مجله البيان (صفحة 4730)

دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية

دراسات في الشريعة

دحض الشبهات

التي تثار حول العقوبات الشرعية

د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [*]

fawzan@yahoo.com

أولاً: الشبهات العامة:

* الشبهة الأولى: أن العقوبات الشرعية قديمة وجامدة:

قد عفّى عليها الزمان، وتجاوزتها الحضارة، ولم تعد ملائمة لهذا العصر:

عصر التقدم والمدنية، والتحضر التقني والصناعي. فالأخذ بها تقهقر بالإنسانية

الراقية، ورجعة بها إلى عهود الظلام الدامس، والقرون الوسطى. ولئن كانت هذه

العقوبات صالحة للبيئة البدوية التي نزل فيها القرآن، ومناسبة لأولئك الحفاة الجفاة

من الأعراب قبل ألف وأربعمائة عام؛ فإنها لا تصلح للعالم المتحضر الحديث، ولا

تناسب المتحضرين المتمدينين في القرن العشرين، وكيف يليق بهم أن يخضعوا

لقانون نشأ بين جبال مكة والمدينة، وجلاميد الصحراء، وأحراش الجزيرة [1] .

- دحض هذه الشبهة:

كل ما في هذه الشبهة أن العقوبات الشرعية قديمة، شُرعت لمجتمعات بدائية،

تختلف بطبيعتها وعاداتها عن المجتمعات العصرية المتحضرة، وهذا دليل على

عدم صلاحيتها للتطبيق في هذا العصر الذي بلغت فيه المدنية ذروتها.

وهذا قول متهافت ساقط من وجوه:

1 - أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت

فيه أو نُقلت منه، ولا بالبقعة التي جاءت منها أو كانت فيها. ولكن الميزان الذي

تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها. فالعاقل نصير الحق،

وناشد الحكمة أنى وجدها، ومن أي شخص جاء بها، وفي أي زمان أو مكان

وقعت فيه. وهو عدو الباطل، بصرف النظر عن مصدره وعن زمانه ومكانه،

ومن دعا إليه وعمل به.

وعليه؛ فليس كل قديم مردوداً، ولا كل جديد مقبولاً، ولا كل ما نشأ في

البادية فاسداً، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحاً [2] .

2 - أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض، ولا اجتهاداً بشرياً

قاصراً، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين: عربهم وعجمهم،

باديهم وحاضرهم، أولهم وآخرهم، [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:

107) ، [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] (سبأ: 28) ، [قُلْ يَا

أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً] (الأعراف: 158) [3] ، فهو لم ينبع من

أرض عربية أو أعجمية، ولا اخترعته أدمغة بشرية، وإنما هو حكم الله الذي

أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس، وليحملهم تبعة

تطبيقه والعمل به، [فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ] (يونس: 108) [4] .

3 - أن تعلق هؤلاء بالجديد ونبذهم للقديم؛ ليس مبنياً على منطق عقلي سليم،

وإنما هو استجابة لوهم من الأوهام النفسية التي تتعلق بالجديد أياً كان نوعه، ظناً

منها بأنه لا يزال يحتفظ بذخره ومكنون خيراته، وتعاف القديم مهما كان نوعه

أيضاً لتبرمها به وتوهمها بأن الزمن قد استحلب خيراته، وقضى على فوائده، وأن

العقل البشري لا بد أن يكون قد تجاوزه إلى ما هو أجدى وأنفع.

ولا يجوز لعاقل يحترم عقله أن يستجيب لهذه الإيحاءات النفسية الخاطئة،

ويلغي ما يقتضيه العقل السليم، والمنطق الصحيح.

ولئن كانت النفس البشرية تخيل لصاحبها أن القديم قد زال نفعه، وجنيت

ثماره، فإن العقل السديد يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره، وتحقيقه

للثمرة المرجوة منه. وربّ جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان، ورب قديم

شهد له العقلاء، والتاريخ الغابر، والواقع المعاصر، على أنه كان ولا يزال

مصدر خير وسعادة لكل من ظفر به.

ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا، من شمس وهواء،

وأرض وماء، وزرع وضرع؛ لم يُخْلِقْها تعاقب الزمان، وكَرُّ الليالي والأيام!

فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية

لقدمها؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها؟

والعقوبات المقدرة في الشريعة؛ إنما هي عقوبات على جرائم ثابتة لا يتبدل

وجه المفسدة فيها مهما اختلفت الأزمان والأماكن، وتطورت الحياة والنظم. ولهذا

فإنها لا تزال صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان [5] .

4 - أن هذه الشبهة جاءت من قياس العقوبات الشرعية على العقوبات

الوضعية التي تتطور مع الزمن، ويحصل فيها التغيير والتبديل بين الحين والحين،

تلافياً لما فيها من الأخطاء، وتحقيقاً لما هو أجدى وأكمل.

وما دامت القوانين تُلغى أو تُعدل؛ فلم لا نفعل مثل ذلك في العقوبات الشرعية؟

وهذه نظرة خاطئة إلى الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطأ فيها قياس شريعة

الله عز وجل العادلة المحكمة، على الاجتهادات البشرية القاصرة التي تتأثر بما

حولها من مؤثرات شخصية أو اجتماعية أو بيئية، أو غيرها [6] .

ولو سلمنا جدلاً: أنه ينبغي مسايرة التشريع للعصر؛ فما مقياس ذلك؟

إنْ كان يرجع إلى انتشار الفساد، وكثرة الإجرام، وتفشي الظلم والعدوان؛

فإن العقوبات في هذا الزمن يجب أن تزيد قسوة وشدة. وما كان يصلح لأولئك

الأعراب البسطاء ذوي الإمكانات المحدودة؛ فإنه لا يصلح لمجرمي العصر، حيث

الإجرام المنظم، وتوظيف التقنية الحديثة لخدمة محترفي الإجرام، والساعين في

الأرض بالفساد والظلم.

وإنْ كان المقياس هو التقدم العلمي والتقني، والتطور الصناعي والمدني؛

فإن الذي سنّ هذه العقوبات الشرعية هو الذي منح البشرية ما وصلت إليه من العلم

والتقدم، فلا يمكن أن تكون هذه العقول المخلوقة أعلم ممن خلقها، وأكثر منه إدراكاً

لمصالح البشرية وأسباب سعادتها وأمنها!! قال الله تعالى: [وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ

إِلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 85) ، وقال تعالى: [قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه] (البقرة:

140) .

وإنْ كان المقياس ضَعْفَ النفوس ورخاوتها، والرغبة في إطلاق العنان لها

للتمادي في الظلم والإجرام، من غير رادع ولا زاجر؛ فليس هذا بمقياس.

