مجله البيان (صفحة 4786)

تجديد الخطاب الديني.. يريدون أن يبدلوا كلام الله!

قضايا دعوية

تجديد الخطاب الديني..

يريدون أن يبدلوا كلام الله!

خالد أبو الفتوح

abulfutoh@hotmail.com

نشرت جريدة الأسبوع القاهرية في شهر يناير الماضي تفصيلات خطط

أمريكية لما أطلقت عليه: (أمركة الخطاب الديني للمسلمين) ، وجاء فيما نشرته

الصحيفة أن أمر تطوير الخطاب الديني كان جزءاً من الحملة الأمريكية الأولى على

ما وصفته بالإرهاب ... وفي تفصيلات الخطط الأمريكية التي أوردتها الصحيفة:

أن وزارة الخارجية الأمريكية شكلت لجنة تعرف باسم: (لجنة تطوير الخطاب

الديني في الدول العربية والإسلامية) وأن هذه اللجنة انتهت على حد قول الصحيفة

من توصياتها فعلاً وأنه سوف يتم تبليغ الدول بها، مع توضيح أن استمرار

المعونات الأمريكية مرهون بتنفيذ هذه الخطط.

وتتمثل التوصيات الأمريكية في:

- تهميش الدين في الحياة الاجتماعية للناس؛ وذلك عبر إغراق الشعوب

العربية والإسلامية بأنماط مختلفة من الحياة العصرية الغربية وحيازة التكنولوجيا

الحديثة (التكنولوجيا ذات الطابع الترفيهي) .

- التقريب بين الديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام عن طريق

تكوين لجنة عليا من المحمديين (أي المسلمين) والمسيحيين واليهود؛ لتبصير

كل شعوب العالم بالتقارب بين الأديان الثلاثة - كما تتحدث الخطة - وتقترح ضمن

ما تقترحه بشأن هذه اللجنة أن تعمم هذه اللجنة توصيات ملزمةً لكل الدعاة في العالم

العربي والإسلامي بحيث لا يخرجون عن هذه التوصيات.

- تحويل المسجد إلى مؤسسة اجتماعية تتضمن حدائق للأطفال والسيدات

(فقدان المسجد لهيبته وخصوصيته) ، وأن تتولى الإشراف عليه شخصية غير دينية

ناجحة.

- خضوع خطبة الجمعة والخطباء تحت رقابة أجهزة الأمن في الدولة، وأن

يتم البعد عن تسييس الخطبة، أو تعرضها للجانب الحياتي أو المجتمعي بمعنى

(علمنة الخطبة) ، أي منع الحديث عن الأمريكان أو اليهود، أو الحديث عن الجهاد

وبني إسرائيل.

وتهدف الخطط الأمريكية إلى أن تصبح خطبة الجمعة حلقةً نقاشيةً للجميع لا

ينفرد بها الخطيب وحده؛ حيث ستكون الخطبة بذلك أكثر ديمقراطيةً في نظرهم،

كما تهدف أن تشارك المرأة في خطبة الجمعة، حيث رأوا أنه لا توجد نصوص

دينية تمنع المرأة من ذلك.

- وأن يكفل للمرأة سبل الاختلاط مع الرجال والمشاركة في التدريب على

الانتخابات لتعليم المرأة الديمقراطية.

- إلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية، مع تخصيص يوم كامل للقيم الأخلاقية

والمبادئ بدلاً منها، والعمل على اكتساب الطلاب مهارات التسامح، والتحرر من

اعتقاد المسلمين أنهم خير أمة أخرجت للناس! ، وأن يعلم الجميع أن العقائد

والأديان هي نتاج التنشئة الاجتماعية والأفكار المسبقة، وأن الانتماء للإنسانية هو

الجامع لهم، أما المعتقدات فهم أحرار فيها.

* ماذا وراء الجعجعة:

الحديث عن ضرورة أن يراجع المسلمون قيمهم وتصوراتهم ويعدلونها بما

يوافق التغيرات العالمية ليس جديدًا، فقد ظهر بعد انتهاء الحرب الغربية الباردة

وسقوط الاتحاد السوفييتي، ثم نشط بشدة بعد أحداث سبتمبر 2001م، ولكن تجدر

الإشارة هنا إلى أن ما نشرته الصحيفة جاء عقب مبادرة باول المسماه (مبادرة

الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط) وما تلاها من أنشطة وإجراءات

على المستويات المحلية مست مناهج التعليم و (الخطاب الديني) .

مبادرة باول أعلنت يوم 12/12/2002م أمام مؤسسة التراث بواشنطن

(مؤسسة يمينية أمريكية) ، وتركز كما أوضح باول نفسه ونائبة مساعد وزير

الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والمسؤولة الرئيسية في الوزارة عن

المبادرة على أربعة ميادين مختلفة: الإصلاحات الاقتصادية، الإصلاحات

السياسية، الإصلاحات التعليمية، وتمكين المرأة.. وهذه الوصفة ليست إلا

جزءًا من استراتيجية شاملة يراد تطبيقها في المنطقة، وكما يقول مساعد وزير

الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وليام بيرنز في مؤتمر (مركز دراسة

الإسلام والديمقراطية) الذي انعقد في واشنطن يوم 16/5/2003م: «إن

التحول إلى الديمقراطية يعني تغيراً تدرجياً وإن كان حقيقياً شاملاً، وإن هذا التغير

