ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
في حديث هاتفي قدم الرئيس الأمريكي جورج بوش لآرئيل شارون نصيحة
مختصرة في التعامل مع المقاومة الإسلامية، فقال له: «عليك إبادتهم..» ثم
أنهى مكالمته قائلاً: «لا أريد أن أعطل عليك؛ فأنا أعلم بالمهمات الملقاة على
عاتقك» .
ورغم أن الحرب المشتعلة بين الدولة الصهيونية وحركات المقاومة الإسلامية
تبدو سجالاً منذ بداية الانتفاضة، إلا أن استخدام لفظ «الإبادة» لم يرد على ألسنة
المسؤولين اليهود والأمريكيين إلا مؤخراً، وهو تطور له مغزاه. يقول شارون
رئيس الوزراء «الإسرائيلي» : «لقد كتب على قادة حماس الموت، وعلينا أن
نقوم بذلك فإما نحن أو هم» .
وربما نفهم الأمر أكثر لو أضفنا إلى ما سبق قرار الاتحاد الأوروبي الأخير
باعتبار الجناح السياسي لحركة حماس منظمة إرهابية، وهو قرار خطير لا يقتصر
كما يروج لدى كثيرين على مجرد تجميد أرصدة مالية في عدة بنوك؛ فهذا القرار
يعد بمثابة شن حرب إبادة ضد حماس، لما يلي:
- اكتساب قادة وأنشطة ومؤسسات حماس الخيرية وصف «الإرهاب»
بصورة رسمية وهو ما يعني إدراجها مباشرة ضمن أهداف الحرب الأمريكية على
الإرهاب.
- ومن ثم تحول قادة الحركة إلى أهداف يجب مطاردتهم في كل مكان، وفي
حال تواجدهم في أي بلد أوروبي يتم اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة الإرهاب،
وفي حال اغتيالهم لن يجرؤ أحد على الاعتراض.
- وفي حال تواجدهم في بلد آخر يتم الضغط لتسليمهم إلى الأجهزة المعنية،
وهذا مصير بات يتهدد رجال المكتب السياسي لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
- الوصفة السحرية للتعامل مع الإرهابيين التي تطبقها وتروجها الإدارة
الأمريكية منذ هجمات سبتمبر هي التصفية الجسدية، وهو ما يعني تفويضاً مباشراً
من الاتحاد الأوروبي للجيش «الإسرائيلي» بمباشرة هذه المهمة المقدسة وبتأييد
عالمي.
وقد تم إعداد سيناريو متقن لتدشين هذه المرحلة الجديدة للتعامل مع المقاومة
الإسلامية، وتضمن هذا السيناريو عدة أحداث تزامنت بصورة مريبة:
- تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التمهيدية التي اشتملت على مصطلحات
(الإبادة - التصفية - الموت..) .
- قرار الاتحاد الأوروبي السابق الإشارة إليه بشأن حماس.
- تنفيذ طائرات صهيونية لمحاولة اغتيال الشيخ أحمد ياسين عصر يوم
السبت الموافق 6/9/2003م.
- تصاعد أزمة حكومة أبو مازن لتصل إلى ذروتها بإعلان الاستقالة، ظهر
نفس اليوم، مُشكلة ما يمكن اعتباره خلفية سياسية للشوشرة على محاولة الاغتيال.
ويأتي هذا السيناريو ضمن ما يبدو أنه مخطط شامل لحكومة شارون في
مواجهة حركات المقاومة التي تنامى خطرها في المرحلة الأخيرة؛ بحيث أصبحت
اللاعب الحاكم على مجريات الأحداث في فلسطين المحتلة؛ لكن يلزمنا قبل
استعراض واستيعاب أبعاد المؤامرة اليهودية أن نرجع قليلاً للوراء لتبدو نهاية
الأحداث متساوقة مع بداياتها.
* شارون والحلقة المفرغة: (حقيقة الأزمة الإسرائيلية) :
المسرح السياسي الخاص بأي دولة لا يمكن أن يُرى أبداً شاغراً، ولو لبرهة
قصيرة؛ لأن هذا يعني الإفلاس المؤدي إلى انهيار النظام أو الحزب الحاكم، لذا
ينبغي أن تحرص الحكومة بصفة دائمة على تقديم أطروحات وحلول لمعالجة
أزماتها السياسية ولو كانت تؤمن بعدم جدواها، ومن الأطروحات التي تواصل
تقديمها على الساحة السياسية «الإسرائيلية» في المرحلة السابقة:
- عملية الجدار الواقي العسكرية التي تحولت فيما بعد إلى «جدار واقٍ»
حرفياً.
- عروض لارسن وسولانا وميتشيل وتينت وغيرهم.
- عرض الحصار بمشاركة ياسر عرفات.
- حكومة أبو مازن قصيرة الأجل.. والعمل.
وهناك عدد من المعالم الثابتة يمكن استنباطها من خلال «الأطروحات
الإسرائيلية» وتفاعلاتها:
أولاً: الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تسعى لحل الصراع العربي الإسرائيلي،
وإنما لإدارته، ولا يوجد شيء اسمه «الحل النهائي» إلا في مخيلة المفاوض
العربي؛ لأن الحل النهائي الوحيد الذي يقبل به اليهود هو «إسرائيل الكبرى» .
