المسلمون والعالم
أمير سعيد
amirsaid@gawab.com
«بدؤوا ينتحرون على أسوار بغداد» ، هذه العبارة الموغلة في التفاؤل
والتي أطلقها أسطورة الدعاية العراقية محمد سعيد الصحاف وزير إعلام حكومة
صدام حسين السابقة، والتي ثبت بعد سويعات أنها محض هراء؛ حين سقطت
بغداد وسكبت الهزيمة دموع الحداد في أزقتها وطرقها وميادينها، عادت من جديد
لتسفي التراب في عيني العم سام، ولتتنسم إكسير الحياة؛ فيما قائلها قد مات وهو
حي!!
هذه العبارة بعد شهور بدت مناسبة تماماً لما يسجله العراقيون بشرف؛ من
ملاحم كانت بعيدة كل البعد عن توقعات أكثر المراقبين تفاؤلاً، فلقد مر يوم
9 أبريل على كل مسلم وعربي ثقيلاً مفعماً بالهموم والآلام والأحزان؛ إذ ضاعت
حاضرة الخلافة لقرون من أيديهم، وظن كثير من الناس أن هذه هي نهاية المطاف،
ودار بخلد الجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن حازت نصرها الجديد
توشك أن تلتفت إلى غيره، ومن ثَمّ وضعت الملفات على مكاتب الباحثين؛ لا بل
على مناضد القهاوي، ومدرجات الطلاب الجامعية، وتسرب اليأس من وإلى
النفوس: «إنها النهاية» ، «إن الخطوة التالية هي سوريا» ، بل «تفتيت كل
الدول العربية وفق وثيقة صهيونية سرية» ، كل هذه السيناريوهات لم تكن بعيدة
عن أروقة صناعة القرار الصهيوني في واشنطن، غير أن الأحداث جرت على
نحو لا يرضي المارد الأمريكي، فإذا الثآليل تنفجر في وجهه، والصعوبات تلاحقه
أينما حل أو ارتحل، وكما أهلك الله النمرود ببعوضة؛ فقد سلط الله مجموعات
صغيرة تملك أسلحة جد متواضعة لتذيق دولة التكنولوجيا الأولى الأمرَّين في كل من
العراق وأفغانستان وغيرهما.
قبل عام بالتمام على سقوط بغداد (8/4/2002م) ؛ كان صقور البنتاجون
مجتمعين في واشنطن بين أيديهم ملف خطة «غزو العراق» ، والجميع ينصت
باهتمام لكلمة «كاهن البنتاجون» دونالد رامسفيلد، والذي انتقل فيها من
استعراض موازين القوى بين الولايات المتحدة والعراق؛ إلى الحديث عن الجانب
المعنوي من المعركة، فقال: «إن أي قوة في مثل هذا الوضع الحرج؛ لا
تستطيع أن تقاوم بكفاءة إلا إذا وجدت مدداً معنوياً، يلهم تشكيلاتها وأفرادها حتى
درجة الموت أو حافة البطولة» ! وأسهب رامسفيلد في شرح ماهية المدد المعنوي
المحفز على القتال في ظل أوضاع بالغة الحرج، فقال: «إذا لم يكن هناك تراب
وطني يقصد بوجود منطقتي الحظر، وإذا لم تكن هناك ثروة وطنية يعني النفط
المصادر بموجب اتفاقية النفط مقابل الغذاء، وإذا لم تكن هناك سيادة وطنية؛ فمن
أجل أي شيء يحارب الجيش العراقي ( ... ) ليست مسألة شجاعة؛ لأن الشجاعة
لا تكون إلا دفاعاً عن مبدأ أو عن سيادة» [1] .
والواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية إذا كانت هذه نظرتها للعراق، فقد
أصابت من جهة الحافز المعنوي لجيش لم يُهيأ يوماً ليدافع عن الإسلام، غير أنها
أبعدت النجعة فيما يخص شعب أهين في دينه وعروبته، وتلك قضية لا تعرف
نظريات السيادة والمصالح الاقتصادية. وقد فات رامسفيلد أن العراق ذا الجذور
الإسلامية الحضارية العريقة؛ ليس كبعض جمهوريات الموز أو حتى مثل الولايات
المتحدة الأمريكية نفسها، والتي تتخذ لها جيشاً من خشب، قوامه المرتزقة
الأمريكيون من ذوي الأصول الصينية والهندية والإفريقية؛ من الواقعين تحت خط
الفقر في بلد التفرقة العنصرية الأولى، وهؤلاء ويا للحسرة! قد تحققت فيهم
كهانات رامسفيلد، فما باتوا يشعرون بأنهم يدافعون عن أي مبدأ أو قضية؛ بعدما
تبين لهم أن العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، ولم يكن يمثل أي تهديد
لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن متحالفاً مع «الإرهاب» ، ولذا فقد
انكشف عنهم غطاء الشرف والبطولة؛ إذ ما عادوا «مقاتلين» بل «قاتلين» ؛
تماماً مثلما قال رامسفيلد نفسه يوماً عن العراقيين!