5 - أن تحقيق هذه العقوبات الشرعية للأمن، وحمايتها لمصالح الناس،

ومكافحتها للجرائم، على مدى القرون الماضية التي طبقت فيها، مع اختلاف

البيئات والثقافات والأجناس؛ دليل على أنها تشريع من حكيم خبير، وأنه لا يمكن

أن يقوم غيرها مقامها، ولا أن يحقق الثمرة التي تتحقق من خلالها.

* الشبهة الثانية: أن العقوبات الشرعية تتسم بالقسوة والهمجية التي تبعث على

الاشمئزاز:

ولا تتناسب وروح هذا العصر، وإنسانيته، وحمايته لحقوق الإنسان

وكرامته [7] .

- دحض هذه الشبهة:

وهذه شبهة داحضة من وجوه:

أولاً: أن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور، وإنما هي جزاء مقرر على

ارتكاب جريمة، يقصد به الإيلام والردع:

وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع. حتى

تأديب الرجل ولده؛ لا بد أن يكون فيه شيء من الإيلام والقسوة، ليتأتى تأديبه

وإصلاحه [8] .

وقديماً قال الشاعر الحكيم [9] :

فقسا ليزدجروا، ومَنْ يَكُ حازماً ... فليَقْسُ أحياناً على مَنْ يرحمُ

ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبداً، حتى لا توجد

عقوبات أصلاً؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه، وما عليه فيؤديه عن

طواعية واختيار. ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع

المعاش. فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها، ونفوس شريرة

ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم.

والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام، واحترام حقوق الآخرين،

وعدم المضارة بهم. فمن خرج عن هذا الالتزام، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره،

كان ردعه واجباً عقلاً وشرعاً، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام. واسم العقوبة مشتق من

العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف.

فعنصر القسوة - إذاً - يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة، فلو فُقدت القسوة

فُقدت معها العقوبة بدون شك.

ولكن ما هي الدرجة التي يجب أن تقف عندها قسوة العقوبة على جريمة ما؟

إن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها؛

أي أن القسوة يجب أن تكون ملائمة للجريمة، فتزيد بزيادة خطورتها وشدة آثارها،

وتنقص بنقص ذلك.

وهذه الحقيقة محل وفاق عند جميع المشتغلين بالتشريع والتقنين، مهما

اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب. وإن اختلاف القوانين العقابية الوضعية أكبر شاهد

على ذلك.

فإذا كان في الناس من يصف العقوبات الشرعية بقسوة زائدة على مقتضى

هذه القاعدة التي لا خلاف فيها؛ فسبب ذلك أنهم يخطئون في تقويم خطورة الجرائم

التي رتبت عليها هذه العقوبات، دون أن يعتبروا في ذلك نظرة المشرِّع لها،

وتقويمه لخطورتها.

والعجيب أن خصوم الشريعة الإسلامية يدركون هذه الحقيقة، ويفقهون هذا

المعنى، عندما يكون البحث متعلقاً بقانون من القوانين الوضعية.

فرُبَّ كلمة لا نرى بها بأساً، يتفوه بها فرد من رعايا دولة تطبق قانوناً

وضعياً؛ تواجهه بسببها عقوبة الإعدام.

ورُبَّ فاحشة عظمى يجب مكافحتها، تشيع بين رعايا تلك الدولة؛ فلا يؤبه

بها، ولا يلتفت إليها بأي نقد أو استنكار!!

وليس أيسر على خصوم الشريعة الإسلامية من أن يدافعوا عن كلا المذهبين؛

بأن كل أمة إنما تسن قوانينها حسب مبادئها وفلسفتها التي تنظر بها إلى الإنسان

والكون والحياة.

أفيحق لكل أمة أن تسن ما تشاء من قوانين الردع والزجر، حسب نظرتها

إلى الكون والإنسان والحياة - خطأً كانت النظرة أم صواباً -، ثم لا يحق لخالق

الكون والإنسان والحياة أن يشرع هو الآخر قوانين الردع والزجر بما يتفق مع

مقاصد شريعته، ويتسق مع نظام كونه، ويحقق مصالح عباده؟!! [10]

والحكمة في تغليظ العقوبات الشرعية التي توصف بالوحشية والهمجية، من

قتل القاتل، ورجم الزاني، وقطع السارق، وغيرها من العقوبات المقدرة؛ ظاهرة

جلية، فإن هذه الجرائم هي أمهات المفاسد، وكل واحدة منها تتضمن اعتداء على

واحدة أو أكثر من المصالح الخمس الكبرى، والتي أجمعت الشرائع والعقلاء في

كل زمان على وجوب حفظها وصيانتها؛ لأنها لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها.

ولأجل هذا كان المرتكب لشيء منها جديراً بأن تغلّظ عليه العقوبة، حتى

تكون زاجرة له، ورادعة لغيره.

وها هي ذي الجرائم الكبرى تعصف بكثير من الدول التي لا تطبق الشريعة

الإسلامية، مع كل ما توفر لها من إمكانيات وقدرات، وتقدم مادي وتقني، وأجهزة

أمنية وإدارية واستخبارية.

ثانياً: أن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم،

ونسوا مصلحة المجتمع، وأشفقوا على الجاني، وأهملوا الضحية، واستكثروا

العقوبة، وغفلوا عن قسوة الجريمة:

ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة، ولاحظوا الاثنتين معاً، لخرجوا موقنين

بالعدالة في العقوبات الشرعية، ومساواتها لجرائمها.

فإذا استحضرنا مثلاً فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام متخفياً، ينقب

الجدار، ويكسر القفل، ويُشهر السلاح، ويروّع الآمنين، هاتكاً حرمة البيوت،

وعازماً على قتل من يقاومه، وكثيراً ما تقع جريمة القتل كوسيلة يتذرع بها السارق

إلى إتمام سرقته، أو الفرار من تبعاتها فيقتل من غير تمييز.

وإذا تصورنا حالة النساء والأطفال في البيت وهم يستيقظون ويفتحون أعينهم

على وجه السارق المرعب الشرس، وهو شاهر سلاحه يهدد من يواجهه.

وتصورنا ما يُحدثه فعل السارق من قلق عند الناس جميعاً، وتعطيل لحركتهم،

وبث للرعب في نفوسهم، وإذهاب لطاقاتهم في حماية أموالهم، وتأمينها بالمغاليق

والأقفال؛ لأن السارق يبغي المال، وهو موجود عندهم جميعاً، فهم معرضون

لإجرامه دون تمييز.

