دراسات تربوية
سالم بن أحمد البطاطي
العمل التربوي عمل ضخم كبير وضرورة لا تستغني عنه الأمة الإسلامية،
ويكفي في بيان علو منزلة التربية وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه
وسلم بأنه مزكٍّ للنفوس ومربٍّ لها، فقال: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) وهذا العمل التربوي الكبير بحاجة دائماً إلى تقويم
وتوجيه مستمر، حتى نتخلص بإذن الله من ضعف الإنتاجية في أعمالنا التربوية،
وحتى نحصل بإذن الله على الثمار اليانعة من هذه الأعمال، وحتى لا تهدر الجهود
والطاقات في غير طائل. ومن ينظر نظرة متعمقة في واقع العمل التربوي اليوم
يجد أن ثمة ثغرات تتخلل هذا العمل الضخم الكبير، مما يتسبب في تأخيرٍ في دفع
عجلة هذه الصحوة المباركة إلى الأمام، ومن هذه الثغرات عدم ترسُّخ مفهوم
المتابعة وتطبيقه في الواقع لدى بعض العاملين في حقل الدعوة والتربية، فتسمع أن
بعض الأعمال الدعوية والتربوية قد توقفت، ومن الأسباب ضعف المتابعة..
وتسمع عن تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق، ومن الأسباب ضعف المتابعة،
وتشعر بضعف إنتاجية وعمل بعض المحاضن التربوية، ومن الأسباب ضعف
المتابعة.
ولعلنا في هذه الوريقات نلقي بعض الضوء حول هذا المفهوم التربوي المهم،
وأنا مؤمن بأنها لن تفي هذا الموضوع الكبير حقه، ولكن هي إشارات عابرة وفتح
باب للباحثين حول هذا المفهوم.
إن هناك مسوغات تدفعنا للحديث عن هذا الموضوع المهم، منها:
1 - أن التربية عملية مستمرة، لا يكفي فيها توجيه عابر من المربي مهما
كان مخلصاً، ومهما كان صواباً في ذاته، إنما يحتاج إلى المتابعة والتوجيه
المستمر [1] .
2 - أن المتلقي نفسٌ بشرية وليس آلة تضغط على أزرارها مرة، ثم تتركها
وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتها عليه، بل هي نفس بشرية دائمة
التقلب، متعددة المطالب، متعددة الاتجاهات، وكل تقلب، وكل مطلب، وكل
اتجاه، في حاجة إلى توجيه. فالعجينة البشرية عجينة عصيه تحتاج إلى متابعة
دائماً.. وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرة فتنضبط إلى الأبد وتستقر
هناك، بل هناك عشرات من الدوافع الموارة في تلك النفس دائمة البروز هنا،
ودائمة التخطي لحدود القالب المضبوط من هنا ومن هناك [2] .
3 - أن من صفات المربي الناجح المتابعة، والشخص الذي لا يجد في نفسه
الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل
جميل من الخصال [3] .
4 - يواجه الشباب المسلم في هذا الزمان تياراً من الفتن والصوارف عن دين
الله عز وجل: فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، وفتن الشهوات المحرمة
التي تقوده إلى نارها ولأوائها [4] . فالعملية طردية كلما كثرت الفتن وانتشرت
المنكرات عظم دور المتابعة، وكان الاهتمام بها آكد.. قال صلى الله عليه وسلم:
«بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً،
أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع نفسه بعرض من الدنيا» [5] .
5 - أننا مسؤولون عمن نربيهم يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم:
«كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» [6] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من
رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، فكه
بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»
[7] . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم
يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» [8] .
6 - أن السلف الصالح رضوان الله عليهم اهتموا بهذه الصفة صفة المتابعة
بل كانوا يحثون المربين عليها. يقول ابن جماعة - رحمه الله -: «إذا غاب
بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائداً عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعمن يتعلق
به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل؛ فإن
كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافراً تفقد أهله ومن
تعلق به، وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم وأوصله بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج
إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد له ودعا له» [9] . ويقول الإمام
النووي وهو ينصح المربي ويضع له واجبات منها: «وينبغي أن يتفقدهم أي
الطلاب ويسأل عمن غاب منهم» [10] .
7 - أن صفة المتابعة من صفات الأنبياء - عليهم السلام - كما في قصة
الهدهد وسليمان - عليه السلام -. قال تعالى: [لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ] (النمل: 21) يقول السعدي - رحمه الله -: «دل
هذا على كمال عزمه وحزمه، وحسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه للأمور
الصغار والكبار حتى إن لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور، والنظر هل هي
موجودة كلها أم مفقود منها شيء» . ويقول أيضاً - رحمه الله -: «وإنما تفقد
الطير لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها» .
