المسلمون والعالم
ليل تونس الطويل
أما آن له أن ينجلي؟!
محمد الشرقي
إن من المسلَّمات العقدية التي يؤمن بها المسلم أن الله حافظ لدينه، وناصر
لأوليائه، وأن العاقبة دائماً للمتقين، وقد تضافرت النصوص المؤكدة لهذا المعنى؛
منها قول الله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ،
وقوله سبحانه: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]
(غافر: 51) وقوله تعالى: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) .
والمتأمل في الأحداث التاريخية التي توالت على مدى تاريخ الأمة من بعثة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مدرك لا محالة أنها كانت ترجمة واضحة لهذا
العهد الرباني؛ فعلى الرغم من الكيد الذي وُوجه به هذا الدين من الداخل والخارج
على حد سواء، مما كان له أبلغ الأثر في حالات من الضعف مرت بالأمة في
فترات متعاقبة، ولا يزال بعضها ماثلاً للعيان، مما كان يغري قصار النظر
والمتعجلين باستنتاج أنه نهاية محققة لهذا الدين وأهله، إلا أن توالي الأيام،
سرعان ما يكذب هذا الزعم، فيسخر الله من الأسباب البشرية والمادية وغيرها ما
يعلي به كلمته، ويظهر به دينه، بعدما كاد اليأس يبلغ مبلغه بضعاف النفوس؛ كل
ذلك مصداق لقول الله تعالى: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا
جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ] (يوسف: 110) .
والأحداث التي مرت ولا تزال بالديار التونسية، تلك التي كانت بعاصمتها
القيروان منطلق الفتوحات الإسلامية في الغرب الإسلامي، لا شك أنها مؤكدة لهذه
القاعدة، ومبرهنة على صحة هذا الوعد الرباني، وحسبك به عاملاً يملأ النفوس
اطمئناناً وثقة بربها. ولعل في الأسطر القليلة التالية بياناً لذلك، وتصديقاً آخر
للوعد الرباني والنبوي المبشر بظهور هذا الدين وإعلائه، ونصر حامليه بصدق،
رغم كل العقبات التي لا يفتأ شياطين الجن والإنس يحيكونها لإطفاء هذا النور.
* شمعة سرعان ما احترقت:
لا يسمح المقام للمرور على الفترات الزمنية المتعاقبة التي مرت بها بلاد
الزيتونة، ويكفي التأكيد على أن الإسلام وما يحمله من ثقافة عربية قد تمكن من
هذه الديار حتى غدا محدداً لهويتها وراسماً لسَمْتها الحضاري المتميز عن كل
السمات الحضارية التي مرت بالبلاد. وقد حاول أول رئيس بعد الاستقلال
(الحبيب بورقيبة) الانقلاب على هذه الحقيقة، وسعى بكل جهده في محاولة محمومة
لإلحاق البلاد بالغرب بشتى السبل مستغلاً الظرف التاريخي الذي جاء فيه، وثقة
الشعب الذي نظر إليه حينها محرراً من الاستعمار الغربي الغاشم؛ إلا أن ما كرس
حياته لتحقيقه خلال أكثر من ثلاثة عقود عاد ليواجهه في آخر عمره، صارخاً في
وجهه وفي وجه كل من يتنكر لهوية بلده بأن مسعاه لا يعدو أن يكون حراثة في
البحر.
