مجله البيان (صفحة 4728)

الافتتاحية

دعوة للجهاد في شهر الجهاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فلقد أمر الله عز وجل الإنسان بأن ينهى نفسه عن هواها، وفرض عليه

مجاهدتها في ذلك؛ حتى يملك زمامها ويحررها من عدوها الرجيم المتربص بها.

كيف نحقق هذه الفريضة الصعبة في هذا الزمن الصعب؛ فريضة المجاهدة

للنفس والهوى والشيطان، تلك التي لا يمكن بدونها أن نواجه عدواً أو نجابه تحدياً؟

إنها فريضة دائمة، تستمد حياة المسلم قيمتها من استمرارها وتجديدها، إلا أن

النفوس تضعف، والعادات تتحكم، فنترك النفس لهواها، ونهملها في استقامتها

وتقواها. وتكاد تنحرف بنا عوائد الإلف والعادة عن سواء الجادة إذا لم نقوِّم المسيرة

ونجدد الهمم.

وهناك - من فضل الله علينا - محطات زمنية، لا بد من اغتنام فرصتها

واهتبال سوانحها؛ لتكون بداية لعودة جديدة يُصحح بها المسار، ويُعاد فيها التقويم.

وليس مثل شهر رمضان، بحرمته الزمنية وهيبته الكونية والدينية، مناسبة أعظم

للوقوف مع النفس مثل تلك الوقفات.

المشكلة أن الصوارف والشواغل والملهيات والفتن أصبحت في عصرنا تمثل

تحدياً آخر مضافاً لتحديات النفس والهوى والشياطين بإنسها وجنِّها، فماذا يفعل

المسلم الغريب في عصر الغربة هذا؛ وهو يتطلع إلى تجاوز اختبار الدنيا بنجاح

يضمن له النجاة ولو مجرد النجاة في الآخرة؟! ماذا يفعل وهو يرى الفتن تهيج في

الأرض وتموج في الفضاء، فتمطر قطرها وتطيِّر شررها خلال الديار؟ ماذا يفعل

وهو يراها تجيء فيرقق بعضها بعضاً، وتهجم فيسبق بعضها بعضاً؟!

لا يوجد حل سحري إلا العودة على النفس باللوم والتقويم، والعودة عن الهوى

بالاستقامة والحزم، والعودة بالنفس إلى الجادة والصواب.. لا أمل إلا في الفرار

إلى الله من غضب الله، والاحتماء بحصن حمايته ومحبته من تلك الفتن الهيجاء.

لا نظن أن عصراً مرَّ على الدنيا؛ يحتاج فيه المؤمنون إلى مجاهدة النفس بل

محاربتها مثل هذا العصر، حتى تستقيم على الطريقة، وتنجو من غوائل الفتن،

إنه هَمٌّ حقيقي.. إذا لم يكن الصالحون العاملون هم حملته فمن يحمله؟! وإذا لم تكن

منهم طائفة تقية نقية تكافح الفساد وتنافح عن الإصلاح، فتستدفع النقم وتستجلب

الرحمة وتستنزل النصر؛ فمن أين يجيء النصر وتتنزل الرحمة؟! [فَلَوْلاَ كَانَ

مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا

مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ] (هود: 116) .

نعم! إنها البقية، فما يبقى بعد ذهاب البقية؟ يقول ابن كثير - رحمه الله -

في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل

الخير ينهون عما يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض. [إِلاَّ

قَلِيلاً] ؛ أي قد وُجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً، وهم الذين

أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته. ولهذا أمر الله هذه الأمّة الشريفة أن يكون

فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ

إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل

عمران: 104) ، وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن

يعمهم الله بعقاب» [1] ) [2] .

وحتى لا يعم العقاب الصالحين مع الطالحين؛ لا بد أن يكون لصلاح بقية

الصالحين أثر، وأن يكون له وجود حاضر، يقيم الحجة ويدفع العقوبة.. ولو عن

الصالحين وأهليهم وذرياتهم. والمشكلة لم تعد اليوم فيمن يأمر وينهى غيره، بل

فيمن يأمر وينهى نفسه فيكون مؤهلاً بذلك لأن يأمر وينهى غيره.