نعود إلى ما به بدأنا «بدؤوا ينتحرون على أسوار بغداد» ؛ هذه العبارة لم
تكن إلا تجسيداً لحال انتحار أمريكي جماعي ليس على الصعيد العسكري فقط،
وإنما تتجاوز ذلك إلى جميع الأصعدة، ونحاول من خلال هذه الورقات أن نجيب
عن هذا التساؤل: هل بدؤوا حقيقة ينتحرون؟ هل بدأ العم سام يفقد عنفوانه وكثيراً
من مقومات ريادته المادية للعالم، ويصبح من بعد تركيا: الرجل المريض؟
هناك شواهد عديدة تجعلنا متعاطفين بشكل متزايد مع هذا التحليل الذي يحيل
العم سام مريضاً وإن بدا متعافياً مرهوب الجانب، ونستطيع أن نؤطر هذا
«التعاطف» من خلال أصعدة مختلفة، تراجع فيها العم سام كثيراً عن موقعه
المتقدم بين أمم العالم؛ من أبرزها:
* الصعيد العسكري:
أخفقت الولايات المتحدة في تحقيق أي من تطلعاتها العسكرية في أفغانستان
والعراق خلال العامين الماضيين، حيث شرعت بعد 25 يوماً فقط من تلطيخ
الكرامة الأمريكية بوحل 11 سبتمبر في شن حملة عسكرية قوية ضد معسكرات
تنظيم القاعدة، وأطلقت حملة عالمية لمكافحة ما أسمته بالإرهاب، ووضعت هدفاً
مرحلياً أولياً: زعماء القاعدة وطالبان والقضاء على أنشطتهما، والحاصل أنه وبعد
مرور أكثر من عامين؛ فإن أمريكا لن تنجز شيئاً من ذلك.
يضاف إلى ذلك؛ أن الهدف الوحيد الذي حققته الولايات المتحدة الأمريكية في
أفغانستان، وهو إسقاط نظام طالبان، لم يتعد ذلك إلى تفكيك الحركة كلياً برغم ما
ألمَّ بها وبقواتها النظامية جراء عدوان 7/10/2001م، وما تبين فيما بعد أن
الولايات المتحدة لم تنجح إلى اليوم في إيجاد نظام بديل لطالبان يعطي الأغلبية
الباشتونية تمثيلاً لائقاً بحجمها؛ ما حدا بالأغلبية الباشتونية إلى الالتفاف مجدداً حول
حركة طالبان على خلفيَّتين إسلامية وعرقية متناغمتين.
وهذا الالتفاف الجديد بدت أعراضه في الانتصارات العسكرية القوية التي
حققتها الحركة في الجنوب الأفغاني، ونجاحها في بسط سيطرتها على مدن ميزان
وآرجور ووي تشوبان وبارمال وجانيخيل، وتقع هذه المدن في إقليمي زابول
وباكتيكا.
وكانت الحركة قد أعلنت في وقت سابق من الشهر الماضي في بيان لها نشر
في لندن أن «مديرية غاني خيل ومديرية ديلة ببكتيا (قد سقطت) في أيدي قوات
حركة طالبان، وفي زابل سقطت مديرية دايجوبان في أيدي الطالبان، وهي الآن
خالية من القوات الأفغانية العميلة، وسقطت مديرية اتغر بولاية زابل في أيدي
قوات الطالبان المجاهدة» .
مضيفة أن الحركة قد قامت بتشكيل الشورى القيادية؛ تحت قيادة الملا محمد
عمر.
ويتردد في سياق آخر أن الولايات المتحدة الأمريكية تجري منذ فترة طويلة
مفاوضات مع من تصفهم بالعناصر المعتدلة في حركة طالبان.
وكذلك بدت أعراض الالتفاف الجديد لأغلبية الباشتون حول حركة طالبان؛
في الحضور الإعلامي البارز للحركة على نحو لم يكن مألوفاً خلال الفترة التي تلت
الحرب؛ مما جعل أخبار العمل العسكري تنتقل إلى المتعاطفين معها من وسائل
الإعلام الغربية والعربية؛ عوضاً عن تداولها على نطاق محدود عبر المنتديات
المجهولة للمتعاطفين مع الحركة على شبكة الإنترنت.
بيد أن ثالثة الأثافي بالنسبة إلى الإخفاق الأمريكي في تحقيق أهداف الولايات
المتحدة الثلاثة في أفغانستان، والتي جعلت إلقاء الولايات المتحدة مئات الأطنان من
قنابلها العملاقة على جبال أفغانستان وسهولها ضرباً من الرعونة العسكرية، هي
أنها ألجأت مئات من عناصر تنظيم القاعدة بل مخالفيه من العرب إلى مغادرة
أفغانستان تحت طائلة شدة القصف الرهيب، وكان من ضمن الدول التي اختارها
التنظيم مثلث الحدود (الأفغانية - الباكستانية - الإيرانية) المشتركة، والتي
شجعت مئات من المنتسبين للتنظيم وعدداً من المتعاطفين معه على العبور إلى
العمق الإيراني؛ مستفيدين من المساندة التي يلقونها من قبائل منطقة بلوشستان
السنّية (يشكل السنة نحو 30% من سكان إيران، ويقيم بعضهم قبالة الحدود
الباكستانية، ويشعر معظمهم بالاضطهاد من النظام الإيراني الشيعي، ويبدون
تعاطفاً مع المجموعات السنّية المقاتلة في كل من أفغانستان وباكستان ولا سيما التي
تنتمي لعرق الباشتون) .
كل هذا ربما لم يكن ليمثل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة لو لم تكن أقدمت على
غزو العراق، فالخطأ الكبير الذي ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية كان في
تسهيل مهمة مئات من عناصر تنظيم القاعدة إلى العبور إلى العراق، ليكونوا على
تخوم الجهة الشرقية لـ «إسرائيل الكبرى» (الفرات) .
وثمة أكثر من كاتب أمريكي وبريطاني ونائب في الكونجرس الأمريكي قد
اتهموا إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش بارتكاب خطأ فادح؛ بتحويل العراق
من دولة «آبقة» إلى دولة «إرهابية» ، وحقاً؛ لم تكن العراق منذ عقود طويلة
منطقة جذب للتيارات الإسلامية، لكنها أضحت اليوم أبرز مناطق الجذب
«الجهادي» ، وهذا بدوره يمثل خطراً لا يستهان به على المدى البعيد على
«أمن إسرائيل» كما يقال، فلم يكن الكيان الصهيوني في مأزقه الحالي بحاجة
إلى من يدني «الخطر الأصولي الإسلامي» منه إلى هذا الحد!