لو تصورنا هذا أو بعضه مما يحدثه فعل السارق، ثم قارناه بقطع يده الآثمة

الظالمة؛ لما قلنا عن عقوبته: إنها قاسية ظالمة.

وهكذا الشأن في بقية العقوبات، علينا أن نستحضر جرائمها، وما فيها من

أخطار وأضرار، وظلم واعتداء، حتى نستيقن أن الله تعالى قد شرع لكل جريمة

ما يناسبها، وجعل الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد [11] .

ثالثاً: أن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين، ولن يتيسر لهم

ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم. وهذه سنة الله في خلقه:

فإن الإنسان إذا كان فيه عضو فاسد، لا علاج له إلا بقطعه كله أو بعضه،

فلا مناص من الإقدام على ذلك. وهذا الطبيب الذي يستأصل بمبضعه المرهف هذا

العضو الفاسد من جسم أخيه؛ أليس ضربه المبضع في لحمه، وقطعه الجزء الفاسد

من جسمه مظهراً من مظاهر القسوة؟!

ولكنها قسوة هي عين الحكمة والرحمة والمصلحة، وبخاصة إذا قيست بما

يترتب على تركها من هلاك وتلف، وما ينشأ عنها من آلام وأوجاع تفوق مصلحة

بقائها. والمجتمع هو الجسم كله، وما الفرد الفاسد إلا عضو من أعضائه [12] .

فهي تحفظ للمجتمع حقه، ولا تضحي به في سبيل الأفراد الخارجين عليه.

والعقوبة التي تحابي هؤلاء الأفراد على حساب الجماعة؛ إنما تضيع مصلحة الفرد

والجماعة معاً؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن، وانحلال المجتمع،

وإذا دبَّ الانحلال في مجتمع، فقل على الأفراد وعلى المجتمع العفاء [13] .

قال عز الدين بن عبد السلام: «وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر

بها أو تباح؛ لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي

المتآكلة، حفظاً للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد. وكذلك العقوبات

الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لأدائها إلى المصالح المقصودة من

شرعها، كقطع السارق، وقطّاع الطريق، وقتل الجناة، ورجم الزناة وجلدهم

وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب

عليها من المصالح الحقيقية» [14] .

رابعاً: أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين، ويقرر عليهم العقوبات

الرادعة؛ قد أعذر إليهم:

حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة

التي اقترفوها؛ لو كانت لهم قلوب تعقل، أو نفوس ترحم.

ثم إنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها

دون مسوّغ ولا شبهة اضطرار. فوقوعه فيها بعد كل هذا دليل على فساده وشذوذه،

واستحقاقه للعقوبات الرادعة المؤلمة.

فهو مثلاً لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير الوسائل التي تمنع من السرقة، فقد

عمل على توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وجعل في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للفقراء،

وأوجب النفقة على الزوج والأقارب، وأمر بإكرام الضيف والإحسان إلى الجار،

وجعل الدولة مسؤولة عن كفالة أفرادها بتوفير تمام الكفاية لهم في الحاجات

الضرورية من مطعم وملبس ومسكن وغيرها، بحيث يعيشون حياة لائقة كريمة.

كما أنها تكفل أفرادها بفتح أبواب العمل الكريم لمن يستطيعه، وتمكين كل قادر من

أن يعمل بمقدار طاقته، وتهيئة الفرص المتساوية للجميع.

وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة، فإن وقعت بعد ذلك؛ فإنه

يتحقق من ثبوتها، وانتفاء موانعها، وعدم وجود شبهة تسقطها، كأن يرتكبها بدافع

الحاجة والاضطرار [15] .

وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي، وعنف إلحاحه على البشر، ولكنه يعمل

على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع: طريق الزواج، فيدعو إلى الزواج

المبكر، ويعين العاجز عن تكاليفه المادية بوسائل كثيرة، من الزكاة والصدقات،

والنفقة، وبيت المال.

كما أنه يحرص على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء والإثارة التي

تؤجج الغريزة، وتحرك كوامن الشهوة.

كما أنه يأمر بغض البصر، وحفظ الفرج، والاستعفاف، ومجاهدة النفس

والتسامي بها.

ويحرص كذلك على شغل أوقات الفراغ، واستنفاد الطاقة الحيوية الفائضة

بالتقرب إلى الله، والمسارعة إلى الخير، وفعل كل ما من شأنه أن يحقق لصاحبه

النفع في الدنيا والآخرة.

وبذلك كله يمنع الدوافع التي تسوِّغ الجريمة.

ثم إذا وقعت فإنه يحتاط احتياطاً شديداً في إثباتها، فلا يقيمها إلا على من أقر

بها إقراراً صريحاً أربع مرات، وطلب تطهيره بالحد، ولم يتراجع عن إقراره

حتى تنفيذ الحد عليه، أو يكون قد تبجح بارتكابها، حتى ليراه أربعة شهود وهو

على هذه الحال.

وهكذا شأن الإسلام في بقية العقوبات، يعمل على وقاية المجتمع أولاً من

دوافع الجريمة، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط.

فليست العقوبة هي الوسيلة الأولى أو الوحيدة للإصلاح والتقويم، ولكن حين

يأتي دورها في التطبيق، فإنها تمثل مواجهة حاسمة للظاهرة الإجرامية.

فهل يبقى بعد ذلك مجال للطعن في عدالة هذه العقوبات ومناسبتها؟!! [16] .

خامساً: أن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع

وقوعها ابتداء، ولا يُحوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود:

فإن هؤلاء الذين يشنعون بهذه العقوبات يتصورون خطأً أنها كالعقوبات

الوضعية، ستطبق كل يوم، وعلى أعداد غفيرة من الناس، فيتصورون في

المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة: هذا يُجلد، وهذا يُقطع، وهذا يُرجم.

ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة؛ لا تكاد تنفذ إلا في نطاق محدود،

وعلى أعداد يسيرة غارقة في الفساد، ومتأصلة في الشر والإفساد، وفي إيذاء الأمة،

وزعزعة أمنها واستقرارها [17] .

وللدكتور محمد سعيد البوطي كلام قيم في هذا المعنى، أنقله مع طوله، حيث

يقول: «إن ادعاء القسوة والشدة في حدود الشريعة الإسلامية؛ مظهر من مظاهر

السطحية في فهمها، بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها. وإن كل دارس

للشريعة الإسلامية يدرك أن ما قد يبدو في حدودها من القسوة لا يعدو أن يكون

قسوة تلويح وتهديد. فهو أسلوب تربوي وقائي أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو

علاجاً بعد الوقوع. وهي بهذا تنطلق من أدق الأسس التربوية السليمة للمجتمع.

