دراسات في الشريعة
محمد طاهر أنعم فارع
m-tahir@maktoob.com
الناظر إلى تاريخ النصارى العقدي، وما مروا به من أطوار وتحولات يرى
عجباً في تاريخ الأديان، وكيف تكون ثم تصير، وكيف يدخلها الانحراف والضلال،
وكيف يبقى رجال على الحق والهدى إلى آخر أعمارهم أو زمن دينهم؛ فهي فترة
عقدية تاريخية تربوية جديرة بالدراسة والتمحيص، واستخلاص الدروس والعبر.
والدارس لتاريخ الدين النصراني يمكنه أن يخرج بتقسيمه إلى ثلاثة عصور
يظهر بينها التفاوت، ويمكننا تسميتها بما يلي:
1 - عصر الاضطهاد (الاستضعاف) .
2 - عصر التمكين.
3 - عصر النهاية (الإثم العظيم) .
* أولاً: عصر الاضطهاد:
ويشمل القرون الثلاثة الأولى من عمر النصرانية، ويتميز بالتضييق على
الدعوة والدين الجديد، وفيه دخلت بدعة التثليث وبعض الفلسفات المنحرفة الأخرى،
ويمكن عرض مختصر مقتضب عنه في ثلاثة مباحث:
أ - النشأة:
وكانت في إرسال الله عز وجل عبده ورسوله وكلمته عيسى بن مريم - عليه
الصلاة والسلام - لبني إسرائيل ليجدد لهم دينهم، ويضع عنهم الإصر والأغلال
التي كانت عليهم، وليكون خاتمة الرسل من بني إسرائيل. وبعثه الله في الأرض
المباركة عند المسجد الأقصى في فترة تميزت بانحراف بني إسرائيل وممالأتهم
للرومان الذين تسلطوا عليهم حينذاك في الشام. وقد قاسى عيسى - عليه السلام -
منهم كثيراً في فترته القصيرة بينهم المقدرة بنحو ثلاث سنوات، حتى حاولوا قتله
ووشى به بعض ضُلاَّلهم لدى الحاكم الروماني للقدس (بيلاطوس النبطي) [1] .
وبعد رفع المسيح - عليه الصلاة والسلام - تفرق أتباعه الحواريون وهاجروا
في الأرض، واستطاع بعضهم نشر الرسالة الجديدة والتبشير بهذا الدين التوحيدي
في بعض المناطق عند غير بني إسرائيل، وكان من أبرزهم تلميذه المدعو
(بطرس) الذي هاجر إلى آسيا الصغرى وأنطاكية، وبدأ بالدعوة إلى الدين الجديد
هناك، واستمر فيها حوالي عشر سنوات وكون بها قاعدة بسيطة، وفي الوقت نفسه
نشر (توما) الديانة في فارس، و «القديس» (برتلماوس) في الهند، ثم هاجر
«القديس» (بطرس) إلى روما حاضرة الإمبراطورية الرومانية وأكبر مدن
العالم حينذاك، ووصلها سنة 42م، وبدأ فيها الدعوة للديانة الجديدة.
وقد اضطُّهد أصحاب هذه الدعوة الجديدة في كل مكان وصلوه كما هي سنة الله
في ابتلاء المؤمنين، وحصل لأولئك بلاء عظيم وبخاصة في مناطق الإمبراطورية
الرومانية الوثنية، وقد اتخذ النصارى أساليبهم السرية حينذاك، وحاولوا نشر
الدعوة في أكبر مساحة ممكنة حول مدينة روما وفي قلب الإمبراطورية.
ب - الاختراق التثليثي للنصرانية:
فكرة التثليث التي تعني تعدد الآلهة فكرة قديمة وثنية انتشرت عند الرومان
والفلاسفة والفرس، وأول من وضع بذرتها في النصرانية رجل يهودي اسمه
(شاؤول) المتسمي بـ (بولس) الذي كان شديد البغض للنصارى في الشام، ثم
ادعى أنه اعتنق الدين الجديد وأن المسيح قد تجلى له بعد رفعه في طريق الشام سنة
40م وأوصاه ببعض الوصايا، وبدأ الدعوة (لاعتبار المسيح أرقى من أن يكون
إنساناً، وأنه عقل سام متولد من الله قبل وجود العالم) [2] ، وقد بدأ الرجل دعوته
في الشام، ثم انتقل إلى آسيا الصغرى واليونان وأسبانيا حتى حط الرحال في
روما سنة 60م، وقد نشر هذه الفكرة بعض فلاسفة الرومان ممن اعتنق الديانة
الجديدة والمطعمة بمبادئ (بولس) هذا.