وهي أيضاً من صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
8 - أن المتابعة من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومما يعين على تحسين
الإنتاجية. يقول صاحب كتاب (الإيجابية في حياة الدعاة) في قصة الهدهد
وسليمان: «وبالطبع فإن تفقد الأمير للأتباع، وأخذه بالحزم ثم المحاسبة، وتبين
العذر: كل ذلك من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومناهج التربية» [11] .
* المتابعة منهج نبوي:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على متابعة أصحابه وتفقدهم
ومما يدل على ذلك ما يلي:
1 - متابعتهم في الأعمال الصالحة:
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع
منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو
بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة» [12] .
2 - متابعتهم في زمن الفتن والابتلاءات:
ومن ذلك مروره صلى الله عليه وسلم بآل ياسر وهم يعذبون وقوله لهم:
«صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة» [13] .
3 - متابعتهم في مشكلاتهم الصحية وأمراضهم:
أ - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: «أصابني رمد، فعادني
النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فلما برئت خرجت. قال: فقال لي رسول الله:
» أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟ «قلت: لو كانت عيناي بما
بهما صبرت، واحتسبت.. قال: لو كانت عيناك بما بهما، ثم صبرت واحتسبت
للقيت الله عز وجل ولا ذنب لك» [14] ، وهذا يدل على أن المتربي يفرح بمتابعة
المربي له وبالاهتمام به والسؤال عنه.
ب - أخرج البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
«مرضت مرضاً فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما
ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه
عليَّ، فافقت؛ فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم» [15] .
ت - في يوم خيبر قال صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية غداً رجلاً
يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه» .. فبات الناس
يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب؟ قيل: يشتكي عينيه.
فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له،
فبرئ كأن لم يكن به وجع» [16] . وعن ابن أبي وقاص، فقال: «ادعوا إليَّ
علياً، فأتي به أرمد» [17] . وعن طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال:
«فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد» [18] .
ث - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد
بلغ بي من الوجع ما ترى..» [19] .
ج - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «اشتكى سعد بن
عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف
وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله،
فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما
رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا..» رواه البخاري في كتاب
الجنائز.
4 - متابعتهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ومن ذلك:
أ - سعيه صلى الله عليه وسلم في أمر جليبيب حتى زوَّجه.. وذلك كما في
مسند الإمام أحمد عندما قال صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: زوِّجني ابنتك!
فقال: نَعَم! وكرامة يا رسول الله! ونِعْم عين! قال: إني لست أريدها لنفسي.
قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لجليبيب «.
ب - قصة جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام - رضي الله عنهما -،
وقصته مشهورة؛ قال:» تزوجت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر! تزوجتَ؟ قلت: نعم! قال:
بكر أم ثيِّب؟ قلت: ثيب، قال: فهلاَّ بكراً تلاعبها، قلت: يا رسول الله! وإن
لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهن. قال: فذاك إذن! إن المرأة تنكح على
دينها ومالها وجمالها؛ فعليك بذات الدين تَرِبَت يداك « [20] .
ت - قصة عبد الله بن أبي حدرد، فقد حدث عن نفسه أنه تزوج امرأة فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في صداقها، فقال:» كم أصدقت؟ قال:
قلت: مائتي درهم! ثم أرسله صلى الله عليه وسلم في سرية فأصاب منها « [21] .
ث - حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت
فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت كان بيني وبينه شيء
فغاضبني فخرج فلم يَقِلْ عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:
انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد. فجاءه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه؛ وأصابه تراب، فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول: قم أبا تراب! قم أبا تراب»
[22] .
ج - عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن زوج بريرة كان عبداً يقال له
مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعباس: «يا عباس! ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ،
ومن بغض بريرة مغيثاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعْتِهِ! قالت: يا
رسول الله! أتأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه» [23] .
5 - متابعته في مشكلاتهم الاقتصادية:
كما في قصة سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عندما أتى للرسول صلى
الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي. فقال صلى الله
عليه وسلم: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» قال: فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدِّ
بها ما عليك يا سلمان « [24] .
6 - متابعتهم في أفراحهم:
وذلك بإجابة دعوتهم في أفراحهم، ومن ذلك أن أبا أسيد الساعدي - رضي
الله عنه - دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه فكانت امرأته خادمهم
يومئذ وهي العروس.
7 - متابعتهم في أحزانهم ومواساتهم:
أخرج النسائي بإسناد حسن من طريق معاوية بن قرة عن أبيه؛ قال:» كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن
صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة
لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي لا أرى فلاناً؟
قالوا: يا رسول الله! بُنيُّه الذي رأيته هلك، فلقيه صلى الله عليه وسلم، فسأله عن
بُنيه فأخبره أنه هلك. فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان! أيما كان أحب إليك: أن
تُمتَّعَ به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه
يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله! بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ قال:
فذلك لك « [25] .
