المسلمون والعالم
جذور النصرانية في ليبيا
التاريخ والواقع
أبو إسلام أحمد عبد الله [*]
بداية، وأحسبه نوعاً من جلد الذات، فإن حال النصارى في مصر هو على
غير حال المسلمين فيها؛ إذ غالباً لم يكن أحد يسمع صوتاً لأجراس الكنيسة في
مصر، لكنه يفاجأ ببناء صرح كنسي جديد هنا، وتجديد صرح كنسي قديم هناك،
وكلاهما اعتاد دق أجراسه مع كل صلاة من صلواتهم اليومية والأسبوعية.
وإذا كان البعض في مصر يلجأ للرشاوي لحماية منشئته القديمة من قرارات
الهدم الإجبارية؛ فإن الكنيسة كانت تسعى بدأب شديد لاستصدار قرارات هدم
لمنشآتها القديمة، حتى يتسنى لها البناء من جديد، مع التوسع الرأسي والأفقي،
واستخدام كل حديث من تقنيات البناء والتعمير.
ومثلما هُدمت كنائس وأُنشئت قلاع في صمت مطبق؛ فوجئ آحاد المهتمين
بالشأن الكنسي في مصر والعالم الإسلامي بأن جمهورية ليبيا تستقبل في النصف
الثاني من عام 1971م وفداً رسمياً من قسس ورهبان الكنيسة المصرية، لما يسمى
في الطقوس النصرانية: بتكريس خدمة رعاية أول كنيسة مصرية في العصر
الحديث تُنشأ في ليبيا، بل وفي العاصمة طرابلس. وقبل مرور أسابيع قليلة أخرى؛
احتفلت الكنيسة المصرية بوفد آخر من القسس والرهبان للاحتفال بتكريس
الكنيسة الثانية في بنغازي، وهي المدينة الليبية الثانية.
وهكذا أضيف إلى رصيد الكنائس الغربية في ليبيا كنيستان مصريتان، في
سلسلة الكنائس التي أخذت تتوافد إلى أرض ليبيا منذ إعلان (ثورة الفاتح من
سبتمبر) ، فقد سبقت الكنيسة المصرية إلى ليبيا عدةُ كنائس تابعة لبابا روما،
وكنائس أخرى تابعة لطائفة الروم الأرثوذكس، وكان أهل ليبيا من قبل يفخرون
بأن أرضهم خالية من الكنائس، بعد طرد المحتل الإيطالي وإغلاق جميع الكنائس
التي أنشأها أو سمح بإنشائها لمذاهب كنسية أخرى.
بينما ما زال فخرهم قائماً أنه لا يوجد ليبي واحد يعتقد بغير دين الإسلام منذ
الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا. لكن القوى الصليبية كانت تتلمس الفرصة السانحة
للعودة، فعادت الكنائس الكاثوليكية ثم الرومية، لكن الإيطالية ظلت مغلقة، ولم
يكن هناك وجود للكنيسة المصرية لقلة عدد النصارى الأرثوذكس هناك، وكانوا
جميعاً من السودانيين، ولذا فإن السلطات الليبية لم تجد مسوّغاً عام 1966م لقبول
الطلب الذي تقدم به الأنبا كيرلس السادس بابا الكنيسة المصرية السابق، عن طريق
موفوده الأنبا صموئيل أسقف الخدمات بالكنيسة حينذاك.
وبعد قيام الجمهورية الليبية 1969م، وفتح الأبواب على مصاريعها لاستقبال
المعلمين والفنيين والعمال والتجار المصريين، كان من بينهم عدد قليل من نصارى
مصر، تغاضت السلطات الليبية عن ممارساتهم الدينية؛ لحاجتها إلى قدر من الوئام
والتأييد والدعم في سنواتها الأولى.
وأصدرت الكنيسة في القاهرة أوامرها إلى رهبانها في السودان للتوجه إلى
ليبيا لرعاية دعوة الكنيسة هناك وتنشيطها، كما تقدموا بطلب رسمي لإنشاء كنيسة
تخدم الرعايا المصريين هناك؛ أسوة بالعاملين القادمين من اليونان وأوروبا
وأمريكا، للعمل في مجالات البترول والصناعة والبناء، والذين سمحت لهم السلطات
الليبية ببناء كنائس لهم في أماكن تجمعاتهم.
وفي 17/5/1971م تم التنسيق والاتفاق بين مطران الكنيسة المصرية في
الخرطوم وبين الكنيسة اليونانية في طرابلس وبنغازي، حيث أقيم أول (قداس
صلاة) بحسب الطقس المصري في ليبيا، حضره جميع أتباع الكنيسة من أبناء
السودان ومصر وإثيوبيا، ولم يتجاوز عددهم الخمسين.