* من أين نبدأ؟

من المجاهدة.. مجاهدة النفس.. مجاهدة الهوى.. مجاهدة الشيطان، وكل

ذلك يتيسر السير فيه في رمضان الذي يُظلُّنا شهراً من كل عام؛ لتتأهل النفوس

الطيبة بعده لجهاد أكبر، تتضاعف دواعيه كل يوم في ديار المسلمين. إننا نحن

الإسلاميين لا يمكن أن نتأهل لمرتبة التغيير فيما حولنا إلا إذا كنا قابلين للتغيير، بل

مقبلين على التغيير في ذواتنا، والله تعالى يقول: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى

يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) ، ولن تتغير أنفسنا حتى نُؤْثر محبة الله على

جميع المحاب، وبخاصة عندما تنازعنا وتراودنا هذه المحاب عن محبة الله

عز وجل. يقول ابن القيم - رحمه الله - وهو يعدد مؤهلات الصالحين لنيل محبة

الله: (السبب الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى

محابه وإن صعب المرتقى) [3] .

عبارة قليلة المبنى عظيمة المعنى، تستحق لقيمتها أن ندعو ابن القيم نفسه أن

يشرحها لنا.

يقول - رحمه الله - عند كلامه على منزلة (الإيثار) من كتابه (مدارج

السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين) ؛ شارحاً الدرجة الثانية من درجات

منزلة الإيثار، وهي: (إيثار رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن،

وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطَوْل والبدن) : (إيثار رضا الله عز وجل على

غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء،

وأعلاها للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها

لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله،

واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من

كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم، بل كان همه وعزمه وسعيه كله

مقصوراً على إيثار مرضاة الله، وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه،

حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمته على

المؤمنين، فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده،

وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال،

صلوات الله وسلامه عليه) [4] .

ويتبين من خلال كلمة ابن القيم هذه أن منزلة إيثار محاب الله على محاب

غيره تتجلى آثارها في أمور ثلاثة؛ من خلالها يتسنم العبد محاب الله فيكون قادراً

على تغيير نفسه، ومن ثَمَّ يساهم في تغيير ما حوله، وهي: قهر هوى النفس،

ومخالفة هوى الناس، ومجاهدة الشيطان وأوليائه.

أولاً: قهر هوى النفس:

فلا يستطيع التسنم والصعود إلى محاب الله إلا من تروَّض على قهر الهوى

الممنوع، قال محمد بن عبد القوي المرداوي في منظومته المسماة (منظومة

الآداب) :

وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها ... وفي نيلها ما تشتهي ذلٌّ سرمدي [5]

والهوى المذموم هو الميل إلى كل باطل ومحرم، وإليه تنصرف كلمة

(الهوى) عند الإطلاق، وإنما سُمِّي الهوى بذلك لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى

كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية [6] .

قال الشيخ محمد الإسفرائيني في شرحه لذلك البيت من منظومة الآداب: (لا

شك أن في مخالفة النفوس لهواها اعتزازها وقوتها ومنعتها من الشيطان وجنوده،

وعدم ذلها، فلما قمع هوى نفسه بمقمعة المتابعة، وضربها بسياط الاقتداء،

وصرفها بزمام التقوى؛ حصل لها العز والامتناع والقوة والارتفاع؛ بحسن الاتباع

ومخالفة الابتداع) [7] .