وفي نهاية عام 1990م كانت الغيوم تتلبد في سماء تونس؛ فالآمال المفعمة
التي أوجدها «العهد الجديد» الذي جاء بوزير الداخلية الأسبق زين العابدين بن
علي إلى سدة الرئاسة في انقلاب أبيض على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة،
بدأت تتساقط الواحدة تلو الأخرى مثل أوراق الخريف. وبدأت السجون التي ظُن
أنها ستبقى أمداً غير قصير خالية من المساجين بعد أن غصت بهم في نهاية فترة
الرئيس المخلوع، بدأت تفتح أبوابها في العام 1990م من جديد لأولئك النزلاء
الذين غابوا عنها سنتين وبعض السنة، وعادوا إليها ليبقوا فيها أطول فترة اعتقال
جماعي في تاريخ تونس الحديث، شملت على فترات متفرقة ما يقرب من ثلاثين
ألف معتقل، وبلغت إلى حد الآن حوالي ثلاثة عشر عاماً قضاها هؤلاء في ظروف
بالغة القسوة أدت وتؤدي بالكثير منهم إلى الموت البطيء، بل إن عدداً كبيراً من
هؤلاء السجناء قضوا هذه الفترة كاملة في زنزانات انفرادية، لا يُرى فيها ضوء
الشمس، وهي مظاهر صارخة ومعبرة عن روح التشفي التي تتحكم في تصرفات
القائمين على البلاد رغم كل النداءات المطالبة إما بإطلاق سراح هؤلاء المسجونين
بغير ذنب اقترفوه، أو على الأقل بتحسين وضعية سجنهم التي لا تماثلها إلا تلك
التي يعيشها المعتقلون المسلمون في سجون الكيان الإسرائيلي.
لقد غابت المهرجانات الانتخابية الصاخبة التي شهدتها تونس في ربيع عام
1989م، بمناسبة أول انتخابات بعد تولي زين العابدين بن علي السلطة في البلاد،
واحترقت بسرعة قصوى شمعة الأمل التي أضاءت سماء تونس لفترة وجيزة،
وبدأت السلطة التونسية تشحذ سكاكينها، وتجمع حلفاءها من حولها، من القوى
العلمانية ومنظمات المجتمع المدني؛ على خلفية وعد بنحر الثور الأسود (الحركة
الإسلامية) ، وتحقيق الديمقراطية في غياب الحركة الأصولية.
فماذا تحقق لتونس في خضم هذه المعركة؟ هل تحققت الديمقراطية في غياب
الحركة «الأصولية» ؟ وماذا كسبت تونس في العشرية الماضية من تحالف
الأجهزة الأمنية مع مثقفي الفرنكفونية والتغريب؟ وكيف انتقلت السلطة التونسية
من خطاب إعادة الاعتبار للدين ولجامع الزيتونة، إلى خطاب خطة تجفيف ينابيع
التدين سيئة الصيت؟ وهل نجحت سياسة الأرض المحروقة خلال العشرية
الماضية في التعامل مع التيار الإسلامي في القضاء على هذا التيار، وفي تجفيف
ينابيع التدين بالبلاد؟
* سنوات القمع والدموع والحصار:
كشفت بعض تقارير المخابرات العسكرية الإيطالية وغيرها منذ فترة غير
بعيدة أن من الدوافع المهمة التي دُعم من أجلها انقلاب الرئيس ابن علي على
بورقيبة، الحيلولة دون سقوط السلطة في يد التيار الإسلامي؛ حيث أصبحت الدولة
سنة 1987م في مهب الريح، وتزايدت خشية الأطراف الغربية آنذاك من احتمال
انهيار كامل للسلطة يستفيد منه التيار الإسلامي الغالب على الشارع حينذاك،
فاختير رئيس الوزراء آنذاك ذو التاريخ الأمني لملء هذا الفراغ المهدد لكيان الدولة.
وكانت النية مبيتة - فيما يبدو - لمواجهة التيار الإسلامي، وتقليم أظفاره، ثم
تأكد قرار المواجهة بعد انتخابات عام 1989م التي سجلت فيها القائمات المستقلة
المدعومة من الحركة الإسلامية حضوراً بارزاً في العملية الانتخابية، على الرغم
من حرمان الوجوه المعروفة آنذاك من حق الترشح وحتى حق الانتخاب. وظلت
السلطة تبحث لتلك الحرب عن مسوغاتها السياسية؛ فلما توفر المسوِّغ السياسي
والأمني، شن النظام حملة استئصال شرسة استهدفت أكبر قوة سياسية تونسية
آنذاك، اعتُقل بموجبها عشرات الآلاف من التونسيين، وقُتل في السجون وتحت
التعذيب أكثر من 30 من أبناء التيار الإسلامي. وقد حظيت حملة الاستئصال هذه
بدعم داخلي وخارجي:
- فعلى الصعيد الداخلي لا بد من الإقرار بأن السلطة نجحت في تجميع معظم
الأحزاب والقوى العلمانية من حولها لضرب الإسلاميين، على خلفية وعد بتحقيق
الديمقراطية في غياب الحركة الأصولية.