وتبرز هذه الحقيقة إذا لاحظنا الأمور التالية:

أولاً: لقد أعلنت الشريعة أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم. وهو إعلان

مخيف، وتلويح بسلاح رهيب ولا شك. ولكنها شرطت لإيقاع هذه العقوبة أحد

الشرطين: الاعتراف القاطع الصريح، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على

حقيقته.

فأما الإقرار: فشيء نادر لا يقام عليه أي اعتبار. وعندما يقع هذا الشيء

النادر؛ فإن على القاضي أن يبادر فيقطع سبيل الإقرار على الزاني قبل أن يتفوه

بالاعتراف القاطع الصريح، وأن ينصحه بالتوبة والستر.. وكلنا يذكر هدي رسول

الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

وأما الشهادة: فإن علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها؛ تنقلب

ردعاً للشاهد وزجراً له عن التفوه بالشهادة؛ كي يظل المتهم في حماية من الستر

ونجوة من العقاب.

وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة؛ يعدّون آثمين متلبسين

بجريمة القذف، وتغدو شهاداتهم سبباً لإنزال العقوبة عليهم بدلاً من أن تكون موجباً

لأخذ المتهم بجريمة الزنا.

فإذا ما تكامل الشهود أربعة؛ فإن العقوبة تتحول عندئذ إلى المشهود عليه،

حيث يستحق عقوبة الزنا ... فإنه لم يقترف جريمته هذه بحيث رآه متلبساً بها

أربعة من الرجال الثقات العدول، إلا وهو مستعلنٌ بعمله في الناس، مستهينٌ

بكرامة الأمة وسمعة المجتمع. وتصرف من هذا القبيل من شأنه أن ينشر وباء

الفاحشة فيه كما تنتشر النار في الهشيم.

لا جَرَمَ أن فاحشة تُرتكب بهذا الشكل تستدعي عقوبة صارمة، تحقق الغاية

المرجوّة منها، وهي العبرة والردع.

ثانياً: لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات، وهي قاعدة

فقهية كبرى، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء.

ومعنى القاعدة: أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمتهم،

أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة، يُسقط الحد ويلغي ثبوته. وعلى الحاكم أن

يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى.

وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى؛ وننظر؛

فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين، كما نجد لها

التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم.

فإذا ما ألغي الحد لشبهة؛ فإن الجاني لا يؤخذ عندئذٍ إلا بمسؤوليتين اثنتين:

أولاهما: التسوية الحقوقية؛ إذا كانت الجناية مما يستلزم ذلك، كالسرقة

وقطع الطريق، حيث يجب أن يغرم السارق ما قد سرقه.. وهو خطاب وضعي

يُواجه به حتى مَنْ لم يكن أهلاً للتكليف.

الثانية: عقوبة التعزير، ويتخير الحاكم نوعها وكيفيتها وكميتها حسب ما

تقضي به المصلحة، ويحقق الغاية من شرع العقوبات..

فتلك هي قصة القسوة التي ينعت بها بعض الناس حدود الشريعة الإسلامية.

وإنه لنعتٌ ظالم باطل، يندفع إليه من لا يريد لهذه الأمة أن ترقى إلى شيء من

الالتزام بمنهج الفضيلة والخلق الإنساني القويم. ويشفق على وباء الإباحية الذي

تسفيه علينا رياح الغرب والشرق؛ أن ينقطع سيله، أو تسكن ريحه.

وإنه لشيء مثير للعجب حقاً؛ أن يُضخم أناس من مظهر هذه القسوة الخيالية

التي عرفنا حقيقتها، في غيبوبة من التأمل العقلي، ثم لا يلتفتوا بأي نظرة إلى

النتائج الإنسانية الحميدة التي تنبسط في ساحة المجتمع كله لدى اتخاذ قرار جاد

بتطبيق هذه الحدود.

وأعجب من هذا أن يعبِّروا عن مشاعر الرحمة في نفوسهم، بصدد ما

يتخيلونه من قسوة الحدود، ثم لا يستشعروا أي رحمة بالمجتمعات التي تشيع فيها

القرصنة وينتشر الإجرام، وتزهق فيها الأرواح رخيصة طمعاً في تمزيق عِرْض

أو الوصول إلى مال!

ولَكَمْ سمعنا وقرأنا قصص أُسَرٍ طاف بها الموت في جوف الليالي خنقاً أو

تذبيحاً؛ ابتغاء اقتناص ثروة من المال!!

كل هذه الشراسة المتوحشة لا تحرك قلوب أولئك الذين يمثّلون الرحمة

والرحماء، حتى إذا ما أقبلت الشريعة الإسلامية تلوّح بعصا التأديب التي لا بديل

عنها لتقي المجتمع من هذه الفوضى والوحشية المرعبة، وتغرس في مكانهما

الأمن والنظام والرحمة؛ استشعَروا القسوة فجأة، وتذكروا الرحمة على حين

غرة!!» [18] .

* الشبهة الثالثة: أن العقوبات الشرعية تهمل شخصية المجرم وتأثير البيئة فيه:

فهي لا تتفق مع النظرية الحديثة في تحليل نفسية المجرم، وأنه مريض

النفس، منحرف المزاج، متأثر بما حوله، بل هو ضحية من ضحايا المجتمع،

والذي يعدّ مشتركاً معه لسبب أو لآخر فيما أقدم عليه، فكان من العدالة أن يتقاسم

معه المسؤولية، وأن يعمل على علاجه لا عقابه [19] .

- دحض هذه الشبهة:

وهذه أيضاً شبهة داحضة من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أن الظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه، والعقد

النفسية والأمراض العصبية تدفع أحياناً إلى الجريمة. ولكن الإنسان مع ذلك ليس

كائناً سلبياً بحتاً بإزاء هذه الظروف.

إن عيب المحللين النفسيين؛ أنهم - بطبيعة علمهم - ينظرون إلى الطاقة

المحركة في الإنسان، وإلى الغرائز الكامنة في ذاته، والتي تدفعه إلى إشباعها

والاستجابة لها، ولكنهم لا ينظرون إلى الطاقة الضابطة له، وإلى قدراته العقلية

التي كان من المفترض أن تعقله عن الإقدام على ارتكاب الجريمة، والاستجابة

المطلقة لهذه الغرائز الدافعة.

إنهم كما قال محمد قطب ينظرون إلى الطاقة المحركة، إلى (الدينامو) ، ولا

ينظرون إلى الطاقة الضابطة، إلى (الفرامل) ، مع أنها جزء أصيل من كيان

النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج.

إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سنٍّ

معينة حتى لو لم يدر به أحد؛ لهي ذاتها، أو شبيهة بها، الطاقة التي تضبط

انفعالاته وتصرفاته، فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة، أو وراء النزوة

الطارئة [20] .

ولأجل هذا أسقط الإسلام الحدود والقصاص عن الصبيان والمجانين، فلا تقام

إلا على من كان بالغاً عاقلاً [21] .

فما دام المجرم بالغاً عاقلاً مختاراً؛ فإن أحواله النفسية وبيئته وثقافته لا تصلح

مسوِّغاً لارتكاب الجرائم، والاعتداء على الآخرين.

كما أن هذه الأمور عائمة لا تقوم على أساس متين ولا يضبطها ضابط معين،

ولا حدود تنتهي إليها؛ مما يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب الرادع، ومن ثم

كثرة الجرائم، وانتشار الفوضى، وزعزعة الأمن والاستقرار [22] .

قال الشيخ أحمد محمد شاكر: «إن بعض النظريات الحديثة ترفّه عن المجرم

حتى يظن أنه موضع إكرام بما جَنَى، وتدّعي أن القصد من العقاب التربية

والتأديب فقط، وأنه لا يجوز أن يُقصد به إلى الانتقام، وتزعم أن الواجب درسُ

نفسية (الجاني) ، فتُلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة، وظروف الجريمة،

ومن نشأته وتربيته، ومن صحته ومرضه، وما يعتمل في جوانحه من عواطف

وشهوات، وما يحيط به من مغريات أو موبقات، إلى آخر ما هنالك.. ونسي

قائلوها أن يَدْرسُوا (المجني عليه) هذا الدرس الطريف، ليَروا أيّ ذنب اجترح

حتى يكون مهدداً في سرْبه، معتدىً عليه في مأمنه من حيث لا يشعر!!

ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية: أمَن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيّته

وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً، لا ينزع إلى الشر، فكان مجنياً عليه، أمّن كان على

الضد من ذلك، فكان جانياً؟!

إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،

ويعلم ما يصلح الفرد، وما يصلح الأمة، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً

ونكالاً، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل» [23] .

الوجه الثاني: أن الشريعة الإسلامية إذْ ترسم أحكامها لمعاقبة الجانحين

والمجرمين؛ لا تنطلق في ذلك من حصر المسؤولية فيهم، وتحميلهم وحدهم عاقبة

ما أقدموا عليه، بل هي تجعل المجتمع مسؤولاً في بعض الحالات عن هذه الجرائم

التي ارتكبوها، وقاعدة درء الحدود بالشبهات أبلغ تجسيد لهذه الحقيقة، وأوضح

برهان عليها [24] .

الوجه الثالث: أن رغبة المعترضين في جعل العقاب كالعلاج للمريض؛

متحققة في العقوبات الشرعية التي هي مبنية على أساس الرحمة بالمجرم والمجتمع.

ولكن هؤلاء فاتهم أن العلاج لا يُشترط فيه أن يكون لذيذاً تشتهيه النفس، فقد

يكون كريهاً مرّاً، وقد يتضمن إسالة الدماء وقطع الأعضاء، وهو في جميع هذه

الصور يبقى علاجاً موصوفاً بالرحمة في حق المريض، خالياً من الانتقام منه.

كما فات هؤلاء أن العقوبات شُرعت لوقاية المجتمع وتطهيره من جراثيم

الأمراض، والأعضاء الفاسدة التي سرت فيها الأمراض المزمنة والمعدية، وغفلوا

أو نسوا أن التغاضي عن هذه الأعضاء الفاسدة، والتسامح معها، رغبة في

صلاحها وصحتها، سينتج عنه تفاقم المرض واستفحاله، وانتشاره في سائر الجسم،

فلم يستصح العضو ولم يسلم الجسم.

وهذا هو الشأن في العقوبات، فقد شُرعت لتكون علاجاً لمن لا يجدي معهم

علاج الوعظ والتذكير والإنذار [25] .

ثانياً: الشبهات الخاصة:

* الشبهة الأولى: حول حد الزنا:

يقولون: إن الزنا برضا الطرفين حرية شخصية، وإقامة الحد في هذه الحال

مصادرة لهذ الحرية التي يجب أن تصان، كما أن حد الزنا فيه إهدار لآدمية المجرم،

وإيذاء له لم يعد مقبولاً في العصر الحديث [26] .

- دحض هذه الشبهة:

أما الاحتجاج بالحرية الشخصية إذا وقع الزنا برضا الطرفين، فإنه قول

متهافت مردود؛ لأن الإنسان ليس حراً في فعل ما يضره، أو يضر غيره. فله

مطلق الحرية، إلا فيما يعود عليه أو على غيره بالضرر.

وقد ثبت بالشرع والعقل والحس أن الزنا شر سبيل، وأن له أضراراً كثيرة

على الزانيَيْن، وعلى أسرتَيْهما، وعلى مجتمعهما.

وعليه؛ فإن وقوع الزنا بالتراضي لا يبيح الزنا، ولا يزيل أضراره وآثاره

السيئة. فوجب معاقبة فاعله والأخذ على يده [27] .

وأما القول بقسوة هذه العقوبة، وإهدارها لآدمية الزاني بجلده أو رجمه؛

فالجواب عنه: أن الزاني هو الذي أهان نفسه وعرضها للإذلال والإهدار، فإنه لو

لم يفعل هذه الفاحشة المنكرة لبقي محترماً موفور الكرامة، حرمته مصونة، ونفسه

معصومة [28] .

وأما اتهام هذه العقوبة بالقسوة والشدة، فقد تقدم الجواب عنه قريباً.

* الشبهة الثانية: حول حد الردة:

قالوا: إن هذه العقوبة القاسية مصادمة لمبدأ عدم الإكراه في الدين، والذي

قرره الله في أكثر من آية في كتابه، كقوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ

الرُّشْدُ مِنَ الغَي] (البقرة: 256) ، وقوله: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي

الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (يونس: 99) .

وهي كذلك مصادمة للحرية الشخصية في اختيار الدين الذي يراه الإنسان [29] ، كما

أنها سبب لانتشار النفاق في صفوف المسلمين [30] .

- دحض هذه الشبهة:

أما قولهم: إن حد الردة مصادم لما قرره القرآن من مبدأ عدم الإكراه في الدين.