فلما تولى الأنبا شنودة رئاسة الكنيسة المصرية في 14/11/1971م؛ كانت
الظروف كلها مهيأة من حيث الأرض الممهدة للعمل الكنسي في ليبيا، ومن حيث
حاجة النظام الليبي إلى تأييد الكنيسة، ثم من حيث أهمية دعم العلاقات السياسية
المصرية الليبية بعد موت عبد الناصر ورئاسة السادات.
وأرسل الأنبا شنودة وفداً كنسياً إلى ليبيا، حيث قدموا طلباً بإنشاء عدة كنائس،
فوافقت السلطات الليبية على بناء كنيستين، واحدة في طرابلس والثانية في
بنغازي.
وعلى الفور صدر القرار البابوي في 12/12/1971م بضم الكنيستين
الجديدتين إلى إيبارشية (مجمع رعاية كنائس) مناطق البحيرة، والتحرير،
ومرسى مطروح في غرب مصر؛ ليكونوا جميعاً تحت رعاية إيبارشية واحدة
وأسقف واحد، هو الأنبا باخوميوس، والذي أصبح مسماه الوظيفي الجديد: أسقف
البحيرة والتحرير ومطروح والمدن الخمس الغربية.
ووضعت خطة سريعة لتنشيط جهودهم بين رعايا الكنيسة المصرية في ليبيا،
فأرسل الأنبا شنودة في 2/1/1972م القس مينا غبريال، راعي كنيسة العذراء
بالهرم، ليقوم نيابة عنه برئاسة قداس ما يسمى في الكنيسة بأعياد الميلاد المجيدة.
وجاء في العدد (9، 10) من مجلة رسالة الكنيسة (الدورية) عام 1972م،
والتي تصدرها مطرانية البحيرة وبنتا بوليس، أن الأنبا شنودة قد أوفد إلى ليبيا
وفداً كبيراً صباح 17/1/1972م، برئاسة الأسقف الجديد للكنيستين الجديدتين،
وكان في استقباله بمطار طرابلس عدد كبير من نصارى مصر والسودان، ومندوب
رسمي من السفارة المصرية، وأسقف الكنيسة الكاثوليكية.
وعلقت المجلة قائلة: لقد كان يوماً تاريخياً في المنطقة؛ إذ تطأ قدما أسقف
الخمس مدن الغربية إيبارشيته، بعد مضي قرون طويلة لم تر أسقفاً مصرياً لهذه
الإيبارشية.
وفي اليوم التالي مباشرة أقام باخوميوس قداساً للصلاة في طرابلس في كنيسة
«سان فرانسيسكو» التابعة للطائفة الكاثوليكية، حيث استضافتهم الكنيسة لحين
تدبير مبنى خاص بهم، وأقيمت طقوس تعيين مجموعة من الشمامسة (خدام
الكنيسة) .
أما في بنغازي، فقد أقام باخوميوس قداساً للصلاة في كنيسة الروم الأرثوذكس.
ثم تقدمت الكنيسة المصرية بطلب للتصريح لأبنائها في طرابلس باستخدام
إحدى الكنائس الإيطالية المغلقة، وينالون الموافقة.
ويكرر الأنبا شنودة قراره، بتوسيع نشاط القمص ويصا السرياني، وكيل
الكنيسة في السودان، ليتولى أيضاً الرعاية المنظمة لكنائس ليبيا الجديدة، وكانت
أول زيارة له بعد القرار في 5/3/1972م.
وقبل مرور شهر واحد من هذه الزيارة الرعوية في 27/3/1972م؛ أقيمت
احتفالات أخرى في العاصمة طرابلس، أكبر من سابقتها، ليست على المستوى
الكنسي، إنما على المستوى الرسمي للجمهورية الليبية، حيث استقبل الرئيس
القذافي البابا شنودة، ليتلقى منه الشكر على ما حققه للكنيسة المصرية من حلم؛ إذ
كان بعيد المنال أن يكون لها في ليبيا مكان، وقد حالت قوى الاحتلال الصليبية التي
تعاقبت عليها، دون أن يكون هناك وجود كنسي لمصر.
تضمن برنامج الرحلة البابوية ما تسميه الكنيسة بـ (تدشين الكنيستين) ، ثم
منحهما البركة بالصلاة في مذبح كنيسة طرابلس التي تقع على طريق «البراني»
المؤدي إلى المطار، وأطلق عليها اسم كنيسة القديس «مار مرقص» ، ثم انتقل
ركب الضيف في موكب رسمي متوجهاً إلى ميناء بنغازي، حيث أقيمت صلاة
كنسية في مذبح الكنيسة الثانية التي أطلق عليها اسم «كنيسة القديس أنطونيوس» ،
وهي من أملاك الكنيسة اليونانية، كما كانت الأولى من أملاك الكنيسة الإيطالية.