- أما على الصعيد الخارجي؛ فقد حظيت عملية استئصال الحركة الإسلامية
بتأييد رسمي غربي واسع؛ ففي ظل الأجواء التي عرفتها الجزائر، وما تبعه من
انفجار العمل المسلح في هذا البلد، وما رافق ذلك من مخاوف غربية من سيطرة
الحركة «الأصولية» على السلطة في جنوب المتوسط، وفي ظل الاستعداء
الدولي الواسع للإسلام، حظيت تونس بدعم دولي كبير، من أجل أن تكون أحد أهم
السدود المقامة في وجه «الزحف الأصولي» .. فأغدقت القروض والمساعدات
المالية الدولية، ولعب الإعلام الغربي وعدد من السياسيين الغربيين دوراً بالغ
الأهمية في التنويه بالتجربة التونسية، وحصل الرئيس ابن علي في عام 1992م،
وهو العام الأسوأ من حيث انتهاك حقوق الإنسان على امتداد تاريخ تونس القديم
والحديث، على ميدالية دولية لحقوق الإنسان!! مما يوحي بأن انتهاك حرمة
الإنسان إذا كان هذا الإنسان ملتزماً بدينه لا يقدح في التزام السلطة المنتهكة بشرعة
حقوق الإنسان لدى الغربيين ومن والاهم.
وقد اتسمت حملة الاستئصال التي سلطت على الحركة الإسلامية في تونس
بمواصفات أهمها:
أ - أنها حملة استئصال اعتمدت سياسة الأرض المحروقة، ولم تقتصر على
استئصال الظاهرة الإسلامية كهيكل تنظيمي، وجسم سياسي فقط، بل تجاوزت ذلك
لتحاول استئصال أسباب وجودها أيضاً؛ وذلك بالتركيز، إضافة للقمع السياسي
والأمني، على مراجعة برامج التربية، ومحتوى الثقافة والإعلام، وإفراغها من
أي روح إسلامية. فقد اعتُبر الإسلام في ذاته هو سبب تخلّق ظاهرة «الورم أو
الإرهاب الأصولي» .. وقد تميز الخطاب الرسمي التونسي في الإعلام وغيره
بالخلط المتعمد بين الإرهاب وأي نوع من أنواع الالتزام الديني، حتى غدا كلُّ
متمسك بدينه عند هؤلاء إرهابياً بالضرورة، وقد حاول جاهداً تسويق هذا المفهوم
وإقناع كل الأطراف وفي شتى المناسبات بهذا الخطاب.
وهنا صارت الصلاة شبهة، والعثور على آثار السجود في الجبين والركب
والأقدام حجة على الانتماء لـ «الحركة الأصولية المتطرفة» ، وأصبح وجود
المصحف في منزل أي تونسي مثار شبهة قد تؤدي إلى الاعتقال. وفي هذا الصدد
يذكر صحفي تونسي، بخجل مما حصل في بلاده، كيف صار الناس يستبدلون
المصاحف وكتب التراث، بقوارير الخمر (الويسكي والشامبانيا) ، في رفوف
منازلهم، لتأكيد براءتهم من الانتماء للحركة «الأصولية» . وصار ارتداء
الحجاب جريمة يعاقب عليها القانون [1] . وصارت المحجبة ممنوعة من دخول
الإدارات العامة وحتى المستشفيات؛ فلا حق لها في العمل ولا في التعلم، بل
وصل المنع إلى حد الحرمان حتى من الاستشفاء في المستشفيات، وزيارة زوجها
أو قريبها المسجون إذا هي أصرت على حجابها ولم تمتثل بخلعه.