8 - متابعتهم في الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك:
أ - فقده صلى الله عليه وسلم لجليبيب في أحد المعارك؛ حيث سأل أصحابه:
» هل تفقدون أحداً؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً. قال: فاطلبوه.
فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله! ها هو ذا جنب سبعة
قتلهم ثم قتلوه. فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني،
وأنا منه مرتين أو ثلاثة « [26] .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة مخبراً بالوحي قبل أن يأتي إلى
الناس الخبر من ساحة القتال:» أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب،
ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى
فتح الله عليهم « [27] .
ت - قول كعب - رضي الله عنه - في قصته:» ولم يذكرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل
كعب بن مالك؟ حتى قال كعب: بينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يزول به
السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فإذا هو أبو خيثمة»
[28] .
ث - «قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فاقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى
فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية
بسهم، فقلت: يا سعد! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام،
ويقول لك: أخبرني كيف تجد؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
السلام قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة» [29] .
ومما يدل على متابعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما ورد عند الدارمي
وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن أصحابه في صلاة الفجر فيقول:
«أين فلان، وأين فلان؟» .
ومما ورد أيضاً عن محمد بن سعد: «أتى واثلة بن الأسقع رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فصلى معه الصبح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى وانصرف تصفح أصحابه، فلما دنا من واثلة، قال: من أنت؟ فأخبره.
فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما
أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم! فأسلم وبايعه» [30] .
وما ورد أيضاً في صحيح البخاري في كتاب المنافق «عن أنس بن مالك
- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس - رضي الله
عنه - فقال رجل: يا رسول الله! أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته
منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي
صلى الله عليه وسلم؛ فقد حبط عمله، وهو من أهل النار فأتى الرجل، فأخبره أنه
قال كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليه فقل له: إنك لست من
أهل النار، ولكن من أهل الجنة» [31] .
وما ورد أيضاً في صحيح البخاري في كتاب الجنائز عن سمرة بن جندب
- رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل علينا
بوجهه، فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء
الله. فسألنا يوماً فقال: هل رأى منكم أحد رؤيا؟ فقلنا: لا.. « [32] .
من الاستقراء لما مضى يتضح لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتابع أصحابه
رضوان الله عليهم في شتى المجالات: يتابعهم في عمل الأعمال الصالحة، وفي
زمن الفتن والابتلاءات، ويتابعهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ويتابعهم في
مشكلاتهم الاقتصادية والصحية، ويتابعهم في الجهاد في سبيل الله، ويتابعهم في
أفراحهم وأحزانهم، ويتفقدهم ويعُودُهم ويسأل عنهم، ويرسل إليهم؛ مع ما عنده
صلى الله عليه وسلم من الأشغال والارتباطات والهموم الكثيرة، بل هذه الأشغال
والارتباطات والهموم لم تمنعه صلى الله عليه وسلم، ولم تشغله عن متابعة الفقير
المسكين الذي كان يقمُّ المسجد والسؤال عنه وتفقده؛ فعن أبي هريرة - رضي الله
عنه - أن أسود رجلاً أو امرأة كان يقمُّ المسجد، فمات ولم يعلم النبي صلى الله
عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم، فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا
رسول الله! قال: أفلا آذنتموني؟! فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا
شأنه. قال: فدُّلوني على قبره. فأتى قبره فصلى عليه» [33] .
لقد كان صلى الله عليه وسلم نِعم المربي - بأبي هو وأمي - لقد حاز على
جماع الأخلاق وجميل الصفات، وارتسمت فيه صفات القائد الناجح والمربي
الناصح؛ فحري بالمربين والدعاة الاقتداء به. قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة] (الأحزاب: 21) .
* السلف الصالح والمتابعة:
لقد كان علماء الأمة حريصين على متابعة طلابهم وتفقدهم إذا غابوا،
والسؤال عنهم، بل الذهاب إلى بيوتهم وزيارة مرضاهم وتشييع جنائزهم.
1 - فهذا الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -: فقدَ أحد طلابه في
الحلقة وهو بقيُّ بن مخلد، وكان مريضاً؛ فما كان منه إلا أن سأل عنه، فأُعلم بأنه
مريض، قال بقيٌّ: فقام من فوره مقبلاً إليَّ عائداً لي بمن معه من طلاب العلم،
فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه، هذا إمام
المسلمين مقبلاً، فبدر إليَّ صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن!
هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك.. فدخل فجلس
عند رأسي، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن أبشر
بثواب الله! أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها أعلاك الله إلى
العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية، فرأيت الأقلام تكتب لفظه [34] .