وكان اختيار الأنبا شنودة لهذا الوقت من شهور السنة اختياراً دقيقاً؛ إذ واكب
مناسبة مهمة في الطقوس الكنسية تعرف بالصوم الكبير.
ومنذ هذا اليوم ارتفع لأول مرة في سماء ليبيا الصليب المجسم الذي تنفرد به
كنيسة مصر، ودوت أجراس الكنيسة، ليس في أيام أعياد الكنيسة فقط، ولا في
أيام الأحد من كل أسبوع فحسب، إنما كل يوم جمعة أيضاً، حيث تجتمع العائلات
النصرانية التي تتوافد من كل حدب وصوب في ليبيا، لحضور ما يعرف بقداس
الجمعة.
* الجذور:
تلك كانت البداية الأولى في أيامنا، وبعدها انطلقت الآمال والطموحات بلا
حدود، تستعيد أمجاداً قديمة مخزونة في التراث، فنفضوا عنها التراب، وعرفوا
فجأة أن ليبيا كانت أول موطن لدعوة النصرانية في القارة الإفريقية، على يد
القديس مرقص القادم من صحبة المسيح - عليه السلام - عبر صليبية اليونان، ثم
انطلق بدعوته إلى مصر، ليضع البذرة الأولى للأرثوذكسية في مصر، لكنه سريعاً
ما عاد إلى ليبيا ثانية بعدما لفظته الفرعونية الوثنية في مصر، ولعدم معرفته بلغتهم،
ولمطاردة السلطات له، وليموت في ليبيا التي جاء منها.
ومن هنا رأى الأنبا شنودة، أن وطن القديس مرقص صاحب الرسالة، لا بد
أن يكون في قوة وحيوية رسالته (!!) ، ورأى أن الكنيستين اللتين افتتحهما، هما
بداية الطريق الذي كان مجهولاً، حتى لشخصه هو؛ إذ إن اللقب الكنسي الذي
يحمله الأنبا شنودة، وحمله من قبله كل الباباوات الذين سبقوه، هو: «بابا
الإسكندرية وبطريريك الكرازة المرقصية في مصر والمدن الخمس الغربية وشمال
إفريقيا» ، في الوقت الذي لا يعرف فيه واحد منهم ولاية أو سلطان على غير
كنائس مصر، والإسكندرية التي هي جزء منها، وأوهام قديمة عن مدن خمسة
غربية غير معلومة الاسم ومجهولة المكان، يطلق عليها في تاريخ الكنيسة اسم
«بنتا بوليس» .
ويؤكد زعمنا هذا نص مكتوب لكلمة الأنبا شنودة، وهي التي أصدر فيها
قراره الكنسي غير المعلن، إلى السلطات في مصر وليبيا، بإضافة عبارة «المدن
الخمس الغربية» إلى وظيفة القس باخوميوس، عشية يوم السبت الموافق
11/12/1971م، فقال: «ندعوك يا باخوميوس أسقفاً على إيبارشية البحيرة،
ومرسى مطروح، والخمس مدن الغربية، باسم الأب والابن والروح القدس الإله
الواحد، آمين» .
وجعل زعمنا حقيقة حصولنا على نص كلمته التي ألقاها خلال الاحتفال
بتعيين هذا القس، ونقلتها نشرة «الكرازة المرقصية» لسان حال الكنيسة في
19/12/1971م، حيث قال: «وأرجو لأسقف البحيرة عملاً كرازياً (دعوياً)
في: الغرب، ومطروح، وشمال إفريقيا، وفي الخمس مدن الغربية في ليبيا، بعد
أن كانت هكذا نصاً هذه المدن مجرد لقب اسمي لبابا الإسكندرية، بدون أن يكون
فيها عمل كرازي» .
وحينها، تساءل كبار رجال الكنيسة وصغارها، من الذين حضروا الاحتفالية
الضخمة:
- أي مدن خمسة يقصدها البابا؟
- أين هي؟ ولماذا لم تكن من قبل؟
- هل هي باقية حتى يومنا هذا؟
- ما الأسماء التي تُعرف بها؟
- ما علاقتها بالبحيرة ومطروح؟
- بل وما علاقتها بمصر؟
عشرات من الأسئلة، ترددت في القاعة الكبرى لأكبر كنيسة أنشئت في العالم
الإسلامي بأموال المصريين التي منحها عبد الناصر هدية لنصارى مصر، قبل أن
ينشئ الدكتاتور الصليبي الهالك موبوتوسيسيكو كنيسته الكبرى في زائير على
صورة كاتدرائية بطرس المقر البابوي في روما، ثم نصّب نفسه قديساً لها، باسم
«القديس موبوتو سيس سيكو كوكو نغبيندو وازا بانغا» وترجمتها: «المحارب
شديد المراس الذي وبسبب قوة تحمله وصلابته، سيفوز خارجياً من نصر إلى
نصر، مخلفاً النار في أثره» .