وغني عن البيان أن جبال الهندكوش في أفغانستان لم تكن منتهى طموح
الراغبين في مراغمة أنف الصهيونية العالمية، ولم تكن بالمكان المناسب لكنه
المتاح على الأقل لديهم، ومن ثَمّ يبدو أن غزو العراق لم يكن موفقاً على الإطلاق
من هذه الجهة، كما لا يفوتنا في هذا الصدد أن نقول بأن العراق لم يعد منطقة
وجود للقاعدة فحسب، بل نزعم أن معظم الإسلاميين المقاتلين في العراق هم من
أبناء العراق نفسه، لكنهم تأثروا بوجود متطوعين عرب لا ينتمون بالضرورة إلى
القاعدة.
بالنسبة إلى العراق؛ فإن البوابة الشرقية للأمة الإسلامية قد راغمت أنف
«الدولة العظمى» بشكل مريع، وغريب الأمر يكمن في أن ما لاقاه الجنود
الأمريكيون من مقاومة الجيش العراقي النظامي والميليشيات العسكرية الرسمية أثناء
العدوان الجوي الذي توقف لدى سقوط بغداد (9/4/2003م) ؛ تضاءل تماماً
مقارنة بما يعانيه الأمريكيون من لأواء المقاومة الباسلة، وهذا ما أكده عدد كبير من
الجنود الأمريكيين لأحد وكالات الأنباء العالمية في العراق؛ من «أن المقاومة
العراقية التي يواجهونها يومياً أسوأ وأصعب بكثير من الحرب نفسها التي
خاضوها» ؛ لافتين إلى أن «الجيش الأمريكي تكبد خسائر في عراق ما بعد
الحرب تفوق التي تكبدها خلال الحرب» . ففي السياق نفسه يقول الكاتب
البريطاني الشهير روبرت فيسك في تقرير له من بغداد لصحيفة إندبندنت
البريطانية: «إن الأمريكيين بدؤوا يتمترسون خلف نزعة متنامية من السرية بعد
ارتفاع وتيرة قتلاهم وجرحاهم في العراق» ؛ مشيراً إلى أن «السلطات الأمريكية
الحاكمة لهذا البلد بدأت في الامتناع عن التصريح بحقيقة أعداد ضحاياها؛ رغم وجود
حوادث موثقة عن سقوط قتلى من أمريكيين وغيرهم» .
وبعيداً عن التعثر الأمريكي في العراق، والذي تتعدد أسبابه الداخلية بالنسبة
إلى القوات الأمريكية حتى من قبل أن تبدأ الحرب، ونعني وضع خطة عسكرية لم
تنقذها سوى خيانة بعض جنرالات الجيش العراقي، فإننا نلاحظ أن الولايات
المتحدة التي اتخذت بعض القرارات بالغة السوء أدت بدورها إلى تفاقم الأمر عليها؛
مثل حل الجيش العراقي، والإساءة إلى العراقيين، وتعيين مجلس انتقالي أعرج؛
قد أوقعها حظها المتعثر في حبائل مقاومة ذكية، اختطت لنفسها أربعة محاور
نضالية واضحة تتمثل في:
1 - استهداف المواقع والقوات الأمريكية والبريطانية؛ لرفع تكلفة الاحتلال،
ودفع القوى الشعبية في كلا البلدين إلى الضغط على الإدارة الأمريكية والبريطانية
من أجل الانسحاب من العراق.
2 - استهداف قوات المرتزقة التي تنتمي لدول ليس لها أي مصلحة في
العراق، وإنما جرتها الولايات المتحدة لمساعدتها في الخروج من المستنقع العراقي،
ليعجل ذلك بانكسار «الأحزاب» الذين تمالؤوا على العراق المسلم. وفي هذا
الصدد يمكن فهم عمليتي مقر الأمم المتحدة (أدت إلى سحب المنظمة ثلث موظفيها
على الأقل من العراق) ، والسفارة الأردنية (التي يظن أنها أريد بها إيصال
رسالة لأي دولة عربية تقبل بالتعاون مع الاحتلال) .
3 - العمل على حرمان دولتي الاحتلال الرئيستين من الاستيلاء على النفط
العراقي؛ عبر تفجير أنابيب النفط المنتشرة على مساحات شاسعة لا يمكن بسهولة
تأمينها بشكل تام.
4 - بث الذعر في صفوف من تصفه المقاومة بالخونة؛ من أعضاء مجلس
الحكم العراقي الانتقالي، وكبار ضباط الشرطة العراقية، وبعض المتعاونين
العراقيين مع جيش الاحتلال؛ من وجهاء العشائر وغيرهم.
هذه المحاور ضمنت للمقاومة حتى الآن استمرارية مطلوبة لتحقيق هدف بالغ
الصعوبة، وهو دفع الاحتلال للرحيل، وهو ما يعد من الأمور غير المتوقعة على
المدى القريب؛ نظراً لأسباب دينية واقتصادية عظيمة الاعتبار لدى الولايات
المتحدة الأمريكية.
بيد أن متاعب الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية لم تقف عند حدود العراق؛
حيث تجاوزتها إلى اهتزاز قدرة الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية في مجمل
أرجاء المعمورة، فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (5/10/2003م)
أن «أعباء احتلال العراق ستبدأ في استنزاف قدرة الجيش الأمريكي على نشر
قوات قتالية مدربة في مختلف أنحاء العالم خلال عدة أشهر» . وقالت الصحيفة:
«إن احتلال العراق سيؤدي على المدى الطويل إلى إرباك حياة الآلاف من أُسر
العسكريين، وستعرّض نظام الاحتياط المعمول به في الجيش لخطر شديد، إضافة
إلى أن ذلك سيحد من النزعة العالمية في السياسة الخارجية الأمريكية» .
وأشارت الصحيفة إلى «أن استبدال كل هذه القوات بوحدات جديدة؛ من
الممكن أن يمثل ضغوطاً شديدة على الجيش الأمريكي للوفاء بالتزاماته في أماكن
أخرى من العالم؛ مثل أفغانستان وشبه الجزيرة الكورية، خاصة أن نصف ألوية
الجيش الأمريكي الثلاثة والثلاثين توجد حالياً في منطقة الخليج العربي» .