يتضمن أكثر من مجرد إجراء انتخابات، إنه يشمل عملية بناء المؤسسات السليمة

وحكم القانون والمجتمعات المدنية النابضة بالحياة والنشاط برمتها، وهي عملية

مؤلمة صعبة متدرجة متطورة، وأحياناً محفوفة بالمخاطر» ، ثم يتابع: «.. ولا

يمكننا أن ننظر إلى هذا وكأنه قائمة طعام في مطعم يمكننا اختيار بعض الأطباق فقط

منها، فنسعى إلى تحقيق هدف ما ونهمل الأهداف الأخرى، فكما أوضح الرئيس

بوش في خطابه المهم في جامعة ساوث كارولينا في التاسع من مايو: إن الولايات

المتحدة مصممة على أن تقود بنشاط جهود السعي إلى تحقيق جميع هذه الأهداف،

بمشاركة قيادات وزعامات المنطقة» .

* شنشنة قديمة نعرفها:

والآن لننظر نظرة متأنية إلى دوافع وأهداف هذه الحملة الجديدة على ثقافتنا

وقيمنا، لنجد أن هناك دوافع مباشرة تجلت في الرغبة في: الحفاظ على الأمن

الأمريكي القومي الذي تهدد بقوة بأحداث سبتمبر وتداعياتها، وتحقيق المطامع

الأمريكية في منطقتنا، وهذا ما سنوضحه أكثر فيما بعد.

وهناك أيضًا أهداف قديمة (استراتيجية وثابتة) لا يفتأ الغرب (النصراني)

عن محاولة تحقيقها والوصول إلى أكبر قدر ممكن من المكاسب فيها على أرض

المسلمين؛ ومن أبرز المحطات وأكثرها أثرًا في هذه المحاولات ما قام به الاحتلال

الإنجليزي في مصر والهند من جهود لمسخ الإسلام في عقول المسلمين ونفوسهم،

وتذويبهم في (حضارة عالمية) ؛ فقد لاحظ المعتمد الإنجليزي في مصر كرومر

«وجود هذا الخلاف بين المسلمين وبين المستعمر الغربي في العقائد وفي القيم،

وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى» .

لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السبب في انعدام ثقة

المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّة واسعة

تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب، ودعا من أجل ذلك إلى

العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهوة.

وقد اتخذت هذه الوسائل: طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين

العصريين، الذين ينشَّؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوروبيين ومن الإنجليز على

وجه الخصوص في طرائق السلوك والتفكير؛ ومن أجل ذلك أنشأ كرومر (كلية

فكتوريا) ، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط

إنجليزي، ليكونوا من بَعْدُ هُم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين،

وليكونوا في الوقت نفسه مع مضي الوقت أدواته في التقريب بين المسلمين وبين

المستعمر الأوروبي، وفي نشر غثاء الحضارة الغربية.

أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل

على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً … وهي

تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره، بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة

الغربية، أو قريباً منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً لها

معارضاً لقيمها وأساليبها … « [1] .

وهذا ما أكد عليه مؤتمر (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) المنعقد في

برنستون عام 1953م حيث جاء في كتاب أبحاثه: أن» .. هذه المشاكلة لا تقوم

إلا بتقارب القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهذه القيم لا تتقارب ما دامت الشعوب

الإسلامية تعيش على قيم ثابتة تخالف قيم الغرب، وهي قيم الإسلام. فلا بد إذن

من أحد حلين:

- إما أن يمحى هذا الإسلام بتشكيك الناس فيه، وفي قيمه، وفي الأسس التي

يستند إليها، ويحاصر بحيث لا يتجاوز نفوذه المسجد، وبحيث يفقد سيطرته على

مسلك الأفراد وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك عن طريق إقناع الناس بأن الدين

شيء ومشاكل الحياة شيء آخر.

- وإما أن يخضع هذا الإسلام للتطوير بحيث يصبح أداة لتسويغ القيم الغربية،

ولتقريب ما بين الشعوب الإسلامية وبين الغرب.

وهذا الطريق الأخير يكشف عن قوة هائلة لا يغني غَناءَها شيءٌ، إذا أمكن

استخدامها كأداة لتحقيق الأهداف الاستعمارية في إقامة علاقة ثابتة من الود والتفاهم،

ذلك هو ما ينبه له جوستاف فون جرونباوم أستاذ اللغة العربية في جامعة شيكاغو،

حيث يقول: (إن الدين الجديد - ويقصد به التأويلات الإسلامية العصرية -

سيدخل أو يسمح بإدخال أسئلة جديدة تتطلب أجوبة مناسبة، وسيقترح أجوبة جديدة

لأسئلة قديمة، أو يخلع صفة الشرعية على أجوبة كانت في النظام المعدول عنه

تعتبر أسئلة هدامة أو غير مقبولة) ص 192 « [2] .

والوسيلتان اللتان استخدمهما كرومر والحلان اللذان اقترحهما المؤتمر أحدثوا

بالفعل - وما زالوا - أثرًا لا يستهان به في عقول المسلمين وسلوكياتهم. وهنا

نستطيع وضع المخطط الذي ذُكر أول المقال في مكانه الطبيعي: حلقة غير منفصلة

في جهود دؤوبة ومتواصلة أخبر عنها ربنا عز وجل: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ

لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَق]

(البقرة: 109) ، [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا]

(البقرة: 217) .