* وَهْم المدن الخمسة:
ما أن عاد الأنبا شنودة من رحلته إلى ليبيا التي افتتح خلالها الكنيستين في
أول أبريل 1972م؛ إلا وبدأ وضع الخطط وإجراء المشاورات لإحياء نشاط كنسي
في ليبيا، فأوفد إليها مجموعة من الباحثين في الآثار في رحلة استشكافية، اقتضت
عشرات اللقاءات مع الأثريين الليبيين، وزيارات المتاحف والمناطق الأثرية
القديمة، للوقوف على أي مصادر مكتوبة أو منقوشة أو مهجورة.
ثم أرسل الأنبا شنودة وفداً آخر إلى المكتبات ومراكز المخطوطات في إنجلترا
وإيطاليا وروما، للبحث عن أي مصادر حول التراث القديم للكنيسة في ليبيا،
برغم تأكيدات علماء الآثار الغربيين أن هذا التاريخ المزعوم وجوده لما يُعرف
بالمدن الخمسة في اللغة العربية، و «بنتا بوليس» في اللغة اليونانية المعتمدة في
الكنيسة؛ هو تاريخ مجهول تماماً، ولا أساس له، ويفتقد إلى سند علمي، وهو ما
أكده الدكتور الإيطالي «بورو» عميد كلية الآداب بجامعة بنغازي، في مؤتمر
التاريخ الليبي، والذي نظمته الكلية عام 1968م أثناء عمادته، فقال: «إن تاريخ
بنتا بوليس في الفترة ما بين القرن (11 - 19) يعتبر تاريخاً مجهولاً، أو
بالأحرى؛ غير مكتوب» [1] .
واستشهد «بورو» في قوله هذا بمصدرين علميين؛ أولهما موسوعة
تاريخية [2] تقول: «إن هذه المنطقة مبهمة التاريخ» [3] ، أما المصدر العلمي
الثاني، فيقول نصاً: «إن تاريخ بنتا بوليس غير معروف، ومختصر لدى
المؤرخين» [4] .
وعقب الدكتور فوزي فهيم جاد الله، أستاذ التاريخ اليوناني بجامعة بنغازي
(وهو نصراني مصري) ، على معلومات الدكتور بورو فقال: «ويمكنني التأكيد
بأن المعلومات التي لدينا محدودة، ومقطعة، وغير متسلسلة» [5] .
لكن الدكتور ميخائيل مكس إسكندر، والذي كلفه الأنبا شنودة بإثبات وجود
المدن الخمسة في ليبيا، بقوله: «ومما شجعني على إعداد هذه الدراسة الرائدة ...
قداسة البابا شنودة الثالث» [6] كان له رأي مغاير.
* أسماء المدن الخمسة:
إن المتيقن تاريخياً وأثرياً، بحسب كل ما أكدته المصادر العلمية التي توفرت
تحت أيدي الباحثين في تاريخ ليبيا وقد وقفت على عدد ليس بالقليل منها أن المدن
الخمسة حقيقة، وأن اسمها اليوناني «بنتا بوليس» ، لكنها ليست أبداً تلك المدن
التي تحاول الكنيسة المصرية إلواء عنق التاريخ والجغرافيا لتكون هي «مسمار
جحا» على أرض ليبيا، بل إن الأمر قد تجاوز مبكراً مساحة «المسمار» عندما
أورد ميخائيل إسكندر في دراسته سطرين فقط، ضم فيها ليبيا كلها إلى الكنيسة
المصرية، فقال: «وقسمت هذه المدن الخمسة، في السنكسار [**] القبطي
ليوم 29 هاتور، باسم» ليبية مصر « [7] ؛ لاتحادها معها سياسياً ودينياً لفترات
طويلة» [8] .
وحدد ميخائيل، باسم الكنيسة المصرية، المدن الخمسة بأنها: «سيرين،
وأبوللونيا، وتوكره، وبرنيس، وبرقة» [9] ؛ معتمداً في ذلك على موسوعة
«سترابو» [10] الشهيرة.