* الصعيد السياسي:
انهيار «المثل الأمريكية» هي أبرز مفردات الانهيار السياسي الأمريكي،
وتتجلى في عدة أمور؛ أهمها: خيبة أمل المؤيدين للنظام «الحر» الذي كانت
تتمنطق به الولايات المتحدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، ويعنينا في هذا المقام
تدني نسبة التأييد للولايات المتحدة الأمريكية وارتفاع أعداد الغاضبين من سياستها
في «مستعمراتها الجديدة» ؛ وأهمها الدول الإسلامية، وقد أوصى تقرير أمريكي،
قُدّم إلى الكونجرس، ونشرته الـ C.رضي الله عنه.رضي الله عنه في مطلع شهر أكتوبر الماضي،
بإعادة النظر بشكل جذري في سياسة التعامل الأمريكية مع المسلمين.
وقال «إدوارد جيرجيان» مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون
الشرق الأوسط والسفير السابق لدى سوريا، والذي ترأس الفريق الذي أعد التقرير:
إن العداء إزاء أمريكا وصل إلى مستويات مخيفة لدى الرأي العام في الدول
الإسلامية. وقال التقرير إن حسن النية تجاه أمريكا قد تهاوى في العام الماضي بدءاً
من الأردن وحتى إندونيسيا.
وكشف التقرير الذي جاء بعنوان «تغيير العقول وكسب السلام» عن أن
15% فقط من الإندونيسيين ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة إعجاب في الوقت
الحاضر؛ مقابل 61% في العام الماضي.
كما أشار التقرير إلى أن نسبة الأردنيين الذين حملوا نظرة إيجابية للولايات
المتحدة في ربيع العام الحالي؛ لم تزد عن 1% مقابل 25% صيف العام الماضي.
وبحق؛ فإن هذا التقرير لا يمكن وضعه إلا في خانة انهيار «مُثل الولايات
المتحدة الأمريكية» لدى العالم برمّته وليس لدي المسلمين وحدهم؛ ذاك أن معظم
التظاهرات ضد أمركة العالم، والتي تترافق مع كل مؤتمر للعولمة الاقتصادية
تشترك فيه الولايات المتحدة الأمريكية، ومعظم التظاهرات المناهضة لسياسة
الولايات المتحدة الأمريكية التي سبقت ورافقت وأعقبت العدوان على العراق
(بريطانيا وفرنسا وبلجيكا.. وغيرها من الدول الأوروبية شهدت تظاهرات
معارضة لاحتلال الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في شهر سبتمبر الماضي) ؛
كل ذلك يؤشر بلا ريب إلى ازدياد حنق شعوب العالم على ريادة الولايات المتحدة
لها، وهو يعني أن «قيم الولايات المتحدة» التي تعلن أن آكد أولوياتها هي إقامة
العدل والديمقراطية وإطلاق الحريات؛ قد أصبحت موضع شك وريبة شديدين من
مجمل سكان الأرض.
ولا يمكننا الاستهانة بتزايد نقمة العالم على الإمبراطورية الأمريكية؛ بالنظر
إلى أن أي إمبراطورية في العالم لا بد أن تتدثر بقيم تعليها في وجه مناوئيها، وإلا
لم تكن آمنة من الاندحار والاضمحلال.
عدم اكتراث الولايات المتحدة بالمبادئ القانونية الدولية التي قامت عليها،
وهي بذلك تراهن بكل رصيدها السياسي في مقامرة خاسرة، فبميكيافيلية واضحة
غزت الولايات المتحدة الأمريكية دولة أفغانستان التي تتمتع بالسيادة بموجب القانون
الدولي؛ من دون أي مسوّغ قانوني يعزز حملتها لمكافحة الإرهاب، واتخذت بكل
تبجح شعار «العدالة المطلقة» عنواناً لحملتها، فيما لم تدن محاكمها الخاصة
قانونياً المتهم الرئيس بتدمير برجي التجارة والبنتاجون أسامة بن لادن، ولم يصدر
بحقه أي حكم قضائي حتى الآن. وبالميكيافيلية نفسها أقدمت الولايات المتحدة على
تحدي العالم برمّته؛ حين اعتدت على العراق ولم تُبد احتراماً يذكر لتقرير لجنة
التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل على رغم أنها شُكّلت على عين الولايات
المتحدة، ولما تبيّن أنها مارست الخداع والتدليس لم ترعو عن غيها بالانسحاب من
العراق والاعتذار لشعب العراق.
والعالم بأسره يتساءل عن مسوّغات الغزو ثم مسوغات استمراره، والتساؤل
في محله؛ لاعتبار أن ما أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية هدفاً لعدوانها على
العراق ثبت جميعاً عواره، لا بمحض ادعائنا وإنما باعتراف ألسنة سادة القوم
وسدنة البيت الأبيض، فالولايات المتحدة ادعت امتلاك العراق لأسلحة الدمار
الشامل، ولقد ثبت تهافت هذا الادعاء؛ ويكفينا ما أشارت إليه صحيفة «واشنطن
بوست» في 13 يونيو؛ بأن أبحاث وحدة القوات الخاصة السرية، والتي أطلق
عليها «تاسك فورس 20» ، والمؤلفة من جنود نخبة من «كوماندوس دلتا» ،
لم تتوصل إلى أي شيء يمت بصلة لأسلحة الدمار الشامل العراقية، ويبدو أن تلك
الأسلحة لم يكن لها وجود سوى في عقل صقور واشنطن وتابعيهم.
والأدهى من ذلك أن هناك معلومات مؤكدة حول تقرير سري أصدرته وكالة
الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» في ديسمبر الماضي؛
تؤكد فيه أنها لا تمتلك أدلة مؤكدة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.