فإنه غير صحيح؛ لأن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول

في الإسلام ابتداءً، فالإسلام يريد ممن يدخل فيه أن يدخله عن قناعة ورغبة

واختيار، وإدراك لحقائقه وميزاته، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وجعله

مهيمناً على الأديان كلها، ولن يقبل من أحد ديناً سواه. فإذا دخل فيه كذلك، فليس

له من بعد أن ينكص عنه، ويشتري الضلالة بالهدى، ويستبدل الذي هو أدنى

بالذي هو خير؛ إذْ ماذا بعد الحق إلا الضلال؟ [31]

وإن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان، وعاش في ظلاله الوارفة؛ لا يمكن أن

يرتد عنه، وينكص على عقبيه، إلا إذا غلب عليه هواه، وفسد فساداً لا يرجى له

بعده صلاحٌ أبداً.

ومن كان هذا حاله، فجدير به أن يُقتل ويُستأصل.

وأما قولهم: إنها مصادمة للحرية الشخصية في التدين بما يراه الإنسان.

فالجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أن الحرية الشخصية مقيدة كما سبق بعدم الإضرار بالنفس أو

بالغير، والردة تلحق بصاحبها وبالمجتمع المسلم أشد الضرر وأبلغه.

فبالردة يحبط عمل المرتد، ويخسر الدنيا والآخرة. وبها يحصل العدوان على

الدين، والطعن في عقيدة الأمة ونظامها الذي تقوم عليه جميع شؤونها.

الوجه الثاني: أن عقوبة الردة لا تتنافى مع الحرية الشخصية في اختيار

العقيدة التي يرتضيها الإنسان؛ لأن حرية العقيدة توجب أن يكون الإنسان مؤمناً بما

يقول ويفعل. وبأن يكون له منطق سليم في انتقاله من عقيدة إلى أخرى، وإعلانه

ذلك أمام الناس.

ومن أين يكون المنطق والعقل السليم، لمن يخرج من ديانة التوحيد إلى

الوثنية؟ ومَنْ ذا الذي يخرج من دينٍ كلّ ما فيه موافق للفطرة والعقل المستقيم،

إلى دين مناقض للعدل والمصلحة، ولا يستطيع العقل تسويغ ما فيه؟

لا يفعل ذلك أحد، وهو ذو حرية فكرية حقيقية، إنما يخرج من هذا الدين

القويم اتباعاً للهوى، أو جنوحاً إلى المادة يطلبها، أو كيداً للإسلام وطعناً فيه. فإذا

حارب الإسلام اتخاذ الأديان هزواً ولعباً وتضليلاً وعبثاً؛ فإنما يفعل ذلك لحماية

الفكر والرأي من هؤلاء العابثين والمخربين. وليست الحرية في أي باب من

أبوابها انطلاقاً عابثاً لا يعرف حدوداً أو حقوقاً؛ إنما هي اختيار مبني على حسن

الإدراك وتبين الحقائق [32] .

وأما قولهم: إن عقوبة الردة تؤدي إلى انتشار النفاق في صفوف المسلمين؛

لأن المرتد إذا علم أنه سيقتل أخفى على الناس كفره، وأظهر ما ليس في قلبه.

والحقيقة غير هذا، فإن عقوبة المرتد من أكبر العوامل المانعة من النفاق؛

ذلك أن مَنْ يكثر منهم الارتداد هم الدخلاء على الإسلام لهوى أو طمع دنيوي، أو

رغبة في التجسس على المسلمين وكشف عوراتهم من الداخل، فهم لم يدخلوه عن

رغبة واقتناع، وإنما دخلوه لتحقيق حاجة في نفوسهم، فهم منافقون منذ دخولهم فيه،

عازمون على الارتداد عنه عند قضاء حاجتهم.

فإذا علموا أن الموت ينتظرهم إذا ارتدوا؛ امتنعوا من الدخول في الإسلام

ابتداء، وبهذا ندرك أن في عقوبة الردة قطعاً لرقاب المنافقين، وليس فيها زيادة

لعددهم [33] .

* الشبهة الثالثة: حول حد السرقة والحرابة:

قالوا: إن العقوبة بتقطيع الأطراف فيها إضرار بالمجتمع، وذلك بإشاعة

البطالة فيه، وتعطيل بعض الطاقات البشرية التي كانت تسهم في العمل والإنتاج،

وتكثير المشوهين والمقطعين الذين أصبحوا عالة على المجتمع بسبب عجزهم عن

الكسب والإنفاق، فيجب أن يستعاض عن هذه العقوبة بالحبس مع التربية والتوجيه

[34] .

- دحض هذه الشبهة:

هكذا يزعمون!! وهو زعم ينقصه الإنصاف والنظر الصحيح، بل هو

مغالطة صريحة وقلب للحقائق.

ذلك أن ترك السرّاق والمحاربين دون عقوبة رادعة؛ يجعلهم يعيثون في

الأرض فساداً، ويهددون أمن المجتمع، ويهتكون الحرمات، ويقطعون على الناس

سبل العيش والكسب، ويعطلون مصالحهم، ويخيفونهم في مأمنهم، ويفجعون

النساء والأطفال في مساكنهم، ويسرقون جهود الآخرين، ويستبيحون أموالهم بغير

حق.

كما أن ذلك يدعوهم إلى البطالة والقعود عن العمل والكسب المشروع؛ لأنهم

يستطيعون تحصيل ما يريدون عن طريق السرقة وقطع الطريق.

كما أن العاملين المجتهدين في تحصيل الأموال بالسبل المشروعة سينقبضون

عن العمل، وينتظمون في سلك الكسالى العاطلين؛ ما دامت أموالهم مهددة

بالاستلاب والضياع، فتتعطل الأعمال، وتفسد الأحوال، ويقعد الناس عن التكسب

وجمع المال.

ومعنى ذلك أن السارق لا يسرق المال فقط، وإنما يسرق معه أمن المجتمع

واستقراره وطمأنينته، فكان في التساهل مع هؤلاء السراق خراب العمران، وشل

قدرات الإنسان، واستنفاد طاقته ووقته وجهده في حفظ ماله وحمايته.

كما أن السرقة تتبعها - في الغالب - أقسى الجرائم المباشرة من القتل

والجرح، وانتهاك الأعراض، وهتك حرمات البيوت، وغيرها. وإن السراق

يتسلحون دائماً خشية الظفر بهم فيدافعون عن أنفسهم، أو لقتل وجرح من يقف في

طريقهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مرادهم، أو يخشون منه أن يكشفهم ويعلن

عنهم. ولا يكاد يمر يوم في المدن الكبرى من غير ارتكاب جريمة قتل لأجل

السرقة.

وقد سبق الكلام مفصلاً عن هذه الأضرار وغيرها حين الكلام عن الحكمة من

مشروعية حد السرقة وحد الحرابة [35] .

فقطع طرف واحد، كما أنه تنكيل بالمجرم وزجر له، فإنه يؤدي إلى زجر

الجناة من أمثاله، وحفظ مئات الأرواح، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة، عاملة

منتجة [36] .