أما ما وُوجه به الملتزمون داخل المؤسسة العسكرية، فحدِّثْ ولا حرج؛ فقد
سُلكت كل السبل لإفراغ هذه المؤسسة من أولئك النفر، ومورست في حقهم كل
سبل الاختبار والتمحيص من الحفلات الماجنة الخليعة التي يُلزم المنتمون لهذه
المؤسسة بحضورها صحبة زوجاتهم، وكل من يلحظ عليه امتناع أو امتعاض،
فمصيره التصنيف، ومن ثم الإبعاد، وكثيراً ما وصل الأمر إلى حد الاعتقال
والتعذيب والترهيب.
ب - وهي أيضاً حملة نفذ فيها الاعتقال السياسي على أوسع نطاق، بالظن
والشبهة. وطال القمع أكثر من 30 ألف معتقل. وصارت تهمة الانتماء للتيار
الإسلامي أخطر من تهمة ارتكاب أي جريمة أخرى؛ حتى القتل والاتجار في
المخدرات. وصار بعض الناس ينتقمون من خصومهم أو منافسيهم بالاتصال
بالشرطة، والادعاء أن فلاناً «خوانجي» (عبارة أطلقها الإعلام التونسي والنظام
على كل من يتمسك بدينه، ويقصد بها التشويه واللمز) على أنه من الإخوان،
وهذه تهمة كافية للقذف بالغريم إلى ما وراء الشمس.
ج - كما تميزت تلك الحملة بممارسة التعذيب على نطاق واسع، فسقط فيها
العشرات من القتلى، في مراكز التعذيب ومحلات الشرطة. وكان زبانية التعذيب
يعيشون في مأمن من أن تطالهم المحاسبة، أو يخضعوا للقانون؛ فقد أُطلقت أيديهم
تماماً في ضحاياهم، والمهم تخليص البلد من «الورم السرطاني الأصولي» بأي
طريقة، وبأي ثمن كان.
د - ولم يشمل التعسف والقمع الأهوج في تلك الحملة الناشطين الإسلاميين
وحدهم؛ فقد طال أقاربهم ومن لهم به صلة رحم أو نسب أو قرابة؛ فجرى في
كثير من الأحيان، اعتقال الآباء والأمهات والإخوة والأخوات، دون جريمة، إلا
أن يكون أحد أفراد العائلة من الدعاة إلى الإسلام. ووُوجهت عائلات كثيرة
بالحصار الاقتصادي والاجتماعي في محاولة لممارسة أقصى وأقسى أنواع التضييق
عليها.
* خطة تجفيف ينابيع التدين:
إذا كان لكل دولة ولكل شعب ميزة يشتهر بها وتميزه عن غيره من الشعوب؛
فإن ما اشتهرت به تونس في الفترة السابقة، «خطة تجفيف ينابيع التدين» ؛ فقد
رافقت خطة الاستئصال السابقة خطة استئصال أشد خطراً هي خطة «تجفيف
ينابيع التدين» . ويعود تاريخ انكشاف هذه الخطة إلى شهر أيار (مايو) 1989م.
وقد ظهرت للعلن بعد انتخابات 2/4/1989م، التي سجل فيها المستقلون
المدعومون من الحركة الإسلامية حضوراً بارزاً هدد سيطرة التجمع الدستوري
الديمقراطي الحاكم في تونس لأول مرة منذ الاستقلال على الرغم من منع كل
الوجوه المعروفة آنذاك من الإسلاميين من الاشتراك في هذه الانتخابات بالترشح،
أو حتى بالتصويت.