2 - ذكر الذهبي - رحمه الله -: أن سعيد بن المسيب - رحمه الله - زوَّج
ابنته لأحد طلابه، وهو كثير بن المطلب بن أبي وداعة - رحمه الله -؛ وذلك
عندما فقده من حلقة العلم في المسجد وسأل عنه فأُخبر بأن زوجته توفيت، فقال له:
ألا أخبرتنا فشهدناها؟ ثم قال: هل استحدثتَ امرأة؟ فقلت: يرحمك الله؛ ومن
يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا. فزوجه بدرهمين، وهي المرأة
التي خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد فأبى عليه، وزوَّجها الطالبَ الملتحق
بحلقة العلم.
3 - وهذا أبو يوسف من أخص تلاميذ أبي حنيفة - رحمه الله - يقول:
«كنت أطلب الحديث وأنا مقلُّ المال، فجاء إليَّ أبي وأنا عند الإمام، فقال لي:
يا بني! لا تمدن رجلك معه؛ فإن خبزه مشوي وأنت محتاج. فقعدت عن كثير من
الطلب، واخترت طاعة والدي؛ فسأل عني الإمام وتفقدني، وقال حين رآني: ما
خلَّفك عنا؟ قلت: طلب المعاش. فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إليَّ
صرة فيها مائة درهم، فقال: أنفق هذا! فإذا تم أعلمني، وألزم الحلقة؛ فلما
مضت مدة دفع إليَّ مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام، كأنه يُخبَر
عني بنفادها حتى بلغتُ حاجتي من العلم.
أحسن الله مكافأته، وغفر له» .
لقد صار هذا التلميذ أعز من أبناء العالم، حيث حمل لواء العلم بعد الإمام
ومقرر المذهب من بعده، ولم يحصل له أن يتعلم ويصل إلى ما وصل إليه في الفقه
والعلم لو لم يجد الإكرام والبذل والمتابعة من أبي حنيفة رحمه الله [35] .
* مظاهر ضعف المتابعة:
لا شك أن مظاهر ضعف المتابعة قد تكون في أكثر من مجال، ولكن سأخص
حديثي هنا في مظاهر ضعف متابعة المتربين في المحضن التربوي؛ وذلك لأهمية
هذه المحاضن؛ إذ فيها يُصنع الرجال، وتُصقل النفوس، ويخرج الجادون من
أحضانها. لذلك كان لزاماً علينا إلقاء الضوء على هذا المجال المهم، ومن هذه
المظاهر ما يلي:
1 - الغياب المتكرر والتأخر الملحوظ من بعض المتربين دون معرفة السبب،
وانقطاع بعض المتربين في المحضن عن حلقات التحفيظ والدروس العلمية بعد أن
كانوا من المتميزين في الحضور دون أن يُشعَر بذلك المربي.
2 - الاضطراب في التنسيق والمواعيد.
3 - إصابة بعض أفراد المحضن بالفتور، ومن ثم استفحاله دون أن يشعر
بذلك المربي.
4 - وجود مشكلات بين المتربين، واستفحال ذلك، ومن أمثلته:
أ - وجود ارتباطات عاطفية وتعلق بين المتربين دون أن يحس بذلك المربي.
ب - وجود خلافات بين بعض المتربين في المحضن دون أن يشعر بذلك
المربي، وهذه الخلافات لا شك أنها خطيرة، إذ قد تؤدي إلى سقوطهم أو سقوط
بعضهم بسببها إذا لم يتم معالجتها واكتشافها من أول الأمر وغيرها من المشكلات.
5 - عدم متابعة البرنامج الذي وضع لهم سواء كان برنامج قراءة أو سماع
أشرطة أو لقاء تربوياً.
6 - ضعف الاتصال بالمتربين ومزاورتهم، فتجد الأسبوع يمر دون أن
يتصل أو يفكر بزيارة أحدهم.
7 - تغير سلوك بعض المتربين دون أن يشعر بذلك المربي، ولا شك أن
لهذا التغير أسباباً.
8 - ضعف القاعدة الأخوية بين المربي والمتربي.
* آثار ضعف المتابعة:
1 - ضعف العمل في بعض المحاضن التربوية بسبب ضعف المتابعة.
2 - تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق وعدم الاستمرار فيه. ومن
الأسباب وضعف المتابعة.
3 - إهدار كثير من الطاقات والأوقات في بعض الأعمال الدعوية والتربوية
سواء في المحضن أو في غيره. ثم إصابة هذه الأعمال بالإهمال وضعف المتابعة.
4 - إخراج جيل هش بعيد عن الجدية لا يقف أمام الفتن والمغريات.
5 - إخراج جيل يحمل بعض أمراض القلوب بسبب ضعف المتابعة التي من
فوائدها تخلية القلب من هذه الأمراض.
