دراسات إعلامية
الصحافة العربية المهاجرة
بين بث الوعي وتسويق التبعية
د. شعيب الغباشي [*]
تلعب وسائل الإعلام المختلفة دوراً مهماً في التأثير والتغيير في الرأي العام،
سواء أكان هذا الدور سلبياً أم إيجابياً؛ لهذا تحرص كل الأنظمة السياسية
والمجتمعية على أن يكون لها جهازها الإعلامي المتكلم بصوتها، والمعبر عن حالها،
والداعي إلى سبيلها والمدافع عن آلامها وآمالها وطموحاتها.
ولا شك أن الصحافة من أقدم وأهم وسائل الإعلام، ويتعاظم دور هذه الوسيلة
في المجتمعات الحضرية التي تكثر فيها نسبة المتعلمين والقارئين، فضلاً عما لها
من ميزات وخصوصيات تنفرد بها دون الوسائل الإعلامية الأخرى؛ لهذا لا نكاد
نجد نظاماً أو مؤسسة أو هيئة أو جماعة إلا وتعتمد بشكل كبير على الصحافة
المقروءة في الدعاية لها أو التعريف بها، ومن ثم تباينت اهتمامات تلك الصحف
تبعاً للجهة أو النظام الذي تمثله أو تعبِّر عنه.
وفي منتصف السبعينيات من القرن العشرين حدث أن هاجر بعض الصحفيين
العرب من أقطارهم إلى بلاد الغرب، وأنشؤوا صحفاً تنطق بالعربية سميت هذه
الصحف فيما بعد بالصحف المهاجرة، وقد عرَّفها أحد الباحثين بأنها «الصحف
التي يصدرها عرب مهاجرون إلى بلاد الغرب وتنطق باللغة العربية» [1] .
وليست هي الصحف التي تصدرها جهات غير عربية باللغة العربية، وكذلك ليست
هي الطبعات الدولية التي تظهر لبعض الصحف العربية [2] .
* أسباب النشأة:
ولقد كانت هناك عوامل عديدة وراء ظهور هذا اللون من الصحافة، نذكر
منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 - افتقاد بعض الصحف والصحفيين العرب في العديد من الأقطار العربية
لإمكانية التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومواقفهم بحرية داخل أقطارهم، وذلك إما
للطبيعة الاستبدادية لبعض أنظمة الحكم، أو لوجود قيود قانونية على ممارسة
الحريات الصحفية، أو بسبب وقوع خلاف بين بعض الصحف والصحفيين وبين
الأنظمة الحاكمة في بلادهم.
2 - تدخل قوة خارجية، أجنبية أو عربية تحول بين الصحفيين وبين التعبير
عن آرائهم وأفكارهم.
3 - وجود قوانين للمطبوعات في العديد من البلدان العربية تحول بين الأفراد
وإصدار الصحف.
4 - قيام بعض الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بالتشجيع على إصدار
صحف عربية في المهجر لتكون صوتاً غير رسمي يعبر عن سياستها، ويدافع عن
موقفها ويتصدى للمعارضين لها. كذلك فإن بعض الأنظمة العربية تستخدم الصحف
العربية المهاجرة كسلاح إعلامي في معاركها السياسية مع غيرها من الأنظمة
العربية المخالفة لها [3] .
5 - تأميم الصحافة في بعض البلدان كتأميم الصحافة المصرية في أوائل
الستينيات من القرن العشرين.
6 - تحول بعض البلدان إلى ساحة حرب أهلية تمنع استقرار العمل الصحفي،
كما حدث في لبنان عام 1975م.
7 - الانفراط والتشرذم الذي حدث في معظم البلاد العربية عقب اتفاقية كامب
ديفيد، بين مصر والكيان الصهيوني؛ حيث أدى ذلك إلى نشوء صراعات إعلامية
حادة، احتاجت إدارتها إلى استصدار صحف من خارج بعض البلدان.
وأياً كانت الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه الصحف العربية في بلاد الغرب،
فنحن أمام ظاهرة من الظواهر الصحفية التي تستحق من المعنيين والمهتمين
بالعمل الإعلامي والفكري أن يقفوا حيالها لدراستها وتحليلها ومساءلتها؛ فهي ظاهرة
لا يمكن تجاهلها، وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم؛ ذلك أن عدد الصحف المهاجرة
يرتفع بمضي الوقت، وقد لا يمر عام دون أن نسمع عن صدور صحيفة عربية في
بلاد المهجر: لندن، باريس، أو قبرص.. أو في أي عواصم أجنبية أخرى [4] .