واضعو الخطة هم فلول اليسار من الفرنكفونيين المعادين للعروبة والإسلام
الذين هزمتهم الحركة الإسلامية في مختلف النزالات الفكرية والسياسية والاجتماعية
(بالجامعة والمعاهد والنوادي الثقافية وحتى النقابات العمالية التي تعد من القلاع
المحسوبة تقليدياً على اليسار) ؛ وذلك خلال فترة وجيزة من الزمن، وللانتقام من
هذا الغريم الفكري والحضاري اندمج اليساريون في أجهزة الدولة وفي التجمع
الدستوري الديمقراطي الحاكم، وتترسوا بالأجهزة الأمنية، وكان على رأس هؤلاء
وزير التربية والتعليم التونسي الأسبق محمد الشرفي، وهو شيوعي تونسي سابق،
نشط في الستينيات والسبعينيات في حركة «آفاق» الشيوعية.
وقد قامت خطة تجفيف ينابيع التدين على محاربة اللغة العربية والدين، فعمل
بكل قوة على نشر اللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية في التعليم والإعلام والإدارة،
حتى يطّلع التونسيون مباشرة على تراث مفكري «الأنوار» الفرنسيين دون
المرور بواسطة اللغة العربية، «المسكونة بالمقدس والتخلف والعقلية الأسطورية»
كما يذكر الوزير نفسه!! كما قامت على استئصال الروح الإسلامية من التعليم.
فبالرغم من أن التعليم في تونس «معلمن» بطبعه منذ عهد الرئيس السابق
الحبيب بورقيبة (الأب الروحي للعلمانية في تونس الحديثة المأخوذ بالنموذج
الغربي والأتاتوركي في تركيا) ، حيث انحصرت دروس التربية الإسلامية في
التعليم في عهده في ساعة يتيمة في الأسبوع، إلا أن الشرفي رأى في تلك الساعة
اليتيمة خطراً محدقاً بـ «الروح العلمية» ، وبالثقافة العلمانية المعاصرة، فجرت
غربلة البرنامج التعليمي، وحذف منه كل ما يشير إلى أن في الإسلام نظام دولة
ومجتمع، وحذفت الآيات التي تتحدث عن الجهاد وغيره من التشريعات، واعتبر
الوزير ذلك عنفاً أهوج، تخلت البشرية عنه، ورمته وراء ظهرها مع الحضارة
الحديثة.
وهنا طالب الشرفي، الذي لم يكن يُرَدّ له طلب، من أجل إنجاح خطته،
بوقف دروس الفقه واللغة العربية، التي عادت إلى جامع الزيتونة في بداية (العهد
الجديد) . واستجيب للوزير الشرفي، وأُقفل الجامع الذي كان يشمل بعض
العشرات من الشبان التائقين للتفقه في دينهم.
ولم يقف الأمر عند التعليم؛ فلا بد للخطة أن تستكمل فصولها. وكان لا بد
أن تعمل مختلف مؤسسات الفكر والثقافة والإعلام بنفس الروح، وبنفس النسق،
فأطلقت يد اليساريين المتطرفين والفرنكفونيين المتشبعين باللغة والثقافة الفرنسيتين
والهائمين بها، والمعادين للهوية العربية والإسلامية لتونس، والليبراليين المعقدين
من العروبة والإسلام، الذين هزمتهم الحركة الإسلامية في المعاهد والجامعات ودور
الثقافة، لصياغة ثقافة جديدة، وإعلام جديد، وسينما جديدة، تجتث الناس من
دينهم وعروبتهم وتراثهم، وتلقي بهم على أعتاب حداثة أوروبا.. فصارت بعض
الأفلام الغربية الهابطة والماجنة تعرض أحياناً في قاعات السينما التونسية قبل أن
تعرض في لندن أو باريس؛ في حين تخصص قطاع من السينمائيين التونسيين،
مثل النوري بو زيد ومفيدة التلاتلي وفريد بو غدير في تحطيم كل المقدسات
الدينية والاجتماعية، وفي ترذيل المؤسسات التي حفظت هوية المجتمع التونسي
العربية والإسلامية، وعلى رأسها مؤسسة العائلة، في مقابل التركيز بشكل مفتعل
على الدفاع عن صورة اليهود في تونس، وتسجيل إنجازات لهم ثقافية وفنية وحتى
وطنية في تاريخ تونس.