6 - أن المتربي لا يمكن أن ينشرح صدره للتلقي من شخص يحس أنه لا
يهتم به، ومن الاهتمام المتابعة.
7 - ضعف الإنتاجية في المحاضن التربوية.
* أسباب ضعف المتابعة:
1 - ضعف حضور الهمّ الدعوي لدى بعض المربين نتيجة عدم استشعار
المسؤولية والأمانة، وأنه مسؤول عمن يربيهم، وأن الله عز وجل قد جعلهم أمانة
في عنقه، وأنه سيُسأل يوم القيامة: أحَفِظَهم أم ضيعهم؟ أسعى في نصحهم، أم
فرط في ذلك؟
2 - الكسل والخمول؛ لأن المتابعة عملية صعبة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛
لذلك كان المربي الأول محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يستعيذ من العجز
والكسل؛ لأنهما من العوائق التي تعيق المربي في أداء مهمته. كما ثبت عنه في
دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» [36] .
3 - الانشغال بالأعمال الثانوية التي بالاستطاعة تفويضها للغير كالانشغال
بالبرامج الترفيهية لمن يربيهم مع أنه باستطاعة المربي أن يفوض هذه البرامج
لغيره، ويكون هو متابعاً لذلك. فهذه من الأمور الثانوية التي يصلح فيها التفويض
مع المتابعة والتوجيه.
4 - عدم إدارة الوقت إدارة جيدة، فتجده مع وقته في فوضى قد أهمل متابعة
نفسه فضلاً عن غيره.
5 - الاتكال على غيره في قضية المتابعة، فلربما اتكل على أحد المتربين
ممن يعتمد عليه. والمفترض أن لا يجعل المربي بينه وبين من يربيهم وساطة
وخاصة في القضايا المهمة، بل يباشر هو بنفسه عملية التربية وعملية المتابعة؛
فمهما يكن فالمربي له هيبته وشخصيته المتميزة وتأثيره الملموس، وهي صفات قد
لا تكون فيمن اتكل عليه في قضية المتابعة.
6 - الانشغال بالزوجة والأبناء. يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ] (التغابن: 14) . ويقول عز وجل:
[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ
المَآبِ] (آل عمران: 14) . ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء، وفي
مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله؛ فإنه مستقبح مذموم
صاحبه ولا شك أن متابعة المربي لمن يربيهم طاعةٌ لله عز وجل [37] .
7 - الانشغال بالتجارات والعقارات والوظيفة (حتى دخل حبها في قلبه ولم
يستطع إخراجها منه، فأصبحت التجارة والوظيفة أكبر همه؛ أصبحت غاية
وليست وسيلة يبذل أمامها كل شيء حتى ولو كان شيئاً من دينه، فشغلته عن
دعوته وعن متابعة من يربيهم) [38] .
8 - ضعف الترتيب والتخطيط والتنظيم؛ فلا توجد لديه برامج مرتبة
ومنظمة ومنسقة يستطيع من خلالها المتابعة، بل تجد أموره وبرامجه قد عمتها
الفوضى والتيه، ولو كان مرتباً ومنظماً لاستطاع المتابعة.
9 - عدم معرفة فقه الأولويات، ومن ثم يضعف تطبيق مفهوم التوازن في
الحياة، ويتضخم جانب على حساب جانب آخر، ومن ثم يتم الحلل في قضية
المتابعة.
* الآثار الإيجابية للمتابعة:
1 - الثبات والاستمرار على هذا الطريق وعدم النكوص عنه من قِبَل
المتربين؛ فكم من شاب وُفِّق للثبات على هذا الطريق رغم العقبات والمصاعب
التي واجهها، وكان ذلك بتوفيق الله أولاً، ثم لمتابعة المربي له في تلك العقبات
والمصائب التي كان لها الأثر الطيب في ثباته، وكم من شاب قد انحرف عن الجادة
وكان سبب ذلك الإهمال وضعف المتابعة فضلاً عن عدمها.
2 - استمرار خط الصعود والتطور للمتربي؛ لأن من فوائد المتابعة التقويم
المستمر لمن نربيهم، وذلك بمعرفة نقاط الضعف ومعالجتها، ومعرفة نقاط القوة
وتعزيزها، ومن ثم يتطور المتربي في كنف المتابعة.
3 - قوة العمل التربوي وحسن الإنتاجية: فكما أن من فوائد المتابعة تقويم
الفرد وتطويره؛ فكذلك يكون في العمل التربوي فهي تقوِّمه وتعالج القصور الذي
فيه، وتعزز نقاط القوة، وتسعى في تطويره وتكميله.
4 - تعميق روح الأخوة وتعزيز الثقة بين المربي والمتربي أن مربيه مهتم به
متابع له؛ فإن ذلك سوف يعزز الثقة بينه وبين المربي، وسوف ينشرح صدره
للتلقي منه، وستتعمق روح الأخوة بينهما.