الوزير باول - في معرض ذكره لمسوغات مبادرته للمنطقة - أعلن أنه» قد

جسد الرئيس بوش تطلعات الشعوب في كل مكان، عندما قال في خطابه في وست

بوينت: إنه عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحاجات المشتركة للرجال والنساء، ليس

هناك تصادم حضارات؛ فمتطلبات الحرية تنطبق كليًا على أفريقيا وأميركا

اللاتينية وكامل العالم الإسلامي «، وهذا ما بلورته صراحة إليزابيث تشيني (ابنة

نائب الرئيس الأمريكي) ، نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق

الأوسط والمسؤولة الرئيسية في الوزارة عن المبادرة، حيث ذكرت أمام مؤتمر

المنتدى الاقتصادي الأمريكي العربي، المنعقد نهاية شهر سبتمبر الماضي أن:

الولايات المتحدة لا تريد أن تفرض قيمها على دول المنطقة عبر هذه المبادرة بقدر

ما تريد أن تساعد في ترسيخ هذه القيم التي قالت إنها قيم عالمية، وليست أمريكية

.. أي إن هذا هو الدين العالمي الجديد الذي ينبغي أن نذوب فيه؛ لأن على جميع

الشعوب أن تدخل فيه أفواجًا، وهو الزعم الذي يذكرنا بطرح وثيقة المثقفين

الأمريكيين التي سوغوا بها حرب أمريكا ضد ما أسمته الإرهاب [3] .

ولكن التجارب أثبتت أن شعوب هذه المنطقة ليست من النوع سريع الذوبان؛

فما العمل؟

* عندما تتكلم المصالح:

أما الدوافع المباشرة فقد ألمح إليها الوزير باول في خطابه أمام مؤسسة التراث،

عندما قال:» ... مزارعونا يزرعون القمح، وعمالنا يصنعون طائرات،

وأجهزة كمبيوتر، ومنتجات أخرى عديدة نبيعها لدول المنطقة، بينما الأموال تتدفق

من مستثمرين في الشرق الأوسط إلى بلدنا. ومن المفجع أن آلافًا من رجالنا

ونسائنا ماتوا في 11/9/2001م، على أيدي إرهابيين ولدوا وأصبحوا راديكاليين

هناك. واعترافًا منا بأهمية المنطقة، كرّسنا دمنا ومالنا لمساعدة (!!) شعوب

وحكومات الشرق الأوسط على مدى نصف قرن من الزمن وأكثر «.

» والحرب على الإرهاب لا تقتصر على الشرق الأوسط طبعًا، غير أن

أصدقاءنا هناك لهم مصلحة مهمة بها بوجه خاص؛ فقد عانى كثيرون من بلاء

الإرهاب مباشرة «.

» وقد كانت هذه التحديات ولا تزال في مقدمة سياسة الولايات المتحدة الشرق

أوسطية، ولسبب وجيه؛ فكل منها يؤثر تأثيرًا عميقًًا على مصالحنا القومية،

وعلى مصالح الشعوب التي تعتبر الشرق الأوسط وطنًا لها «.

وهو الأمر نفسه الذي يؤكده مساعده لشؤون الشرق الأوسط وليام بيرنز في

المؤتمر المشار إليه سابقًا:» إنه من مصلحتنا جداً في الأمد الطويل أن ندعم

التغير الديمقراطي، وينبغي علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة بالنسبة للمقايضات

الحتمية، وأن نسعى إلى المساعدة في صياغة العملية بشكل يخفض على الأقل

بعض المخاطر في الأمد القصير إلى أقصى حد ممكن «. وهو ما أكدته أيضًا

إليزابيث تشيني بقولها:» من الواضح أن الأمر يتعلق بمصلحة الأمن القومي

الأمريكي والمساعدة في نشر فرص الحرية، وفي الوقت نفسه نحن نعتقد أن هذه

المثل هي الفضلى « (حديث مع جريدة الحياة 2/8/ 2003) .

فالأمر بلا تعقيد أن لأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وأن شعوبها بوضعها

الحالي تعد معامل تفريخ لمن يهددون أمن أمريكا، وعلى وجه التحديد فإن

» المدارس الدينية في العالم الإسلامي تجند المتشددين الشبان «بحسب تعبير

وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد في مذكرة منسوبة إليه (الحياة 25/10/2003) ،

كما أن هذا الواقع يعرقل التعايش والتعاون بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا

وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم (إسرائيل) .

* فما السبيل إلى التغيير المنشود؟

تعالوا نرتب الأوراق بالمنطق الأمريكاني:

- الإسلام بقيمه ومبادئه يمثل خطراً على أمريكا، وليس الأمر أمر (قوىً

أصولية) يراد التخلص منها.

- وهذه القيم والمبادئ هي التي تفرخ بعض من نشؤوا في المنطقة وتدفعهم

للقيام بأعمال خطرة على أمريكا ومصالحها وأصدقائها وحلفائها.