وهنا برزت إلى السطح في تونس ظواهر غريبة على المجتمع التونسي،
مثل ظاهرة عبدة الشيطان، ونشطت الفرق التبشيرية، وفتح الباب أمام الفرق
الصوفية وشجعت بكل السبل لنشر الخرافات والبدع لتلبِّس على الناس أمر دينهم.
كما عرفت جامعات تونس مبيتات مختلطة بين الطلاب والطالبات، وانتشر
الفساد الأخلاقي والمخدرات، وشاعت أمراض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ،
وغير ذلك من الظواهر التي ظُن أن تونس المسلمة بعيدة عن الإصابة بها.
لقد راهنت السلطة في تونس بقوة طيلة الفترة الماضية على تجريم الحركة
الإسلامية التونسية والعربية والدولية في كل مكان، وحرصت على منع إقامة أي
تفريق بين معتدلين ومتطرفين في الصف الإسلامي، مؤكدة على أن الجميع
متطرفون، وأن الجميع يستحقون التعامل معهم بالشطب والإلغاء والاستئصال. ولم
تفتأ تؤكد في كل محفل على أن الخطر قائم ما دامت المفاهيم الإسلامية الشرعية في
النفوس، ولا سبيل لمقاومة ما تدعيه من التطرف إلا بسلخ الناس عن دينهم الذي
أمرهم به ربهم وارتضاه لهم.
وبالرغم من خروج الوزير الشرفي منذ سنوات من السلطة، وانتقاله إلى
صف المعارضة التونسية، ومساعيه إلى تولي مناصب قيادية فيها، إلا أن خطة
تجفيف ينابيع التدين التي تبنتها الدولة التونسية رسمياً، استمرت تعمل بنفس
الوتيرة، وربما بوتيرة أشد، بعد خروج واضعها من السلطة، باعتبار أنها أضحت
سياسة رسمية للنظام، تغذيها المخاوف المستمرة من عودة الإسلاميين، وتنفخ في
نارها بقايا فلول اليسار الذي يتربع على عرش المناصب التنفيذية المهمة في الدولة.
* إخفاق السلطة وفشلها:
بالرغم من كل الخطط والإجراءات، وأعمال القمع الواسعة، والتحالفات التي
اتخذت خلال أكثر من عقد كامل، ولا تزال، من أجل استئصال الحركة الإسلامية
من تونس، إلا أن السلطة أخفقت في تحقيق أهدافها، وظلت تصحو وتنام على
هاجس عودة «الخوانجية» .. فـ «الميت» لم يمت، بل يرفض أن يموت،
وهو قد استعاد الكثير من عافيته، واستعاد الكثير من توازنه.
وبعد مرور أكثر من عقد كامل على سياسة الأرض المحروقة في مواجهة
التيار الإسلامي في تونس، إلا أن هذه السياسة تثبت يوماً بعد يوم إخفاقها الذريع
على كل المستويات؛ فالحركية السياسية التي تعرفها تونس اليوم تتمحور حول
الموقف من الحركة الإسلامية، ومن المظلمة المسلطة على مساجينها، كما تتمحور
أيضاً حول الموقف من دورها وحضورها المستقبلي.
وقد أقضَّت ظاهرة الإقبال على التدين، وارتياد المساجد من أعداد كبيرة من
الشباب اليوم في تونس، وعودة الحجاب الإسلامي للظهور بقوة رغم كل التضييق
على من يرتدينه، أقضَّت مضاجع كل المخططين لسياسة تجفيف ينابيع التدين
السيئة الذكر، التي أريد من خلالها القضاء المبرم على دين الناس وثقافتهم
وحضارتهم الأصيلة، بل أصبحت هذه مظاهر التدين العام للناس من مختلف
الأعمار والطبقات من الظواهر الشديدة البروز، بالرغم من كل محاولات لجمها أو
مسخها وتشويهها [2] .
