقد تعارف الوسط الصهيوني على أن الحزب المهزوم في الانتخابات يبرع
في تقديم مبادرات سلمية ما دام بعيداً عن مقاليد الحكم، وهو ما يفسر عدم الحماس
الصهيوني، لها بل ومهاجمتها إلى درجة إصدار فتوى حاخامية تعتبر توقيع
«وثيقة جنيف» بمثابة «خيانة» ، والموقّعين عليها هم «خونة» ، وزادت
على ذلك بالمطالبة بمحاكمة «الإسرائيليين» المشاركين في مراسم توقيع الاتفاقية
بتهمة التآمر على الدولة والدس على دعائمها وأسسها وزعزعة ركائز أمنها!!
أما الطرف الفلسطيني الذي ضم في عضويته هشام عبد الرزاق وزير شؤون
الأسرى، ونبيل قسيس الوزير في حكومة قريع، ومحمد الحواراني عضو
المجلس التشريعي، وقدورة فارس الوزير أيضاً في حكومة قريع؛ فقد ترأسه
ياسر عبد ربه الذي تجمعه مع نظرائه الصهاينة قواسم مشتركة عديدة على خلفية
التوجه اليساري الذي يميزهم جميعاً.
ياسر عبد ربه الذي تنقل مراراً خلال ممارسته للعمل السياسي من صفوف
حركة القوميين العرب إلى أحضان الجبهة الشعبية، ليغادرها عام 1969م ليكون
مساعداً لنايف حواتمة في قيادة الجبهة الديمقراطية، لينسلخ عنها ويصبح أميناً عاماً
للاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا) عام 1991م؛ لم يعرف عنه إلا أنه كان
ضمن الخلية المصغرة التي قادت بسرّية تامة مفاوضات أوسلو سنة 1993م، حيث
ذكر أبو مازن في كتابه «طريق أوسلو» أن قناة أوسلو السِّرية اقتصرت
تفصيلاتها على ثلاثة هم: «ياسر عرفات، وأبو مازن، وياسر عبد ربه» .
ياسر عبد ربه كان حاضراً في أغلب المفاوضات التي تم عقدها بين السلطة
الفلسطينية والصهاينة، وبعد أن أمضى زمناً طويلاً وزيراً للإعلام لدى السلطة؛
فإن قيامه بتوقيع «وثيقة جنيف» لا يمكن أن يحسب عليه كإنجاز شخصي، فما
كان لمثله أن يمضي قدماً في إتمام صفقة جنيف دون تفويض من عرفات الذي
أرسل جبريل الرجوب مستشاره للأمن القومي للمشاركة في حفل التوقيع.
وبهذا فيمكن الجزم بأن تلك الوثيقة هي إحدى محاولات فريق أوسلو لإحياء
مسيرة المفاوضات المتعثرة، والتي داس عليها شعبنا الفلسطيني خلال انتفاضته
المباركة.
* الوثيقة الجريمة:
لعل الجديد في وثيقة جنيف هذه المرة هو حجم التفريط الذي قدمه الجانب
الفلسطيني، والذي لم يسبق له مثيل في السابق؛ إذ إنها تجرأت على شطب حق
العودة للاجئيين الفلسطينيين، وهو الملف الأكثر خطورة وحساسية في ملفات
القضية الفلسطينية، وكان وما يزال الشوكة في حلق المفاوضين، خاصة أنه يرتبط
بمصير ملايين اللاجئين الذين تشتتوا داخل فلسطين وخارجها.
لقد أعفت هذه الوثيقة العدو الصهيوني من كل مسؤولية أخلاقية أو قانونية عن
تهجير أولئك اللاجئين، وبذلك فقد أقر الطرف الفلسطيني للصهاينة على روايتهم،
والتي تدّعي أن العصابات الصهيونية لم تقم بتهجير اللاجئين قسراً وعبر خطة
مدروسة، كما أنها رفعت عنه تبعات حل مشكلة اللاجئين وحملتها للمجتمع الدولي،
وتركت مصير تلك الأعداد الهائلة من اللاجئين بيد الصهاينة، وهو ما يعني
حرمانهم من العودة إلى أرضهم، وحرمانهم من التعويض عن الأضرار التي لحقت
بهم بسبب إخراجهم من أرضهم، ولا نبالغ إن قلنا إن جريمة جنيف بحق اللاجئين
الفلسطينيين لا تقلّ بشاعة عن مذبحة اللاجئين في مخيّم جنين.
إن الجريمة التي ارتكبت في جنيف لم تقتصر على بند اللاجئين بل تعدته إلى
كل محاور الوثيقة، كما في ملف القدس الذي تنازل فيه الجانب الفلسطيني عن
الحائط الغربي للمسجد الأقصى (كحائط البراق) للصهاينة، وتم الإقرار ولأول
مرة بأن لليهود علاقة بالحرم القدسي، والتسليم للعدو بالهيمنة على جبل الزيتون
والعديد من الأماكن التي تقع ضمن القدس الشرقية، مع أن مجرد الإقرار لليهود
بسيادتهم وهيمنتهم على القدس الغربية جريمة لا تُغتفر!!
في تلك الوثيقة (الجريمة) أدان الموقّعون جهاد شعبنا ووصموه بالإرهاب،
وتعاهدوا على محاربة القائمين عليه والمتمسكين به؛ من خلال تشكيل تبادل
المعلومات الأمنية والاستخبارية، وشن حرب لا هوادة فيها ضد كل من يقاوم
الاحتلال الصهيوني البغيض.
الشيء الوحيد الذي غفل عنه أولئك الذين اجتمعوا في حفلة ليرقصوا على
جراح شعبنا الفلسطيني ومعاناته وآلامه؛ هو أن وثيقتهم ما كان لها أن تقدم أو
تؤخر شيئاً في جوهر صراعنا مع الاحتلال الصهيوني، فتحرير فلسطين والقدس
وإعادة ملايين اللاجئين لن يتم عن طريق المفاوضات السلمية الذليلة، وإنما عن
طريق الجهاد والمقاومة، وكما أن مزبلة التاريخ تحوي العديد من الوثائق والاتفاقات
التي تم التطبيل والتهليل لها؛ فلن يكون حال «وثيقة جنيف» أفضل منها؛ شأنها
شأن أي زبد فارغ.. [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْض] (الرعد: 17) .