- وهؤلاء يتشربون هذه القيم والمبادئ الخطرة عبر منظومة معقدة من

المفاهيم المبثوثة في مناهج التعليم والمواعظ الدينية، ويغذيها أحيانًا إعلام غير

مسؤول، إضافة إلى عادات اجتماعية متوارثة ترسخ هذا النمط من القيم والمبادئ

والسلوكيات.

- فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تساهم في تشكيل العقلية العربية والإسلامية:

الإعلام، والتعليم، و (الخطاب الديني) ، والأخير هو أخطرها لما يحمله من

احترام و (تقديس) لدى فئات كثيرة، ولكونه يصل إلى جميع الطبقات ويخاطب

جميع المستويات.

- و (الخطاب الديني) هو جزء من الهوية والتكوين الروحي والفكري

والنفسي والاجتماعي لهذه الشعوب، فمن غير الممكن مصادمته وإسقاطه كلية بشكل

فج ومباشر، خاصة إذا جاءت هذه المصادمة ممن هم خارج إطاره.

- ومن الملاحظ أن هذا التكوين تشكل عبر سنين طويلة؛ فمن غير المتوقع

إعادة تشكيله عبر الميكروويف من غير احتراق، ولكن أيضًا فإن المصالح الحيوية

لأمريكا والإدارة القاطرة التي تقودها لا يحتملان الانتظار أمام النار الهادئة.

ندخل بيانات هذه الأوراق في الكمبيوتر الأمريكاني لحل هذه الإشكالات،

فنفاجأ أنه يطالبنا باسم المستخدم وكلمة المرور، وبعد استشارة قراصنة مراكز

الأبحاث والدراسات المتخصصة في شؤون العالم الإسلامي يكشفون لنا أن اسم

المستخدم هو: اللورد كرومر، أما كلمة المرور فهي عبارة: (تجديد الخطاب

الديني) ، وبعد إدخال اسم المستخدم وكلمة المرور يخرج لنا الكمبيوتر الشيطاني

برامج تنفيذية عديدة لحل المعضلة:

* بوصلة التحرك:

ولكن قبل أن نستعرض بعض جوانب من هذه البرامج يهمنا أولاً استكشاف

مؤشرات عامة لها، منها:

-» سنشترك مع قادة المجتمع لسد فجوة الحرية بمشاريع لتقوية المجتمع

المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، ورفع أصوات النساء، وسنعمل مع المربين

لسد فجوة المعرفة بمدارس أفضل ومزيد من الفرص للتعليم العالي « (من خطاب

وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مؤسسة التراث) .

-» نحن نعتمد إلى حد كبير الآن على النساء في المنطقة، ونطرح عليهن

الأسئلة لمعرفة كيف يمكننا المساعدة، وفي بعض الحالات تكون الأجوبة أنهن

يرغبن في المساعدة في مجالات الشراكة في مشاريع تجارية أمريكية أو أوروبية

لتلقي برامج تدريب أو تعليم، وفي بعض الحالات يرغبن في الاستفسار عن

حقوقهن السياسية، وفي حالات أخرى يردن تعلم الإنجليزية وبرامج المعلوماتية «

(من حديث إليزابيث تشيني مع جريدة الحياة، 2/8/2003م) .

-» .. إننا تعلمنا الكثير كنساء، تعلمنا أن هناك حاجة لا للتغيير السياسي

فقط، بل لتغيير (الثقافة) في بلادنا، بحيث تتمكن المرأة في المرات المقبلة من

النجاح والوصول إلى تبوُّؤ المناصب في بلادنا « (من خطاب سيدة الأعمال

البحرينية فاطمة البلوشي أمام مؤتمر المنتدى الاقتصادي الأمريكي العربي الذي عقد

في مدينة ديترويت، ونوهت فيه بالتقدم الذي تحرزه المرأة البحرينية وترشحها

للانتخابات رغم عدم نجاحها) .

- وهنا تظهر ضرورة التعرف بدقة على ثقافة شعوب المنطقة وخصائصها

وعاداتها لكي تكون البرامج الموجهة لها منطلقة من أساس سليم وواقعي؛ فلقد بيّنت

هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م» بصورة مؤسفة وواضحة، أن

الأمريكيين وغيرهم من الغربيين يجهلون بشكل مفجع العادات، والثقافات،

والمعتقدات السائدة لدى شريحة عريضة وهامة من سكان العالم، أكثر من مليار

مسلم يقطنون رقعة جغرافية شاسعة تمتد من غرب إفريقيا إلى شرق آسيا ... وفي

حين نرى أن حيزاً كبيراً من الاهتمام قد وجّه لدور الدين في إثارة النزاعات العنيفة،

نرى أن هناك عددًا قليلاً من مؤسسات الفكر والرأي تعالج دور الدين في صنع

السلام «. (من مقال لريتشارد إيتش سولومون، رئيس المعهد الأمريكي للسلام،

بعنوان: المنهج التطبيقي في حل النزاعات) .

- فلابد من التأكيد على» أهمية هزيمة الإرهاب، ليس فقط بالقوة العسكرية

ولكن أيضًا في حرب للأفكار « (الوزير رامسفيلد، جريدة الحياة، 25/10/

2003م) .