وعندما انتهت الحرب الباردة بين الشرق والغرب تحولت الحرب الباردة
العربية إلى حرب ساخنة في الخليج، وقد أطاحت هذه الحرب ضمن أشياء كثيرة
بعدد من الصحف العربية المهاجرة، فقد توقفت مجلتا «كل العرب» و «اليوم
السابع» اللتان كانتا تصدران في باريس و «الدستور» و «التضامن» اللتان
كانتا تصدران في لندن، وكذلك تدهورت مجلتا «المستقبل» و «الطليعة العربية»
اللتان تصدران في لندن، وتدهورت كذلك مجلة «الدعوة» التي كانت تصدر
عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين من النمسا، وفي الوقت نفسه ازدهرت
الجرائد العربية اليومية المهاجرة؛ ففي لندن وحدها يصدر: «الشرق الأوسط»
و «العرب» و «الحياة» و «القدس» [5] .
* الولاء أم الاستقلال؟
وفي هذه الفترة تميزت تلك الصحف بالاستقطاب شبه الكامل من قِبَل الأنظمة
العربية، وأصبح من الصعب العثور على صحيفة عربية مهاجرة مستقلة بالمعنى
الحقيقي، وقد ساعد على ذلك الارتفاع الكبير في تكلفة إصدار الصحف في أوروبا،
وهو ما دفع بالقلة النادرة من الصحف العربية المستقلة إلى الارتماء في أحضان
بعض الأنظمة العربية تحت ضغط الحاجة إلى التمويل؛ لذلك فقد حفلت هذه الفترة
بتحولات كثيرة، تم فيها انقلاب كامل في مواقف وسياسات بعض الصحف العربية
المهاجرة؛ حيث انتقل بعضها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وانتقل بعضها
الآخر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ وبذلك فقدت العديد من الصحف العربية
المهاجرة مصداقيتها عند القارئ العربي [6] .
ولكنني أرى من الأمانة أن أنقل هنا رأياً يدافع عن موقف تلك الصحف.
يقول صاحب الرأي: إن الدور الكبير الذي تلعبه المجلة العربية المهاجرة كوسيلة
اتصال جماهيرية لا يمكن أن نتجاهله، خصوصاً في الربع الأخير من القرن
العشرين؛ حيث برزت هذه الصحف، كظاهرة قائمة بذاتها، مسلحة بالمال
والخبرة والتقنية الحديثة، واستطاعت من موقفها في المهجر أن تطرق أبواب
القارئ العربي في كل مكان، وتقدم له الأحداث الساخنة التي تجري في الوطن
العربي والعالم، ومن هنا فقد حاولت الأنظمة العربية المختلفة شراء هذه المجلات
بطريقة الدعم المباشر تارة، والدعم غير المباشر تارة أخرى، ويكفي أن نعرف أن
مليارديراً عربياً عرض على سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة «الحوادث» التي
تصدر باللغة العربية من لندن شيكاً بمبلغ خمسة ملايين دولار، وعقداً لمدة عشر
سنوات بمقابل شهري قدره عشرة ملايين دولار، لكي تكون ثمناً لمجلة «الحوادث»
لتصبح صحيفة نظام، ولكن اللوزي رفض وقال: «إنني أريد تحويل هذه
المجلة إلى مؤسسة لا بيعها لمن يدفع أكثر!» [7] .
