دراسات في الشريعة
منصور طه الحاج آدم
التوكل ورد كثيراً في القرآن في مواضع عدة، وهو سمة أساسية يتصف بها
المؤمنون، ومن المواضع التي ورد ذكره فيها، هو موضع تقرير السياسة الشرعية
التي حقيقتها: «العلم بالأفعال النافعة عند الحاجة إليها» [1] ، والتي لا يتوصل
إليها إلا بالاعتماد والتوكل على الله، ويتبع ذلك العلم النافع الموصل لتلك الأفعال.
التوكل اعتماد على الله بتوفيقه وهدايته إلى الأسباب النافعة ووقايته من
الأسباب الضارة، وفي التخيير بين السبل والوسائل والاعتماد عليه في حصول
النتائج والمآلات المحبوبة النافعة التي يتم بها الخير. والتوكل من ناحية رجاء
واعتماد وثقة في الله وطلب للتوفيق، ومن ناحية أخرى قبول لما يترتب ويأتي من
أقدار الله التي تفرح لها القلوب أو تحزن لها؛ ففي الأول ينفي الاقتدار بالنفس
والعُجب والكبد. وفي الثانية يبقى اليأس والهزيمة النفسية الذي يترتب منه عجز،
فقعد عن أداء الواجب في الوقت.
ولما كانت الأفعال يقصد بها جلب نفع أو دفع ضر فإن ذلك في دائرة نشاط
الإنسان وما هيئ ليقوم به، وهو لا يتم إلا بتوفيق الله في الهداية والمعاونة على
السبب أو الوصول إلى النتيجة.
أما العجز والخمول نتيجة مفاهيم فاسدة وعقائد باطلة أو نفس تميل إلى
الاستكانة والدعة، أو نتيجة يأس مستحكم نابع من جهل صاحبه بسنن الله في خلقه
وعادته في أوليائه وأعدائه وأنه يتولى المؤمنين المتوكلين عليه، ويوفق المجتهدين
الذين بذلوا وسعهم وتحروا الأسباب الموصلة إلى المآلات التي يحمدونها، ويخذل
المتواكلين العاجزين الذين فرطوا في أمرهم؛ إذ إن المطالب عظيمة أو حقيرة تؤخذ
ولا تعطى وهذه محاولة لبيان أن مفهوم التوكل في السياسة الشرعية نتلمسها في هذه
الجوانب:
* التوكل سبب من الأسباب ولا ينافي فعل الأسباب الكونية:
إن التوكل على الله من أهم الطاعات وأهم الحسنات التي يتقرب بها المؤمنون
إلى ربهم الذي بيده مصائر الخليقة والأشياء، وأهم سبب يلتجئ إليه المؤمنون لدفع
البلاء ولتيسير المطلوب، ولا ينافي التوكل الأسباب الصحية؛ فإن المطالب الدينية
والدنيوية تدرك بالأسباب الموصلة إليها، وتتفقد أسباب الخير والشر بالأسباب التي
يحدثها العبد: «فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها
منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد! وكم من شر انعقد سببه ثم
صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله؟» [2] .
والأسباب منها: «ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدوراً له.
ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله، ومنها معتاد، ومنها نادر» [3] ،
ولذلك المطلوب الواجب ما يقدر عليه العبد وليس بمؤاخذ فيما لم يقدر عليه «بل ما
فعل الله بأسباب يمكن طلبه يطلب الأسباب» والمكروه يمكن «دفعه بالأسباب التي
قدرها الله» [4] .
الفهم الصحيح للسنن والأسباب والفعل الإنساني في هذه الحياة يؤدي إلى
تصحيح دور المسلم: «فإن لله سنناً كونية جعلها الله وسائل للعز والرقي؛ من
سلكها نجح، ودين الإسلام يحث عليها غاية الحث» [5] .