في المقابل لم تجنِ تونس من السنوات الماضية سوى القمع والدموع ومشاريع
التغريب واستشراء الفساد. فتونس ظلت تحظى بواحد من أسوأ السجلات في
تقارير منظمات حقوق الإنسان؛ وبدلاً من أن تعم الديمقراطية في غياب الحركة
الإسلامية، تبين للجميع أن محاولة استئصال الحركة الإسلامية جلبت الشمولية
والقمع الأهوج لكل فئات المجتمع.
* الوعد الرباني:
أشرت في مستهل هذا المقال إلى أن الأحداث التاريخية المتوالية لا يمكن أن
تزيد المؤمن إلا تسليماً بالوعد الرباني بحفظ دينه ونصرة أوليائه؛ فعلى الرغم من
صور البلاء والابتلاء التي سلطت على القابضين على دينهم في الديار التونسية،
إلا أن مرور الأيام لم تتكشف على تحقيق ما طمحت إليه النخبة اليسارية والعلمانية
المتحالفة مع السلطة، وما كانت تصبو إليه من سلخ الناس عن دينهم ومسخهم،
وإلحاقهم إلحاقاً قصرياً بالمشروع المتغرب المنبتّ عن هوية البلاد ولغتها
وحضارتها.
فقد تكشفت الأيام عن عودة لافتة لكل ما هو مرتبط بالتدين؛ فالمساجد
أصبحت تعج من جديد بالمصلين، وخصوصاً الشباب منهم في كل مدن البلاد بلا
استثناء، والحجاب صار ظاهرة بارزة على الرغم مما يمثله من تحدٍّ واضحٍ لقرار
السلطة التي تمنع ارتداءه، وتمنع المحجبات من ارتياد المدارس والمعاهد ومختلف
الإدارات الحكومية وغيرها، سواء أكان ذلك لغرض التعلم أو العمل أو المراجعة.
ورغم أن كثيراً من هؤلاء المتحجبات يلاقين أنواعاً شتى من التضييق، يصل إلى
حد الفصل من الوظيفة والمنع من الدراسة، وكتابة التزامات وتعهدات لدى مراكز
الشرطة بخلع الحجاب، إضافة للتهديد والوعيد الذي يوجه عادة لأولياء الأمور، إلا
أن إصرار هؤلاء القابضات على دينهن، وعزيمتهن على التمسك بالحشمة
والعفاف، كفيلة بعد التوكل على الله تعالى بتجاوز مثل هذه الابتلاءات.
وإذا كانت هذه المظاهر وغيرها مما يُسَرُّ بها قلب المؤمن، ويدعو أصحابها
بأن يكتب الله لهم الثبات على دينه، إلا أنها تُقابل بكثير من التبرم والقلق
والانزعاج من لدن السلطة والمتحالفين معها والمنظِّرين لمسلكها المصادم لدين الناس
وثقافتهم، وهم لا يفتؤون يضعون الخطط لمواجهة هذه الظاهرة التي ظُن أنه قُضي
على أسباب تولّدها، ودراسة أسبابها الغريبة في نظرهم بعد أن تم تغييب الدعاة
وحجبهم عن الناس وتشتيتهم بين المنافي والسجون، إضافة إلى إفراغ كل منابر
التوجيه والتربية من إعلام ومدارس ومساجد وغيرها من كل محتوى تربوي إلا ما
ندر، وكأن أرض الزيتونة وجامع عقبة بن نافع - رحمه الله -، العريقة بإسلامها،
تعجز أرحام نسائها كما يظن هؤلاء عن أن يلدن من يعبد الله، ويدعو إليه،
صابراً محتسباً، ليكذب تخرصات شياطين الإنس الكائدين لهذا الدين.