والولايات المتحدة اختلقت علاقة تربط بين العراق وتنظيم القاعدة، طورت
هذه العلاقة في خيالها الهوليودي لتدعي تعاونهما في مجال تصنيع أسلحة الدمار
الشامل وتخزينها وتجهيزها، وقد نفى الاثنان ذلك، لكن مع هذا النفي فإننا لن
نلتفت إليه بل إلى التصريح الذي بثته شبكة التلفزيون الأميركية «فوكس نيوز»
لرئيس مجموعة التفتيش الأميركية البريطانية في العراق ديفيد كاي (5/10/
2003م) ، والذي جاء فيه أنه «لم يعثر على أي وثيقة تثبت وجود علاقة بين
العراق وتنظيم القاعدة في مجال أسلحة الدمار الشامل» ؛ مؤكداً أنه: «فيما يتعلق
بأسلحة الدمار الشامل؛ لم نعثر على أي إثبات على وجود علاقة بين نظام صدام حسين والقاعدة أو مجموعات إرهابية أخرى» !!
ويبقى الهدف الثالث الذي لم يتحقق بدوره، وهو إقامة نظام ديمقراطي في
العراق يكون نموذجاً للديمقراطية وقابلاً للاستنساخ في الدول العربية. والحاصل أن
العراق لم يحصل لا على «عنب الشام» ولا على «بلح البصرة» ، فلا
الديمقراطية قامت، ولا هو استمر محكوماً بنظام ديكتاتوري مستقر؛ إذ ولد الجبل
الأمريكي فأراً ميتاً تمثل في مجلس انتقالي مؤقت، تبعه تشكيل حكومة عراقية
انتقالية، وكلاهما معين لم يحظ حتى بـ «شرف» انتخابات مزورة كتلك
الموجودة في معظم الدول العربية، أو حتى التي لم تكن تروق للرئيس بوش في
العراق نفسه.
والواقع أن الولايات المتحدة كما يعلم الجميع تكذب في شأن تحرك جيشها فقط
لمساعدة شعب العراق على الخلاص من نظام طاغ، وسنلتقط حديثاً أثيرياً في إطار
«ملتقى أمستردام» ، البرنامج الحواري الذي يبثه راديو هولندا لأحد كبار الكتاب
والمفكرين الأمريكيين المستقلين، وهو نعوم تشومسكي الذي وصفته صحيفة
«نيويورك تايمز» بأنه ربما كان أهم مثقف على قيد الحياة وهو بالطبع ليس
من أتباع بن لادن أو من «فلول نظام صدام حسين» ، ولا هو أهم مثقف، يقول
فيه: «فيما يتعلق بالبلدان التي تعاني في ظل أنظمة مستبدة؛ فسيكون إيجابياً
أن يساعدها ويدعمها أحد. ولنأخذ مثالاً الإدارة الأميركية الحالية، هم أنفسهم
(لا ننسى أن غالبيتهم تتألف من ريجانيين متمرسين) دعموا سلسلة من الطغاة
الذين أخضعوا شعوبهم لأنظمة مستبدة فاسدة، مثل صدام حسين، وتشاوشسكو،
وسوهارتو، وماركوس، ودوفالييه. القائمة طويلة، لكن الأسلوب الأمثل
لحل المشكلة من الممكن أن يكمن أولاً في التخلي عن مساندة مثل هذه الأنظمة،
والتي غالباً ما تمت الإطاحة بها على يد شعوبها نفسها، وذلك على الرغم من
مساندة الولايات المتحدة لها. لقد كان تشاوشسكو، على سبيل المثال، طاغية
يمكن مقارنته تماماً بصدام حسين، ومع ذلك هزم عام 1989م على يد شعبه نفسه
بينما كان مدعوماً من قِبَل مَنْ يحكمون الآن في واشنطن. والناس الذين يواجهون
القمع والعنف بالمقاومة؛ لا بد لنا من إيجاد وسيلة ندعمهم من خلالها، والطريق
الأبسط يتمثل في التوقف عن دعم الطغاة» .
الولايات المتحدة الأمريكية تدوس بقدميها أرفع ما كانت ترفعه من شعارات
تزعم أنها تعلي القيمة الإنسانية، وهي احترام حقوق الإنسان، فعضوية هذا البلد
في قوائم الحقوق الإنسانية أصبحت موضع شكوك وضغوط، وحتى موضع
استعراض عضلات أخذت تبرز حين عمدت الولايات المتحدة لتنفيذ حملة جمع
توقيعات من البلدان المختلفة على وثيقة تعفيها من الخضوع لقوانين المحكمة
الجنائية الدولية لمدة عامين، وذلك في أعقاب صواعق 11 سبتمبر، ومن ثَمَّ
رفضت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش التوقيع على اتفاقية المحكمة الجنائية
الدولية التي قبلها كلينتون، ويشكّل هذا الرفض مخالفة صريحة لحماية الإنسان من
التعرض لجرائم الحرب، كما امتنعت تلك الإدارة عن التوقيع على اتفاقية كيوتو
العولمية للبيئة (مخالفة صريحة لحق الإنسان ببيئة نظيفة ومستقبل بيئي أفضل) .
والعجيب أن صحافة الولايات المتحدة الأمريكية انبرت تهاجم اللجنة العالمية
لحقوق الإنسان؛ فقط لأنها «خلعت» الولايات المتحدة منها نتيجة لتصويت سري
منتصف مايو 2001م، فوصفت «نيويورك بوست» تلك اللجنة بأنها «نادي
سفاحين ومتوحشين» ، وألبستها «وول ستريت جورنال» حلة «الطغاة» ،
ووصمت «نيويورك تايمز» التصويت «الديمقراطي» ضد الولايات المتحدة
بأنه «هجوم غادر على أمريكا» !!