* صحة الاعتماد على الله جالبة للتوفيق والتيسير:
أعظم الناس توفيقاً إلى الخيرات من العلم النافع والعمل الصالح في كل شأن
من شؤونهم هم الأنبياء؛ فهم على الحق والهدى، وسياساتهم أعلى السياسات
وأفضلها على الإطلاق، ودرجاتهم أعلى الدرجات بالعلم والفضل والهدى، موفقون
بالعقول الصافية والقلوب السليمة، ومسددون بالوحي الهادي. قال تعالى: [نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (يوسف: 76) ، وبعدهم أتباعهم
وخاصتهم من أصحابهم منهم المسدد بالفهم الثاقب السديد، ومنهم الملهم؛ وعلى قدر
الإنابة إلى الله يكون التوفيق والسداد بالعلم، فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - أوفر
الصحابة حظاً في موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في فقهه وفهمه، وأحسنهم
سياسة إذ وُفِّق إلى فهم مسدد وقرار حاسم تردد فيه كبار الصحابة، وفات عليهم فقه
الحكم في ذلك الموقف: حروب الردة المشهورة التي ثبت بها سلطان الدولة وحُميت
الأمة من الزوال، والملة من الانحراف. قال تعالى: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا
حُكْماً وَعِلْماً] (الأنبياء: 79) .
* في التدابير النافعة في إصلاح الأمة وقيادتها:
عمود التدابير النافعة في سياسة الأمة وقيادتها هو الشورى التي جاء ذكرها
تارة وصفاً للمؤمنين [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38) ، وتارة إعداداً
لهم [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر] (آل عمران: 159) . وجاء لفظ «الأمر» الذي
دخلت عليه «أل» «المفيدة للعموم والاستغراق» [6] ، بمعنى أن جميع شؤون
المسلمين معلقة بالشورى تحصيلاً وإدراكاً، أو توقياً ومجانبة؛ وهذا يدلنا على أن
الشورى أعظم الأصول في السياسة الدينية التي يضبط المسلمون بها نظامهم
ويستقر بها حالهم.
ويكون إعمال الشورى بتقليب الآراء والوجوه للمسائل والقضايا وتمحيصها
مع أهل المشورة من أهل العلم والخبرة والدراية وذوي العقول الراجحة؛ فإذا بُتَّ
في أمر واتفق عليه، لزم العزم والتوكل على الله والإقدام لتحصيل الأمور النافعة
وتوقي الأمور الضارة والتوصل إليها بأوصل الطرق وأفضلها.
والعمل بالأسباب النافعة مع التوكل على الله يوصل إلى النتائج النافعة التي
تجلب الخير والصلاح، وبهذه الطاعة العظيمة تلهم وتوفق الأمة إلى كثير من
الخيرات، وتدرأ عنها كثيراً من السيئات التي قد تفيد عن وعي وإدراك الأمة،
وتجتمع ولا تختلف القلوب بتوافقها على الصواب بالتبصر والتذكر؛ بينما الغفلة
والحيرة تجلبان الفتنة والخلاف وفوات إدراك المصالح سواء كان في مستوى الأمة
أو الأفراد، ويحصل هذا بفوات تلك الطاعة [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] (آل عمران: 159) .
* في سياسة الدفاع وحماية الأمة:
قال تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال: 60) ، قد أمر
الله الفئة المؤمنة بالإعداد بما تقدر عليه من العدة المادية والمعنوية لتحقق الإخافة
والإرهاب الذي يمنع من تسلط وعدوان البغاة من الأعداء؛ وذلك باكتساب
المؤهلات المناسبة والضرورية لخوض الصراع والحرب مع قوى الكفر والعدوان؛
وذلك بنظرة كلية أساسية لا نظرة من حلية مؤقتة أو جزئية ضيقة ليتحقق بذلك
عامل التفوق وكسب الأسباب التي توصل إلى النصر والتمكين.
إن إعداد القوة الإسلامية مجرداً بالموازين المادية ليس المطلوب الأوحد، بل
هناك عامل يختلف فيه المسلمون مع غيرهم وهو ميزان الإيمان والاعتماد والتوكل
على الله وهو أهم طاعة يستند عليها المؤمنون؛ ولذلك جاءت الآيات ببيان ترجيح
كفة القلة المؤمنة الصابرة على الأكثرية الكافرة. قال تعالى: [فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]
(الأنفال: 66) ، والكفاية والحسب تتم بحسب الإيمان، وتتخلف الكفاية بتخلف
شرطها [7] ؛ فإن عامل الإيمان والتوكل من أهم العوامل التي تبنى بها قوة المسلمين،
ويحصل بتحقيقها التفوق على الأعداء وهو سبب بفقده وتخلفه تفقد قوة المسلمين
القيمة والفاعلية.