والحقيقة أن مسألة تمويل الصحف بصفة عامة من المسائل الشائكة، ولكن
هناك أمراً لا يختلف عليه اثنان، وهو أن الصحيفة مهما بلغ حجم توزيعها لا يمكن
أن تفي بكل احتياجاتها، ومن ثم فلا بد من الاعتماد على مورد آخر غير التوزيع،
تستند إليه أي صحيفة لتغطية تكاليفها ومصروفاتها، ويمثل الإعلان الصحفي أهم
مصدر لتمويل الصحيفة؛ لذلك تحرص كل الصحف على اجتذاب الإعلان إليها؛
حتى تستطيع من خلال عائده المادي أن تغطي احتياجاتها المالية، ولكن السؤال
الذي يطرح نفسه الآن: ماذا تفعل الصحيفة إذا كانت نسبة الإعلانات المنشورة
على صفحاتها لا تمثل نسبة معقولة من دخلها، قدرها المتخصصون في الإعلان
الصحفي بألا تقل نسبة الإعلان عن 25% من عدد صفحات المطبوعة؟
والجواب: هو الدعم من الأفراد أو من الهيئات والمنظمات أو الأنظمة
والحكومات، وإن لم يتوفر هذا الدعم للصحيفة التي لا يسد الإعلان احتياجاتها،
فمصيرها التعثر ثم التوقف!! ومن هنا نعلم أن أي صحيفة لا يمثل الإعلان موردها
الأساس، فإنها ولا شك تعتمد في تمويلها على الدعم الخارجي؛ أي من خارج
موارد الصحيفة الطبيعية المتمثلة أساساً في التوزيع والإعلان، والواقع أن تمويل
الصحف ودعمها في حد ذاته لا غبار عليه، ولكن متى تحول هذا التمويل إلى قيد
يقيد حركة وحرية الصحيفة أو يوجهها الوجهة التي يريدها الممول؛ فهنا يكمن
الخطر، وهنا يكون الخطأ والخلل.
وليس عيباً أن تبحث الصحف عن مناخ أفضل تتحرك من خلاله أو عن
مصدر أفضل للتوزيع والكسب؛ ما دام ذلك يتم تحت راية أخلاقية، فالسلوك
الأخلاقي بالنسبة لعامة الناس، وللمهتمين بنشر الكلمة على وجه الخصوص،
ضرورة حيوية، ويتحتم على المرء التمسك بها إذا أراد أن يحترمه الناس ورغب
في كسب ثقتهم، وإذا تخلى المرء عن الخلق، خاصة إذا كان من المتعاملين بالكلمة،
فإنه يتحول إلى شيء آخر له اسمه في قاموس المنحرفين عن الجادة والطريق
السوي [8] .
* مخاطر التمويل:
والمشكلة التي قد تنجم عن اعتماد الصحيفة في تمويلها على مصادر أخرى
تتمثل في الأفراد أو الحكام أو الهيئات والأنظمة؛ هي أن تؤثر هذه المصادر بشكل
أو بآخر في توجهات الصحيفة ومواقفها وحيدتها ونزاهتها واستقلالها؛ فالصحف
ذات المبادئ، والتي تُؤسس في الأصل من أجل الدفاع عن قضية أو من أجل
الدعوة إلى مبدأ وعقيدة، لا يمثل تمويلها مشكلة بالنسبة لها؛ لأن الممول هنا يكون
صاحب عقيدة ومبدأ، ويقف وراء هذه الصحف التي تدعو إلى هذا المبدأ، ولا
يبغي من وراء ذلك إلا الحق والخير، ومن ثم فلا تأثير في توجهها أو حيدتها أو
استقلالها.
أما الصحف التجارية التي تسعى في المقام الأول إلى تحقيق الربح والكسب؛
فإن وقوف بعض الناس وراءها ودعمها ومساندتها لا يكون إلا لمنفعة أو مصلحة
تخص تلك الجهة الممولة، سواء كانوا أفراداً أو هيئات، وعندئذ نرى تلك الصحف
التجارية قد انحازت بشكل أو بآخر إلى الجهة أو الوجهة التي يريدها الممول، فهذه
الصحف يسميها بعضهم بالصحف «الارتزاقية» للأسف الشديد كان الدافع وراءها
هو دافع الهجرة الصحفية للكثير إلى الغرب وهو التكسب أو الارتزاق بالمعنى
اللاأخلاقي، وبالأسلوب الذي يحقق أكبر قدر من الدخل أياً كان هذا الأسلوب
مشروعاً أو غير مشروع، وليس هذا الحكم عشوائياً أو ضرباً من التخمين، بل هو
الواقع الذي تؤكده الأدلة والوقائع، فالمفروض في صحافة مهاجرة تبحث عن مناخ
أفضل مليء بالحرية والحيوية والحركة أن تعالج قضايا الوطن العربي المسلم
بدرجة من الإنصاف والموضوعية.. ولكن لم تفعل الصحافة المهاجرة شيئاً من ذلك،
بل أسهمت في تعميق الواقع الشائه، وأسهمت في زيادة الفرقة والحرقة، ووقفت
وراء من يدفع لها فقط.