- فإذا علم ذلك فإن» الناس لا تتغير أفكارهم بمجرد دعوة يتلقونها من هذا

المفكر أو ذاك، إنما هي نوع من التراكم المعرفي، وكثيرًا ما يأتي التراكم من

الجدل الفكري والفني والسياسي واختلافات الأفكار والمواقع الاجتماعية المنطلقة

منها؛ فالأفكار والمعتقدات والتقاليد والعادات كلها تحتاج إلى وقت حتى تصبح

جزءًا من التركيب الفكري لإنسان المجتمع الذي تقتحمه هذه الثقافة أو قل الذي ينتج

الثقافة « (الكاتب أحمد عباس صالح في شهادته عن مؤتمر الثقافة العربية، جريدة

الشرق الأوسط 4/7/2003م) .

- لذا:» ينبغي أن يكون التغير الديمقراطي مدفوعًا من داخل المجتمعات في

المنطقة؛ ذلك أنه لا يمكن تحقيق بقائه واستدامته عن طريق الوصفات والمواعظ

القادمة من الخارج « (من خطاب وليم بيرنز الذي ألقاه أمام مؤتمر مركز دراسة

الإسلام والديمقراطية في واشنطن يوم 16/5/2003م) .

أظن أن الرسالة وصلت!!

* ملامح الحملة:

تمخض عن مبادرة باول برنامج تنفيذي معلن يضم 47 برنامجاً تفصيلياً،

تغطي 14 دولة عربية على الأقل، بميزانية إجمالية تبلغ 29 مليون دولار للعام

المنصرم، ورغم ضآلة هذا المبلغ إلا أن تفصيلات البرامج تعطينا مؤشرات

لاتجاهات أمريكا واهتماماتها في المنطقة، إذ يتضح أن هناك تركيزًا واضحًا على

المستوى الجغرافي على اليمن والمغرب والجزائر ودول الخليج خاصة البحرين

وقطر.

أما على المستوى الموضوعي: فإن التعليم، والسياسة والانتخابات

والبرلمانات، والاقتصاد، والمرأة والأسرة تقف على رأس سلم أولويات هذه

المبادرة، ثم يأتي بعد ذلك: القضاء والقانون، والإعلام والاتصال، والاطلاع

على الغرب، وتنمية المجتمع المدني والقطاع الأهلي.

ولكن الذي يهمنا هنا أن الجانب غير المذكور في هذه المبادرة أو المكمل لها

على أقل تقدير كان هو (إصلاح) أو (تجديد) الخطاب الديني، ومما يومئ بذلك

أن إعلان هذه المبادرة كان بمثابة إشارة البدء لانطلاق حملة كبرى اشتملت على

نشاط إعلامي محموم للترويج لما أسموه (تجديد الخطاب الديني) ، صاحبه برامج

ومؤتمرات ودورات لتنفيذ المخطط المشار إليه، وقبل أن نستعرض بعض جوانب

لهذا النشاط وهذه البرامج نشير إلى بعض الملامح التي لوحظت على هذه الحملة،

وهي في نظري ما يأتي:

- أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي، مع

وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخيًا مرجعيات العالم الإسلامي.

- وأنها جاءت اتساقًا مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها

قوى خارجية معينة، مستغلة أحداثًا وظروفًا معروفة، فجاءت هذه الحملة استكمالاً

لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.

- الالتباس المتعمد في هذه الدعوة، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في

الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها، جاءت

الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن يكون المقصود بها

(مضمون) الخطاب ومحتواه، وتحتمل أن يكون المقصود بها (شكل) الخطاب

بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب ووسائل عرض المضمون.

ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني،

أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب، ولا يخفى

على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ

والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر، ففي معرض إيضاحه للمقصود

بكلمة (الخطاب) يذكر الكاتب أحمد عبد المعطي حجازي أن هذا العصر الذي

نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا، أو أن هذا

ما ينبغي أن نفعله، فنقرأ، ونفهم، نناقش، ونجرب، نحلل، ونقارن لنعرف

الأسباب، ونتوقع النتائج، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس، والجسم،

والمجتمع.

نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها،

وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى، ونعرف أن الجنون مرض

يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه

وأنواعه، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من

قبل، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح

العصر، لأنه يتفق مع العلم، أي مع العقل والتجربة» ، «ونحن إذن أمام

مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر، ونتتبع التحولات، وننتقل من

السبب إلى النتيجة، يبدو لنا العالم مفهومًا، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه

والسيطرة عليه، والنص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو

القبور أنه علم سابق على كل علم وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه،

فالأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف، ولا جديد تحت الشمس!» (الأهرام المصرية

23/7/2003م) .

ولكن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة (هدم القيم

والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم فوق التعمية على مقصدهم

الحقيقي تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج

لها ظنًا منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا التورط أعطى غطاءً

مناسبًا لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد

هؤلاء العلماء والدعاة.

- تشابه مفردات هذا الخطاب عند الدعاة (البروتستانت) مع القضايا التي

أثارها العلمانيون، التي تتفق بدورها مع أهداف مبادرة باول، وقد تمثلت هذه

المفردات في:

1 - إعلاء قيمة العقل والمصلحة بمعناهما الوضعي والمادي على النص

الشرعي.

2 - تغليب المادي والمشاهد على العاطفي والغيبي.

3 - مسايرة الأحداث والخضوع لها باسم التواكب مع العصر.