* العلاقة مع القوى الأجنبية:
العلاقة مع القوى الأجنبية تقوم على الحذر والحيطة وتمام الدراية والمعرفة
بها: رؤيتها ومنهجها وأهدافها؛ حتى تكون العلاقة قائمة على قاعدة من الوضوح
يمكن للمسلمين من خلالها توقي الشر، وتحقيق المصالح؛ وذلك في حالتي الحرب
والعدوان، وحالة السلم والعهد.
فإذا تم العهد والسلم، فإن الوفاء بالعهد والعدل من أهم أصول السياسة
الشرعية سواء كان مع المؤمنين أو مع العدو الباغي؛ فلا تنتقض العهود خيانة
وغدراً؛ بل ينبذ إليه العهد، ويعلن النقض حتى يكون الطرفان على سواء، وإذا
بدا من العدو خيانة فإنه لا يقابل بالغدر، وليس هذا موجب الحيلة التي يتم عبرها
تحقيق الغلبة؛ فإن الطاعة من أعظم أسباب الغلبة على الكفار، ومن أقواها في دفع
البلاء النازل. والعدل ورعاية العهود والرحمة من أهم أسباب قيام الأمة المسلمة
وعوامل قوتها الداخلية والخارجية. والثابت في التاريخ والسنن أنه «تدوم الدول
مع العدل، ولا تدوم مع الظلم وإن كانت مؤمنة» [8] .
كما أن مفهوم التوكل ليس فيه الاندفاع في الاتجاه الذي يترتب منه فساد
واضح بقرائنه التي تتبدى للعيان أو التي غلب الظن بها بخيانة العدو الذي
انضبطت علاقة المسلمين السليمة معه بعهد وميثاق، فلا يصح التمادي في هذه
العلاقة الخاسرة؛ بل الصحيح درء أسباب الفساد والخطر لا التواكل بحجة التوكل.
أما في حال جنوح الطرف الآخر للسلم طلباً منه فإنه يجاب؛ ففي السلم فائدة عظيمة
للمسلمين، ويُدرأ الظن المرجوح بسوء قصده بالتوكل على الله وعدم اتباع الظن
الذي لا يستند إلى حقيقه. قال تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] (الأنفال: 61) .
أما في حالة الحرب، وعند ورود أنباء العدو وأخباره، بأنه قد جمع حشوده
وكل قواه التدميرية، وأحكم مكره وتدبيره لاستئصال المؤمنين ينبغي أن يلجأ
المؤمنون إلى ربهم ويصدقوا في ذلك، وهو الذي يدبر شؤونهم ويختار لهم ما فيه
خيرهم وصلاحهم الدنيوي والأخروي، وفي هذا عامل معنوي هام تزول به الرهبة
والخوف الذي يشل القوى البشرية من القدرة على التصرف التي هو أحوج إليها
خاصة في الأوقات الحالكة التي تمر بالأمة؛ فإن في التوكل انعتاقاً للقوى البشرية،
وإطلاقاً للقوى الدفاعية لتعمل عملها، تدبر وتخطط وتقف موقفاً حاسماً يحول
الهزيمة التي أرادها لها العدو إلى نصر وقوة. وبهذا العامل المعنوي الهام تنقلب
الموازين في ميدان الصراع؛ فكم من مواقف عظيمة وقفها خيار المؤمنين حولت
مجرى التاريخ لأمة الإسلام. الخوف والتردد واليأس والكسل والخمول من أخطر
العوامل التي تشل الطاقة البشرية وتصرفها عن العمل في الميادين النافعة، أو في
الأوقات الحالكة التي تحتاج إلى حسن تصرف وشجاعة في الموقف التي يفقدها
الإنسان إذا استبد به عامل الخوف والرهبة أو الكسل والخمول.
* أخيراً:
إن الأمة المسلمة تسعى لتحقيق الصلاح والخير بكل السبل المشروعة،
وتمشي في الأرض بالخير والهداية مستهدية وهادية، مدافعة ومغالبة وعاملة تطلب
التيسير والعون من الله في كل شأن من شؤونها؛ مفتقرة إليه في مبتدأ أمرها
ومنتهاه، وتحسن الالتجاء إليه في عظيم أمرها وصغيره؛ لا يقعدها عجز ولا يأس،
بل لها في كل وقت مستطاع واجتهاد واعتماد والتجاء. قال تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) .