ثم أورد مصدراً ثانياً لإثبات ادعائه، هو كتاب «مار مرقس. الناظر
الإنجيلي» ، لمؤلفه الأنبا شنودة [11] ، ص 39 - 44.
فلما رجعت إلى المصدر الأخير، وجدت الأنبا شنودة (ص 4) ، يشير إلى
مخطوطة موضوعها تعيين أساقفة في بعض الكنائس، ورد فيها أن المدن الخمسة
هي: «برقة، طرابلس، إفريقية، القيروان، تونس» ؛ لأكتشف من ذلك أن
ميخائيل إسكندر لم يكن موفقاً في اختيار مصادره، ولم يكن أميناً في نقله من تلك
المصادر.
أما تحديد المدن الخمسة، فلم يتفق عليه واحد من المصادر العلمية المعتمدة
مع غيره، فجاءت كالتالي:
1 - رواية الأنبا شنودة المشار إليه في السطور السابقة.
2 - حسب رواية الكاهن ساويرس، أسقف منطقة أشمون المصرية في أوائل
القرن العاشر الغربي، والمعروف في الأدبيات العربية باسم «ابن المقفع» ، قال
في كتابه «تاريخ بطاركة الإسكندرية» [12] : «إن الخمس مدن بالمغرب، هي
إفريقية وما معها» ، حيث كانت تعرف ليبيا بذلك.
3 - حسب رواية ابن كبر، وهو كاهن الكنيسة المعلقة بمصر القديمة في
القرن الرابع عشر الغربي، ويعرف في الأدبيات العربية باسم «أبو البركات» ،
قال: «إن المدن الخمسة هي: برقة، وطرابلس، وتونس، وإفريقية،
وقيريني» [13] .
4 - وفي مخطوط باللغة العربية، أورده يوسف سميكة في كتابه «دليل
المتحف القبطي» [14] ، اتفق تماماً مع ما أورده ابن كبر في الرواية السابقة.
5 - رواية أوردها ميخائيل إسكندر [15] ، نقلاً عن مصدر أجنبي [16] ، أن
البطريرك أفتيخوس (المعروف في الأدبيات العربية باسم «ابن البطريق» )
أورد في تاريخه (970غ) ، أن المدن الخمسة هي: «برقة، زولا، زويلة،
أوجله، سنترية» .
6 - في معجم لاروس الفرنسي، أورد أسماء مدن بنتا بوليس الخمسة،
والتي تتطابق تماماً مع ما ذهب إليه ميخائيل إسكندر، ومع ما تمناه الأنبا شنودة،
وهي: «سيرين، أبوللونيا، توكرة، برنيس، برقة» ، لكن معجم لاروس لم
يقل إنها في ليبيا، إنما قال إنها مدن توجد كلها في تونس.
* تاريخ الكنائس في ليبيا:
إن القول بوجود كنائس قديمة في ليبيا، خاصة فيما يسمى بالمدن الخمس
الغربية، لم تثبته المصادر العلمية كما أوضحنا، لكن الدراسة التي كلّف الأنبا
شنودة بإعدادها القس ميخائيل إسكندر، وأتمها في 480 صفحة، وهي تحت أيدينا،
حاولت إثبات غير ذلك، واعتمدت الظن والتخمين أساساً لتحقيق نتائجها، حيث
لم تخل صفحة دون مبالغة من أربعة كلمات على الأقل، من بين قاموس، استحدثه
الباحث، ضم الكلمات التالية على سبيل المثال لا الحصر: «ربما، أقرب إلى،
يتضح أن، يبدو أن، مما يدل، بينما يظن، والراجح أن، ولا يستبعد، ولعل،
في رأيي، في تقديري، في اعتقادي، واستناداً إلى، ويمكن القول، ويقول
البعض، ونستطيع أن نؤكد ... إلخ» .
لكننا، وبرغم ذلك، رأينا تجاوزه، في محاولة للوقوف على ما أوردته
الدراسة، من باب الاستئناس والاستشهاد.
تقول دراسة ميخائيل إسكندر، إنه كان قديماً جداً هكذا أيضاً كنائس في ليبيا،
شيدها نصارى مصر الأوائل هناك.
وفي موضع آخر قال: إن هذه الكنائس لم تكن مصرية، إنما مارست
طقوسها بحسب قوانين الإيمان في الكنيسة المصرية.