وأما دعوتهم إلى الاستعاضة عن القطع بالحبس - كما هو الحال في القوانين

الوضعية - فقد شهد واقع الدول التي تطبق عقوبة الحبس على إخفاق هذه العقوبة

في ردع المجرمين واستصلاحهم.

وإن الطواف على السجون وعدّ نزلائها يرينا أنهم في ازدياد دائم وتفاقم

مستمر، فما ردعت السجون عن الجريمة إلا قليلاً [37] ، بل أصبح السجن مدرسة

يتعلم فيها المجرمون كثيراً من فنون السرقة وأساليبها الخفية، ثم يخرجون بعد ذلك

أكثر خطورة وخبرة وإقداماً، فصار السجن محضناً للإفساد وتلقين أساليب الإجرام،

وكسب متعاونين جدد من حدثاء العهد بالجريمة، بل لقد جعلوا من السجن ساحة

ممهدة لرسم الخطط، وتقاسم المهمات، يشاركهم إخوان لهم في الإجرام خارج

القضبان.

أضف إلى ذلك ما يخلق لديهم السجن من شعور بالعداء ورغبة في الانتقام

للنفس، وإثبات الذات [38] .

كما أن السجن يؤدي إلى تحطيم الطاقات القادرة على العمل، وقتل الشعور

بالمسؤولية في نفس المجرم تجاه ذاته وأسرته، ويحبب إليه القعود والكسل. حيث

ينعم بتوفير وسائل الراحة والترفيه له، وتقديم الغذاء والكساء والدواء له مجاناً طيلة

بقائه في السجن.

ولربما رغب في البقاء بالسجن طلباً لذلك الذي قد لا يحصله خارج السجن،

وقد يعاود الجريمة بعد خروجه منه من أجل العودة إليه، والتنعم بما فيه، وضمان

لقمة العيش بين جدرانه.

هذا فضلاً عما تخسره الدولة في الإنفاق على هؤلاء المساجين، وحراستهم

والقيام عليهم، وما تخسره من تضييع جهودهم، وهدر طاقاتهم، وحبسهم عن

العمل والكسب.

وفضلاً عما ينتج من سجنهم من عزلهم عن بيوتهم وزوجاتهم وأولادهم،

وتعريضهم للحاجة والضياع.

أضف إلى ذلك كله أن حبس المساجين عن مزاولة نشاطهم، وحرمانهم من

الاتصال بزوجاتهم، وجمعهم في مكان واحد قد لا تتوفر فيه المواصفات الصحية

الكاملة في أغلب الأحيان سبب مباشر لانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بينهم،

وانتشار كثير من الأمراض فيهم، وانتقال العدوى من بعضهم لبعض.

هذه بعض عيوب العقوبة بالحبس، والتي ينادون بتطبيقها بدلاً عن العقوبة

الشرعية [39] .

والفرق الأساسي بين هذه العقوبة الوضعية وبين العقوبة الشرعية، وسبب

نجاح هذه دون تلك: هو أن العقوبة الشرعية قد وُضعت على أساس من طبيعة

الإنسان، وعِلْمٍ بما يزجره ويردعه.

فإن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يريد منها تكثير ماله، وزيادة كسبه

بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من

طريق الحرام وسرقة جهود الآخرين وثمرة أتعابهم.

وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح من عناء

الكد والعمل. فهذا هو الدافع الذي يدفعه إلى السرقة.

وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن

قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب؛ إذْ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً

كان. ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على

الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل، والتخوف الشديد على

المستقبل.

كما أن قطع يده أو رجله فيه فضحٌ له وتشهير به، وقطع للثقة فيه، بخلاف

ما كان يقصده بسرقته من الظهور والتباهي.

فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع؛ دفعت العوامل النفسية التي تدعو

لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة، تصرف عن ارتكابها.

فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة، كان في

العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلّب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود إلى

الجريمة مرة ثانية [40] .

وأما عقوبة الحبس؛ فإنها لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي

تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل

والكسب إلا مدة الحبس. وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو ملبى الطلبات

مكفيّ الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب، وكان لديه

أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على

السواء؛ لأنه لم يخسر شيئاً يحد من كسبه، ويفقده ثقة الناس به.

ولكنه إذا قطعت يده نقصت قدرته على الكسب نقصاً كبيراً، ولن يستطيع أن

يخدع الناس ويحملهم على الثقة به والتعاون معه وهو يحمل أثر الجريمة في جسمه،

وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه.

فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت

العقوبة القطع، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس.

وفي طبيعة الناس كلهم، لا السارق وحده، أن لا يتأخروا عن عمل يرجح

فيه جانب المنفعة، وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة [41] .

كما أن عقوبة السجن فيها إخفاء للجريمة، وستر على المجرم، فتُنسى

جريمته، ويخرج من السجن وكأنه لم يقترف ذنباً، ولم يرتكب جرماً. أما تطبيق

الحد الشرعي فإنه بمثابة إعلان بالخط العريض، يحمله المجرم حيثما كان، معلناً

دناءته وخسته، وقبح فعله، وسوء عاقبته، فيرتدع بذلك كل من رآه أو سمع به،

فتنقطع جذور البلاء، وينقمع المجرمون وأهل المطامع والأهواء. ذلك هو الأساس

الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية، وهو السر في نجاح هذه

العقوبة في الحد من السرقة أو القضاء عليها في البلاد التي طُبّقت فيها قديماً وحديثاً.

لقد كانت الجزيرة العربية قبل تحكيم الشريعة فيها من أسوأ بلاد العالم أمناً،

فكان المسافر إليها وكذلك المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل

أو نهار، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان كثير من السكان لصوصاً

وقطاع طرق، ديدنهم السلب والنهب، والغارات والثارات.

فلما طُبّقت الحدود أصبحت الجزيرة خير بلاد العالم كله أمناً واستقراراً، يأمن

فيها المسافر والمقيم، حتى إنه لتترك الأموال على الطرقات دون حراسة، فلا تجد

من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق، وتترك المتاجر مفتوحة أوقات

الصلوات مدة غير قليلة، والمعروضات في متناول اليد، فلا يمسها أحد، ويأخذ

أصحاب الأموال ودائعهم من البنوك مهما كثرت غير متحرجين أو خائفين،

فيذهبون بها إلى حيث أرادوا وهم آمنون مطمئنون [42] .

فقد أقامت هذه العقوبة الشرعية أعراب البادية الذين هم أجرأ من العقبان،

أقامتهم على سواء السبيل، فلا تمتد يد أحد منهم إلى ما ليس له، ولو كان في

معرض ناظرَيْه ومتناول يدَيْه.

