الافتتاحية
تكثر في هذه الأيام المؤتمرات التي تبحث في الإسلام وعلاقته بقضايا
اجتماعية وسياسية كثيرة، ويقف الإنسان حائراً أحياناً في تكوين رأي صحيح حول
هذه المؤتمرات: دوافعها وأهدافها. من ينفق عليها، ومن يستفيد منها. ومن
القضايا التي يعاد القول فيها الحديث عن القومية والإسلام، ونسبة كل منهما للآخر.
إن الدخول، في الأهداف والدوافع وتواريخ الشخصيات التي تشارك في هذه
المؤتمرات قد يكون من قبيل التنجيم، والرجم بالغيب، لكن هناك دلائل لا يخطئها
من ينظر الأمور بهدوء وصبر وعمق.
وأولى هذه الظواهر أن الفترة الحالية تشهد ازدياداً في الوعي الإسلامي عند
المسلمين، وإلحاحاً من هذا الوعي على واقعهم الاجتماعي الذي يعيشونه، وعندما
نقول: ازدياداً في الوعي نعني ازدياداً نسبياً بالنسبة إلى فترة قريبة طغى فيها ما
سمي بالمد القومي، ولا نقصد أن المسلمين قد وصلوا إلى الدرجة المطلوبة من
الوعي.
وأثر هذا الوعي يتمثل في مظاهر كثيرة نجد آثارها في كل مكان، ويراقبها
غير المسلمين بمشاعر هي خليط من القلق والخوف والترقب والاشمئزاز وفقدان
الاتزان.
والغريب في الأمر أن أصحاب النظرة التحامية على الإسلام والمسلمين
يدركون عمق المأزق الذي يفصل بينهم وبين قناعة الناس بهم، فخلال فترة ليست
بالقصيرة أمسكوا بزمام الأمور في أغلب البلاد الإسلامية، ووضعت القوى ...
المستفيدة من ضعف المسلمين بين أيديهم إمكانيات هائلة، استخدمت في خطين
متوازين:
الخط الأول: تغييب الإسلام، وتجهيل الناس به عن طريق إضعاف ...
مؤسساته، وإبعاد علمائه عن نقاط التأثير، ومطاردة دعاته المخلصين.
الخط الثاني: إشاعة أفكار بديلة لتحل محل الفكر الإسلامي، وإقامة مؤسسات
بديلة للمؤسسات الإسلامية تملأ الفراغ وتبني أجيالا جديدة بأفكار (جديدة) ولا مانع
أن تكون هذه الأفكار مستوردة من الشرق أو الغرب. نقول: خلال هذه الفترة كان
من المنتظر أن لا تقوم للإسلام قائمة في النفوس بعد أن أهمل هذا الإهمال المقصود، وأُقْصِيَ هذا الإقصاء المملوء بالتشفي.
لكن الأمور لا تسير حسب ما يريد لها أهل الباطل، بل المسلم يعتقد أن وراء
أيدي البشر يد عليا، هي يد الله الذي تكفل بحفظ دينه:
[وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا
لَهُمُ الغَالِبُونَ] [الصافات: 171-173] .
وأمام هذا الواقع يبرز عند القوميين تساؤل: أين ما فعلناه طيلة هذه السنين؟
وكيف لم ترتض هذه الجموع ما قدمناه لها؟ وأين الخطأ؟ هل في الأهداف التي
رفعناها ذاتها؟ أم في الأسلوب؟ أم أن هناك سبباً خارجياً لعله في هذا الإسلام؟ !
فلماذا لا نحاول أن نراجع الخطة، ونقترب قليلاً من أنصاره لنرى: كيف يفكرون؟ وما هي نقاط الضعف ونقاط القوة عندهم؟ إن نظرة هؤلاء عن الإسلام تظل
نظرة خارجية لا يمكن أن تدرك إشكالية القضية من جذورها.