ثانياً: غالبية الإسرائيليين يؤمنون بمعركتهم الأزلية مع الفلسطينيين والعرب،
ولا ينتابهم هوس السلام الدائم المزعوم، نعم! قد ينتابهم الخوف والذعر، ولكن
هل رأينا تظاهرات يهودية حاشدة تطالب شارون بالتوقف عن قتل الفلسطينيين؟
حقيقة الأمر أن طوق النجاة الذي ترتديه الحكومة الصهيونية في أعقاب أي عمل
استشهادي مؤثر هو قتل المزيد والمزيد.
إن هذا الخوف قد يدفعهم إلى مغادرة فلسطين بأسرها بلا رجعة، ولكنه لا
يدفعهم إلى التنازل عن معتقداتهم في هذا الشأن.
ثالثاً: هناك حقيقة لافتة في الواقع اليهودي، وهي أنه خلافاً لأي دولة تنشأ
بصورة طبيعية؛ حيث تتواجد أغلبية الشعب بدايةً، ثم تنشأ الدولة، فإنه في الحالة
اليهودية تواجد الشعب بصورة رمزية نوعاً ما، ثم أنشئت الدولة، ثم تراكم السكان
بعد ذلك عن طريق الهجرة، وهذا يعني أن الهجرة العكسية لن تشكل فارقاً كبيراً
في هذه الدولة الهيكلية في المدى القصير.
رابعاً: يعتبر «الإسرائيليون» أن حزب العمل المرن ظاهرياً لم يعد ملائماً
للظرف الحالي، ومن ثم فقد ألقوا إلى العرب أقسى ما يستطيعونه: «آرئيل
شارون» الذي يقر اليهود أنفسهم أنه رمز للتهور والتطرف، وهذا يعني أنهم باتوا
يستندون إلى الحائط في مواجهتهم الحالية.
خامساً: تبدأ الأحداث من العام 2000م، عندما نجح الرئيس الأمريكي بيل
كلينتون في إيصال الطرفين «الإسرائيلي» والفلسطيني إلى حافة الهاوية في واي
ريفر، وانتهى الأمر بكل منهما أن يقول لصاحبه: تفضل أنت أولاً.. ولما أحجم
كلاهما عن «التنازلات المميتة» تقدم شارون فأشعل فتيل الانتفاضة، ثم لما أخفق
إيهود باراك من حزب العمل في معالجة الموقف، تقدم شارون مرة أخرى بتركيبته
السياسية الفريدة التي لا تعرف غير التصعيد منهجاً للأداء السياسي، ولكن لم
يكشف شارون إلا عن سلسلة متتالية من الإخفاق، وهنا بدأت ملامح الحلقة المفرغة
تتبلور في الحس الصهيوني كما يلي:
- كل الوسائل جربت مع المقاومة الإسلامية والنتيجة: تحت الصفر.
- لا يبدو بريق أي أمل في تحقيق استقرار للأوضاع.
- حتى أداة السلطة مزقها اليهود بمهارة بين عرفات وأبو مازن ودحلان
وقريع.. إلخ.
- اكتشف الإسرائيليون أن إنجازاتهم الحقيقية تتم في السياسة الخارجية؛
بينما يعانون داخلياً من الانهزام، واختزلت الحالة السياسية في زيارة شارون للهند؛
حيث الإنجازات الكبيرة لحكومته، بينما يأتيه الخبر من القدس: أدرك أهلك فقد
احترقوا.
- فجأة وجد الصهاينة أنفسهم يقتربون بسرعة من الحالة التي فروا منها في
نهاية الانتفاضة الأولى، وهي الحالة التي أعقبها مشروع الإنقاذ العالمي المعروف
بـ «اتفاق أوسلو» ، فأحد الخيارات المطروحة بقوة: إعادة الاحتلال العسكري
لمدن الضفة وغزة، يعني تكرار المشاهد والمراحل بعد عناء استمر أكثر من عشر
سنوات.
سادساً: بات واضحاً أن حكومة شارون تعاني من أعراض إفلاس سياسي لن
تحمد عقباه، خاصة مع بروز حركات المقاومة في الفترة الأخيرة كمحرك رئيس
للأحداث، وهنا بدأت معالم رؤية جديدة لمعالجة الأزمة تتبلور في كواليس الإدارة
الأمريكية وحكومة شارون، هذه الرؤية تعتمد في أحد جوانبها على المنهج
التصعيدي لأرئيل شارون، وفي جانبها الآخر تعتمد على حقيقة واضحة: أنه من
الصعوبة البالغة تصفية حركة إسلامية مثل حماس، وهذا التطور الأخير يمكن أن
يفسر التغير المفاجئ للاتحاد الأوروبي تجاه الجناح السياسي للحركة؛ حيث
تجاوزت الأزمة اعتبارات أوروبية سابقة مثل: تحقيق التوازن مع النفوذ الأمريكي،
أو مراعاة المصالح في الدول العربية.