على أن أبرز تداعيات التخلف الأمريكي في مجال حقوق الإنسان؛ هو ما
تجسد في القوانين المقيدة للحريات التي تلت أحداث 11 سبتمبر، علاوة على قانون
الأدلة السرية الذي جرى تطبيقه قبل صواعق سبتمبر بسنوات قليلة، والذي يسمح
بتوقيف أي مواطن أمريكي أو مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه دون أن
يطلع المتهم على أدلة اتهامه (مثلما حدث مع اللاجئ الجزائري الأستاذ أنور هدام
رئيس البعثة البرلمانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، والذي اعتقل لسنوات
تقارب تلك التي قضاها رفاقه في الجزائر في ظل نظام انقلابي سمح لهم بمعرفة
تهمهم؛ فيما ضربت دولة «الحرية» صفحاً عن ذلك!) .
ناهيك عما ارتكبته الولايات المتحدة من انتهاكات لحقوق الإنسان في كل من
أفغانستان (أبرزها ما جرى من مذبحة رهيبة لأسرى طالبان على أيدي ميليشيا
دوستم بدم بارد، وعلى عين قوات الاحتلال الأمريكية في سجن حاجي قلعة،
والتي راح ضحيتها أكثر من أربعمائة قتيل قضوا مكتوفي الأيدي تحت مجنزرات
نائب وزير الدفاع الأفغاني، وعملية قصف حفل الزواج التي أودت بحياة العشرات
من مواطني الباشتون البسطاء) ، والعراق الذي قُصف مدنيوه كما الأفغان بالقذائف
المدعمة باليورانيوم المنضب وغير المنضب (يعد الأخير الأكثر خطورة؛ إذ تعادل
طاقته الإشعاعية 1.7 ضعف اليورانيوم المنضب، وتم قصف البلدين به بشهادة
أبرز خبراء الطب النووي، وهو البروفيسور البوسني الأصل الأمريكي الجنسية
عاصف ديرواكوفيتش، الرئيس السابق لقسم الطب النووي في المستشفى الإداري
للمحاربين القدماء التابع لوزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون) ، وقد ثبت بما لا يدع
مجالاً للشك ومن خلال إندبندنت وجارديان وديلي ميرور وغيرها أن أمريكا
وبريطانيا قتلت المستسلمين من جنود العراق أثناء الحرب زعماً منهما أنهم قد
رفضوا الاستسلام، وبعض هذه الصحف إبان الحرب نشر صور المغدورين
وبأيديهم رايات الاستسلام البيضاء.
هذا كله بالإضافة إلى سجن جوانتنامو الشهير الذي نددت بأوضاع السجناء فيه
كل هيئات ولجان حقوق الإنسان تقريباً في العالم، وكل من لديه بقية ضمير إنساني،
ومع هذا لم تكترث «راعية حقوق الإنسان في العالم» بكل هذه التنديدات.
الولايات المتحدة تنكرت للديمقراطية تماماً، فهذه الدولة «المارقة» أتت
تبشر العالم بديمقراطيتها الرائعة في الوقت الذي قمعت فيه تظاهرات العراقيين في
بغداد، وأطلقت عليها النار في الموصل والفلوجة وغيرهما. أمريكا اتهمت صدام
بالديكتاتورية ضد شعبه فقط لكنها مارستها ضد العالم كلها، وفرضت رأيها على كل
شعوب العالم؛ بمن فيهم الشعب العراقي الذي فرضت كذلك رأيها عليه بالقوة.
بيد أن أخطر ما لمسناه في شأن تحقير الولايات المتحدة الأمريكية من شأن
«قيمها السياسية» ؛ هو ازدراؤها بالشعب الأمريكي نفسه؛ حين رفضت
الأغلبية الجمهورية في الكونجرس الأمريكي إجراء تحقيق رسمي في شأن ما إذا
كانت الحكومة الأمريكية قد أساءت قراءة التهديدات التي كان يشكلها العراق قبل
شن الحرب عليه، أم أنه قد تم تضخيمها، وذلك تذرعاً بأن إجراء مثل هذا التحقيق
قد يلحق الضرر بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، وأن الإشراف الروتيني الذي
تضطلع به لجان الاستخبارات والقوات المسلحة في الكونجرس سيكون كافياً لتقييم
حجم الخطر الذي يشكله العراق.
* الصعيد الاقتصادي:
الولايات المتحدة الأمريكية تملك اقتصاداً عملاقاً لا يمكن تحريكه بسهولة؛ بيد
أن الأحداث التي جرت خلال العامين الماضيين وتحديداً منذ أن استفاقت نيويورك
من دون أن يجد سكانها برجي الرأسمالية الأضخمين في العالم كانت كفيلة بأن
تجرح الاقتصاد الأمريكي والعالمي التابع له على نحو لا يمكن معه أن يبرأ بسهولة.
بعض السهام السامة التي وجهت للاقتصاد الأمريكي كانت من الخارج،
وبعضها يعد ارتداداً من قوس أمريكية لاقت عدواً صلباً أدار السهم إلى عين راميه.
فكانت أشد الضربات عملية 11 سبتمبر التي أدت مباشرة إلى تأثر أعمال آلاف
الشركات الاقتصادية ولا سيما شركات الطيران التي سرحت الآلاف من موظفيها،
واهتزاز البورصة (خسائر 11 سبتمبر الأولية تجاوزت 3.5 تريليونات دولار في
الشهر الأول لها) .
وتوالت السهام بعد ذلك من الولايات المتحدة نفسها؛ حين قررت إدارتها أن
تطلقها حملة ضد ما أسمته بالإرهاب، وضد الدول التي تطلق عليها أبواق الإدارة
الأمريكية «الدول المارقة» ، وهو ما أدى إلى انتهاج سياسات أمنية رصدت لها
ميزانية تبلغ نحو 400 مليار دولار.