إن الهوى المراد قهره هو الهوى المحرم، أو الموصل إلى المحرم، فالمرء

قد يهوى شيئاً مباحاً، وهذا لا يضره إلا إذا شغله عن الطاعات الواجبة. ومع هذا

فإطلاق العنان للهوى المباح قد يصرف القلب ويميل به إلى غير المباح، تماماً كما

يحدث عند عدم كبح الشهوة أو كبح الغضب، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه

الله -: (لما كان الغالب ممن يطيع هواه وشهوته وغضبه أن لا يقف فيه

عند حد المنتفع به؛ أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم الضرر؛ لأنه يندر

مَنْ يقصد العدل في ذلك ويقف عنده ... فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه

إلا ذمه، وكذلك في السنّة لم يجئ إلا مذموماً، إلا ما جاء منه مقيداً ... وقد قيل:

الهوى كمين لا يُؤَمن، ومطلِقُه يدعو اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، ويحث

على نيل الشهوات عاجلاً أيضاً. فالهوى والنفس والشيطان والدنيا يدعون إلى ما

فيه البوار، ويُعمين البصيرة عن النظر في العواقب وما يُغضب الجبار.

والدين والمروءة والروح ينهين عن لذة تعقب ألماً، وشهوة تورث ندماً) [8] .

أمّا لماذا كان إيثار محاب الله بمخالفة الهوى من أعظم موجبات مرضاة الله،

وأظهر الأدلة على تغيير ما في النفس؛ فذلك لأن الإنسان عند غلبات الهوى يكون

بين اختيار واختيار، بين أن يختار ما يرضي الله من الأعمال والأقوال في السر

والعلن، أو ما يرضي النفس ويشبع نهمها ويرضي غرورها مما لا يرضي الله

سبحانه، فعندما يختار رضا الله على كل ذلك؛ فإنه يُجازى بالرضا والمحبة من الله

لأنه صَبَرَ لأمر الله. ولهذا كان الصبر على مخالفة الهوى من الجهاد، بل من أرفع

درجات الجهاد. قيل للحسن البصري - رحمه الله -: يا أبا سعيد، أيُّ الجهاد

أفضل؟ قال: «جهادك هواك» [9] ، ولا يعارض هذا وصف النبي صلى الله

عليه وسلم للجهاد المرادف للقتال بأنه ذروة سنام الإسلام؛ لأن الجهاد بالنفس لا

يكمل إلا مع الجهاد للنفس، ولا يكون ذلك إلا بنهي تلك النفس عن الهوى. وقد

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المجاهد مَنْ جاهد نفسه في الله

عز وجل» [10] .

إننا في أشد الحاجة إلى هذا الجهاد اليوم وفي كل يوم، وحاجتنا إليه لا تقل

عن حاجتنا إلى جهاد الأعداء الظاهرين المتكالبين، يقول ابن تيمية - رحمه الله -:

(يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى

والشهوة لا يُعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو

ينهاها؛ كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد مَنْ يأمر

بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلى جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين، وذاك

فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن الجهاد حقيقته ذلك الجهاد،

فمَنَ صَبَرَ عليه صَبَرَ على ذلك الجهاد) [11] .

وهناك أمور عملية وخطوات تنفيذية يستطيع بها المرء منا أن يجاهد هواه،

وقد دلنا الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - على خطوات في نقاط للوصول إلى

تحقيق هذا الواجب، وهي على ما يأتي:

الأمر الأول: التفكر في أن الإنسان لم يُخلق للهوى العاجل، وإنما للنظر في

العواقب والعمل للآجل، فلو كان نيل المشتهى في كل حال فضيلة؛ لما بُخس حظ

الآدمي الشريف منه، وزيد في حظ البهائم! وفي توفير حظ الآدمي من العقل

وتفضيله به، مع بخس حظه من الهوى؛ ما يكفي في فضل هذا وذم ذاك.

الثاني: أن يفكر في عواقب الهوى، فكم قد أفات من فضيلة، وكم قد أوقع

في رذيلة، وكم من مطعم قد أوقع في مرض، وكم من زلة أوجبت انكسار جاه

وقبح ذكر مع إثم، غير أن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى!

الثالث: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من هواه، ثم يتصور الأذى

الحاصل عقب اللذة؛ فإنه يراه يُربى على الهوى أضعافاً.