والأمثلة عديدة وكثيرة لا حصر لها، كلها تؤكد شيئاً واحداً؛ أن هؤلاء الناس
الذين يحركون الصحافة المهاجرة «مرتزقة» بالدرجة الأولى، وباحثون عن
الدينار والدرهم قبل أي اعتبار ودون مراعاة لأدنى سلوك أخلاقي. لقد انتهجوا
سلوكاً «ميكيافيلياً» خلع كل أستار الحياء، وتعرى من كل القيم ... إن منطق
«الارتزاق» بالمعنى اللاأخلاقي هو الذي يجعل الصحافة المهاجرة تقف في
جانب بعض الدول العربية ضد بعضها الآخر، بينما الموقف الأخلاقي يحتم
عليها أن ترفع راية الحق والعدل والوحدة والتضامن، والسفارة الخيّرة بين الدول
العربية، والتبشير بالأمل لتخطي العقبات والدعوة إلى الحرية [9] .
* أنواع الصحف المهاجرة:
ويجدر بنا الآن أن نميز بين نوعين من الصحف المهاجرة:
النوع الأول: ويتمثل في «الصحف التجارية» التي يسعى أصحابها في
المقام الأول إلى التربح والتكسب، وهذا النوع من الصحف ليس من أصحابه من
ينتمي إلى تيار إسلامي أو هيئة أو جمعية إسلامية، أو من يُصدر صحافة لكي تخدم
الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية والقضايا الإسلامية.
والنوع الثاني من الصحف العربية المهاجرة: هي «الصحف الإسلامية» ،
وهي التي قام بإصدارها أفراد ينتمون إلى الفكر الإسلامي أو الحركات الإسلامية
المعاصرة؛ بهدف الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن المسلمين وقضاياهم، وبث الفكر
والوعي الديني لدى الجماهير المسلمة في بلاد المهجر؛ حتى يظلوا متمسكين بالقيم
الإسلامية والمبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها الدين الحنيف.
والنوع الأول من الصحف العربية المهاجرة والذي أسميناه بـ «الصحف
التجارية» يتمثل في العديد من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، نذكر منها
على سبيل المثال لا الحصر: جريدة «العرب» ، و «الشرق الأوسط» ،
و «الحياة» و «القدس» وتصدر جميعها من لندن، ومجلة «الحوادث» ،
و «التضامن» و «المجلة» ، وجميعها أيضاً تصدر من لندن، بينما تصدر
في فرنسا مجلة «الوطن العربي» و «الفرسان» و «المنار» [10] .
وأما النوع الثاني من الصحف العربية المهاجرة، وهي «الصحف
الإسلامية» ، فهي كثيرة ومتعددة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر
أيضاً: مجلة «الرائد» و «البيان» و «النذير» و «الدعوة المهاجرة»
و «فلسطين المسلمة» و «الكلمة الطيبة» [11] .
ومن خلال الدراسة الاستطلاعية لعينة من الصحف العربية المهاجرة بنوعيها،
التجارية والإسلامية، والوقوف على ما سبق من دراسات وأبحاث علمية سابقة
حول ظاهرة الصحافة العربية المهاجرة، نحاول التعرف على طبيعة الدور الذي
تؤديه هذه الصحف، ومدى قدرتها على بث الوعي والمعرفة بين الجماهير،
والأخذ بيد القراء نحو الأفضل في مجالات الفكر والثقافة والأدب والسياسة، وأيضاً
نحاول الوقوف على مدى فاعليتها وتفاعلها مع هموم الأمة ومشكلات المجتمع
المسلم.
وكذلك نهدف من وراء هذه الدراسة إلى الوقوف على طبيعة السلبيات التي
وقعت فيها تلك الصحف، وخطرها في تكريس مفهومات وآراء ومواقف تنم عن
ضعف في الإرادة ووهن في التوجيهات والمواقف التي من شأنها أن تجعل هذه
الصحف تتبنى أحكاماً وأفكاراً تدعو إلى التخلف وتسوِّق فكر التبعية، وتخرج عن
طبيعة الدور الذي يجب أن تقوم به؛ بحيث تظل بعيدة عن هيمنة رأس المال أو
السلطات السياسية أو المذاهب والتيارات الفلسفية والتغريبية التي لا تتفق وأصولنا
وعقائدنا، وتاريخنا وحضارتنا.