* المخرج «الإسرائيلي» من الأزمة / (رؤية جديدة) :
أولاً: من الناحية النظرية:
بدأت تترسب في العقلية السياسية الإسرائيلية حقيقة أن القضاء على حركة
إسلامية منظمة متعددة الأجنحة والأنشطة مثل حماس أمر قد يكون مستحيلاً والله
أعلم ولذا بدأ البحث عن خبرات متناثرة في الوسط العربي القريب بمساعدة عربية
يمكن الاستفادة منها في معالجة المأزق الخطير، وبدا واضحاً أن الخبرة الناصرية
في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين هي الأكثر ملاءمة من عدة أوجه؛ فحماس
تعتبر امتداداً للجماعة في ثوب فلسطيني، ومن ناحية أخرى كان لحركة الإخوان
في بداية الحقبة الناصرية نظام عسكري خاص، ومن ناحية ثالثة تمخضت الأحداث
عن تخلي الجماعة عن الجناح العسكري وحله، واعتماد العمل السياسي منهجاً.
وتتلخص الخبرة الناصرية من وجهة نظر «إسرائيلية» فيما يلي:
- في الظروف العادية لا يمكن للحركة أن تتخلى عن جناحها العسكري.
- يلزم ممارسة ضغوط هائلة على قادة وكوادر الحركة لفترة زمنية مناسبة،
وتشمل الضغوط: الاغتيال والاعتقال وحظر النشاط وإغلاق المؤسسات.
- يمكن أن يضيف «الإسرائيليون» إجراءً آخر وهو: تصفية قادة الحركة
السياسيين الحاليين لإفساح المجال أمام الجيل الثاني الذي سيعتبر تلك الأحداث
وإفرازاتها المنهجية أهم تجاربه.
- يُفترض أن يسفر الضغط المتواصل عن بلورة منهجية داخل الحركة لنهج
جديد في التعامل مع الواقع (تجربة الجماعة الإسلامية في مصر) يتبرأ أو على
الأقل يتخلى عن العمل العسكري. ومن ثَمَّ أصبح هناك هدف آخر مبطن غير
التصفية النهائية للحركة، وهو الدفع باتجاه تحولها إلى «حزب سياسي» سلمي،
ويرشح هذا الخيار عدة مؤشرات، من بينها:
- الدراسات التي تتحدث عن تبني الإدارة الأمريكية لشكل ترويجي مقبول
للحركات الإسلامية يعتمد في مجمله على النموذج التركي لحزب العدالة.
- تصريح خافيير سولانا (الاتحاد الأوروبي) بأن المجال مفتوح لشطب
حماس من القائمة الإرهابية في حال تبرأت من جناحها العسكري أو حلته،
واقتصرت على العمل السياسي.
- تصريحات مماثلة لبعض المسؤولين «الإسرائيليين» عن إمكانية فتح
صفحة جديدة مع الحركة حال تخليها عن المقاومة المسلحة.
- موقف بعض الدول العربية المتناقض من حماس؛ حيث تشارك في
حصارها والتضييق عليها، وتقديم خبراتها الأمنية لمواجهتها في نفس الوقت الذي
تبقي فيه على اتصالات قوية معها، وهي إشارة واضحة للهدف المقصود.
وحسب هذا التصور فإن عبء التنفيذ لن يقتصر على الأجهزة الصهيونية
فقط؛ فمهام التصفية الجسدية للقادة والكوادر، خاصة في كتائب القسام،
وإجهاض الأنشطة العسكرية، وهناك جانب كبير من سياسة الاعتقال سوف
يضطلع به الصهاينة، ولكن تبقى هناك حاجة ماسة للسلطة كي تتولى الجزء الباقي
من الخطة، والمتمثل في تصفية الأنشطة، وتنفيذ حملات الاعتقال الموسعة،
والتضييق على المقاومة في كافة الأصعدة، وتنفيذ عملية تحول الانتفاضة من النهج
العسكري إلى شكلها الأولي، ولما كان أبو مازن قد أفضى إلى ما قدم، بدأت تلوح
في الأفق ملامح عودة محتملة لرجل المهام الصعبة، ولو من وراء حجاب.. أو
قريع.
ثانياً: من الناحية العملية:
بدأت الرؤية الجديدة تتضح من خلال سياسة الاغتيالات والتصفية الشاملة
التي أعلنتها وبدأت في تنفيذها حكومة شارون، وبدأ ذلك بمحاولة اغتيال الدكتور
عبد العزيز الرنتيسي، ثم اغتيال إسماعيل أبو شنب، ثم محاولة اغتيال كل من
الشيخ أحمد ياسين وإسماعيل هنية، والدكتور محمود الزهار، ورغم اقتصار
النجاح اليهودي على محاولة واحدة من خمس، إلا أن محاولة اغتيال الشيخ أحمد
ياسين تبدو غريبة على نحو ما؛ إذ شابها بعض الغموض، كما كانت مفاجئة للعديد
من الأوساط، ويمكن ملاحظة الآتي بشأن هذه المحاولة الخبيثة:
- ضرب المنزل الذي كان الشيخ ياسين متواجداً به بقنبلة زنة 250 كجم
دمرت الطابق الثالث فقط من البناية، ولم تتسبب في مقتل أحد، وادعى المسؤولون
العسكريون «الإسرائيليون» أن ذلك كان خشية على المدنيين، بينما انتفت هذه
الخشية في محاولة اغتيال الزهار؛ حيث دمر المنزل تماماً بصاروخ أو قنبلة من
النوع الثقيل، وقتل أكثر من ثلاثة أشخاص.