5 - قيام المتربي بذاته بعملية المتابعة بدلاً من المربي، ولكن لا يحدث أن
يستغني الأمر عن المتابعة من المربي؛ لكنها تولد مبادرة ذاتية للمتربي بأن يتابع
نفسه بنفسه.
6 - صقل شخصية المتربي؛ وذلك بمعالجة جوانب القصور كما حصل لابن
عمر - رضي الله عنهما - حينما أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له:
«نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل» ، فحِرْص الرسول صلى الله عليه وسلم
على متابعته أصحابه جعله ينبه عبد الله لما حصل عنده من قصور، بل يستمر
على متابعته لعبد الله ليعلم مدى حرصه على معالجة هذا النقص؛ فلما علم بمعالجة
هذا الصحابي لما انتابه من نقص بهذا النفل أوصاه صلى الله عليه وسلم بألا يدع
قيام الليل، فحفزه بذلك وقال: «يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقوم الليل
فتركه» . من أخبار المنتكسين بتصرف يسير.
7 - تبني الثقة في نفس المتربي، بحيث يشعر بأن له قيمة ومنزلة ومكانة؛
وبرهان ذلك متابعة المربي له.
* من محاور المتابعة:
أ - متابعة المربي نفسه:
وذلك بأن يسعى في تطوير نفسه، ويسعى أيضاً في نقد ذاته والتخلص من
العيوب الموجودة فيه، وكل ذلك لا يتسنى إلا بمتابعة نفسه والنظر فيها ومراجعتها
بعد كل حين؛ فعملية التخلية والتحلية عملية مستمرة لا يستغني عنها المربي أبداً،
وهذه العملية الضخمة لا تتم إلا بالمتابعة (فإذا تمت تخلية النفس من اتباع الهوى،
وتحليتها بفعل الخيرات والفضائل وجب بعد ذلك أن ينصبَّ الاهتمام على متابعة
النفس في فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات، والنية في
المباحات؛ فإن النفس من طبعها الكسل والتراخي والفتور) [39] .
ومن مساوئ عدم متابعة المربي نفسه وتفقُّدها ما يلي:
1 - الوقوف عن الأخذ والتلقي والاكتفاء بالرصيد الموجود عنده؛ ولو كان
متابعاً لنفسه لعلم بأنه محتاج إلى رفع هذا الرصيد والاستزادة من الأخذ والتلقي؛
فهو بمتابعته لنفسه يكون قد تفقدها، وعلم أن رصيده الموجود لا يكفيه في مواصلة
الطريق، فيحمله ذلك على الاستزادة والأخذ والتلقي من أجل زيادة الرصيد.
2 - فقدان هذا الرصيد في يوم من الأيام حتى يصبح المربي ليس عنده ما
يعطى المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم فقد المربي صفة هي من أهم
صفاته وهي صفة العطاء؛ وذلك لأن الإيمان إما في زيادة، وإما في نقصان وكذلك
العلم، وكذلك التربية؛ فإذا لم يتابع المربي نفسه ويسعى في زيادة رصيده فإنه
سوف يفقد هذا الرصيد يوماً من الأيام؛ لأن هذا الرصيد لن يبقى مجمداً كما هو؛
مصداقاً لقوله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] (المدثر: 37) .
يقول ابن القيم - رحمه الله -: «فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد؛
فالعبد سائر لا واقف: فإما إلى فوق وإما إلى أسفل، إما إلى الأمام وإما إلى وراء،
وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع
طي إلى الجنة أو إلى النار، وإنما يتخالفون في جهة السير وفي السرعة والبطء
كما قال تعالى: [إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ] (المدثر: 35-37) ولم يذكر واقفاً؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا
طريق لسالك إلى غير الدارين البتة؛ فمن لم يتقدم إلى هذه الأعمال الصالحة فهو
متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة» [40] .
3 - تجعل المتربي في يوم من الأيام أعلى من المربي؛ وذلك لأن الذي يأخذ
ويتلقى ويستزيد من رصيده ليس كالذي يقف عن الأخذ والتلقي والاستزاده؛ فالأول
تجده في ترقّ وتطور حتى يصل إلى ذلك الذي توقف عن الأخذ والتلقي، بل يزيد
عليه ويتفوق؛ لأنه في تلقٍّ واستزادة، والآخر قد توقف مكانه، بل سوف ينقص
رصيده بهذا الوقوف؛ وهذا يؤدي إلى شعور في المتربي بأنه بحاجة إلى مربٍّ آخر
يفوقه ويستطيع أن يأخذ منه.
وهنا تنبيه مهم وهو: أنه لا ضرر ولا عيب إذا تفوَّق المتربي على المربي،
بل هذا هو ما يسعى إليه المربي الصادق كما قال ذلك الراهب للغلام: «أي بني!