4 - غلبة الخطاب الدفاعي والانهزامي بدعوى دفع التهم وخاصة الإرهاب

وهضم حقوق الإنسان عن الإسلام، مع التركيز في هذا الخطاب على تناول قضايا

المرأة والأسرة، والمرتد وحرية العقيدة.

5 - التأكيد على أهمية الديمقراطية، والمشاركة الشعبية، وإظهار إشراك

الفئات المهمشة، وإبراز مكانتها في الإسلام.

6 - (تلطيف) الموقف من الآخر، بإعادة تشكيل بعض المفاهيم ذات

العلاقة به (بدءًا من التكفير، ومرورًا بالولاء والبراء، ووصولاً إلى الجهاد) ،

مع التأكيد على ضرورة التواصل مع هذا الآخر، وخاصة الغرب.

7 - تحويل الخطاب الديني الإسلامي (الدعوة الإسلامية) إلى مجرد إحدى

مفردات وسائل دعم سياسات الدولة المحلية ومواقفها الخارجية.

- تشابه بعض الأساليب المتبعة في نشاطات تجديد الخطاب الديني مع

الأساليب السياسية الأمريكية في تحويل الاتجاهات والميول، وذلك عن طريق

المشاركة في أنشطة ودورات تعقد في أمريكا، والعمل على تذويب الفوارق النفسية

والفكرية بين أصحاب الاتجاهات المختلفة خاصة العقائدية بالمخالطة والمعايشة

اليومية فيما بينهم: فعلى سبيل المثال: كان أول برنامج ينفذ برعاية مبادرة

الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط برنامجًا بعنوان (النساء كقادة

سياسيين: الانتخابات الأمريكية والحملات السياسية) ، وقد جلب البرنامج وفدًا من

55 زعيمة سياسية عربية، ما بين مسؤولات منتخبات ومعينات، ومرشحات

لمناصب، وناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة، وقادة مجتمعات مدنية،

وصحفيات.. إلى الولايات المتحدة؛ لتوفير نظرة متعمقة إلى الانتخابات الأمريكية

على المستوى الأساسي، وعرض البرنامج واجهات تنظيمية من الحملات

الانتخابية، وفحص أهمية وأساليب تجنيد متطوعين للحملة، واستكشف

استراتيجيات فعالة للعلاقات العامة والإعلامية، بالإضافة إلى حضور هذه الفعاليات

السياسية النسائية مؤتمرات على مستوى رفيع في واشنطن وتلقيهن تدريبًا على

مهارات في الحملات السياسية.

ولعلنا لا ننسى أيضًا أسلوب التعايش اليومي بين الوفدين الفلسطيني

والإسرائيلي أثناء مفاوضات كامب ديفيد برعاية الرئيس الأمريكي السابق كلينتون.

وفي المقابل: يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول

العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق

بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة، وذلك بعد الانتهاء من الدورات

التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة

أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من

3 أشهر، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة

عدد مماثل من القساوسة، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة

والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين

الليبراليين؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من

خلال المشاركة بين القس والخطيب، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون

في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.

ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات، ومن خلال مشاركة

عدد من رجال الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين،

تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد وليس موضوعاته فقط خاصة ما ورد

في القرآن أو السنة؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك

العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد.. (مصطفى سليمان، جريدة الأسبوع،

16/6/2003م) .

وتشابه هذه الأساليب لم يأت إلا نتيجة تطبيق دراسات وأبحاث قامت بها

مراكز متخصصة؛ بغية الوصول إلى أفضل النتائج حسب الأهداف التي رسموها،

وهذا ما يوضحه ريتشارد إيتش سولومون، رئيس المعهد الأمريكي للسلام في مقاله

المعنون بـ (المنهج التطبيقي في حل النزاعات) ، حيث يقول: «.. وفي حين

نقارب رسالتنا بنفس بعض الطرق التي تتبعها مؤسسات الفكر والرأي التقليدية

وغير الحكومية - عبر الأبحاث، والدراسات، وتقديم المنح، والمناسبات العامة،

والنشر - إلا أن لدينا أيضاً برامج عملية أكثر تطبيقيةً من تلك التي تقوم بها

مؤسسات الفكر والرأي التقليدية. يحلو لنا كما قلت في البداية وصف أنفسنا

بمؤسسة فكر وفعل؛ إذن: ما هو جزء (الفعل) من هذه المعادلة؟ :

إنه - إلى حد كبير - التدريب والتعليم، إننا منخرطون في نشاط واسع

لتدريب صانعي السلام اليوم ... هناك مثال حديث عن عمل البرنامج يتمثل في

مُقرر تعليمي متفاعل مُدته أسبوعان، قوامه بناء الثقة وتعزيز العمل ضمن فريق

عمل أنشئ لما يقرب من 30 قيادياً شاباً في منظمات غير حكومية من صربيا

وكوسوفو، وللبرنامج أربعة مكوّنات: مقرر تعليمي مدته نهار كامل يتكون من

تحديات متنوعة تُجرى في الهواء الطلق، وتتطلب تخطيطاً مشتركاً وعملاً جماعياً،

ثم هناك يوم ثان للمناقشات والتمارين حول المفاوضات والوساطة، وثلاثة أيام

تجري خلالها محاكاة مكثفة بواسطة الكومبيوتر تتعلق بالمفاوضات وصنع السياسة،

ويوم حوار مع صانعي السياسة في واشنطن.