ونجم عن انتهاج سياسة أمريكية عدائية للمسلمين في العالم تحت ذريعة
مكافحة الإرهاب: اهتراء الاقتصاد الأمريكي بشكل لم يسبق له مثيل إلا ربما بين
عامي 1929 و 1933م في فترة الركود الاقتصادي الشامل في الولايات المتحدة
الأمريكية.
سياسة الولايات المتحدة العدائية تجاه نحو 60 دولة، منهم 59 دولة إسلامية،
وسوست لها بنشر مزيد من قواتها في باكستان وجورجيا وجيبوتي والفلبين،
واحتلال كل من دولتي العراق وأفغانستان، مع ما استتبع ذلك من نفقات خرافية
قُدّرت بنحو 87 مليار دولار في العراق وحدها وفق الميزانية التي تمت الموافقة
عليها في الكونجرس شهر أكتوبر الماضي، علاوة على تقديم المعونات للدول
المختلفة لضمان مساندتها لسياساتها وتعهدها لها بمشاركتها في الكعكة العراقية
المسمومة.
كان الأمل يداعب الولايات المتحدة وحليفتها الاستراتيجية (بريطانيا) في أن
يعوضا ما يزمعون الاستيلاء عليه من نفط العراق، وما تنتعش به شركات النفط
الأنجلوساكسونية جراء مد أنابيب نفط بحر قزوين في التراب الأفغاني المغتصب،
لكن ولحد الآن لم يتمكن الصياد من التقاط صيده الثمين، فلا الأوضاع استقرت في
أفغانستان؛ بما يمكّن تلك الشركات من التنقيب حول قزوين، ومد أنابيب النفط
عبر أفغانستان، ولا دولتا احتلال العراق تمكنتا من «تأمين» آبار العراق النفطية
العملاقة، خاصة حقل كركوك وأنابيب النفط الناقلة له.
وقد يكون التحول في قضية لوكربي الليبية والقبول بتسويتها، عن طريق
«الرشوة المقنعة» أو «البلطجة الدولية» ، إيذاناً بتعبيد طريق نفطي سهل
وآمن لتدخل الشركات النفطية الأنجلوساكسونية في ليبيا.
وقد تتمكن الولايات المتحدة من فك شيفرة النفط العراقي، لكنها بالتأكيد ستظل
راكضة وراء سراب تحسن أدائها الاقتصادي وخروج اقتصادها المتردي من كبوته؛
إذ تظل جميع آمال الولايات المتحدة رهينة الغيب؛ فيما الحاضر مؤسف لهذه
الإدارة المخفقة، وهذا الحاضر ينطق بالفجيعة:
- فصندوق النقد الدولي قد أعد في شهر أغسطس الماضي دراسة تبين أن
العجز في الميزانية الفيدرالية الأمريكية سيصل إلى 455 بليون دولار في هذا العام
2003م، كما أنه سيصل إلى عجز قياسي قدره 475 بليون دولار العام القادم
2004م. موضحاً الصندوق في تقريره أن 50% من هذا العجز في الميزانية
الأمريكية جاءت في الأشهر الخمسة الأخيرة (أشهر الحرب) .
- والبطالة تورمت لتبلغ نسبة 6.1% من مجمل القوى العاملة، بعد أن كانت
4% خلال حكم كلينتون، ويعد هذا الارتفاع رقماً قياسياً لم يسبق له مثيل منذ
20 عاماً.
- العجز التجاري بلغ 504 مليار دولار العام الماضي، في حين كان متوقعاً
أن يصل العجز في الميزانية عام 2002م إلى 158 مليار دولار؛ بمعنى أن العجز
المزدوج (مجموع العجز في الميزانية والعجز في الميزان التجاري بين أمريكا
ودول العالم) وصل إلى الرقم القياسي 662 مليار دولار عام 2002م؛ أي ما
يعادل 4.6% من الناتج الإجمالي المحلي.
- (الاقتصاد الأمريكي يبلغ عشرة تريليونات دولار) . ويبدو التحول لافتاً
في الميزانية الفيدرالية من فائض بلغ 127 مليار دولار عام 2001م إلى عجز
قياسي قيمته 300 مليار دولار في عام 2003م؛ بما يعادل 2.75%من الناتج
الإجمالي المحلي.
- والفائض في الميزانية الحكومية الفيدرالية الذي خلفه الرئيس الأمريكي
السابق بيل كلينتون، والذي قدر بنحو 5.6 ترليونات دولار على مدى السنوات
العشر اللاحقة، استحال بعد ثلاث سنوات فقط من حكم بوش عجزاً مالياً كبيراً،
يقدر بحوالي 4 ترليونات دولار على مدى السنوات العشر القادمة.
- وتراجع الدولار أمام اليورو يأتي كذلك ليؤكد عمق الأزمة التي يكابدها
الاقتصاد الأمريكي، وتشير «نيويورك تايمز» (9/5/2003م) إلى أن الناس
تعرف أن ارتفاع قيمة اليورو لا يعكس قوة الاقتصاد الأوروبي بقدر ما يعكس
الضعف الأمريكي، وبعضهم يعلي من قيمة اهتزاز الثقة في السوق الأمريكي ولا
سيما عند المستثمرين العرب؛ في مقابل ثبات السوق الأوروبي نسبياً؛ ما أدى إلى
امتصاص تلك السوق لجزء كبير من المال الهارب من أمريكا.
* الصعيد الإعلامي:
الجنرال إعلام الذي ألفناه دائماً يقاتل إلى جانب المارينز؛ يبدو الآن وقد
انحنى ظهره واعتلت صحته حتى أحيل إلى التقاعد؛ فلم يعد أحد يرهبه، ولم يعد
يصدق غزواته وعنترياته أحد.