* ثانياً: عصر التمكين:
ويشمل القرون الثلاثة التالية (الرابع، والخامس، والسادس) ، ويتميز
باعتناق الإمبراطورية الرومانية للنصرانية، والتمايز العقدي بين الموحدين
والتثليثيين، والانتشار الدولي للديانة، كما يتميز بظهور الرهبنة واستمرار
الانقسامات التثليثية والهرطقات [3] .
أ - الانتقال لطور الدولة:
استمر الاضطهاد الروماني للنصارى حتى سنة 324م حين تنصر الإمبراطور
الروماني (قسطنطين) [4] ، بعد حركة تنصيرية واسعة في أرجاء الإمبراطورية
الرومانية على إثر مؤتمر (ميلانو) [5] ، وتدرج قسطنطين هذا في فرضه
الطقوس والأحكام النصرانية في الإمبراطورية، ثم تبعه الأباطرة التالون على
المنوال نفسه حتى سنة 392هـ التي أصبحت الإمبراطورية الرومانية فيها مملكة
نصرانية بشكل تام.
وعلى إثر هذا التحول بدأت الإرساليات التنصيرية من الإمبراطورية لمختلف
أنحاء العالم بالدين الجديد الذي انتشر سريعاً وخاصة في مصر والحبشة.
ب - المواجهة بين الموحدين والتثليثيين:
كانت هناك مذاهب عدة في القرون الأولى للنصرانية، وكانت الغلبة لبعض
التثليثيين في روما والمشرق، حتى ظهر داعية موحد قوي هو المدعو (أريوس)
أحد أساقفة الإسكندرية في بدايات القرن الرابع، وبدأ يدعو للتوحيد بقوة،
وانتشرت عبارته الشهيرة: «إن المسيح الذي دنسه الجسد وخضع للموت أبعد من
أن يكون إلهاً أزلياً؛ فقد خلقه الله وسيطاً بينه وبين الأرض وهو كلمته» [6] .
وانتشرت أفكار أريوس هذا شرق الإمبراطورية، وبدأت في التغلغل في
غربها وخاصة في مدينة روما، وحصلت مواجهات كثيرة حتى عقد (مجمع نيقيا)
الشهير سنة 325م الذي حصلت فيه نقاشات هائلة بين الفريقين برعاية
الإمبراطور، وخرج بقرار نيقيا الذي يعتمد التثليث مذهباً رسمياً للإمبراطورية، ثم
تراجع الإمبراطور (قسطنطين) واعتنق المذهب التوحيدي (الأريسي) بعد
عامين، وحاول إرغام الولاة التابعين له على اعتقاده، وذلك حتى سنة 379 م التي
حاول فيها إمبراطور آخر هو (ثيودوسيوس) العودة إلى قرار مجمع نيقيا، وبقيت
الحالة هكذا في شد وجذب.
ج - الهرطقات والرهبنة:
أصبحت (الأريسية) [7] مذهب الموحدين أكثر انتشاراً في شرق
الإمبراطورية (الشام ومصر وآسيا الصغرى) وبدرجة أقل في غربها ومركزها،
وبدأت تنتشر البدع والهرطقات عند النصارى، والانقسامات الفلسفية عند التثليثيين،
وبدأت الرهبنة عند الأريسيين تظهر بسبب الاضطهاد في الغرب وبسبب انتشار
الفساد، وبخاصة في القرنين الخامس والسادس. وانتشرت النصرانية حينذاك حتى
عند العرب الذين كان منهم الغساسنة والمناذرة في الشام والعراق وأهل نجران
وسواهم ممن اعتنقوها، وحصل في نهاية هذا العصر قصة محاولة والي صنعاء
الحبشي النصراني غزو الكعبة في عام الفيل، فأرسل الله عليه وعلى جيشه الطير
الأبابيل المذكورة في سورة (الفيل) وكان ذلك أواخر القرن عام 571 من القرن
السادس.