- اغتيل إسماعيل أبو شنب بالطريقة المفضلة لدى الصهاينة، وهي إطلاق
القذائف على السيارات، وفي حالة الشيخ ياسين كان مفترضاً أنه متابَع من قِبَل
العملاء الذين رصدوا دخوله منزل الدكتور منير أبو راس، فلماذا لم يتم إطلاق
الصواريخ على سيارته قبل الوصول؟ ألم يكن ذلك أسهل في تنفيذ عملية الاغتيال؟
ثم أليس الشيخ حفظه الله يعلن دائماً عدم خوفه من اليهود، وأنه لن يتخفى عن
الأنظار حتى لا تطاله قذائفهم؟ ألم يكن والحال هكذا قصف منزله أكثر جدوى
وتأثيراً؟ ولماذا لم تحاول الطائرات قصف منزله بعد أن أكد مرة أخرى أنه لن
يفارقه وسينتظر القتل بين جدرانه؟
الذي نريد قوله من سرد هذه الشواهد أن حكومة شارون لم تكن تريد في هذه
المرحلة فقط تنفيذ عملية اغتيال للشيخ ياسين، بل تنفيذ محاولة اغتيال فقط،
لاحتمالات عديدة نذكر أهمها:
1 - لعمل بالون اختبار لردة الفعل الفلسطينية الشعبية والفصائلية والعربية
والدولية، ولا شك أن النتيجة أتت مشجعة لمعاودة الكرة دون خشية كبيرة من هذا
الجانب.
2 - معرفة حجم وقدرة حركة حماس على الرد على محاولة الاغتيال،
باعتبارها الأكبر نظراً لمكانة الشيخ ياسين.
3 - تدشين للمرحلة الجديدة التي نتحدث عنها باعتبار أن تجاوز صدمة
اغتيال الشيخ ياسين قمة حركة حماس يعني سهولة تجاوز ردود الأفعال على اغتيال
من يليه في مكانته داخلياً وخارجياً، وبذلك تختصر السلطات الإسرائيلية عبء
تكرار اتهامها بالتصعيد في خطوة واحدة، ولذلك نجد أن المحاولة التالية لاغتيال
الزهار مرت بلا ضجيج أو استنكار مؤكد في الداخل والخارج.
4 - تعرض رد الفعل الجماهيري على محاولة الاغتيال إلى تهميش إعلامي
متعمد من الإعلام العربي، رغم أن أكثر من مائة ألف تظاهروا في غزة، وتوافد
الآلاف إلى منزله للاطمئنان عليه، وأيضاً واكبت محاولة الاغتيال عملية تشويش
سياسي تبدو متعمدة حيث تصاعدت حدة أزمة حكومة أبو مازن في نفس التوقيت،
ليتحول التركيز الإعلامي إلى تلك القضية، ويتضح المقصود الخبيث بمقارنة ذلك
مع الموقف من قرار إبعاد عرفات كما سيأتي.
5 - كان من الأوفق حسب الاحتمالات السابقة أن يتم تنفيذ «محاولة اغتيال»
لا عملية اغتيال كاملة تحسباً لتجاوز ردود الأفعال حدود المتوقع.
لكن لما لم تحقق عمليات الاغتيال المتتابعة نتائج مبهرة؛ مع انخفاض
معدلات النجاح في تنفيذها بمرور الوقت نتيجة اتباع قادة المقاومة لأساليب الحذر
والتخفي، في نفس الوقت الذي يبقى فيه سلاح الردع الاستشهادي مسلطاً على
رؤوس الصهاينة، كان لزاماً على الحكومة الإسرائيلية أن تبحث سريعاً عن منقذ
يقدم لها قبلة الحياة، خاصة مع سخرية مسؤولي حماس عبر الفضائيات من العجز
الإسرائيلي عندما يُسألون عن مدى خشيتهم من انتقام حكومة شارون بالقول:
«وماذا بقي لدى هذه الحكومة كي تفعله ولم تفعله؟» .
وفي هذا الموقف العصيب جاء القرار المفاجئ أيضاً للحكومة «الإسرائيلية»
ذو الصيغة العجيبة، بإبعاد رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات مبدئياً خارج
فلسطين المحتلة، مع الاحتفاظ بحق تحديد الزمان والمكان المناسبين، وهي صيغة
تذكرنا بالردود العربية الحازمة على الضربات العسكرية الصهيونية، وهنا يبرز
السؤال المنطقي: لماذا عرفات؟ ولماذا الآن؟
إن إثارة قضية عرفات في هذه الآونة من قِبَل الجانب الصهيوني، يبدو مريباً،
ويفسح المجال لعدة احتمالات، فربما يريد «الإسرائيليون» التشويش على
المرحلة الحالية التي يمرون بها وتعاني فيها حكومة شارون من تخبط سياسي
واضح، وعجز أمريكي عن تقديم يد العون مع اقتراب موسم الانتخابات الرئاسية،
وقد تهدف إلى تسكين عرفات، والتمهيد لوضعه في ظروف «معملية» يفقد فيها
التأثير على مجريات الأحداث تماماً، ويخلي بينها وبين رجال السلطة، لإعادة
فرزهم حسب ولاءات جديدة تكون المصلحة الأمنية «للإسرائيليين» محورها،
وذلك باستخدام أسلوب «التطرف في التهديد من أجل التوسط في الفعل» ولهذا
يروج اليهود لإبعاده أو قتله، ليكون عزله في محبسه حلاً وسطاًِ، وأقدر على
امتصاص ردود الأفعال الغاضبة، وهناك احتمال آخر يبدو خطيراً في مضمونه،
وهو أن الحكومة اليهودية قد ارتأت في سياق تبادل الخبرات مع الأمريكيين في
احتلالهم للعراق أن علاقتها السياسية مع الفلسطينيين وفق معطيات أوسلو، لم تعد
متناسبة مع موازين القوى في إصدارها الجديد، بعد الحرب الأمريكية على
الإرهاب، وعلى العراق، ومن ثم فهي ربما تؤثر علاقة مماثلة للوضع العراقي
الحالي، حيث شكل الأمريكيون مجلساً للحكم بدون رأس يدور في فلكهم، كما أنه
يقوم بداية على تحليل الاحتلال، وتحريم مقاومة المحتل، وهذا بيت القصيد،
وهذه المرحلة بالذات لها رجالها المتلهفون وعلى رأسهم: محمد دحلان.