ولأنه من المؤكد في يقين القس ميخائيل؛ أن أحداً لن يتناول دراسته بالنقد
والتحليل، وكشف ما فيها من زيف وتزوير وتدليس منسوب إلى البحث العلمي،
فقد ذهب إلى أن الكنائس التي شيدت في ليبيا بلغت خمسين كنيسة، أنشئت كلها في
شمال ليبيا، وقام بتوزيعها على عدة مناطق أثرية تتركز كلها في الشمال الشرقي،
قرب شواطئ بحر المسلمين المعروف حالياً باسم «البحر الأبيض المتوسط» ،
خاصة في مناطق «برقة، وبنغازي، وسوسة، والجبل الأخضر» ، وهي
أجمل مناطق ليبيا وأهمها «استراتيجياً» .
واعتمد ميخائيل في توثيقاته لإثبات الكنائس الخمسين، بوجود عمود رخاميّ،
أو حائط سميك، أو قطعة فسيفساء، أو نقش يشبه الصليب، أو حجرة مستطيلة،
أو مصطبة تشبه هيكل الكنيسة، أو مكاناً مسقوفاً بطريقة تشبه كنيسة مصرية
قديمة، أو اسماً نصرانياً وجد في تاريخ أثر، كقوله على سبيل المثال (ص
237) : «وقد ورد ذكر اسم هذه الكنيسة في كتابات المطران سينسيوس أوائل
القرن الخامس» ، ثم يعقب قائلاً: «مما يدل على أنها كانت عامرة في تلك
الفترة» ، وبهذا الاستنتاج أثبت وجود كنيسة باسم «أوبليا» بين مدينتي القبة
ولملودة، وهذا أفضل ما أورده من إثباتات وبراهين علمية (!!) .
لكن العلاقة التي ربطت بين الخمسين كنيسة، أنها جميعاً بحسب قوله:
«من المؤكد أنها هدمت أو خربت أو بني فوقها، بعد الفتح العربي» ،
باستثناء كنيسة واحد هكذا تحمل رقم الخمسين، رأينا أن ننقل ما أورده بشأنها
بقلمه، وهو ما سوف يحنث به في موضع آخر؛ ذلك لنوقف القارئ على المنهج
الذي اتبعه الباحث الكنسي في دراسته التي اعتمدها الأنبا شنودة كجزء من تاريخ
الكنيسة، فيقول ميخائيل (ص 237) عند كنيسة باسم «كنيسة مدينة أجدابية» :
«خلال زيارتنا لتلك المنطقة؛ شاهدنا بقايا أثرية محدودة جداً، أخبرنا عنها أحد
الأثريين الغربيين، أنها بقايا لهيكل كنيسة مستطيلة الشكل، كانت ذات سقف
برميلي على مثال كنائس مصر القديمة، ويبدو أن هذه الآثار، هي كل ما تبقى
من كنيسة بيزنطية كبيرة، وقد استنبط الأثري الغربي هذا الوصف، من رسوم
أثرية عنده، ويرجح أن تلك الكنيسة ترجع إلى عهد جستنيان، في الربع الأخير
من القرن السادس، إلا أنه من الأرجح أن التجار الأقباط (المصريين النصارى)
قد شيدوا كنيسة أخرى على نفقتهم بعد الفتح العربي في القرن التاسع، وهو الرأي
الأقرب إلى الواقع. لكن السيدة» بوتشر «أشارت إلى وجود كنيسة قبطية في
منطقة» برقة «، لكنها لم تحدد لنا مصدر معلوماتها (!!) ، وأكبر الظن أنها
تقصد كنيسة» أجدابيا «السابق الإشارة إليها، وإن كنا نرى أن تاريخها لا يتعدى
أوائل القرن الثاني عشر الميلادي على أكثر تقدير، بسبب هجمات العرب الهلاليين
عام 1050 م، التي خربت المنطقة عمرانياً وحضارياً وبشرياً» اهـ.
* أسباب اختفاء النصرانية من ليبيا:
1- في كتابه «المجمل في التاريخ الليبي» يبدي الباحث الليبي «مصطفى
بعيو» عجبه من واقع النصرانية في ليبيا، فيقول (ص 68) : «لقد كانت في
ليبيا قديماً عدة أسقفيات، فكيف لا يوجد أي ليبي مسيحي في العصر الحديث؟» .
يجيب ميخائيل إسكندر عن هذا السؤال اعتماداً على مصادر غربية، فيقول:
«إنه من الحقائق المسلم بها؛ أن المسلمين قد دخلوا إلى منطقة برقة، وهي في
حالة يرثى لها اقتصادياً، فقد تعرضت قبل الفتح لعدة زلازل مروعة، بجانب تغير
الأحوال المناخية وسيادة الجفاف» .
ثم يضيف (ص 404) : «إن النظام البيزنطي أثقل كاهل الأهالي
بالضرائب الباهظة، وتعرضت البلاد إلى هجمات مكثفة من الجراد، وقلة الموارد
المائية، بالإضافة إلى ضعف التجارة، بعدما قضت الإسكندرية على الأهمية
التجارية لمدينة سيرين الليبية التي عانت بدورها من ثورات اليهود» .