أنت اليوم أفضل مني» [41] . قال تعالى: [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الجمعة: 4) . ولكن هناك فرق بين أن يتفوق المتربي على
المربي مع حرص المربي على متابعة نفسه في الاستزادة من رصيده والترقي،
وبين أن يتفوق المتربي على المربي مع إهمال المربي متابعة نفسه وعدم تفقدها.
ولا ضرر على المتربي في كلا الحالتين، ولكن الضرر على المربي في الحالة
الثانية.
4 - إصابة المربي بداء الفتور وبعض الأمراض القلبية كحب الظهور
والرئاسة والحسد (ومن هنا وجب تعاهد النفس لئلا تقع في فتور ينقلها من مرحلة
إلى مرحلة، فيتعسر الداء وتصعب المعالجة؛ لأن أمراض النفس كالنبتة أسهل ما
يكون قلعها إلى الرجال والفؤوس، وكذلك أمراض القلوب تبدأ في ظواهر يسيرة؛
فإذا أهمل صاحبها علاجها تمكنت منه حتى تكون هيئات راسخة وطباعاً ثابتة)
[42] .
ب - متابعة المحضن التربوي:
كتجديده وتحسينه، ومتابعة مستلزماته، وكيفية المحافظة عليها؛ وذلك لأنها
الأدوات التي يقوم عليها الدعوي والتربوي.
ومن مساوئ عدم متابعة المحضن التربوي ما يلي:
1 - ضياع المستلزمات وفقدانها.
2 - قدم بعض المستلزمات وفقدان حيويتها.
3 - إهدار كثير من الأموال؛ وذلك بتكرار شراء هذه المستلزمات بعد حين
بسبب ضياعها الذي هو أثر من آثار عدم المتابعة.
4 - صرف الوقت في الحديث عن هذه المستلزمات في كل مناسبة.
* مفاهيم خاطئة في المتابعة:
ثمة مفاهيم خاطئة تحتاج إلى تصحيح في مفهوم المتابعة قد يقع فيها بعض
المربين الفضلاء بحسن نية، وبشعورهم بالأمانة والمسؤولية؛ فيجدر بنا أن نشير
إلى بعض منها:
1 - ليس معنى المتابعة والتوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة؛ فذلك
ينفِّر ولا يربي؛ فالمربي الحكيم يتغاضى أحياناً، أو كثيراً ما يتغاضى عن الهفوة
وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه إليها قد يحدث رد فعل مضاد في نفس
المتلقي، ولكن إهمال التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي
تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه. ولكن
ينبغي التنبه دائماً من جانب المربي إلى سلوك من يربيه سواء قرر تنبيهه في هذه
المرة أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر..
أولهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير [43] .
2 - ملاصقة المتربي الدائمة في الخروج والدخول، والذهاب والإياب،
والسفر والحضر؛ مما يسبب الإملال للمتربي.
3 - تخصيص المتابعة للمبتدئين.. فالبعض قد يجعل المتابعة خاصة
بالمبتدئين، أما الذين لهم باع في الاستقامة والتربية فقد يقول: يكفي ما عندهم من
الإيمان والتربية؛ وهذا غير صحيح، بل الأوْلى بالمتابعة الأولون؛ لأنهم رأس
المال، ورأس المال يحتاج إلى محافظة وسعي في تطويره، مع عدم إهمال
المبتدئين؛ فالمتابعة يحتاجها الجميع ليس لها مدة معينة، أو وقت محدد، أو
أشخاص معينون.
4 - ظن البعض أن المتابعة أو التربية تعني أن يُضرب حول المتربي بسور
حتى لا يتعامل مع غيره ولا يستفيد من غيره، حتى إنه ليصبح شديد المحاسبة
والغضب لمجرد رؤيته لبعض أقرانه يسلِّم على من يربيه أو يبتسم له، وحتى إنه
يتطفل ويتدخل في أخص خصوصياته ويضعه في قفص حديدي وفي عنقه ويده
الأغلال والحبال، حتى يصبح كابوساً جاثماً على صدره (دور المربي في الدعوة
الفردية) .
5 - الخلط بين معنى المتابعة والأخوة الخاصة؛ فالبعض تكون علاقته
بالمدعو علاقة أخوة خاصة لكن ليس فيها معنى القيادة والتوجيه؛ وعلاقة الأخوة
الخاصة هذه تليق وتصلح للأقران أكثر من التلاميذ. (دور المربي في الدعوة
الفردية) .