وهناك احتمال أخير، وهو أن يكون لعرفات دور مستقبلي، ولو من وراء
ستار، باعتبار أنه أقل الخيارات سوءاً بالنسبة «للإسرائيليين» ، وعموماً فقد
رافق قرار الإبعاد عدة شواهد تبعث على الريبة، وربما تؤيد الاحتمال الأخير:
1 - تكشف للإسرائيليين كما سبق أنه لن يستطيع أحد في المرحلة الحالية أن
يحل مكان عرفات أو يتجاوزه كلية في إدارة الشؤون الفلسطينية؛ فالرجل يجيد
المناورة والمراوغة، وجمع الخيوط بين يديه؛ لذا كان أحد الاحتمالات المطروحة
عودة التنسيق بين الطرفين بصورة غير مباشرة؛ وربما تضطر حكومة شارون إلى
الاعتراف به مجدداً بعد تحول قرار الإبعاد إلى قرار إنعاش جماهيري.
2 - المقارنة بين التغطية الإعلامية المبهمة لأصداء محاولة اغتيال الشيخ
ياسين، وتغطية توابع قرار الإبعاد، تلقي بظلال من الشك؛ وهنا يبدو أن
«الإسرائيليين» قد استفادوا مرة أخرى من خبرة الحقبة الناصرية، وبالتحديد
من تجربة «تمثيلية التنحي» التي أخرجها عبد الناصر لدفع الشعب إلى
مطالبته بالبقاء في الحكم بعد هزيمته النكراء في حرب 1967م، ولما كان
صعباً على عرفات أن يتنحى ولو تمثيلاً، فقد تطوعت حكومة شارون للقيام
بهذا الدور، وجاءت ردود الفعل في الشارع الفلسطيني منظمة ومخططة على نحو
مريب، ولا يشترط أن يتم ذلك بتنسيق مع عرفات بل هو أشبه بتحريك قطع
الشطرنج من قِبَل اليهود.
3 - فقد خرجت التظاهرات في أكثر من مدينة فلسطينية، وبصورة مفتوحة،
ويقودهم مسؤولو فتح، مع مشاركة عناصر من كتائب الأقصى، ومع رفع
لافتات مكتوبة بدقة ووضوح، وسمح للفلسطينيين بالانتقال من مدن مختلفة إلى رام
الله، دون حواجز عسكرية، ودون احتكاك ملحوظ مع القوات «الإسرائيلية» ..
كل ذلك تم بعد ساعات قليلة جداً من إعلان قرار الإبعاد.
4 - فُسح المجال أمام كثير من المسؤولين في السلطة وحركة فتح للحديث
في الفضائيات عن الاستفتاء الشعبي التلقائي على مبايعة القائد الرمز، وعن
الإجماع الفلسطيني، وتكررت على ألسنتهم ألفاظ مثل: الوحدة الوطنية أصبحت
جبرية الالتفاف الشعبي الإجماع الوطني ... وهي ألفاظ يتم استخدامها عادة في
مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية من قِبَل السلطة، ورغم تعثر أحمد قريع في
تشكيل حكومته (بدأت حكومة أزمة، ثم حكومة إنقاذ وطني، ثم أصبحت حكومة
عادية..) إلا أنه تحدَّث بكثافة في الأيام الماضية عن جهوده الحثيثة، وعن تهديده
بـ «تجميد الجهود الساعية لتشكيل الحكومة» إذا ما نفذت حكومة شارون قرار
الإبعاد.
5 - رغم تعرض عرفات طيلة الأشهر الماضية لحملة انتقاد وتهميش عنيفة
على المستويين العربي والدولي، لدرجة مهاجمته بالتسبب في الأزمة الفلسطينية،
وأنه يجب أن يترك المجال لغيره، إلا أن الحال تغير فجأة بعد قرار الإبعاد،
وانهالت الاستنكارات على وسائل الإعلام، وأعلنت دول لم تكن تأبه للأمر عن
رفضها للقرار، حتى إن حكومة الهند التي كان شارون في ضيافتها قبل ساعات
قليلة لم تجد حرجاً هي الأخرى رغم مصالحها الأكيدة مع «إسرائيل» من
استنكارها للقرار؛ أضف إلى ذلك أنه في أحوال مماثلة كان يُهرع إلى فلسطين
مسؤولون عرب لمحاولة تدارك الموقف ولملمة الأزمة، وهذا الذي لم يحدث في
هذه الحالة، وحتى على فرض تنفيذ حكومة شارون قرارها بإبعاده، فإن عرفات
يبقى دوما ملهاة للشعب الفلسطيني، تُستغل دوماً في صرف انتباهه، والتشويش
على المقاومة والانتفاضة.