ويقول «بتلر» في موسوعته «فتح العرب لمصر» (ص 53) : «إلا
أن ليبيا كانت مصابة بالخراب قبل الفتح الإسلامي، حيث يؤكد المؤرخون أن
الفرس أذاقوا سكان ليبيا العذاب عشر سنوات متواصلة (618 - 628م) ،
وخربوا عدداً كبيراً من دور العبادة، ونهبوا ما بها، وفرضوا الجزية عليها،
وهدموا مدن بنتا بوليس كلها، فأصبح من السهل على العرب فتحها» .
ويلخص الوضع الليبي أيضاً قبل الفتح الإسلامي مباشرة المؤرخ الأمريكي
هنري سيرانو في كتابه الشهير «ليبيا» ، فيقول (ص 103) : «لقد حل الدين
الجديد (الإسلام) بكل ما يحمل من قوة ونفوذ؛ ليجد ظروفاً مهيئة لانتشاره
وانحسار للنصرانية التي كان أهلها في فقر مدقع، دفع بالغالبية إلى قبول الإسلام» ،
كان ذلك من الناحية الاقتصادية.
2 - من الناحية الاجتماعية: ينقل ميخائيل إسكندر (ص 421) عن
توماس أرنولد، في كتابه «الإسلام في ليبيا» قوله: «إنني أشك حتى في وجود
أية آثار للمسيحية في ليبيا عند الفتح العربي الكاسح؛ لأن كل السكان البيزنطيين
(حملة الدين) قد هربوا إلى أوروبا» ، وفي المقابل فقد شجع الفتح قبائل العرب أن
تتوافد إلى ليبيا في شبه موجات موسمية من الحجاز واليمن والشام والعراق،
خاصة في العصر العباسي، كما توسع هؤلاء المسلمون في الزواج من الذميات،
وإدخالهم في الدين الجديد.
3 - من الناحية السياسية: يقول ميخائيل إسكندر (ص 411) : «كانت
السياسة العربية الأولى، تسير في خطين متوازيين، هما السماح بحرية العبادة
بالنسبة لأهل الكتاب، وفي الوقت نفسه نشر الدعوة الإسلامية، وحققوا نتائج
سريعة، فقد شهدت ليبيا فترة من التسامح الديني لم يلمسها أهلها خلال حكم
البيزنطيين أو الفرس، وقد برع في ذلك ابن العاص بذكاء كبير» .
4 - ومن الناحية الثقافية: فإنه بعودة الروم والبيزنطيين إلى بلادهم مع
الفتح الإسلامي؛ لم يبق في ليبيا من أهلها من يحمل رسالة النصرانية أو يهتم
بلغتها أو يقيم طقوسها أو يرعى دعوتها، فاستقبلوا ثقافة المسلمين على الترحيب.
ويضيف ميخائيل بعداً آخر (ص 407) ، فيقول: «ولقد أجمع الباحثون
على أن الانقسامات المذهبية بين النصارى والاضطهادات العنيفة التي مارسها
أباطرة روما وبيزنطية، فاستفاد بذلك الدين الجديد، فيقول المؤرخ اللاهوتي
يوحنا النفيوس عن ملوك الروم:» إنهم أعداء المسيح الذين دنسوا المسيحية
برجس بدعهم، وعصوا المسيح، وأذلوا أتباعه، وتجاوز شر عبدة الأوثان «.
وينقل ميخائيل عن ابن المقفع (ص 226) :» إن الله كان يخذل جيوش
الروم أمام المسلمين، بسبب عقيدتهم الكاثوليكية الفاسدة «.
* النصرانية في ليبيا الحديثة:
أما عن الوجود النصراني بأرض ليبيا في العصر الحديث، فقد وجدت
إرهاصات عديدة في الأدبيات الكنسية، في محاولة لإثبات الوجود، غير أن هذه
الإرهاصات، افتقدت جميعها الدليل العلمي الذي يمكن الاعتماد عليه.
ولعل أول هذه الإرهاصات وأهمها، القول بالعثور على مخطوط عربي، قام
بكتابته كاهن مصري عام 1721م، جاء فيه أن» النصرانية قد اختفت تقريباً في
القرن 13م، من أرض بنتا بوليس «بحسب رواية ميخائيل (ص 392) .
أما الأب الكاثوليكي يعقوب مويزر، فيقول في كتابه» تاريخ البطاركة «
(ص 451) :» إن آخر إشارة للنصرانية في بنتا بوليس، هي منتصف القرن
الثامن «؛ أي القرن الثاني الهجري.