* ثالثاً: عصر النهاية، أو (عصر الإثم العظيم) :
وهذا العصر هو القرن السابع والأخير من عمر النصرانية كديانة مقبولة عند
الله، ووقع فيه الإثم العظيم الذي حذر منه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم،
وكانت النهاية في سنة 628م الموافقة للسنة السابعة من الهجرة النبوية الشريفة.
أ - الحالة الدينية في ذلك العصر:
كانت النصرانية حينذاك ديناً عالمياً منتشراً في كثير من البقاع، وكان أكثرهم
أهل الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى وشرق أوروبا، والممالك التابعة
لها في الشام ومصر، وغير التابعة لها كمملكة إكسوم بالحبشة ومملكة الحيرة
بالعراق، وكانت معظم الممالك تثليثية الكنائس، والسكان، إلا أهل المملكة
البيزنطية فقد كان كثير منهم أريسيين توحيديين [8] .
كما كان هناك كثير من النصارى في بقاع متفرقة من العالم، ومنهم الكثير من
الموحدين، وكان الجميع ينتظر البشارة العظمى بظهور النبي الجديد، ومن أولئك
النصارى بحيرا الراهب وغيره.
ب - أول النصارى تشرفاً برؤية واتباع نبي البشارة:
وبحيرا أول من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غلام، حين كان في
تجارة مع عمه أبي طالب إلى الشام، فمروا به، فخرج إليهم وما كان يخرج قبلها،
ودعاهم إلى الطعام وما كانت عادته، وعرف النبي وعظَّمه، وأوصى به عمه،
وحذره من أن يراه اليهود، فكان أول من تشرف من أصحاب عيسى برؤية النبي
العظيم محمد بن عبد الله الأمي صلى الله عليه وسلم. ثم في بدايات البعثة النبوية
حين حصلت قصة ظهور جبريل الأولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في حدود
سنة 609م، وعودته صلى الله عليه وسلم إلى بيته خائفاً، جاءت زوجته خديجة
إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، كما أنه كان نصرانياً
أخذ الديانة من بعض نصارى الشام الموحدين [9] ، فلما أخبرته الخبر قال لها:
«لئن صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلِّمه بنو إسرائيل أبناءهم» [10] ،
ثم لما تكرر الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخذته خديجة إلى ورقة فسأله عن
الخبر فأخبره، قال ورقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: «هذا الناموس الذي
نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً! ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك» ،
فقال عليه الصلاة والسلام «أوَ مخرجيَّ هم؟» قال ورقة: «نعم! لم يأت نبي
بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» [11] .
ولكن ورقة لم يمر كثير وقت حتى توفي رحمة الله عليه وقد رآه النبي صلى
الله عليه وسلم في الجنة.
كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه بعضُ النصارى حين أُرْسل: منهم
عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.
أما أول النصارى نطقاً بالشهادة فهو النجاشي ملك الحبشة - رضي الله عنه -
الذي أسلم على يد بعض المسلمين المهاجرين لبلده في حدود سنة 620م.
وأما أول أسقف نصراني يتبع النبي الجديد، فهو القديس (ضغاطر) أسقف
روما الأعظم (البابا) في عام 629م.
واتبع كثير من النصارى الذين بلغتهم الرسالة بدون موانع الدين الجديد، قال
تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا
جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ] (المائدة:
82-85) .