الرابع: أن يتصور ذلك في حق غيره، ثم يتلمح عاقبته بفكره؛ فإنه سيرى

ما يعلم به عيبه إذا وقف في ذلك المقام.

الخامس: أن يتفكر فيما يطلبه من اللذات؛ فإنه سيخبره العقل أنه ليس بشيء،

وإنما عين الهوى عمياء!

السادس: أن يتدبر عز الغلبة وذل القهر؛ فإنه ما من أحد غلب هواه إلا

أحس بقوة وعز، وما من أحد غلبه هواه إلا وجد في نفسه ذل القهر.

السابع: أن يتفكر في فائدة المخالفة للهوى؛ من اكتساب الذكر الجميل في

الدنيا، وسلامة النفس والعرض، والأجر في الآخرة ثم يعكس فيتفكر ... لو وافق

هواه في حصول عكس ذلك إلى الأبد، ولنفرض لهاتين الحالتين حالتي آدم

ويوسف - عليهما السلام -، وفي لذة هذا وهَمِّ هذا.

ثم قال - رحمه الله -: (ويا أيها الأخ، أحضر لي قلبك عند هذه الكلمات،

وقل لي بالله عليك أين لذة آدم التي قضاها من هَمَّة يوسف التي ما أمضاها؟! مَنْ

كان يكون يوسف لو نال تلك اللذة؟ فلما تركها وصبر عنها بمجاهدة ساعة، صار

من قد عرفت!) [12] .

ثانياً: مخالفة هوى الناس:

ولا يتأتى ذلك إلا بإيثار ما يحبه الله على ما يحبه الناس إذا تعارضا، وينبني

على هذا أن يكون الداعية قوياً في دعوة الناس للحق والخير الذي يعلمه، بعد أن

يأطر نفسه على الحق أطراً، ويقصرها على الحق قصراً، كما قال تعالى:

[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 63) ، والخطاب

هنا، وإن كان في سياق الكلام عن بني إسرائيل كي يأخذوا التوراة بقوة،

فنحن المسلمين أولى بأن نأخذ القرآن بقوة في علاج النفس وفي دعوة الناس.

وقد أبان الله تعالى لنا الطريق الذي يحبه؛ حتى لا نستجيب لمراودة الناس

إلى الأهواء المضلة، فقال سبحانه: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ

تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153) ، وسبل الناس تحكي

أهواءهم، وبعضها سبل إجرام، فمن الحرام اتباعها، بل من الحرام السكوت عنها

بعد أن أبان الشرع عوارها، قال سبحانه: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ

المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .

والداعي إلى الله هو الموكول إليه بيان السبيلَيْن على حسب ما تعلَّم من

الشريعة؛ مخالفاً في ذلك الأهواء المضلة.

أما أن ينساق الدعاة إلى استرضاء أهواء الناس حتى لا يُتهموا بـ (الظلامية)

أو (الرجعية) أو (الإرهاب) ؛ فإن ذلك مدعاة أسى، ومجلبة أسف؛ لأن

السير في طريق إرضاء الخلق سيفقد السائرين فيه ثواب هداية الخلق، ويعرّضهم

لغضب الخالق وعقابه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أرضى الله بسخط الناس؛

رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَنْ أسخط الله برضى الناس؛ سخط الله

عليه وأسخط عليه الناس» [13] .

قد يكون رضا الناس في موافقتهم على كثرة الترخص في العزائم، وقد يكون

رضاهم في التجاوز عن محدثات وبدع في الدين، وقد يكون رضاهم في أحيان

أخرى؛ أن ننسلخ عن ديننا، ونهجر قرآننا، ونوافق الفجّار والكفار على ما هم

عليه من الفساد في الأخلاق والانحراف في العقيدة، وفي مثل هذه الحال يقول الله

تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده: [وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ

بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ] (القصص: 87) .