ولعل من المهم كذلك التذكير بأن هذا المسلك الذي جُرب في أرض الزيتونة،
والذي يروج له على أنه المنهج الأسلم في نظر الذين لا يريدون خيراً لهذه الأمة
للتعامل مع الظاهرة الإسلامية، وعلى أنه النموذج الأسلم للقضاء على هذا الخطر
الداهم! لقد تبين لكل ذي عين مدى بوار هذا المسلك، ومدى خطورته على كل
مجتمع يحاول تجريبه وتطبيقه؛ ناهيك عن إخفاقه الظاهر في تحقيق أي من
الأهداف السيئة التي رُسمت له؛ فهل يبقى بعد ذلك عذر لكل من يبشر بهذا
المشروع المدمر، فضلاً عمن لا يزال ينفخ فيه ويشجعه ويستميت في الدفاع عنه؟
* دعوة إلى الرشد:
على الرغم من كل الجراحات والآلام والمعاناة التي طالت العدد الأكبر من
الأسر في الديار التونسية، لعله من المفيد دوماً تذكير العاملين للإسلام بضرورة
سلوك منهج الحكمة في الدعوة إلى دينهم، والعمل من أجله، وأن تكون الحكمة
والموعظة الحسنة هما السبيل لدلالة الناس على الحق الذي أمرهم ربهم بالدعوة إليه،
ولئن كان ذلك مهماً، إلا أن من المهم كذلك أن نتوجه إلى أولئك الواقفين على
أرض غريبة عن هوية هذه الأمة، بل ومعادية لها، وخصوصاً أولئك النفر من
الاستئصاليين منهم، الذين يعتقدون أن أرض تونس وغيرها من أرض الإسلام لا
يمكن أن تتسع لغيرهم، وأن خصومهم ممن يقفون على أرض الإسلام، يجب أن
تتوزعهم المنافي والسجون، إن هم أصروا على التمسك بدينهم، والتبشير به.
على هؤلاء أن يقفوا مع أنفسهم وقفة يتأملون فيها ما آلت إليه مخططاتهم، من
البوار المبين، والخسران الواضح، والإخفاق الذريع، وإذا لم يصل بهم الأمر إلى
التوبة والإنابة إلى خالقهم، وهو ما نرجوه لهم مع كل الحب والإشفاق، فليس أقل
من أن يفهموا بأن الحرية كل لا يتجزأ، وأن هؤلاء «الخصوم» لم يستوطنوا هذا
البلد قادمين من المريخ أو أي مكان آخر غريب عن الديار، حتى يمنعوهم من
مقاسمتهم الأرض التي عليها وُلدوا.
فهل آن الأوان لكل الفرقاء في البلاد وبخاصة القائمين على الأمر منهم أن
يعيدوا النظر في هذه التجربة المريرة التي مرت على البلاد، وما جلبته سياساتهم
على العباد من إحن وفرقة وتمزق لا يمكن إلا أن تسر العدو وتحزن الصديق؟ وإذا
أمكن للمرء أن يتجرد من دواعي الشرع بسبب ما يزينه له هواه فليس أقل من أن
يراعي ما تقتضيه العقول السليمة، فيدرك أن الجميع يستقلهم مركب واحد، تتهدده
الأمواج العاتية من كل صوب، مما يستلزم رص الصفوف، وتوحيد الجهود، لا
تشتيتها وبعثرتها بشتى معاول الهدم، والتركيز على ما يجمع لا على ما يفرق،
وإدراك أن العودة إلى الحق مهما كان ذلك شديداً على النفس أوْلى من التمادي في
الباطل، خصوصاً أننا نلحظ أن العقلاء في أنحاء شتى من المعمورة، يراجعون
أخطاءهم، ويصححون مساراتهم وسقطاتهم، ويحرصون على ما يجمع الشمل،
ويصلح الأوطان. [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]
(هود: 88) ، والحمد لله أولاً وآخراً [3] .