ج - هرقل وبداية النهاية:
كان حاكم الإمبراطورية البيزنطية حينذاك هرقل، وكان رجلاً عالماً بالديانة
صاحب دراية واطلاع، موقَّراً في قومه، وكان كثير من أهل مملكته من الموحدين
الأريسيين، وقد دخل في عدة معارك مع المملكة الساسانية الفارسية في الشام،
وانتصر عليهم، واسترد الشام منهم في حدود 628م، وتلك المعارك هي المذكورة
في قوله تعالى: [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ]
(الروم: 1-4) ، فقرر هرقل أن يسافر إلى القدس (إيلياء) ماشياً، شكراً على
النصر، فتحرك من القسطنطينية حتى وصل إلى القدس، فنزل عند واليها أسقف
الشام (ابن الناطور) ، وكان لهرقل اطلاع بالنجوم وأحوالها، فأصبح يوماً متكدراً
متغير الحال، فاستغرب صحبه فسألوه عما به، فأخبرهم أنه رأى أن مَلَكَ الختان
قد ظهر، وأنه يعني له أن المُلك والسؤود سينتقل لأمة عادتها الختان، وكان
النصارى قُلْفاً لا يختتنون، فاستفسر عمن يُختتن حينذاك؛ فقال له بعضهم: ليس
إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، وأرسلْ إلى مدائن ملكك بقتلهم حتى لا تقوم لهم قائمة،
وكانوا لا يعرفون أن العرب يختتنون لقلة احتكاكهم بهم.
وفي تلك الأثناء وصل إلى بيت المقدس أحد العرب وهو (عدي بن حاتم)
وكان لا يزال نصرانياً؛ يحمل رسالة من ملك بصرى الغساني إلى هرقل [12] ،
فأمر هرقل أن ينظر إلى هذا العربي (عدي) أمختون هو؟ فجردوه فوجدوه كذلك،
فأخبروا القيصر هرقل، فسأله عن العرب وهل يختتنون؟ فأجابه أن نعم! عند
ذلك اضطرب هرقل، وعلم أن تلك الأمة هي التي سيؤول إليها الأمر.
وكانت تلك الرسالة التي تسلمها هرقل هي رسالة النبي الكريم محمد الأمي
التي أرسلها وغيرها إلى ملوك ذلك الزمان في السنة السادسة للهجرة، في أثناء
فترة اتفاقية الحديبية؛ فعندما رآها طلب أن يرى بعض أهل بلد ذلك النبي الذي
أرسل الرسالة، فوجدوا بالشام حينذاك أبا سفيان، وبعض أهل قريش معه في
تجارة، وكانوا لا زالوا مشركين، فطلبهم فجاؤوا عنده، فكان أقربَهم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبو سفيان، فسألهم عدة أسئلة عن ذلك النبي: سألهم عن نسبه،
وهل كان من آبائه ملك؟ ومن يتبعه الضعفاء أم الأشراف؟ وهل يزيد أتباعه أم
ينقصون؟ وهل يرتد من يتبعه عن دينه؟ وهل تقاتل مع خصومه؟ وكيف نتيجة
الحروب بينهم؟ وهل يغدر؟ وهل ادعى أحد من قومه النبوة قبله؟ وعمَّ يأمر وعمَّ
ينهى؟ فأجابه أبو سفيان ولم يكذب مخافة أن يؤثَر عنه الكذب.
عند ذلك عرف هرقل أن (محمداً) هو بشارة عيسى وهو نبي آخر الزمان
حقاً، فقال لأبي سفيان ومن معه: «إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت
أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه،
ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي» ثم دعا بالرسالة
فقرأها فإذا فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم
الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم
تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: [قُلْ
يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
(آل عمران: 64) » [13] .
عند ذلك ارتفع اللغط والصياح في مجلس القيصر هرقل من بطارقته
والأساقفة الموجودين، فتم إخراج أبي سفيان ومن معه، وأكرم هرقل كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم وقبَّله ووضعه على عينيه [14] .
عند ذلك خرج هرقل من بيت المقدس إلى حمص إحدى عواصمه حينذاك،
وكان قد أرسل رسالة بما جرى لصديقه في روما القديس الأكبر (ضغاطر)
يستشيره فيها عما جرى.