إنه لم ينهه عن أن يستجيب لهم فحسب؛ بل أمره أن يدعوهم إلى ما هو عليه

من الحق والخير والسنّة، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (أي لا تتأثر

لمخالفتهم لك، وصدهم الناس عن طريقك، ولا تلوي على ذلك ولا تباله، فإن الله

معك، معلٍ كلمتك، ومؤيد دينك، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان) [14] .

ماذا لو فقه الدعاة هذا المعنى، وماذا لو تميزوا عن مئات الملايين من البشر؛

بأنهم حملة الحق، وأصحاب الأمانة في استبانة الحق لمن يطلبه، والباطل لمن

يريد مخالفته، وقد فصّل الله ذلك بقوله: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ

المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .

لقد أشارت الآية إلى سبيلَيْن يتعين على الدعاة تبيينهما للناس دون أدنى

خضوع للأهواء، وهما سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وهما مبينان أصلاً في

كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما على الدعاة إلا أن يتعرفوهما ثم

يعرِّفوا بهما.

قال ابن القيم - رحمه الله -: (بيّن الله تعالى في كتابه سبيل المؤمنين

مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة،

وأعمال هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء مفصلة، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء،

وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفّق بها هؤلاء، والأسباب التي

خذل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما، وبينهما

غاية البيان؛ حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام، فالعالمون

بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة

تفصيلية، فاستبانت لهم السبل كما تستبين الطريق الموصلة إلى مقصوده والطريق

الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم

الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة) [15] .

ثالثاً: مدافعة الشيطان ومجاهدة أوليائه:

إن عداوة الشيطان مطلقة، وكذا جهاده ينبغي أن يكون مطلقاً، قال تعالى عن

عداوته ومجاهدته: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوا] (فاطر: 6) ،

وميدان المنازعة في تلك العداوة هو قلب الإنسان وما فيه من إيمان، فالشيطان

ينازعنا على الإيمان في قلوبنا، فيتقوّت على ما فيها حتى يُبليها، ولا يزال

يتربص بشُعب الإيمان حتى لا يبقيها، فكيف يفلح عبد عرَّض قلبه لغزو عدوه

وجنوده من غير ردع أو دفاع؟!

لقد ضرب بعض العلماء مثلاً لحماية الإيمان من الشيطان، فقال: (مثل

الإيمان كمثل بلدة لها خمس حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث

من حديد، والرابع من آجر [16] ، والخامس من لَبِن، فما دام أهل الحصن

متعاهدين حصن اللَّبِن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن

الثاني ثم الثالث، حتى تخرب الحصون كلها، فكذلك الإيمان في خمس حصون:

اليقين ثم الإخلاص ثم أداء الفرائض ثم السنن ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ

الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع فيه، وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن،

ثم في الفرائض ثم في الإخلاص ثم في اليقين) [17] .

وأما مجاهدة أولياء الشيطان؛ فإن الله تعالى يقول: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ

الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] (النساء: 76) .

وقد جعل الله تعالى مجاهدة أولياء الشيطان بالمال واللسان والسنان من

موجبات محبته؛ إذا تمت تلك المجاهدة بشروطها الشرعية وآدابها المرعية، فقال

سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ

وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ

لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (المائدة: 54) .

قال ابن رجب الحنبلي: (فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه،

فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه، فعاملوهم

بالشدة والغلظة، كما قال تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم] (الفتح:

29) ، وقال: [يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة: 54) ،

فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب) [18] .

إن مما لا شك فيه أن الجهاد بهذا المعنى هو ذورة سنام الإسلام، وهو لا

يتم.. بل لا يُوصل إليه على الوجه الشرعي إلا بعد إحسان ما قبله من أنواع

المجاهدة السابق ذكرها، فبكلٍّ من جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان

وأوليائه؛ يكون المرء منّا هادياًَ مهدياً، قال سبحانه: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ

سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] (العنكبوت: 69) .

قال ابن القيم - رحمه الله -: (علّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس

هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان،

وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله؛ هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى

جنته، ومن ترك الجهاد؛ فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد) [19] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015