6 - البحث والتنقيب عن أخطاء وزلات المتربي بحجة معالجتها ظناً منهم أن
ذلك من المتابعة، ومن ذلك: (التجسس والاستماع لحديث غيره دون علمه،
والاطلاع على ما يخصه دون إذنه) كل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض
المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ]
(الحجرات: 12) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن استمع إلى حديث قوم
وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة» [44] ، والشعور
بالأمانة والمسؤولية ليس عذراً للمرء أن يتطلع إلى ما لا يحل له التطلع إليه؛ فقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يطرق أهله ليلاً معللاً ذلك بقوله:
«يتخونهم أو يلتمس عثراتهم» [45] . وأظن أن مسؤولية المربي وخصوصية
دوره تتجاوز مسؤولية الزوج عن أهله. ولا تدعو الشفقة والحرص والعناية المربي
إلى التطلع ومحاولة معرض ما وراء الظاهر والدافع؛ لذلك كله لا يسوغ أن يكون
على حساب الضوابط الشرعية.
والحقيقة أن ثمة فرقاً بين الدعوة والتربية، وبين التعامل وإجراء الأحكام؛
فالدعوة والتربية يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب وتنقية السرائر؛ فصلاح الباطن
هو الأساس. أما التعامل وإجراء الأحكام فهو على أساس الظواهر، ولا يسوغ
للإنسان السعي للتنقيب عن الباطل، وأولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عن
البواطن والتفتيش في الدواخل تبدو لهم مشكلات لا يطيقون حلها، فيعيشون حالة
من القلق كان بإمكانهم تجاوزها لو اتبعوا المنهج الشرعي في الوقوف عند الظاهر
[46] .
فخرج من هذا كله أن المتابعة يجب أن تكون وفق الضوابط الشرعية، ومن
ذلك أن تكون في حدود الظاهر، وأن تكون مضبوطة بميزان الاتزان، وأن يلزم
هذه المتابعة شعور الرحمة واللين والرفق وحب الإصلاح لمن تتابعهم.
هل للمتابعة بالمنهج النبوي الذي ذكر الكاتب شواهد عليها توازي المفهوم
السائد اليوم؟
قد يشعر بعض من يقرأ هذه المقالة أن كاتبها قد بالغ في هذا الموضوع
وأعطاه أكبر من حقه من الطرح والتبصير؛ والحقيقة أن من يعايش الواقع لا ينتابه
هذا الشعور؛ لأن هدر الجهود والطاقات أمر ليس بالقليل؛ فالأمة بحاجة إلى كل
جهد وكل طاقة من أجل دفع العجلة إلى الأمام. نعم! لو عملنا مقارنة سريعة بين
المتابعة في فترة الوحي والمتابعة في هذا العصر لوجدنا أن هناك متغيرات في
وسائلها، من حيث الكثرة والقلة، وأيضاً ثمة متغيرات من حيث الأهمية والاعتناء؛
إلا أن المضمون واحد لا يتغير. ففي فترة الوحي كان المجتمع قريباً والبيئة
نظيفة، ووسائل التأثير والصوارف عن هذا الدين قليلة؛ إضافة إلى الوحي الذي
كان ينزل صباح مساء.
أما في هذا العصر الحالي فتعيش الأمة انفتاحاً عظيماً على ثقافات وماديات
الغرب، وساعد على هذا الانفتاح وسائل الإعلام المختلفة، ويواجه شبابها تيار
ساحق من الفتن سواء فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، أو فتن الشهوات
التي تقوده إلى نارها ولأوائها وهذا الانفتاح وهذه الفتن وهذه الصوارف تجعلنا نهتم
بقضية المتابعة أكثر من ذي قبل.
* أيها المربي!
أيها المربي الفاضل! اعلم أن من وسائل نجاح التربية متابعة من تربيهم؛
وذلك بالأمور الآتية:
- متابعة مظهرهم الخارجي وسلوكهم وتعاملهم وألفاظهم.
- متابعة الغياب والتأخير وسبب ذلك.
- متابعة الموهوب والمتميز والسعي إلى تطويره.
- متابعة المقصر والسعي في إصلاحه وتقويمه.
- متابعة أصحاب الطاقات وتوجيهها.
- متابعة البرامج ومدى تأثيرها عليهم.. وغير ذلك.
أيها المربي! سدد الله خطاك، وبارك الله في جهودك، ونفع الله بك الإسلام
والمسلمين.. اثبت على هذا الطريق؛ فإنك على الحق وعلى الصراط المستقيم، لا
تنظر إلى الوراء، بل انظر دائماً إلى الأمام وإلى السماء، انطلق نحو هدفك
المنشود بهمة تعلو الجبال.. وعزيمة تفلُّ الحديد، وطموح يتعدى الزمن مستصغراً
كل صعب.. مستعظماً كل خير.. مستشعراً معية الله لك في هذا الطريق.. [كَلاَّ
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] (الشعراء: 62) .
رزقنا الله وإياك الإخلاص في القول والعمل.. وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه.