مجله البيان (صفحة 4703)

مناظرة أهل البدع (رؤية شرعية معاصرة) - 2

دراسات في الشريعة

مناظرة أهل البدع

(رؤية شرعية معاصرة)

(2 ـ 2)

حسن بن علي البار [*]

ذكر الكاتب في الحلقة السابقة خطر البدعة، وتحدث عن المناظرة وتعريفها

وأسلوبها، وما حكم المناظرة مع أهل البدع ومجادلتهم والجلوس معهم، ولماذا كان

السلف الصالح يكرهون البدع وأسباب ذلك، والبواعث النبيلة على هذا الموقف،

ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بقية الموضوع.

- البيان -

ومسألة اتباع السلف يتعلَّق جزءٌ منها بسَعة العقول والأفهام، والقدرة على

تصوُّر الموضوع من جميع جوانبه، وهذه المواهب كان للسلف منها القدر الأكبر -

رحمهم الله -، وقد يتبعهم بعضُ من يحبهم في مواقفهم الظاهرة دون تفَقُّهٍ منه

لمنهجهم وطريقة تفكيرهم، فيكون على خيرٍ إلا أن هذا الخير ناقص، ولربما

تمسَّك بظاهريته بشيءٍ من أقوالهم وأفعالهم في مواقف وظروف؛ يجزم المتبع لهم

على بصيرة أنهم لو عايشوها لقالوا فيها بغير ما قالوه في ظروف أخرى. ولكنَّ الله

يقسم بين الناس الفهوم والعقول كما يقسم بينهم معايشهم وأرزاقهم، ولذلك فإن أبا

العباس ابن تيمية ذكر في كلام له بدعة قالت بها طائفة من الطوائف، ثم قال عن

طائفة أخرى قابلت أولئك: «وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه، وصاروا

ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك، ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على

وجهها ولا قاموا بما جاء به الرسول من الدلائل السمعية والعقلية. بل الذي يخبر

من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من

غير تصور لما أخبر به الرسول» [1] وعلى كل حال فالذي ينبغي للعبد أن يتقي

الله ما استطاع، فإن فعل ذلك وتجرَّد من الهوى فهو على خير كبير، ثم ليتق الله

في أن يُنكر ما ليس بمنكر، أو أن ينهى عن المعروف نسأل الله الهداية والتوفيق.

ولذلك فإن لهم - رحمهم الله - عشرات المواقف في محاجة أهل البدع

ومناظرتهم والرد عليهم، أذكر طرفاً منها ثم أعود لمناقشة مدى تحقق البواعث

الخمسة في الوقت المعاصر من عدمه بعد ذلك إن شاء الله.

وقد بوب الإمام ابن عبد البر (ت 463هـ) في كتابه العظيم (جامع بيان

العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله) باباً بعنوان: «باب إتيان المناظرة

والمجادلة وإقامة الحجة» ، استهله بآيات؛ منها: [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن

كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة:

111) ، وقال: [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] (الأنفال:

42) ، والبينة ما بان من الحق. وقال سبحانه: [إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا]

(يونس: 68) .

ثم أورد عدة آيات فيها مخاصمة الأنبياء ومجادلتهم ومناظرتهم لأقوامهم، مثل

إبراهيم، ونوح، وموسى - عليهم السلام -، ثم قال: «فهذا كله تعليم من الله

عز وجل للسؤال والجواب والمجادلة. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل

الكتاب، وباهلهم بعد الحجة ثم ساق آيتين في ذلك. وجادل عمر بن الخطاب

- رضي الله عنه - اليهود في جبريل وميكائيل - عليهما السلام - ... وأخبر النبي

صلى الله عليه وسلم أن آدم احتج مع موسى - عليهما السلام - فحج آدم موسى.

وقال عز وجل: [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم] (الحج: 19) ،

فأثنى على المؤمنين أهل الحق وذم أهل الكفر والباطل.

وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا

وتقرروا وتناظروا حتى صار الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في

أهل الردة، وفي فصول يطول ذكرها.

وناظر علي - رضي الله عنه - الخوارج حتى انصرفوا، وناظرهم ابن

عباس - رضي الله عنه - أيضاً بما لا مدفع فيه من الحجة من نحو كلام علي،

ولولا شهرة ذلك وطول الكتاب لاجتلبت ذلك على وجهه» .

ثم خرّج بأسانيده أخبار مناظرة كل من علي وابن عباس - رضي الله

عنهما - وعمر بن عبد العزيز - رحمه الله - للخوارج، ثم قال: «هذا

عمر بن العزيز - رحمه الله - وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال في

الدين، وهو القائل: (مَنْ جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل) ، فلما

اضُطر، وعرف الفَلَج في قوله، ورجا أن يهدي الله به؛ لزمه البيان فبيَّن

وجادل، وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله» [2] اهـ.

وخبر ابن عباس مع الخوارج حاصله أن الحرورية لما اجتمعت للخروج على

عليّ رضي الله عنه؛ قال له ابن عباس ذات يوم: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة

فلا تفُتْني حتى آتي القوم. قال: فدخلتُ عليهم وهم قائلون؛ فإذا هم مُسْهِمةٌ

وجوهُهم من السهر، قد أثّر السجودُ في جباههم، كأن أيديهم ثفِن الإبل [3] ، عليهم

قُمُصٌ مُرحضة. فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ ... قلت: جئتكم من عند

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئتُ

لأبلغَكم عنهم، وأبلغَهم عنكم ... إلخ.

وفيه أن ابن عباس حضر مجتمعهم، وناظرهم وأجاب عن شبهاتهم. فرجع

منهم ألفان، وبقي بقيتهم فخرجوا فقُتلوا [4] .

فهذا ابن عباس - رضي الله عنه - لما كان في مناظرته للخوارج خير كثير

ذهب بنفسه إليهم حتى رجع منهم معه الجمُّ الغفير.

وناظر عمر بن عبد العزيز - يرحمه الله - غيلان الدمشقي [5] ، وناظر

الأوزاعي أحد القدرية [6] ، وناظر الشافعي حفص الفرد [7] ، وناظر بشرَ المريسي

بناءً على طلب أم بشر منه ذلك [8] ، وقال - رحمه الله -: «ناظروا القدرية

بالعلم، فإن أقروا خُصِموا، وإن أنكروا كفروا» [9] .

ومن مناظرات السلف كذلك المناظرة المطبوعة باسم (المناظرة) ، والتي

جرت بين جعفر بن محمد الصادق مع الرافضي؛ إذ ألزمه فيها الحجة، وبيّن فيها

فضل الشيخين - رضي الله عنهما -[10] .

ومن مناظراتهم مناظرة عبد العزيز الكناني - رحمه الله - لبشر المريسي

العنيد في مسألة خلق القرآن، والتي وُثِّقت في كتاب (الحيدة) [11] .

وهكذا مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد والمعتزلة في المسألة

نفسها، وغيرها من مناظراته - رحمه الله -[12] .

وقد نفع الله به بعض من كان فيه بدعة فعاد للحق والسنة. قال ابن حبان في

كتاب الثقات في ترجمة موسى بن حزام الترمذي: «كان في أول أمره ينتحل

الإرجاء، ثم أغاثه الله بأحمد بن حنبل، فانتحل السنّة، وذب عنها، وقمع من

خالفها مع لزوم الدين إلى أن مات» [13] .

ولما حضر السلطان ألب أرسلان إلى هراة اجتمع عليه أئمة الشافعية

والحنفية للشكاية من الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي (ت 481هـ) ،

ومطالبته بالمناظرة، وخلافهم معه كان خلافاً في العقيدة كما هو معلوم، فاستدعاه

الوزير نِظَام الملك أبو علي الحسن بن علي - رحمه الله -، وقال: «إن هؤلاء

القوم اجتمعوا لمناظرتك فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق

معهم؛ إما أن ترجع، وإما أن تسكت عنهم. فقام وقال: أنا أناظر على ما في كُمّي.

فقال: وما في كُمَّك؟ فقال: كتاب الله عز وجل وأشار إلى كمه اليمنى، وسنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار إلى كمه اليسرى، وكان فيه الصحيحان.

فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم، فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذا

الطريق» [14] .

وناظر ابن تيمية (ت 728هـ) خصومه في الخلوة والجلوة مثلما كان يردّ

عليهم في كتبه، ومناظراته - رحمه الله - كثيرة لا تكاد تنقضي [15] . فقد ناظر

الرفاعية، وناظر القاضيَ ابنَ مخلوف المالكي، ومناظرته في الواسطية معروفة

مشهورة وغير ذلك كثير.

وكان ابن القيم (ت 751هـ) «يفتي ويناظر ويجادل بالحق ليدحض

الباطل مع أنواع من أمم الأرض على اختلاف آرائهم وتنوع مذاهبهم» [16] .

وفي شفاء العليل لابن القيم: «الباب التاسع عشر: ذكر مناظرة جرت بين

جبري وسني جمعهما مجلس واحد» . وفيه: «الباب العشرون: في ذكر مناظرة

بين قدري وسني» [17] .

وفي العصور المتأخرة ناظر العلامة عبد الله بن الحسين السويدي [18]

(ت 1174هـ) علماء الرافضة في النجف نفسها بطلب من الوزير أحمد باشا

(1773 م) ، فاجتمع له سبعون مفتياً من علمائهم، وحكَّمه فيهم الشاه نادر

(ت 1147هـ) ، ثم جرت المباحثة بين السويدي مع الملا باشا علي أكبر، وهو

من علماء الشيعة، في مسألة أحقية علي - رضي الله عنه - بالخلافة، فناظره

السويدي في ذلك بوجوه من الردود بليغة ومفحمة حتى قطعه. وحتى قال بعض

الحاضرين من الشيعة مخاطباً الملا باشا: اترك المباحثة مع هذا، فإنه شيطان

مجسم، وكلما زدتَ في الدلائل وأجابك عنها انحطت منزلتُك.

ثم تكلم معه في عدة موضوعات أخرى حتى انقطع الشيعي والحمد لله.

وأُخبر الشاه بهذه المباحثة طبق ما وقع، فأمر أن يجتمع علماء إيران وعلماء

الأفغان وعلماء ما وراء النهر، ويرفعوا المكفِّرات، ويكون السويديُّ ناظراً عليهم،

ووكيلاً عن الشاه، وشاهداً على الفرق الثلاث بما يتفقون عليه.

قال السويدي: فخرجنا نشق الخيام والأفغانُ والأوزبك والعجم يشيرون إليَّ

بالأصابع، وكان يوماً مشهوداً [19] .

وقد ناظر الشيخ ابن سعدي بعض المتكلمين بنفسه [20] ، وحكى عدة مناظرات

بين مسلم وملحد [21] .

ودعا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - علماء إيران للمناظرة،

وذلك «حينما قدِم مندوب إيران في رابطة العالم الإسلامي وقدَّم طلباً باعتراف

الرابطة بالمذهب الجعفري، ومعه وثيقة من بعض الجهات العلمية الإسلامية ذات

الوزن الكبير تؤيده على دعواه، وتجيبه إلى طلبه، فإن قبلوا طلبه دخلوا مأزقاً،

وإن رفضوه واجهوا حرجاً، فاقترحوا أن يتولى الأمر فضيلته - رحمه الله - في

جلسة خاصة. فأجاب في المجلس قائلاً: لقد اجتمعنا للعمل على جمع شمل

المسلمين والتأليف بينهم وترابطهم أمام خطر عدوهم، ونحن الآن مجتمعون مع

الشيعة في أصول هي: الإسلام دين الجميع، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم

رسول الجميع، والقرآن كتاب الله، والكعبة قبلة الجميع، والصلوات الخمس،

وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. ومجتمعون على تحريم المحرمات من قتل

وشرب وزنى وسرقة ونحو ذلك، وهذا القدر كافٍ للاجتماع والترابط، وهناك

أمور نعلم جميعاً أننا نختلف فيها، وليس هذا مثار بحثها، فإن رغب العضو

الإيراني بحثها واتباع الحق فيها فليختر من علمائهم جماعة، ونختر لهم جماعة

ويبحثون ما اختلفنا فيه، ويُعلن الحق ويلتزم به، أو يسحب طلبه الآن. فأقر

الجميع قوله، وسحب العضو طلبه» [22] .

وغير هذا كثير في مواقف أهل السنة في نصرة مذهبهم الحق على من ناوأ

سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنكب سبيل المؤمنين [23] .

وبعد الاطلاع على هذا كله يجزم المؤمن الموفق، وطالب العلم على بصيرة

أن هؤلاء الثلة المباركة من علماء المسلمين، من مميِّزيهم ومحقِّقِيهم، ومن أكثرهم

علماً بمنهج السلف واتباعاً له؛ لم يكونوا ليتفقوا على مخالفة صريحة لمنهج السلف

في التعامل مع مثل هذه المسألة، وإنما هو الفهم الدقيق، وإنزال النصوص منازلها.

رحمة الله على الجميع.

بعد هذا الاستعراض السريع لمواقف علماء المسلمين حيال هذه القضية

أعود لذكر البواعث الخمسة المذكورة سلفاً، مع مناقشة مدى تحققها في واقعنا

المعاصر، وهو ما يسميه علماء الأصول بتحقيق المناط:

الباعث الأول: هو حرص الإنسان على سلامة دينه له [24] ، وأول ما يلاحظ

في هذا الباعث هو عدم اعتبار الجم الغفير من العلماء له عند تعيّن الأمر عليهم

لتحقيق مصلحة شرعية، بل كان الإقدام منهم واضحاً بلا تلجلج ولا تردد وإنما إقدام

مع ثبات حجة، ورسوخ في اليقين، وثقة بنصر الله. والذي يجب أن يخاف حال

مناظرته لأهل البدع هو الذي يناظرهم عبثاً، وتزجية للوقت، وإظهاراً للقدرة على

قوة الحجة والتفوق في العلوم كما كان يحصل كثيراً في مجالس الخلفاء [25] . أو إذا

كانت المناظرة هدفاً لذاتها بحيث يظن أنها سبيل صحيح لتحصيل العلم، ويحصل

بسبب ذلك التوسع والمسامحة في مخالطة المبتدعة فهذا مذموم أيضاً.

وهذا كما ورد في ترجمة الإمام العلامة المتفنن أبو الوفاء ابن عقيل

(ت 513هـ) ؛ أنه قال عن نفسه: «وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني

هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً» .

قال الذهبي معلقاً: «قلتُ: كانوا ينهونه عن مجالسة المبتدعة، ويأبى حتى

وقع في حبائلهم وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة» [26] .

وقال ابن العماد الحنبلي: «إن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده

إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما علم الكلام، ويظهر

منه في بعض الأحيان نوع انحرافٍ عن السنة وتأول لبعض الصفات» [27] .

ولكن يبدو أنه في آخر عمره راجع السنة وتاب من تلك المجالسات. قال ابن حجر:

«وهذا الرجل من كبار الأئمة، نعم كان معتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب

عن ذلك، وصحت توبته، ثم صنف في الرد عليهم» [28] .

ويصح أن يقال في مثل هذه الأحوال: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا

يعنيه» [29] .

ولكنها إذا كانت في مقام تمييز حق من باطل، وصدع بالسنة وبطريقة السلف

في مواجهة الزحف البدعي الظالم، فهذا يكون من الجهاد المشروع في سبيل الله

باللسان والبيان، وهو قسيم الجهاد في سبيل الله بالسلاح والسنان، ولما كان

المجاهد في سبيل الله موعود بالنصر بالظفر أو الشهادة، فإن المجاهد باللسان لا بد

أن يكون كذلك إذا اتقى الله ما استطاع، وكان له من العلم ما يؤهله لخوض غمار

معركة المبتدعة بالحجة؛ إذ الحجة في جهاد اللسان تقابل القوة في جهاد الطِّعان،

فمن كان هذه حاله فإنه إذا ناظر المبتدع لم يكن إلا قد قام بواجب الدين عليه، والله

تعالى أكرم من أن يضيع من هذا حاله في دينه ونفسه، بل يحميه من البدعة ومن

أن يقر ذلك في قلبه، أو أن يكون سبباً مفضياً به إلى الزيغ والبدعة، وإن احتمل

أن يكون الظفر لخصمه المبتدع لسبب خارج عنه إلا أن هذا نادر ولا يتعدى ضرره

إلى التأثير في المناظر السني الذي تقيّد بالشروط المذكورة، قال تعالى: [إِنَّا

لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ،

[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .

وكذا يُذَم البحث والنظر - فضلاً عن الجدال والمناظرة - إذا كان هذا الباحث

متشككاً متحيراً متهوِّكاً؛ فهذا يجب عليه أن يطلب الهدى من مظانه لا أن يخرج

للبيداء يلتمس السُقيا، كما كان حال الملك جلال الدين محمد أكبر (ت 963هـ)

الذي تبوأ عرش الهند وله من العمر قرابة ثلاث عشرة سنة، وكان في السنوات

العشرين الأولى من حكمه مسلماً سنيّاً، مؤدياً للصلاة في المسجد في أوقاتها، وكان

يقوم مقام المؤذن أحياناً فيدعو الناس للصلاة. وكان يستجيب لمشورة العلماء،

وكان يصدر أوامره بتعيين القضاء والمفتين في كل جزء من أجزاء مملكته ليحكموا

بالناس تبعاً لأصول الشريعة الإسلامية، وكان يشوب فهمه للإسلام فهم صوفي

قبوري على نفس صورة الالتزام بالإسلام السائدة في عصره وبلده. وكان يهتم

بقوافل الحجيج، ويقوم بوداعها بنفسه.

ثم بعد السنوات العشرين الأولى من حكمه؛ أخذ يفكر بطريقة أخرى تميل

إلى محبة المناظرة والمجادلة وسماع مختلف الآراء، وكان سبب ذلك هو زيارة

الراهب النصراني جولين برابرا للملك أكبر، وكان مناظراً مفوَّها، ومتكلماً بارعاً.

فعرض عليه ميزات دين النصارى، ونقائص الدين الإسلامي على حد زعمه،

فأُعجب به الملك. ثم طلب بعثة من الرهبان البرتغاليين بإشارة من الراهب جولين،

فلبوا دعوته وأرسلوا بعثة تضم خيرة الرهبان عندهم، كما أرسلوا إليه نسخة من

الإنجيل، ثم تتابعت بعد ذلك صِلاته بهم.

وفي تلك الأثناء قام ببناء دار خاصة سماها (عبادة خانة) ، ودعا إليها

العلماء من السنة والشيعة للمناظرة حباً للاستطلاع واستجابة للعقلية الحرة المنفلتة.

وأخذ علماء السنة والشيعة بالاجتماع مساء كل خميس في هذه الدار. ثم إنه وبعد

عدة سنوات خطا خطوة أخرى، فبدأ بدعوة علماء الملل الأخرى من براهمة

الهنادكة، واليهود، والنصارى، والمجوس. ثم بعد فترة من الزمان دعا إلى

اجتماع عام حضره كبار العلماء من كل دين وملة، وقادة الجيش، وفيه تحدث عن

الأضرار التي تعود على المجتمع من كثرة الأديان وتعددها، وأعلن عن ضرورة

إيجاد دين واحد يضم محاسن الأديان المختلفة الموجودة في الهند ويعتنقه الجميع،

وبهذا كما يزعم يمكن تقديس الخالق، ويمكن للسلام والرفاهية أن يسودا بين الناس،

وأن يشمل الأمنُ الدولة. وسمى دينه الجديد هذا بـ (الدين الإلهي) ، وأطلق

عليه كذلك (المذهب الإلهي) أو (المذهب الأكبري) [30] !

الباعث الثاني: أن العقل السليم يدل على التسليم للشريعة والانقياد، وهذا

الباعث في حقيقته مندرج تحت البواعث الأخرى، ويكفي في مناقشته أن يقال: إن

الجدل والمناظرة المجوَّزة ما كان من باب الذب عن الشريعة لا من باب الاعتراض

عليها، «والذي يُبطله أهل السنة من النظر نوعان:

أحدهما: ما كان متوقفاً على المراء واللجاج الذي لا يفيد اليقين، ويثير الشر.

وثانيهما: الانتصار للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك

والحيرة والبدعة؛ لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقول

ومواقفها» [31] ، ويوضحه:

الباعث الثالث: وهو قصد حفظ المجتمع من البدعة، وهذا مستقيم جداً في

زمان ظهور أعلام السنة، وكثرة أتباعها كما مر بيانه، وأما في هذه الأزمان

المتأخرة فإن المبتدعة قد صارت لهم الكلمة في بلدان كثيرة من بلدان العالم

الإسلامي، وصوتهم جهير مسموع يضلون به الناس عن الحق؛ أفيجوز بعد ذلك

لأتباع الصراط المستقيم أن يظنوا أنهم في انكفائهم على أنفسهم، وتركهم لبيان العلم

النافع، وتركهم لواجب القيام بالشهادة على الناس معذورون. قد مضت سنة الله أنه

ينصر الحق بالرجال، فإن تركوه فإن في سنة الله أن يتدافع الحق والباطل، فيكون

للباطل صولة وجولة بسبب تفريط أهل الحق في القيام بواجبهم، والله المستعان.

ولذلك تجد أن علماء السنة الذين نقلنا من كتبهم النهي عن المجادلة والمناظرة

هم أنفسهم قد ردوا على المبتدعة بدعهم وفي تلك الكتب نفسها؛ ككتاب الآجري،

وابن بطة، واللالكائي.. وغيرهم.

وقد كان كثير من البدع إلى عهد قريب في بطون الكتب لا يعرفها إلا

المتخصصون، وبعضها في جهات قصيّة من العالم لا يعرفها إلا أهلها، ولكن

الناس اليوم يسمعون بذلك كله عبر القنوات الفضائية والبرامج الحوارية والوثائقية،

وعاد كثير من الموضوعات التي كان أهل العلم والحكمة يحبسونها عمن لم تبلغها

عقولهم من الناس كلأً مباحاً لكل أحد؛ خلافاً لما قال علي - رضي الله عنه -:

«حدّثوا الناس بما يعرفون» [32] ، وخلافاً لهدي السلف الصالح.

وعليه؛ فإنْ عَرَض الناسُ دراهمَهم المزيفةَ والمغشوشة؛ أفلا يتوجب على

صاحب الذهب الإبريز أن لا يعرض بضاعته على استحياء وتردد، وأن يعرضها

بوضوح وشجاعة، ويدعو إليها بدعاية الإسلام، ولن تقف حينئذٍ في وجهها شبهات

الشرق ولا الغرب؟! وليعلم أن تصور الباطل كافٍ في بيان فساده عند أكثر طلاب

الحق، فإن بُيَّن على وجهه كان في ذلك خير عظيم؛ لأن أهل الباطل يموهون

باطلهم، ويخلطونه ببعض الحق ليروج على الناس [33] ، فتمييز هذا عن هذا من

أعظم المصالح، قال الله تعالى: [لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب] (الأنفال:

37) . قال أحمد في رواية حنبل: «قد كنا نُأمر بالسكوت فلما دُعينا إلى أمرٍ، ما

كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبيِّن من أمره ما ينفي عنه ما قالوه» . ثم استدل لذلك

بقوله تعالى: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن] (النحل: 125) [34] .

ويتعلق بالكلام على هذا الباعث مسائل:

1 - أن هذه المناظرات المتوقع فيها أن تكون علنية، ولا بأس بذلك، بل

فائدة ذلك إن شاء الله تكون أكبر من فائدة مناظرة في مجلس مغلق لا يعلم بها ولا

بنتائجها إلا القليل من الناس فتقل فائدتها لذلك.

وقد قال قتادة: «إذا ابتدع الرجل بدعة: ينبغي لها أن تُذكر حتى تُحذر»

[35] ، والمقصود بذلك البدع التي قد يكون لها قبول عند الناس ولو في المستقبل،

والتي يراد تحصين المجتمع من أضرارها.

وأما البدع التي عافى الله الناس منها، واحتمال وقوعها قليل أو نادر، ويُراد

من المناظرة نفع المناظَر فالأصل فيها الإسرار.

وسئل بشر بن الحارث عن الرجل يكون مع أهل الأهواء، في موضع جنازة

أو مقبرة، فيتكلمون ويعرضون: فترى لنا أن نجيبهم؟ فقال: «إن كان معك من

لا يعلم فردوا عليه؛ لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون، وإن كنتم أنتم وهم فلا

تكلموهم ولا تجيبوهم» [36] .

وقد سُئِل الإمام ابن بطة عن السائل يسألُ العالِمَ عن مسألة من الأهواء الحادثة

يلتمس منه الجواب؛ أيجيبه أم لا؟ فقسَّم - رحمه الله - السائلين إلى ثلاثة أنواع

يهمنا منهم هنا النوع الثاني الذي قال عنه: «ورجلٌ آخر في مجلسٍ أنت فيه

حاضر، تأمن فيه على نفسك، ويكثُرُ ناصروك ومعينوك، فيتكلَّم بكلامٍ فيه فتنة

وبليّة على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب لأنه هو ممن في قلبه زيغٌ يتبع

المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمعُ

كلامه إلا أنهم لا حجة عندهم على مقابلته ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به. فإنْ سكتَّ

عنه لم تأمن فتنته بأن يُفسد بها قلوب المستمعين وإدخال الشك على المستبصرين.