* مظاهر بث الوعي:
ومن خلال هذه الأسطر نقدم بعضاً من النماذج التي تشير إلى حالة بث الوعي
لدى تلك الصحف المهاجرة، ولكن قبل أن نتحدث عن ذلك؛ أود أن أسجل أمراً
مهماً في نظري وهو أن الصحف العربية الإسلامية المهاجرة لم تصدر في الأساس
إلا من أجل هذا الغرض؛ وهو بث الوعي لدى الجماهير بكل ما تحمل الكلمة من
معانٍ؛ فقد كانت عند الظن بها، فقد ناقشت هموم الأمة الحقيقية، وأبانت عن حكم
الإسلام فيما تعرضه من قضايا ومشكلات، ولم تكن بأي حال من الأحوال إلا
صوت الحق الذي آمنت به، ولسان الصدق الذي تتحدث عنه، وأراني لست في
حاجة إلى شواهد وأدلة كي أؤكد بها ما أشرت إليه؛ ولكن لا بأس أن نذكر بعضاً
من ذلك [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] (الأنفال: 42) .
فعن القضية الجزائرية كتبت إحدى المجلات تبين وجه الحق والحقيقة في هذه
القضية وموقف الإسلام الصريح الواضح في هذا الشأن، فكتبت تقول: إن سلخ
الجزائر عن إسلامها، أو محاربة مشروعها الإسلامي، أو التآمر على العربية
والتعريب، لمصلحة لغة أجنبية أخرى، ومصلحة التغريب؛ هو أمر خطر جداً
على الصعيد الوطني الجزائري، وعلى الصعيد العربي والإسلامي؛ فالعربية
والإسلام هما صلة الوصل الوثيقة بين الشعوب والبلاد العربية والإسلامية؛ فالتآمر
على العربية والإسلام في الجزائر تآمر على وحدة العرب والمسلمين جميعاً،
وإسهام في تحقيق المخططات الغربية الاستعمارية الراهنة التي تهدف إلى تفكيك
العالم العربي والإسلامي، وفصله عن ينابيع وحدته ومقوماته الشخصية لاستكمال
استعباده السياسي والحضاري، ومن هنا ارتبط ما يجري في الجزائر، في بعض
جوانبه، بالمؤامرة الكبرى التي يجري تنفيذها في العالم العربي والإسلامي، والتي
يعتمد في جانب كبير من تنفيذها على عناصر داخلية تبيع دينها وشرفها وأمتها
وبلادها بمناصب حقيرة ومكاسب هزيلة، وغير ذلك من عرض الدنيا الزائل [12] .
ثم اقترحت المجلة حلولاً في نقاط اقترحتها على حكومة الجزائر.
ولا شك أن هذا النموذج يقدم صورة حية لمدى الوعي بالواقع، والحرص
على بثه ونشره وتوصيله إلى الأفراد والجماعات والحكام على حد سواء. وهذا
نموذج آخر من الصحف الإسلامية المهاجرة يدل على وعيها بقضايا الأمة، وما
يجب علينا حيال الصهاينة المحتلين والأمريكان الظالمين في ظل هذا الواقع المؤلم
الذي نحياه؛ فتحت عنوان «المقاطعة أضعف الإيمان» كتبت مجلة البيان تقول:
«العلاقة الاستراتيجية بين العدو الصهيوني وأمريكا هي علاقة لا نقول تاريخية؛
إنما هي علاقة مصلحية استغلها اليهود بأموالهم وإعلامهم ووصولهم لمركز القرار؛
مما أنتج تلك العاطفة المعروفة بين الطرفين ... لذا وجدنا التعاون الكبير بينهم،
ووقوف الغرب بعامة والأمريكان بصفة خاصة في صفهم، وتأييد العدو الصهيوني
في عداوته المستمرة منذ قيام دولتهم عام 1948م وحتى الآن.. ونحن نقول: إن
كل ذلك الانحياز يجعلنا نكره الغرب، والعدو الصهيوني والمتواطئين معه،
والمكبلين باتفاقيات الاستسلام، ونعتقد أن واجب الولاء والبراء يجعلنا نطالب
بمقاطعة العدو وكل الشعوب المنحازة له، حتى يعلم أولئك قيمة أمتنا، وقدرتها على
تطويعهم بهذا الأسلوب البسيط، ولو قاطعنا أولئك مقاطعة تامة في كل ما يُصدِّرونه
لنا بخاصة أن هناك بدائل عنه لأذعنوا لنا، ولكن هل نفعل؟» [13] .