كما توجد رواية أحدث من سابقتيها، عن مصدر يستند إلى رسالة كتبها بابا
الإسكندرية عام 1524م، إلى مطران كان يعمل بالخمس مدن الغربية حينذاك، ثم
هجرها أيام امتلاك العثمانيين للشمال الإفريقي.
ويزعم ميخائيل إسكندر أن إيزيس المصري قد أخذت بهذه الرواية، ليس في
موسوعتها المنشورة» تاريخ الكنيسة المصرية «؛ إنما في بحث لها غير منشور،
ثم أضاف (ص 394) على لسان إيزيس:» لقد ذكر بعض المؤرخين أن
النصرانية انتهت تماماً في الخمس مدن الغربية أثناء بابوية الأنبا يؤانس الثالث
عشر، عام 1508م، الذي ترك ليبيا وعاد إلى مصر «.
ويعقب على ذلك (ص 395) :» إن صحت هذه الرواية؛ فإننا نرجح أن
هذا المطران كان في تونس (القيروان) ؛ لأن منطقة طرابلس وبرقة، في هذا
الوقت كانت مخربة ومعزولة «.
ثم ننتقل عبر سنوات القرون الثلاثة الأخيرة، لنجد نقلاً أورده ميخائيل عن
الرحالة الفرنسي باشو (Pacho) سنة 1911م، أن النصرانية عادت إلى ليبيا،
مع الاحتلال الإيطالي، حينما هاجرت جماعات إيطالية (جائعة) ، إلى الساحل
الليبي، وقامت بتشييد عدد كبير من الكنائس في المدن الكبرى، ظلت حتى قيام
ثورة 1969م، حيث أغلقت جميعها، وعاد روادها إلى بلادهم» .
ونؤكد من ناحيتنا أن هذه الكنائس: لم تكن كنائس بالمعنى المتعارف عليه،
إنما كانت عبارة عن قاعات تعرف باسم «قاعات الصلاة» .
ومع الفاتح من سبتمبر، واستخراج البترول، وحاجة النظام الليبي إلى
الخبراء والعاملين المتخصصين في هذه المجالات كما أشرنا من قبل عادت إلى ليبيا
قاعات الصلاة، والتي سريعاً ما تطورت إلى كنائس متواضعة، لكنها جميعاً،
كانت كاثوليكية، أو خاصة بطائفة الروم الأرثوذكس، لكن واحدة منها لم تتبع
الكنيسة المصرية، قبل رئاسة العقيد القذافي واستضافته للأنبا شنودة، وإنشاء
الكنيستين في طرابلس وبنغازي.
وفي فبراير الماضي 2003م، ورد خبر قصير في نشرة «الكرازة» التي
تصدرها الكنيسة الكبرى في مصر، كل نصف شهر، في عدد أول يناير، قال:
إن الأنبا باخوميوس قد عاد من زيارة له امتدت لمدة أسبوعين، في كل من ليبيا،
ومالطا، وإنه قدم تقريراً للأنبا شنودة، جاء فيه: «لقد تقدمت بطلب جديد إلى
السلطات الليبية للحصول على مكان مناسب للصلاة في مدينة مصراته» ؛ ذاكراً
«أننا نصلي الآن في شقة بالمدينة، فوعدونا بأحد مكانين، وأن هذا سوف يتم
قريباً» .
وأضاف الخبر قول الأنبا باخوميوس: «ونشكر الرب أن القس مرقس
زغلول يقوم بخدمته الكنسية بصفة منتظمة في كنيسة السيدة العذراء بمدينة مصراته،
كما تقدمت بطلب إلى رئيس جمهورية مالطا لتخصيص كنيسة للمصريين
الأرثوذكس، حيث يوجد في مالطا حوالي 35 عائلة، فأظهر شعوراً طيباً» .
وفي ختام تقريره قال: «والأقباط في مالطا مجتمع فقير جداً، وعائلات
متناثرة معظم زواجهم مدني (غير كنسي) ، وعملهم الأساس عمال بناء أو وظائف
صغيرة، وقليل في أعمال حرة» .
ثم أخيراً، وحول أوضاع نصارى مصر في ليبيا، كشف باخوميوس عن
حقيقة الأمر الغائبة، فقال: «ولوحظ في هذه الزيارة، أن عدد العائلات، يقل
عن ذي قبل، ففي ليبيا الآن حوالي 300 عائلة تقريباً (أي حوالي ألف شخص!
وهو رقم مبالغ فيه للغاية) ، بينما عدد المصريين هناك ربما أكثر من 15 ألفاً؛
بسبب البطالة في مصر» .