فهذا أيضاً مما تَرُدُّ عليه بدعته وخبيث مقالته، وتنشر ما علَّمك الله من العلم

والحكمة. ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك

خلاص إخوانك من شبكته، فإنَّ خُبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشيطان

ليصيدوا بها المؤمنين. وليكن إقبالك بكلامك، ونشر علمك وحكمتك وبِشر وجهك

وفصيح منطقك على إخوانك ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه،

وتحول بينهم وبين استماع كلامه. بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوعٍ من العلم

تحوِّل به وجوه الناس عنه فافعل» [37] اهـ.

2 - أن قصد حفظ المجتمع من البدعة لا يزال قائماً، ولكن حفظه في

الظرف الذي وصفت يكون بالكلام لا بالسكوت، وهذا لأن المستمع للمبتدع كثير،

فيجب أن يحاول السنّي الوصول لهذا الكثير. ولكن من سلَّمَه الله من البدع،

وعرف الحق وأهله، وانقاد لتعليم أهل العلم، فإنه ينبغي له ألا يُشغل قلبه بالنظر

لهذا المناظرات ولا لسماع شبه المبطلين كما تقدم تقريره، وما أبيح للضرورة فإنه

يقدر بقدرها، فيؤمر حينئذ بالمشاركة في المناظرات من قبل من تأهل لذلك من

علماء المسلمين، أو طلبة العلم المبرزين، بينما يُنهى عن مشاهدتها وتتبع أخبارها

من لم يكن متصدياً ولا مخالطاً لأهل البدعة. والله أعلم.

3 - لما كانت المناظرات مجالاً للمغالبة والمنازعة في إقامة الحجة ورفع

الصوت؛ فإن كثيراً من شبه المبتدع قد لا يستطيع الطرف السنّي المناظر أن

يشتغل به عما هو بصدده من مسألة يريد تقريرها، أو إلزام يريد أن يحُجَّ به

الطرف المقابل. وهذه الشبه قد تعلق ببعض القلوب، فمن المناسب أن تُتبع هذه

المناظرات في حالة إذاعتها في تلفاز ونحوه ببرامج هادئة، يكون المتحدث فيها من

أهل السنة ليغسل في برنامجه أوضار المناظرة، ويجيب فيها عن الإشكالات التي

قد ذكرت ولم يسع الوقت لنقاشها.

4 - مراعاة للمسألة من جميع جوانبها؛ فلا بد أن يقال بأن طرق الدعوة

كثيرة، وبيان الحق والاشتغال بمن سلم من الأمراض المعدية أولى من غيره ممن

تلبس بالجَرَب، وعليه فالأصل في المناظرات - العلنية منها على وجه الخصوص

- ألا تُطلب من جهة أهل السنة، ولا يُتجرأ عليها إلا أن يتضح وجه المصلحة فيها

بحيث يكون عظيماً ظاهراً، ويكون خوف الضرر والمفسدة فيها قليلاً؛ بحيث يغلب

هذا على الظن، أو أن يقيمها أهل البدع فيأتيهم أهل السنة لاستغلال الموقف،

ولقمع الشبهة والبدعة، والله أعلم.

الباعث الرابع: قصد زجر المبتدع عن بدعته، وهذا القصد يختلف تحققه

باختلاف الأحوال، وباختلاف المتناظرين، ولذلك فلا أرى أنه من المناسب أن

يناظر كبير من علماء أهل السنة والجماعة عالماً من علماء المبتدعة في مكان يكون

المبتدع فيه مقموعاً مخذولاً، فيكون في قبول مناظرته ترويج له، واعتراف به.

ولكن إن كان العكس بحيث ينقلب الهاجر للمبتدع مهجوراً منبوذاً في مجتمعه؛

فحينئذ يتخلَّف هذا المقصد، ويبقى النظر بالنسبة لمن هذه حاله إلى بقية المقاصد

والبواعث.

وأما اليوم والكلام على ما يجري على القنوات الفضائية، وهي ليست في

الغالب قنوات تراعي المصالح الشرعية، وبالتالي فسيقدم المبتدع بدعته على الملأ؛

فلا يصح أبداً أن يقال هنا بزجره وهجره من جميع أهل السنة والجماعة، وإن

صح أن يقال بأن يرد عليه أصغر القوم لئلا يُكرَّم مثله بإشغال علماء المسلمين به

وبأمثاله [38] .

ثم ليس هذا القصد - قصد زجر المبتدع - بأولى من قصد الإحسان إليه

بهدايته هداية الدلالة والإرشاد عند أمن الفتنة، فهذا من أعظم المعروف، ولذلك قال

ابن عون: «سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلاً إنْ كلَّمته طمعت

في رجوعه» [39] .

الباعث الخامس: الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في

بدعته. ولا بد من أن يُعْلم بأن الله تبارك وتعالى قدَّر الهدى والضلال، وأن ذلك قد

فُرِغَ منه، وأن خير الناس وألينهم جانباً، وأعرفهم بالله، وأشفقهم على الناس قد

استجاب له أناس وكفر به كثير. فلا يهولنك!! وعليك ببيان الحق ولو كثر الهالكين.

قال الإمام محمد بن الوزير: «والحكيم الخبير قد أنبأنا من عتوّهم

وإصرارهم على الباطل بما لم نكن نعرفه إلا بتعريفه سبحانه وتعالى فقال: [وَلَوْ

فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ

نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ] (الحجر: 14-15) ، وقال سبحانه وتعالى: [وَلَوْ أَنَّنَا

نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ

أَن يَشَاءَ اللَّهُ] (الأنعام: 111) ، فكيف تنفع المناظرة من لم تنفعه مثل هذه

الآيات الباهرات، وإنما الحكمة أن يوكلوا إلى الذي قال في بيان القدرة على

هدايتهم بما هو أعظم من تلك الآيات من ألطافه التي ليسوا لها أهلاً: [وَلَوْ شِئْنَا

لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا] (السجدة: 13) ، [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ

كُلُّهُمْ جَمِيعاً] (يونس: 99) ، وقال تعالى في بيان علمه ببواطنهم وحكمته في

ترك هداية غواتهم: [وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم

مُّعْرِضُونَ] (الأنفال: 23) ، وقال تعالى في إقامة الحجة عليهم بخلق العقول

وبعثة الرسول: [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى] (فصلت:

17) ، وقال تعالى: [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] (الإسراء: 15) ،

وقال تعالى: [رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ

وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (النساء: 165) .

فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تُعرِّف السنّي قيام حجة الله تعالى على الخلق في

بيان سبيل الحق، فيدعوهم إلى الله تعالى مقتدياً برسله الكرام - عليهم أفضل

الصلاة والسلام -، مكتفياً من البيان بما في القرآن، مقتصراً في الفرق بين الحق

والباطل بالفرقان، يستصبح بنوره في ظلم الحيرات، ويَمتثل مطاع أمره في

[فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] (البقرة: 148) ، ولا يتعدى حدود نصحه في الإعراض عن

الجاهلين، والمجانبة للخائضين في آيات رب العالمين» [40] اهـ.

ومن المهم أن يراعى ألا يكون المناظر هو سبب تبغيض الحق إلى الطرف

المقابل بالبغي عليه بالقول أو الفعل، أو بسوء خلقه، أو بضعف حجته. فليست

دعوى المدعي أنه من أهل الحق بعذر له في عدم إظهار البراهين [41] .

قال الإمام ابن القيم: «ما كل من وجد شيئاً وعلمه وتيقنه أَحْسَنَ أن يستدلَّ

عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه، فهذا لون، ووجوده لون» [42] ، وقد قال

بشر المريسي للإمام الشافعي - رحمه الله -: «إذا رأيتني أناظر إنساناً وقد علا

صوتي عليه؛ فاعلم أني ظالم، وإنما أرفع صوتي عليه لذلك» [43] .

وعلى كل حال فالأكمل للمناظر أن يكون قاصداً لإيصال الحق إلى الطرف

الآخر الذي يناظره متلطفاً في ذلك، فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق.

ومن وسائل المناظرة والمجادلة ما يتلطف به إلى إيصال الحق إلى الخصم

شيئاً فشيئاً حتى يتشربه، وقد يفتح الله على قلبه فيتبعه، فيكون لهذا المناظر أجر

هداية المبتدع، ولو لم يعلم الناس أو المبتدع نفسه بذلك، ولكن قد علم ذلك وأثبته

في صحائفه اللطيف الخبير تعالى.

وبعد هذا التَطواف مع هذه البواعث الخمسة، ومناقشتها أحب أن أختم هذا

البحث بذكر بعض كلام أهل العلم في تقرير ما سبق تقريره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس

في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات.

وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم ببعض، وهذا يقوم ببعض، كما في

نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أمور الدين.

والكلام الذي ذمُّوه نوعان:

أحدهما: أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو

باطل وكذب؛ فإن أصدق الكلام كلام الله.

والثاني: أن يكون فيه مفسدة، مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن

مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم؛ وهذا لأن ذلك قد يكون

أنفع للمسلمين من مخاطبتهم؛ فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد

بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هُجر وعُزَّر كما

فعل أمير المؤمنين عمر بصَبيغ بن عِسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه،

أو قُتِل، كما قَتَل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما، كان ذلك

هو المصلحة؛ بخلاف ما إذا تُرك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه، وإما لفساد

إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.

والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبيَّنوا له الحق كما

فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - واستتابه، ثم نكث التوبة بعد ذلك

فقتلوه. وكذلك علي - رضي الله عنه - بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم،

ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين.

والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة

إضرار الناس قوبل بالعقوبة.

وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة

وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يُفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف في

المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا

منفعة.

وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله.

والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة مَنْ لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في

مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف

باختلاف الأحوال. وأما جنس المناظرة بالحق، فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة

أخرى. وفي الجملة: جنس المناظرة والمجادلة؛ فيها محمود ومذموم، ومفسدة

ومصلحة، وحق وباطل» [44] .

ثم قال بعد صفحات: «وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه عنه السلف

مطلقاً، بل هذا إنْ كان حقاً يكون مأموراً به تارة، ومنهياً عنه أخرى كغيره من

أنواع الكلام الصدق. فقد يُنهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر

المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علماً ولا ديناً ...

فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نُهي

عنها لذلك. وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من هذا الباب» [45] .

وروى الحافظ البيهقي عن الشافعي أنه قال: «ما كلمت رجلاً في بدعة قط

إلا كان يتشيع» ، قال البيهقي: «وهذا يدل على كثرة مناظرته أهل البدع حتى

عرف عادتهم في إظهار مذهب الشيعة، وإضمار ما وراءه من البدعة التي هي أقبح

منه.

وقد قال عمر - رضي الله عنه - في قيام شهر رمضان:» نعمت البدعة

هذه «، يعني: أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.

قلت - البيهقي -: فكذا مناظرة أهل البدع إذا أظهروها، وذكروا شبههم منها

وجوابهم عنها وبيان بطلانهم فيها، وإن كانت من المحدثات فهي محمودة ليس فيها

رد ما مضى.

وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القدر فأجاب عنه، وسئل عنه بعض

الصحابة فأجابوا عنه بما روينا عنهم، غير أنهم إذ ذاك كانوا يكتفون بقول النبي

صلى الله عليه وسلم، ثم بعده بالخبر عنه؛ وأهل البدع في زماننا لا يكتفون بالخبر

ولا يقبلونه، فلا بد من رد شبههم إذا أظهروها بما هو حجة عندهم، وبالله

التوفيق» [46] اهـ.

وقد نص على ما أفضنا فيه من أن موقف السلف من أهل البدع موقِفٌ مبني

على قصد جلب المصالح الشرعية ودرء المفاسد، وليس الهجر هو المنهج الثابت

لهم في جميع الأحوال: جمعٌ من العلماء المعاصرين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز

- يرحمه الله -[47] ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين - يرحمه الله -[48] ،

والشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله -[49] ، والشيخ عبد المحسن العباد - حفظه

الله -[50] وغيرهم.

وأثبته جماعة من طلبة العلم والباحثين في دراساتهم [51] ، ودرسوه بتوسع.

وفي ختام هذه الورقات يمكن استخلاص ما يلي:

1 - أن الموقف الأصلي العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم وترك

مجالستهم ومناظرتهم؛ لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة

الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة أو التأثر بها، أما إن تخلفت هذه

المصالح أو كانت المصلحة في غير ذلك الهجر كما تقدم تفصيله فإن الحكم هنا دائر

مع منفعته، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يفرقون «بين الأماكن التي كثرت فيها

البدع كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة وبين ما ليس

كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم. وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في

حصوله أوصل الطرق إليه» [52] .

2 - أن مناظرة أهل البدع تختلف عن المجالسة من جهة أنها نوع من الجهاد،

ولتضمنها لمصالح أخرى؛ ولذلك فقد نُقِل عن السلف عشرات المواقف التي

ناظروا فيها المبتدعة، ولا يعرف عنهم الشيء نفسه فيما يتعلق بالمجالسة

والمخالطة.

3 - البواعث التي دفعت السلف لهذا الموقف من المبتدعة قد اختلف تحقق

عدد منها في زماننا هذا، فينبغي على ذلك أن يتغيّر الموقف وفق المصالح الشرعية.

4 - حرص الإنسان على سلامة دينه أحد أهم بواعث السلف على ترك

مناظرة المبتدعة، وهذا الباعث لن يزال قائماً، وعليه فلا يتوسع في طلب

المناظرة من المبتدع إلا أن يكون هو الذي يطلبها، أو تعظم المصلحة في إقامتها

وتقل المفسدة. وإن توجهت المناظرة فلا يجوز أن يتقدم لها إلا الأكفاء من العلماء

الذين لهم اطلاع ودراية بهذه البدعة وحِيَل أهلها، أو طلبة العلم المؤهلين لذلك.

5 - المناظرات العلنية منها والسرية منهج معروف وجادة مسلوكة عند

العلماء، والحكم فيها يقدِّره أهل العلم والحِجى، ومداره على قاعدة جلب المصالح

وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.

6 - يبعث على المناظرة أمور:

أ - دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم.

ب - الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس البرآء منها،

وإعطاء الناس الأمصال الواقية من تلك البدع.

ج - إظهار ضعف حجة المبتدع، والطمع في التأثير على أبناء ملته،

وأتباعه على بدعته؛ إذ رجوعهم إلى الحق أيسر من رجوعه إليه.

د - الذب عن حياض الدين، وكشف ما يلبِّسه الجهلة وأهل الأهواء على

العامة، وهو من الجهاد في سبيل الله.

هـ - جمع الناس على كلمة سواء، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام

بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلاً، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ

نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم. والله أعلم.

وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015