فحين وصلت الرسالة التي حملها (عدي بن حاتم) إلى (ضغاطر) في روما
انشرح صدره للإسلام، فلبس البياض وخرج إلى قومه يصيح فيهم بظهور النبي
الجديد، فقام عليه القساوسة التثليثيون وعامة الشعب يؤذونه، فعاد للرسول وأعطاه
رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه يقرأ عليه السلام ويخبره أنه يشهد أنه لا
إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه قد آمن به وصدق، وأن قومه قد أنكروا
عليه ذلك، ورسالة أخرى إلى هرقل فيها: «هذا الذي كنا ننتظر، وبشرنا به
عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه» ، ثم إن قوم (ضغاطر) اشتدوا عليه في الإيذاء
حتى قتلوه رحمه الله.
ووصلت رسالة (ضغاطر) إلى (هرقل) وهو بحمص، فقرر الدعوة إلى
مجمع للنقاش في حمص يحضره كل البطارقة والأساقفة والمطارنة، فكان ذلك في
عام 629م في دار عظيمة مغلقة الأبواب من الداخل والخارج.
د - الإثم العظيم:
اطَّلع هرقل على المطارنة والأساقفة والبطاركة وغيرهم من الحاضرين
الذين كانوا ينتظرون بشغف ما سيقول، فألقى فيهم كلمة مختصرة جامعة مفيدة
ليرى رأيهم فيها، فكان مما قاله في ذلك المؤتمر: «يا معشر الروم! هل لكم في
الفلاح والرشد الدائمين وثبات الملك دائماً؟ فبايعوا محمداً وآمنوا به؛ فإني علمت
من عدة أمور أن الأمة المحمدية هي الأمة الدائمة» ، وعندما انتهى من سرده قام
نقاش حاد بين الموجودين، وذكر بعضهم هرقل بسوء، واشتد اللغط وكثر الصياح،
فقاموا وتوجهوا نحو الأبواب يريدون الخروج فوجدوها مؤصدة، فأمر هرقل
بإعادتهم إليه، فلما رأى إنكارهم وإجماعهم عليه قال لهم: «إنني أردت بتلك
المقالة أن أختبر تمسككم بدينكم؛ فقد رأيت منكم ما أحب» ، فاقتنعوا بكلامه وحيوه،
وخرجوا راضين « [15] .
وقبل وصف حال هرقل فإنه يمكننا وصف ذلك المجمع المسكوني في حمص
بمؤتمر إعلان نهاية تاريخ النصرانية كديانة مقبولة.
أما هرقل فقد باع الباقي بالفاني، وفضل البقاء ملكاً بضع سنين على نعيم لا
يزول؛ حيث عندما بلغه مقتل (ضغاطر القديس) قال مقولته تلك:» إنا نخافهم
على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم مني «.
ثم إنه لما سمع من المؤتمرين ما سمع عاد وأظهر لهم أنه إنما يزعم اختبارهم،
وقد استمر في ملكه، بعد ذلك على دينه حتى زمان غزوة تبوك في العام التالي
630م، ثم أرسل جيشه لحرب المسلمين في معركة مؤتة سنة 632م.
ورغم تيقن هرقل من الرسالة الجديدة إلا أنه سلك ذلك السبيل، حتى إنه
عندما أراد العودة للعاصمة العظمى القسطنطينية دعا قومه مرة أخرى إلى الإسلام
أو الجزية، أو الاتفاق مع النبي صلى الله عليه وسلم على صلح معين، فلم يوافقوا،
فلما خرج من حمص ووصل إلى نهاية الشام أشرف على الدرب، واستقبل أرض
الشام وقال:» السلام عليك يا أرض سورية «، تسليم المودع [16] .
وبهذا تحمَّل هرقل الإثم العظيم الذي حذره منه رسول الله محمد صلى الله
عليه وسلم:» فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين « [17] .
وتحمل هرقل ذنب عشرات الآلاف من النصارى الموحدين فلاحيهم وموظفيهم
وغيرهم الذين يتبعون إمبراطوريته وممالكها، كما تحمل خطيئة ضياع جهود
عشرات بل ومئات القديسين الأريسيين والموحدين عبر عشرات السنين في مواجهة
التثليثيين، وحماية عهد عيسى وتعاليمه وبشارته من التحريف والشرك ومكائد
اليهود وضلالات عقول الفلاسفة.