وأراني بعد ذلك، لست في حاجة إلى مزيد استشهاد لبيان مدى الدور الذي
تؤديه الصحف الإسلامية المهاجرة في بث الوعي، وتعميق الفكر، والدفاع عن
هموم الأمة وقضاياها المصيرية.
* نحو مزيد من الوعي:
أما نوع الصحف العربية المهاجرة التي وصفناها بالتجارية، فنراها اهتمت
بالأحداث الجارية، وحرصت على أن تقدم خدمة إخبارية للقارئ قلَّ أن نجدها في
صحف أخرى، وذلك يرجع إلى طبيعة الإصدار لهذه الصحف؛ حيث إنها صحف
يومية، ومعروف أن الخبر الصحفي هو العمود الفقري لهذا النوع من الصحف،
ولا شك أن وقوف القارئ ومتابعته للأحداث يؤدي إلى زيادة الوعي وتعميقه لديه،
ولا يجعله بعيداً عن نبض الحياة، وهناك سبب آخر يساعد تلك الصحف على القيام
بمتابعة ما يجري وما يحدث داخل الأقطار العربية المختلفة، وهو أن هذه الصحف
تمتلك مكاتب تابعة لها في معظم الأقطار، تمدها أولاً بأول بما يجري ويدور داخل
تلك البلدان مما قد لا يتوفر لكثير من الصحف المحلية أو حتى الصحف الإسلامية
المهاجرة.
وعلى كل؛ فإن الباحث يمكنه أن يقدم لهذه الصحف وبخاصة الإسلامية منها
بعضاً من العوامل التي من شأنها أن تنمي الوعي وترشده لدى القراء، وتكون
بمثابة المحددات والمكونات له، وهي كالآتي:
1 - تعميق الإيمان بالله بأركانه وشموله في النفوس والقلوب.
2 - الوقوف ضد الهجمات التغريبية الشرسة على كل ما هو إسلامي.
3 - تبسيط العلوم والمعارف الحديثة ونقلها إلى القارئ العربي والمسلم.
4 - تصحيح المفهومات والمصطلحات الخاطئة التي تنتشر في أوساط
المسلمين.
5 - محاربة كل مظاهر الخروج عن الدين والتقليد الأعمى للآخر في المأكل
والمشرب والملبس وفي كل مظاهر الحياة، والدعوة لإحياء قيمنا وآدابنا وثقافتنا.
6 - رصد الحركات والتيارات والمذاهب الهدامة وكشفها.
7 - كشف المؤتمرات المشبوهة والمؤامرات والمخططات الاستعمارية التي
تسعى إلى الهيمنة والسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي.
8 - الدفاع عن قضايا الأمة وحقوقها ومقدساتها، والدعوة إلى إحيائها في
نفوس الجماهير؛ حتى لا تموت بنسيانها والغفلة عنها.
9 - محاربة البدع والخرافات والمنكرات، وحث الجماهير على ضرورة
التمسك بعرى الدين، قرآناً وسنة؛ حفاظاً على هوية الأمة وعقيدتها.
10 - إحياء روح المقاومة، وحب الجهاد، والرغبة في الشهادة في سبيل
الحق والعدل والحرية، ودعوة الأمة للتصدي لكل مظاهر الظلم والطغيان
والاستبداد.
* من مظاهر التبعية:
أما عن موقف الصحف العربية المهاجرة بشقيها التجارية والإسلامية، من
مسألة تكريس التبعية وتسويقها، فإن الموقف جد مختلف؛ حيث إننا نرى أن
الصحف الإسلامية المهاجرة لم تسلك هذا السبيل غالباً، في حين أن الصحف
التجارية المهاجرة سلكت هذا السبيل، ووقعت في فخ التبعية البغيض، إما بالتبعية
للأفكار والمذاهب الوافدة، وإما للأنظمة والسلطات الحاكمة، وإن كانت هذه التبعية
قد أخذت صوراً وأشكالاً متعددة.