خلال المحاكاة، يُحَثّ المشاركون في بيئة ضاغطة جداً، على معالجة مشاكل

بلد وهمي يصارع تحديات حقبة ما بعد النزاع، كالتوتر الإثني، والبطالة الواسعة،

وتدهور البيئة، ووباء الإيدز ... وتعمل مبادرة الدين وصنع السلام التابعة لمعهد

السلام على تعزيز قدرات المجتمعات القائمة على الإيمان لكي تصبح قوة من أجل

السلام، وتنظم المبادرة حوارات ما بين الأديان وورش عمل في البلقان، والشرق

الأوسط، والولايات المتحدة.

- ويلاحظ أن هذه الدعوة (التجديدية) التي يلوكها بعض متبجحي العلمانيين

لا تنتسب إلى الإسلام وأصوله، بل تدعو إلى طرحه كلية وهدم أسسه، بخلاف

بعض الدعوات السابقة التي كانت تحاول أن تمد نسبها إلى أصول شرعية، كتأويل

أهل البدع الذي كان وفق أسس تنتمي إلى المرجعية الإسلامية وإن كانت فاسدة، أو

كاجتهادات المدرسة الإصلاحية في مطلع القرن الميلادي السابق.

- كما أن من الملاحظ ظهور نشاط محموم في البلاد التي ظهرت فيها هذه

الدعوة لمطاردة ومحاصرة من يجددون في أساليب (الخطاب الديني) ، مقابل

إفساح المجال لمن (يجتهدون) في إعادة تشكيل مضامين هذا الخطاب.

* ثم تتوالى السهام:

أما أهم الأحداث المرتبطة بحملة (تجديد الخطاب الديني) فيمكن رصدها فيما

يأتي، وعلى القارئ أن يقارن بين هذه الأحداث والمخطط المذكور في أول المقال

وملامح الحملة المذكرة سابقًا، كما لا يفوته أن الأحداث المذكورة هي مما أمكن

معرفته وأتيح ذكره:

- أعلنت اللجنة الدينية بمجلس الشعب المصري عن وضع استراتيجية

لتطوير الخطاب الديني من خلال دراسة المشكلات التي تواجه هذا الخطاب وتأهيل

الدعاة وتطوير المناهج في المعاهد الدينية والكليات الشرعية حتى تواكب متطلبات

العصر. ومن ناحية أخرى شكل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية لجنة لوضع

أسس وضوابط معاصرة للخطاب الديني يلتزم بها الدعاة داخل مصر وخارجها

(البيان الإماراتية، 1/3/2001م) .

- وفي صباح الاثنين 5/4/2003م عقد مجلس الشعب المصري جلسة

لمناقشة تطوير الخطاب الديني.

- وفي يوم الخميس 24/4/2003م أكد وزير الأوقاف المصري محمود

حمدي زقزوق في لقائه مع أكثر من 1600 إمام وداعية في محافظة قنا جنوب

مصر أهمية تجديد الخطاب الديني، واعتبره حقيقة أصبحت ملحة في ظل

المتغيرات التي يشهدها العالم حاليًا، وأمام حملات التشويه المستمرة على الإسلام،

رافضًا ما يتردد حول وجود ضغوط خارجية لتحقيق ذلك الهدف.

- وفي يوم 11/6/2003م انتهت أول دورة راقية للأئمة والخطباء في

المساجد بحسب وصف وزارة الأوقاف المصرية شارك فيها نحو 50 إمامًا وخطيبًا

معظمهم من حملة الماجستير والدكتوراه؛ ليكونوا نواة لجيل جديد من الأئمة

المتميزين المتحدثين بلغة الخطاب الديني الجديد، وقد استمرت الدورة 3 أشهر في

الإسكندرية بنظام الإعاشة الكاملة للمتدربين.

- وفي يوم الخميس 3/7/2003م، عقد بالقاهرة مؤتمر (نحو خطاب ثقافي

جديد) ، شارك فيه 150مثقفًا ومفكرًا عربيًا، وقد طالب المثقفون المجتمعون بـ

» أفق مجتمعي جديد يضمن حرية الاجتهاد الفكري المسؤول ( ... ) الذي يرفض

الوصايات التي تحتكر المقدسات القومية والدينية «، واعتبروا أن ذلك» يمر عبر

الوصول إلى الشروط الاجتماعية والثقافية التي تنتج خطابًا دينيًا متطورًا منفتحًا

على العصر يتجاوز الخطابات الدينية الركودية والمتزمتة التي أساءت إلى الإسلام

والعرب والمسلمين «، وطالبوا» الدول العربية أن تأخذ موقفًا محايدًا في صراع

الأفكار والاجتهادات دون توظيف ديني للسياسة أو توظيف سياسي للدين!! «.

وقد برز في مناقشات المؤتمر المطالبة بالتصدي للمؤسسات الدينية الرسمية

وغير الرسمية؛ حتى يمكن إعادة صياغة الخطاب الثقافي ومن ثم المشروع الثقافي

المستقبلي، وأهم من عبر عن هذا الاتجاه حلمي شعراوي الذي طالب صراحة

بإلغاء مؤسسة الأزهر.