وننظر في المجتمعات الغربية وغيرها من الدول التي تطبق القوانين الجاهلية،

ممن يرمون حد السرقة بهذه التهمة، وكيف يعيش الناس هناك في فزع دائم،

وخوف مستمر من سطو اللصوص عليهم، واعتدائهم على أموالهم وأنفسهم، في

الطرقات والمنازل والمصارف والمتاجر وغيرها، جهاراً نهاراً، يأخذون ما تصل

إليه أيديهم، دون خوف من رادع يردعهم، أو عقوبة تنزل بهم، اللهم إلا عقوبة

السجن التي يجدون فيها كل ما يشتهون.

ولو أنه أقيم عليهم الحد الشرعي للسرقة؛ لتفيأ الناس ظلال الأمن والسكينة،

واطمأنوا على أموالهم ومصالحهم، ولما رأوا أكثر من يد أو بضعة أيد تقطع خلال

عام أو أكثر [43] .

وكونها تشوه أو تعطل هذه القلة القليلة من المجرمين؛ فإن هذا هو فعلهم

بأنفسهم، وهو جزاء ما اقترفته أيديهم من ظلم وإجرام. وهو أمر لا بد منه لحماية

أمن الجماعة، وتحقيق الطمأنينة للكافة.

فهم حينما يقطعون يداً واحدة خائنة؛ يحفظون نفوساً كثيرة، ويصونون أيدياً

أمينة عاملة لا تُعد ولا تُحصى.

ويا ليت الناس يوازنون بين عدد المشوهين والمجروحين والمقتولين الذين

جنت عليهم جرأة اللصوص والمجرمين، وبين من يُقطعون لكف عدوانهم، وقطع

شرهم عن أنفسهم ومجتمعاتهم، حتى يدركوا أن إقامة الحد الشرعي تأمين للمجتمع،

وتحصين لمصالح الناس، وتوفير للطاقات العاملة، والقوى البشرية المنتجة [44] .

وصدق الله عز وجل حيث يقول: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ

اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) .

قال الشيخ أحمد محمد شاكر مخاطباً رجال القانون في مصر، وهو يقارن بين

أثر العقوبة الوضعية والشرعية لجريمة السرقة: «وهذه جرائم السرقة، ليست بي

حاجة أن أفصّل لكم ما جنت كثرتُها على الأمة وعلى الأمن، وها أنتم أولاء

تسمعون حوادثها وفظائعها، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم، وترون السجون قد

ملئت بأكابر المجرمين العائدين، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين، ثم كلما زادوهم

سجناً زادوا طغياناً. ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وحدّوا السارق بما

حكم الله به عليه؛ لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة. ثم لو وقع

كان فاكهةً يتندّر الناس بها؛ ذلك أن عقوبة الله حاسمة، لا يحاول اللصّ معها أن

يختبر ذكاءه وفنّه. نعم أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب

مبادئ التشريع الحديث! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول: ألا

سحقاً لهذا التشريع الحديث! أفَنَدَع الألوف من المجرمين يروّعون الآمنين، لا

يرهبون قوياً، ولا يرحمون ضعيفاً، في سبيل حماية يدٍ أو يدَيْن تقطعان في كل

عام، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام؟! [45] وأنتم ترون أنه قد تزهق عشراتٌ

من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع؛ بحجة

المحافظة على الأمن والنظام. لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما

تسجنون. فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب، وقد كان مجرموهم قُساةً لا

يحصيهم العد، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم، فما هو إلا

أن جاءت الدولة الحاضرة، واتّبعت شرع الله وأقامت حدوده، حتى استتب الأمن،

ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج» [46] .

* الشبهة الرابعة: حول عقوبة القصاص:

قالوا: إن القصاص عقوبة قاسية لا تراعي شخصية المجرم وظروفه ودوافعه،

كما أن جعل القصاص حقاً لأولياء القتيل؛ فيه تغليب لجانب الانتقام، واعتباره

أساساً للعقاب، وهذا من الهمجية الأولى، ولا يتفق مع التحضر والمدنية، واعتبار

العقاب تهذيباً واستصلاحاً.

- دحض هذه الشبهة:

أما أن القصاص عقوبة قاسية فهذا حق، ولكنها هي مقتضى العدل والإنصاف؛

لأن القصاص يفعل بالجاني مثل فعله بالمجني عليه، فهو جارٍ على سنن المساواة

بين الجريمة والعقوبة مساواة دقيقة، ولا ظلم في القصاص، بل الظلم أن يُترك

الجاني من غير قصاص.

وأما إهمال شخصية المجرم، فقد ذكرت فيما سبق أن الشريعة تراعي

شخصية المجرم بالقدر الذي تستلزمه هذه الرعاية، فلا تقيم القصاص إلا على من

كان عامداً عاقلاً بالغاً. فإن كانت الجناية خطأً أو شبه عمد، فلا قصاص، وإن

كان الجاني صغيراً أو مجنوناً، فعمده خطأ، ولا قصاص عليه أيضاً.

أما تجاوز هذه الحدود بحجة ملاحظة نفسية المجرم وميوله وتربيته؛ فإن ذلك

من شأنه أن يوقع في متاهات الأهواء، ويجعل أحكام القصاص مضطربة قلقة،

ويؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب، وانتشار الجريمة وعدم السيطرة عليها.

وأما اعتبار القصاص من حق المجني عليه أو أوليائه، لا من حق المجتمع،

فإن هذا من حسنات تشريع هذه العقوبة، لا من مثالبها؛ لأن الجريمة تمس المجني

عليه وأهله مباشرة، فهم الذين اكتووا بنارها، وتلوعوا بما وقع على قريبهم. أما

تضرر المجتمع فيأتي بصورة غير مباشرة. فكان من العدل والحكمة شفاء غيظ

المجني عليه خاصة، وإطفاء نار الغضب في نفسه بتمكينه من القصاص إن أحب

أو الدية أو العفو المطلق.

ولا شك أن العناية بشفاء غيظ المجني عليه وتمكينه من الجاني عليه، يقتل

في نفسه الرغبة في الثأر والانتقام، ويمنعه من الإسراف في القتل والاعتداء [47] .

وإذا عفا المجني عليه أو وليه عن الجاني؛ فللقاضي أن يعاقبه بعقوبة

تعزيرية تتناسب مع جرمه وحاله حفظاً للنظام العام، وحماية لحق المجتمع. ويتأكد

ذلك إذا كان هذا الجاني معروفاً بالشر والفساد [48] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015