6 - جاءت صيغة القرار «الإسرائيلي» عجيبة وغير مسبوقة؛ فالقرارات
ضد المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي مفاجئة، وفورية لا رجعة فيها،
بينما هذا القرار صدر «مبدئياً» ، وكأن حكومة شارون تقول للعالم: هيا مارسوا
ضغوطكم.. وهنا يبرز سؤال هام: ماذا لو تم تنفيذ قرار الإبعاد بصورة فورية
ومفاجئة ومنجزة، كما تتميز الأجهزة الخاصة «الإسرائيلية» في أداء
عملياتها؟ ..!
7 - محاولة بعض المسؤولين اليهود مثل شمعون بيريز التحذير من أن تواجد
عرفات بالخارج سوف يتيح له حرية الحركة، وسوف يكون أكثر خطورة، يبدو
تحذيراً شكلياً؛ فخروج عرفات من فلسطين يعني اغتياله سياسياً، ودخوله في عالم
النسيان؛ حيث يفقد أوراق قوته بخروجه، وسيكون هناك أكثر من زعيم وقائد
سياسي على استعداد تام للتعاون مع الحكومة «الإسرائيلية» وبالطبع: مطالبتها
بحق العودة للقائد الرمز.
8 - تبدو نوايا عرفات واضحة في تقديم المؤشرات على جدارته بتنفيذ مهمة
القضاء على المقاومة؛ فأهم قرارين اتخذهما مؤخراً:
أ - تعيين الرجوب مستشاراً أمنياً له.
ب - تشكيل مجلس أمن فلسطيني يضم كافة مسؤولي الأجهزة الأمنية.
وهما قراران ذوا نكهة يهودية واضحة.
وهناك أمر آخر بالغ الأهمية، وهو أن عرفات الشخص الوحيد الذي استطاع
أن يوجه ضربة كبرى لحماس في عام 1996م، عندما اعتقل عدداً كبيراً من
أفرادها ووجه ضربات قاسية لبنيتها التحتية البشرية والمؤسسية، حتى إن أجهزته
الأمنية اعتقلت الدكتور الزهار، وعذبته بشدة وإهانة، وحلقت لحيته وشاربه وشعر
رأسه، وسربت ذلك للناس لأغراض معلومة، ولأن عرفات يجيد تكرار نفسه،
فهو الشخص المناسب تماماً للمرحلة الجديدة.
9 - خلاصة الأمر أن حركات المقاومة الإسلامية تذيب نفسها في قضية
فلسطين، بينما عرفات يذيب القضية والشعب في شخصه، وتلك مزية أخرى تثبت
أنه رجل الساعة.. ولو كره اليهود.
وفق هذه الرؤية نستطيع القول إن حركات المقاومة الإسلامية تبقى هي المحدد
لطبيعة المرحلة القادمة، حسب الخيارات المتاحة أمامها، وحسب رؤية قادتها،
وهو ما سنتناوله في الفقرة التالية.
* خيار الصمود والمحنة:
المقاومة الإسلامية باب إلى الفتنة لو كُسر، فستدخل المنطقة بأسرها في
مرحلة زلقة بالغة الخطورة لن تتوقف الأحداث فيها إلا عند إسرائيل الكبرى،
والخبراء والمختصون في الدولة الصهيونية يرسمون الآن مع شركائهم الأمريكيين
ملامح المنطقة في تلك المرحلة، وتقف كثير من الدول العربية للأسف موقف
المتفرج رغم أن أهم أشراط تلك المرحلة: تضاؤل أدوار هذه الدول على المستوى
الإقليمي، وهو ما صار أمراً واقعاً.
وفي سياق السعي لبتر سنام الإسلام، يتبدى اتجاهان أمام حركات المقاومة
الإسلامية:
أولهما: الاستسلام لدعاوى التدجين، وتقليم الأظافر، عن طريق التبرؤ من
أجنحتها العسكرية، وتحولها إلى أحزاب سياسية، وهذا الخيار يعني ببساطة أنه
مطلوب من المقاومة أن تأكل نفسها، وأن تهزم قضيتها بيديها، وأن توجد أسباب
كافية للانشقاقات الداخلية، واعتماد أي فصيل من فصائل المقاومة؛ لهذا الخيار
سوف يكون بالفعل أول «عملية انتحارية» حقيقية في تاريخ المقاومة.
الاتجاه الثاني: التمسك بثوابت المقاومة والعض عليها بالنواجذ، والحفاظ
على زخم العمليات الاستشهادية بوصفها أقوى سلاح امتلكه الفلسطينيون منذ
عشرات السنين.