وهي تشبه نظرة الغربيين والمستشرقتين إلى الإسلام، فهؤلاء عندهم علم
واسع يثير الإعجاب، ويفتن الألباب، ولكنهم عاجزون بسبب تكوينهم العقائدي
ونظراتهم المسبقة عن سبر القوة الحقيقية لهذا الدين، وما ذلك إلا لأن فطرهم
مشوهة، ومن كانت فطرته مشوهة يستغرب الأمر البسيط، ويحتقر المهم، وتنقلب
عنده الأمور فيضخم جوانب يحسبها شيئاً وهي لاشيء، ويستهين بجوانب مهمة لا
يدرك ولا يريد أن يدرك أهميتها.
وكذلك هؤلاء المستغربون يجدون صعوبة في تحليل تمسك الناس بأهداب
دينهم، وصدورهم عن منهجه في نظرتهم للماضي والحاضر والمستقبل، مع أن
في هؤلاء المستغربين من يتمتع بعلم غزير وشهادات رفيعة قد حصل عليها من
أشهر الجامعات، ومن له لسان ذَلِق إذا خطب، وقلم غني إذا كتب، ولكن إذا
نظرت إلى تحليلاتهم أصابك العجب العجاب.
[أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً؛ فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ ! أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] [الجاثية:
23] .
وحتى لا نظلم الناس الذين يشاركون في مثل هذه المؤتمرات فلابد أن نشير
إلى اختلاف مشاربهم، ولكن مع هذا فإن اختيارهم لم يأت بشكل اعتباطي، بل
هناك اعتبارات متعددة تدفع إلى انتقائهم، ولكن الملاحظة التي قد تبدو في شكل
مأزق هي أنه يؤتى بشخصيات وتقدم بصورة على أنها تمثل الإسلام، وهذا التمثيل
مشكوك فيه، لأن أكبر قدر من المسلمين غير متاح لهم أن يقوِّموا هذه الشخصيات
ولا أن يفوضوا أحداً ينطق باسمهم.
وكذلك فإن في هذه اللقاءات يحصل خلط وتشويه للحقائق عن علم أو عن
جهل، ويتبنى الكلام باسم الإسلام قوم لو كان هناك نظام (حسبة) لحُجِر عليهم أن
يلوا أمر أنفسهم، فضلاً عن يتقدموا ليتكلموا عن الإسلام.
وقد أصبح من المعيب أن يطلق بعض من يوصفون بالمفكرين ألسنتهم في
الكلام على النظام الإسلامي نقداً وتقويماً وقد يكون بعضهم غير مسلم أصلاً؛
فينبري للرد عليهم - باسم الدفاع عن الإسلام - قوم يكتفون بلغة التبرير أو التشويه
أو الاعتذار.
ومما يلفت النظر أن روح الوصاية ووضع الإسلام في قفص الاتهام تحسها
في أغلب المؤتمرات التي تناقش قضايا للإسلام فيها رأي متميز: كقضية القومية،
وقضية المرأة، وقضية التشريع.
على أن أخطر الآثار المترتبة على هذه اللقاءات هو ما يتوصل إليه
المؤتمرون من مواقف لا تخلو من تسويات وتنازلات تحمل على أنها مواقف
إسلامية يستدل بها من قبل الذين يهاجمون الإسلام.
إن تقويمنا لهذه المؤتمرات هو أنها لا تجدي المسلمين شيئاً - إن لم تضرهم - فمن سلبياتها أن محاضرها وبحوثها ومناقشاتها تتلقفها دوائر المخابرات العالمية
المعنية بتتبع أخبار المسلمين فتبني مواقفها على أساس دراسات مشكوك في صحتها، مما ينتج عنه سوء تقدير وتخبط، وهذا مشاهد في ما تبثه أجهزة الإعلام الغربية
عن الإسلام والمسلمين في العالم، والذي يستند أكثره إلى العداوة المتأصلة،
والآراء المسبقة، ومثل هذه المعلومات المغلوطة.