كما أجمل وزير الأوقاف المصري محمود حمدي زقزوق سلبيات الخطاب

الديني المعاصر بـ:» انفصال عن الواقع، تركيز على الشكليات، تركيز على

أمور الآخرة وإغفال أمور الدنيا، التخويف والترهيب، النظرة الدونية إلى المرأة،

الانتقاد الداحض لحضارة الغرب مع أننا من صنّاعها، اعتبار التضامن الإسلامي

كأنه رفض للآخر «.

ولا يسع المقام هنا اقتباس مقتطفات مما باح به بعض متبجحي العلمانيين

العرب في هذا المؤتمر الذي نال فيه (تجديد الخطاب الديني) اهتمامًا ملحوظًا،

ولكن يمكن القول عمومًا إن ما قاله هؤلاء كان من الخطورة بحيث رفضه واستنكره

مثقفون علمانيون آخرون حضروا المؤتمر.

- وفي يوم 23/9/2003م نظمت كازاخستان مؤتمرًا للحوار بين الحضارات

وأتباع الأديان السماوية، حضرته وفود من معظم دول العالم الإسلامي، وفيه

اقترح الدكتور حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري عقد مؤتمر لزعماء الأديان

في العالم، يهدف إلى دعم الحوار بين الثقافات، وتأكيد التكامل بين الأديان،

والتقارب بين الشعوب، وقد حظي الاقتراح بتأييد دولي، وتم الاتفاق على تشكيل

لجنة من رؤساء الوفود المشاركين في المؤتمر لتنفيذه (الأهرام 15/10/2003م) .

* هل ينجحون؟

لا شك أن تحقق ذلك أو عدم تحققه يتوقف على عوامل كثيرة خارجية وداخلية،

ولكن ما يعنينا أن في قلوب القوم أماني ساردة تبدو على ألسنتهم وفي كتاباتهم من

حين لآخر، كما أن في أذهانهم أهدافًا محددة تشير إليها مخططاتهم وأنشطتهم، ومن

غير المبالغ فيه القول إن من أماني أئمتهم: محو القرآن من الوجود، ولعلمهم

باستحالة ذلك فإنهم يعملون على تحقيق أهداف يظنون تحقيقها ممكنة، وعلى رأس

هذه الأهداف: تحريف المعاني القرآنية، وتفريغ القرآن من أهدافه ورسالته،

وإبعاد المسلمين عن تدبر القرآن والعمل به، أي إنهم يريدون أن يتحول القرآن إلى

حبر على ورق كما يقولون، والله من ورائهم محيط.

وحتى لا نخدع أنفسنا فإنه يجب التنبه إلى أن تحقيقهم لهذه الأهداف أو بعضها

في عالم الواقع ليس مستحيلاً شرعًا أو عقلاً؛ فالله عز وجل تعهد بحفظ الذكر،

ولكنه لم يتعهد بحفظ معانيه في عقول المسلمين وقلوبهم، ومسيرة الانحراف في فهم

الكتاب والسنة وتطبيقهما مسيرة قديمة، حقق فيها أعداء الإسلام نجاحات لا يستهان

بها، ومن هنا يمكن القول: إن المعوَّل عليه في الحفاظ على هذه المعاني من

التحريف والتبديل وتطبيقها في واقع المسلمين في أي وقت وأي مكان: هو ما يقوم

به أهل الحق أنفسهم بحسب جهدهم ووفق سنن التغيير التي تسير بها حركة

المجتمعات، وليس وفق الأماني والنيات.

وقد أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما قال:

» ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها

حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه: وجب أن يكون فيهم من

يحرف الكلم عن مواضعه فيغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به.

وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه

من الأماني التي هي مجرد التلاوة، ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين، ثم قد

يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين أو الكفار مع علم أولئك [المحرفين] بما

لم يعلمه الأميون، فإما أن تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء [الأميين] فتنة على

أولئك [المحرفين] ؛ حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين

ويصيرون في طرفي النقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في

بعض ضلالهم.

وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ؛ كما قال تعالى:

[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ، ولا تزال فيه طائفة

قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير

شرائعها مطلقًا؛ لما ينطق الله به القائمين بحجة الله وبيناته الذين يحيون بكتاب الله

الموتى، ويبصِّرون بنوره أهل العمى؛ فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛

لكيلا تبطل حجج الله وبيناته « [4] .

فالفيصل في المحافظة على المعاني والقيم والتصورات الإسلامية صحيحة في

عقول المسلمين وقلوبهم وحياتهم هو مدى تحقيق أهل الحق لسنة التدافع مع

الأطراف الأخرى، وهذا يتطلب يقظة وجهدًا ونشاطًا وعملاً دؤوبًا ومنظمًا من

جميع الأفراد.

والذي أراه أن الظرف الذي تمر به الأمة يتطلب فوق اليقظة والنشاط حلولاً

غير تقليدية لاستنفار جموع الأمة واستخراج القوى الكامنة في قطاعاتها الشعبية،

بعد أن رفعت معظم الأنظمة جميع الرايات البيضاء التي في حوزتها، حتى إنهم

رفعوا أخيرًا ما كانوا يسترون به عوراتهم أمام شعوبهم.

نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015