وحسب هذا الخيار فإن المقاومة تُؤْثر الصمود، والتمسك بجناحها العسكري،
والمقاومة المسلحة، وتُواصل الانتفاضة بنفس وتيرتها، سواء نفذ اليهود سياسة
الاغتيالات أم لا، وسواء دخلوا في مواجهة مع عرفات أم لا، وهنا بعض المعالم
التي ينبغي الإشارة إليها:
1 - تحتاج فصائل المقاومة الإسلامية إلى مراجعة استراتيجية للعمليات
الاستشهادية باعتبارها سلاح الردع الرئيس الذي تعتمد عليه في المرحلة الحالية،
مراجعة تتناول مدى تحقيقها لهدف الردع، وقدرتها على حسم المعركة للصالح
الفلسطيني ولو على المدى الطويل؛ فنحن لا نريد أن تنزلق المقاومة إلى الأسلوب
الأمريكي الذي يدير الصراع ولا يحله؛ فالذخيرة البشرية الفلسطينية ليست بلا
حدود، وينبغي توجيهها إلى حيث يتحقق الهدف منها، وإلا فادخارها لأوقات
ملائمة ربما يكون أفضل.
نقول ذلك لأنه في الآونة الأخيرة وتحت تأثير الضغوط بدا واضحاً أن الأداء
الاستشهادي لم يكن على المستوى المعهود في بداية الانتفاضة من الناحية التكتيكية
(يعني تحديد المكان والتوقيت وزمن التتابع وطبيعة الهدف ومصداقية التهديد حجماً
وزمناً ... ونحو ذلك) وظهرت مؤشرات على أن الأجهزة الصهيونية قد نجحت
إلى حد ما في استدراج ذلك الأداء ليصب في خانة رد الفعل بعد أن كان مترسخاً في
خانة الفعل، وهذه النقلة الاستراتيجية الجزئية تعطي اليهود نوعاً من التحكم في
مسار العمل الاستشهادي، وهذا التحكم يعطي الحكومة قدرة لا بأس بها على
امتصاص التأثير البَعدي للعمليات الاستشهادية على المجتمع «الإسرائيلي» ؛
وذلك لا شك يكون على حساب قوة الردع التي تحدثها هذه العمليات، ومؤخراً كان
مسؤولون صهاينة يروجون في وسائل الإعلام أنهم ينتظرون من حماس عملية
كبرى رداً على محاولة اغتيال الشيخ ياسين، وهذا يفيدنا أنه ينبغي أن نُبعد الرغبة
الانتقامية عن العمل الاستشهادي؛ لأنها على المدى البعيد تؤثر سلباً في قدرته على
الردع، كما أن تعويد المجتمع الفلسطيني على هذه الوتيرة يضيف عبئاً جديداً إلى
المقاومة هي في غنى عنه، نعم! قد يحمل الانتقام في طياته معنى الردع، لكن
ليس بهذه الصورة: في إثر كل عملية اغتيال لأحد قادة المقاومة السياسيين أو
العسكريين، يبدأ الناس في عد الساعات والأيام، ثم عد العمليات، ثم عد القتلى
على الجانب اليهودي، وهذا له تأثير سلبي على هذا السلاح الفعال، وخاصة أن
قدرة المقاومة على الرد لا تكون في نفس المستوى طيلة الوقت، مع تتابع
الضربات.
وهذا يستدعي التأمل في أنه في بعض الأحيان تكون عملية واحدة كبيرة أكثر
قدرة على الردع من عدة عمليات أقل حجماً وتأثيراً، وقد أعجبني أحد قادة المقاومة
في تعليقه على تعجل رد المقاومة، بتذكيره أن الرد على اغتيال القائد يحيى عياش
جاء بعد أربعين يوماً؛ فمجرد طول فترة الانتظار القاسية على اليهود وهم في حال
مرتفعة من الترقب والقلق قد يكون لها أثر إضافي في الردع، في حين أن الرد
السريع ربما يكون مريحاً للأعصاب، خاصة لو كان رداً على عملية نفذها اليهود
وهم يتوقعون رد فعل عليها من المقاومة.
2 - في الانتفاضة الثانية خطفت العمليات الاستشهادية الأضواء، ثم خطفت
الميدان بعد ذلك، وكان هذا على حساب العمليات الفدائية العادية التي قلَّت إلى حد
الندرة، ولا أعتقد أن ذلك يفيد في مثل هذه المعركة الشاملة مع اليهود؛ فتنويع
الهجمات، وأساليبها مما يربك العدو، ولا شك أن المقاومة لها ظروفها، وهي
أدرى بما يناسبها، ولكنها إشارة يدركها اللبيب.