حينما ظهرت شبكة التلفزة الأمريكية العملاقة N.N.C كان معظم العرب
وغير العرب ممن يتقنون الإنجليزية يتشوقون لالتقاط بثها بعد أن سئموا التزييف
في كثير من إذاعاتهم وتليفزيوناتهم المحلية، وقد كانوا من قبل يلقون السمع لإذاعة
رضي الله عنه.رضي الله عنه.C البريطانية طلباً للحقيقة الغائبة. وقد كانت هذه الأدوات الإعلامية
الصهيونية تجد لها من يصدقها بين العرب وغير العرب؛ حتى إنه لم يكن يفهم
اعتلال أنبائها إلا قلة من المثقفين المستقلين ولا سيما الإسلاميون، بيد أن الأوضاع
قد تغيرت الآن تماماً، ونزعم أن الأمريكيين أنفسهم لم يعودوا يثقون بكبريات
صحفهم كواشنطن بوست ونيويورك تايمز، وشبكات التلفزة الأمريكية، مثل نيوز
فوكس و N.N.C، لا لأنهم باتوا يشاهدون الجزيرة وأبو ظبي، وإنما لأن هذه
الأدوات الإعلامية قد خذلتهم والعالم في نقل الحقيقة مجردة، بعد أن أحكمت الإدارة
الأمريكية اليمينية قبضتها عليها منذ أحداث سبتمبر؛ فلم تعد تنطق إلا كذباً ملفقاً
أضحى يدرك عواره الصغير قبل الكبير.
عندما اجتمع الرئيس الأمريكي جورج بوش مع رئيس الوزراء الفلسطيني
المستقيل «أبو مازن» بحسب صحيفة هآرتس الصهيونية بادره بالقول: «إن
الله أمرني أن أضرب القاعدة فضربتها، والله أمرني أن أضرب صدام حسين
ففعلت» !! والذي ندين الله به أن جبريل - عليه السلام - لم ينزل مخاطباً الرئيس
الأمريكي بذلك، والله ما أمر بوش أن يقتل ويسفك الدم الحرام في أفغانستان
والعراق، [وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 28) ، ولكن الله تعالى
أمر بالقسط: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ] (الأعراف: 29) ، هذا القسط الذي يبني
قواعد الدول العوالي، وبزواله تزول أعتى الدول وأغلظها عريكة، ولله در شيخ
الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «وأمور الناس إنما تستقيم مع العدل الذي يكون فيه
الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم
تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم
الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ( ... ) ، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم
أمر الدنيا بالعدل قامت» [2] .
فكيف وإن كانت لا هذا ولا ذاك.. ولذلك فنحن ما نرى المارد الأمريكي إلا
وقد بدأ يستحيل رجلاً مريضاً، تبدو من خلف شحوب وجهه الأعراض نفسها التي
انتابت الخلافة العثمانية على إسلامها وصهيونية أمريكا في قرنيها الأخيرين اللذين
شهدا أوان أفولها؛ من تفكك عرى الدولة، وإخفاقها في إعادة الأمور إلى نصابها،
وتجرؤ رعاياها وانتفاضتهم عليها، وفساد إدارتها، وخلو خزائنها، وضياع هيبتها؛
ما كان كفيلاً بانتشار جراثيم الفتنة تفت في عظامها، وتهز عرش مجدها
وعظمتها الأثيلين. وهذا ماثل في الحالة الأمريكية التي صارت تشبه «الرجل
المريض» التركي إلى حد بعيد، فكما انتفض الناس على الأتراك في البلقان
وفارس؛ انتفضوا في العراق وأفغانستان، وكما اختلف القادة العسكريون الأتراك
اختلف رامسفيلد وباول، فمنح بوش ملف العراق لـ «كوندي» ، وصارت
كونداليزا رايس كما محظيات وأمهات السلاطين الضعفاء تخلع وتثبت من تشاء،
وكما خلا بيت المال العثماني فقد خلت الخزينة الأمريكية، وكما «أصيبت
الشعوب الإسلامية في مراحل الدولة العثمانية الأخيرة بالتبلد وفقد الإحساس بالذات،
وضعف ضميرها الروحي» [3] ؛ أصيب الشعب الأمريكي بالداء عينه.
الله لم يأمر بوش بضرب اليتامى والثكالى في العراق، وإنما أذن لأمة طغت
أن تلقى مصيرها الذي كتب على كل أمة.. [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ] (الأعراف: 34) ،
[وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً] (الأنبياء: 11) ، [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا
أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَة] (هود: 102) .
يقول صاحب كتاب (تاريخ مصر ونبذ عن الأمم المرتبطة بها) عن
الجمهورية الرومانية صنو الأمريكية [والأقواس من عندنا] : «لما أخذت الدولة
الرومانية في هذا الاتساع العظيم، أصبح أعضاء الجمعية العمومية (الكونجرس)
غير قادرين على إدارة سياستها لعدم درايتهم بشؤون تلك الممالك الواسعة البعيدة عن
بلادهم (العراق وأفغانستان) ، فأخذ أعضاء مجلس السناتو (صقور اليمين
الصهيوني) ينفردون بإدارة الدولة، فدب فيهم روح الطمع واغتصاب الأموال
الطائلة والانغماس في الترف والتنعم (إذ يمتلك معظمهم حصصاً في شركات النفط
العملاقة كعائلة بوش وديك تشيني) ، ثم إنهم قصروا المناصب الكبيرة على
أقاربهم أو من على شاكلتهم من الأشراف. فأصبحت حال الطبقات الأخرى سيئة
جداً (يزداد المنضوون تحت خط الفقر يوماً بعد يوم) ؛ لسوء عمل الأشراف
(وازدياد الفضائح وانهيار الشركات التي يملكها الأشراف) ... » .
لا يشوب رؤيتنا هذه رغبة في تسكين الألم، وعزل الإحباط، ودفع اليأس
بالأساس، وإنما محاولة لوضع الأمور في أنصبتها الحقيقية؛ لأن نقع الغبار يعمي
عن رؤية خيل المجد تركض من بعيد، مردداً فرسانها قيل خالد بن الوليد الخالد
وهو يهدم الصنم الأصم: «يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد
أهانك» .