أما الصحافة الإسلامية المهاجرة فقد نجت بفضل الله من الوقوع في فخ التبعية
للأنظمة، فلم تقف وراء حاكم، ولم تطرق باب سلطان، وكان معيار القرب منهم
أو البعد عنهم هو مدى تمسكهم بدينهم وتطبيقهم لشريعة ربهم واحترامهم لمبادئ
الحق والعدل في شعوبهم، فإذا ما هاجمت تلك الصحف حكاماً، أو أنظمة؛ فلأنهم
يستبدون في حكمهم أو يطغون على شعوبهم، أو لأنهم يقفون من الشريعة الإسلامية
موقفاً سلبياً، وما أثنت على حاكم أو نظام إلا لأنه يسعى إلى تطبيق الشريعة، أو
لأنه يقف حجر عثرة أمام الأطماع الغربية والمؤامرات الاستعمارية.
وكذلك الأمر فإن الصحف الإسلامية نجت أيضاً من الوقوع في فخ التبعية
للأفكار والمذاهب الوافدة؛ لأنها بطبيعة الحال ما خرجت إلى الوجود إلا لمحاربة
هذه الأفكار وتلك التيارات الوافدة، وبيان عوارها وكشف زيفها وخطئها وخطرها.
ولكن إذا كان لنا من مأخذ على تلك الصحف في هذا الصدد؛ فإنه يتمثل في
حرصها على الدفاع عن التيار الذي ينتسب إليه، فنرى صحيفة ذات توجهٍ ما تدعو
إلى هذا التوجه وتدافع عنه، وقد تشتبك مع صحيفة إسلامية أخرى تناولتها بالنقد،
وكذلك الأمر بالنسبة لصحيفة ذات توجه مغاير، نراها تدافع عنه وقد تدخل في
محاورات وانتقادات مع صحيفة أخرى تناولت هذه المسألة من قريب أو بعيد،
والحق أن هذا الانتماء أو ذاك لا يمثل عيباً أو انتقاصاً للصحيفة في حد ذاته ولا
ينبغي أن يشعرها بالحرج، فتسعى إلى الدفاع عنه والدخول في خصومات ومعارك
بشأنه؛ فكل ذلك ليس من الصواب في شيء؛ لأن كل هؤلاء على ثغرة من ثغور
الإسلام، فليحذروا أن يؤتى الإسلام من قِبَلهم.
فينبغي أولاً وآخراً أن يكون ولاؤنا للإسلام وحده، مترفعين عن الرايات
والشارات؛ لأنها وسائل وليست غايات، وقد تختلف الوسائل وتتعدد للوصول إلى
الحق الذي ندين به ونعمل له وندعو إليه جميعاً.
فأما الصحف التجارية وللأسف الشديد فإنها وقعت في فخ التبعية السياسية
بمسايرتها ودفاعها عن الأنظمة، طمعاً ورغبة في مزيد من العطايا والهبات، بل
إن قسماً من هذه الصحف ما نشأ إلا من أجل الدفاع عن حاكم أو التسبيح باسم نظام،
وخاصة في المرحلة الأولى من ظهورها؛ لأن طبيعة مرحلة البدء كان يقتضي
ذلك.
وإن بدأت مظاهر التبعية للحكام والأنظمة تخف شيئاً فشيئاً في الصحافة
العربية المهاجرة؛ فإن الجانب الآخر من جوانب التبعية المظلمة ما زال مستمراً
وقائماً، ألا وهو التبعية في مجال الفكر والثقافة والقيم، وذلك راجع بالدرجة الأولى
إلى أن أصحاب تلك الصحف لا ينتمون إلى الفكر الإسلامي، ولكنهم مصابون
بلوثة العلمانية والحداثية التي ينادي أصحابها ويؤمنون بفكرة فصل الدين عن الحياة
بكل نواحيها ومجالاتها.
وإذا أردنا أن نذكر بعضاً من الشواهد التي تؤكد ما ذكرنا؛ فإن هذه الصحف
تعج بآلاف الشواهد والأدلة؛ فهذه صحيفة تدعو صراحة إلى الحداثة في الأدب،
وتهاجم القرار الذي اتخذ بشأن بعض الروايات الساقطة في مصر فتقول: «نسمع
اليوم أن في مصرنا نفسها يُطارد الإبداع والمبدعون مرة باسم مكافحة الإسلام،
وأخرى بحجة إدانة الإباحية وأدب الفجور.. إن للدولة حق السماح بنشر أو عدم
نشر أي كتاب في مؤسساتها الرسمية، ولكن ليس من حقها أن تجعل نفسها الحَكَم
والقاضي في التعامل مع ما يكتب، ناهيكم عن التحريض الرسمي والعلني ضد
الكاتب ونتاجه!!» [14] .