3 - حركات المقاومة الإسلامية وبالأخص حماس يتنوع نشاطها إلى عدة
أفرع رئيسية: جهادي - دعوي - سياسي - اجتماعي.. وكل من هذه الأفرع لا
يقل أهمية عن البقية، ولكن التبعات الثقيلة عادة ما تكون من نصيب العمل
العسكري، وعادة ما تتأثر بها الأفرع الأخرى، وهذا يدفع إلى طرح قضية الفصل
بين هذه الأفرع بصورة لا تلحق الضرر ببقيتها عند تعرض أحدها للتضييق، وقد
يكون فك الاشتباك بين: الدعوي والسياسي والاجتماعي أمراً صعباً، ولكن ذلك
يبدو ممكناً مع الفرع العسكري، وحركة حماس كانت في الواقع تنفذ نوعاً مبتكراً
من الفصل، لكن في الفترة الأخيرة حدث خلط كبير للأوراق، وهذا يدعو إلى
مراجعة هذه القضية الشائكة من جديد، والتأمل في إمكانية تنفيذ عملية استقلال
تدريجي للجناح العسكري في خلال عدة سنوات، يتحول بعدها إلى جماعة مستقلة
تتحمل تبعات عملياتها دون أن يتأثر العمل في الأفرع الأخرى، بينما تبقى الحركة
الأم متمسكة بخيار الانتفاضة، لكن بصورتها القديمة غير العسكرية، وهذا الطرح
في الحقيقة ليس مثالياً، ولكنه أهون الشرين؛ بمعنى أن الخيار الآخر هو الدخول
في معركة علنية مكشوفة مع قوة عاتية أصبحت مدعمة بتأييد دولي وإقليمي
لاجتثاث المقاومة بجميع أفرعها، وينبغي هنا التأكيد على ملاحظات هامة:
- أن ذلك لا يعني أبداً أن تبدأ الحركة في تنفيذ ذلك الآن؛ فواجب الوقت هو
التمسك بالوضع الحالي للمقاومة والثبات عليه، ولكن المطلوب أن يتم تنفيذ هذا
الطرح على مدى عدة سنوات تالية، وفق آلية خاصة بالحركة نفسها، بعيداً عن
التأثير الخارجي، وبصورة تدريجية هادئة.
- هذا التغيير ينبغي أن يتم وفق إرادة الحركة نفسها وبمعزل تام عن أي
ضغوط خارجية، وإلا فإن وقفه أوْلى.
- لن تتحول الحركة بعد تنفيذ هذا الطرح إلى التبرؤ من الإرهاب المزعوم،
وكل عمل عسكري ضد المحتل الغاصب هو مجرد طرح تكتيكي لا يمس الثوابت.
- قد يقول بعض الناس: إن ذلك ربما لن يُحدِث فارقاً كبيراً مع الأعداء،
ونقول: إن المطلوب هو بذل الوسع لصيانة الدعوة دون المس بثوابتها، وما وراء
ذلك ابتلاء لا تسلم منه الدعوات، كما أن هذا الطرح يثبت أمراً جديداً في الواقع،
وهو أنه قد انتهى زمن الجماعة ذات الأجنحة المتعددة، وأن ما يناسب الظروف
الحالية الفصل بين الأنشطة المختلفة.
4 - يبقى الجانب الإعلامي مهمشاً إلى حد كبير في أجندة المقاومة، ولا
تثريب عليها في ذلك؛ إذ يكفيها ما تعاني، ولكن التقصير يقع على عاتق الغيورين
على هذا الدين، والقادرين على تقديم الدعم، ويكفينا خجلاً أن حزب الله الشيعي
اللبناني يملأ الدنيا ضجيجاً بطحن الهواء، وقد شغل الدنيا بالأسرى اليهود الثلاثة
الذين اعتقلهم لأكثر من سنتين، وعملياته التي ربما تعد على أصابع اليدين يروجها
على أنها بطولات غير مسبوقة، رغم أنه لم يقتل في أعوامه النضالية ما قتله
البطل عبد الباسط عودة - رحمه الله - في عملية واحدة، ولكنه الإعلام. ولا شك
لدينا في توفر مادة إعلامية هائلة لدى المقاومة الفلسطينية تنتظر من يخرجها إلى
النور، وأذكر أن قناة الجزيرة أذاعت إثر مقتل القائد صلاح شحادة - رحمه الله -
كلمة مطولة له، كان لها كبير الأثر على مستمعيها، وماذا لو توافق الغيورون
والقادرون على إنشاء فضائية يسمونها: الأقصى أو القدس، تأخذ على عاتقها نشر
التراث الفدائي والاستشهادي للمقاومة، وكشف معاناة الفلسطينيين بعيداً عن الإعلام
الموجه، ولكي تبرز للمسلمين العرب حقيقة أن هذه المقاومة تقف سداً منيعاً في
وجه اليهود، يمنعهم ليس من طمس المجتمع الفلسطيني فقط، بل من إقامة إسرائيل
الكبرى على أنقاض النظام العربي.
5 - يبقى المجتمع الفلسطيني أحد أسلحة المقاومة الفعالة، وشحذ هذا السلاح
وتجهيزه للمعركة لن يكون إلا بتنشيط الفعاليات الدعوية، والسعي لتنفيذ مشروع
كبير لأسلمة هذا المجتمع ليكون خندقاً دفاعياً، وخطاً هجومياً في مواجهة أعداء
الداخل قبل الخارج.
وأخيراً: قد تمتلئ قلوب البعض يأساً وإحباطاً مما يقرأ ويسمع، ولكنا نبشره
أن اليهود أبداً لن يفلحوا في القضاء على الجهاد في فلسطين؛ لأنه أمر قدري،
ومهما بذلوا من جهد وزرعوا من ألغام في طريق الحق، فسيحيل الله تعالى شظايا
ألغامهم إلى تربة خصبة تنبت أجيالاً من الدعاة المخلصين المجاهدين؛ ذلك لأنهم:
[يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ] (التوبة: 32) .