وتكتب الصحيفة نفسها معلقة على ذلك فتقول: «إن المثقفين المصريين أو
قسماً كبيراً منهم، قد أسقط في أيديهم وشعروا أن الدولة تخلت عنهم في معركتهم
» التنويرية «ضد قوى» الانغلاق والظلام «!! [15] .
وأهل التنوير هم فلول العلمانيين الحداثيين في الفكر والثقافة والأدب، أما
قوى الانغلاق والظلام فالمراد بهم الإسلاميون الذين ينادون بتطبيق منهج الله في
جميع مجالات الحياة.
وما يقال في الأدب والثقافة في هذه الصحف يقال أيضاً في الفن بشكل عام؛
فهذه الصحف المهاجرة انتهجت نهج تكريس التبعية للفكر الغربي الذي ليس عنده
ضابط من شرع أو دين إلا الهوى والمنفعة، ولذلك نرى تلك الصحف قد أفردت
صفحات عديدة للحديث عن السينما ليس كصناعة وأداة تثقيف وتعليم وتربية
وتهذيب، ولكن كحرفة يحترفها البعض للشهرة والارتزاق، والعبث بأخلاق الأمة
وقتل وقت شبابها [16] ، لذلك رأينا إحدى تلك الصحف تخصص أسبوعياً أربع
صفحات عن هذا الفن تحاور فيه الممثلين والممثلات عن آخر أعمالهم وأدوارهم ...
إلخ، ولذلك نستطيع القول: إن الصحف العربية المهاجرة التجارية أفضل ما
توصف به أنها أسيرة الواقع بكل ما يحمل وبكل ما يموج [17] .
ولهذا يحسن بنا في هذا الإطار أن نضع تعريفاً إجرائياً لما يمكن أن نطلق
عليه تسويق التبعية أو تكريسها، وهو يعني: إشاعة أو نشر أو عرض أو تقديم أو
تناول ما من شأنه الانتقاص من الدين أو الحط من قدراته أو فاعلياته أو ما يتعارض
أو يتناقض مع الأصول والقواعد العامة التي شرعها الله لعباده لتكون منهج حياة لهم،
أو الدعوة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تبني الآراء والمواقف والأفكار
السلطوية أو الغربية في الأدب والفكر والثقافة والرياضة وغيرها من مجالات الحياة
المختلفة؛ مما يدفع بعض الناس إلى التقليد الأعمى والتبعية البغيضة لمذاهب
وتيارات غربية لا تتفق ومبادئنا وحضارتنا الإسلامية.
وعلى أساس هذا التعريف يمكن أن يكون تسويق التبعية على الصعيد
السياسي أو الاقتصادي والثقافي والفني والأدبي والرياضي أو الإعلاني؛ وذلك
بالأخذ عن الآخر بلا وعي أو بتبني آرائه والانطلاق من رؤيته للأحداث والمواقف،
وعندئذ لا يكون للصحيفة شخصيتها المستقلة النابعة من إيمانها بعروبتها وإسلامها.
ويمكن أن نقدم بعضاً من المظاهر التي تؤكد قضية تسويق التبعية، وتتمثل
فيما يلي:
1 - الدفاع عن بعض الأنظمة الحاكمة وتعظيم دورها في إدارة الأحداث
الجارية، بحق وبغير حق.
2 - الهجوم على معارضي تلك الأنظمة واتخاذ المواقف المضادة حيالهم.
3 - تسويغ الأخطار والسلبيات التي تظهر على تلك الأنظمة الحاكمة.
4 - تبني الآراء والمواقف التي تصدر عن هذه الأنظمة والدعوة إليها.
5 - إثارة النعرات القومية والشعوبية التي من شأنها إحداث شروخ في
الصف، وانقسام في كيان الأمة، وتشرذمها.
6 - إشاعة الفلسفات الغربية والمادية والمذاهب والنحل الهدامة.
7 - التقليد الأعمى لأساليب الغرب في تناول القضايا وعرض الموضوعات.
8 - إثارة الموضوعات التي لا وزن لها وافتعالها، وإلهاء وإشغال القراء بها.
9 - التأثر بمنهاجية الغرب في العادات والتقاليد؛ حيث الحرية المفرطة
والغرائز الملتهبة والمكبوتة.