المسلمون والعالم
إلغاء القوات المسلحة العراقية
وتصاعد المقاومة ضد سلطة الاحتلال الأنجلو / أمريكي
لواء أ. ح.د. زكريا حسين [*]
قامت قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني في العراق بإلغاء القوات المسلحة
العراقية وإلغاء وزارة الدفاع وإلغاء وزارة الإعلام وتسريح أعضائها بعد تدمير
أجهزة البث المرئية والمسموعة؛ وذلك تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1483
الصادر في 22/5/2003م، والذي نص على رفع جميع العقوبات التجارية والمالية
المفروضة على العراق منذ عام 1990م باستثناء واردات السلاح؛ حيث يظل
الحظر قائماً في شأنها؛ كما يقنن ويبارك تسليم دولة العراق إلى سلطة الاحتلال،
ويعطيها حق إدارته وتشكيل أسلوب حكمه والتصرف في موارده دون سند من
شرعية، ثم يفرض على الأمم المتحدة التعاون والتعامل مع سلطة الاحتلال، بل
ويمنحها صلاحيات وسلطات تتجاوز تلك المقررة وفقاً لاتفاقيات جنيف لعام
1949م؛ وذلك دون تحديد مدة زمنية للاحتلال اكتفاءً باشتراط قيام حكومة
عراقية تتسلم زمام الأمور، ورغم أنه من المسلَّمات في أحكام القانون الدولي أن
سلطة الاحتلال ليس لها سوى صلاحية إدارة الأراضي تحت الاحتلال بالقدر اللازم
لتدبير أموره المعيشية وتأمين سلامته دون أن يكون لها صلاحية التحكم في موارده أو
استغلالها، وهي أحكام تجاوزها قرار مجلس الأمن الذي أضفى الشرعية على
قرارات سلطة الاحتلال، ومن ثم كان قرار إلغاء القوات المسلحة ووزارة
الدفاع إلى جانب قرارات أخرى، تمثل إلغاءً لمظاهر سيادة الدولة، وتتجاوز كل
المتعارف عليه عبر التاريخ؛ حيث يعني هذا القرار إمعاناً في الإذلال وإهدار
الكرامة وإجهاض أي تفكير في مقاومة الاحتلال أو مواجهته مستقبلاً.
وفي محاولة لإلقاء الضوء على هذا القرار فإننا سنحاول الإجابة عن
التساؤلات الآتية:
أولاً: كيفية بناء القوات المسلحة العراقية.
ثانياً: كيف انعكست المغامرات غير المحسوبة لنظام صدام حسين على هذه
القوات؟
ثالثاً: ما الظروف التي كانت سائدة في العراق قبل قرار إلغاء القوات
المسلحة العراقية؟
رابعاً: ما الأسلوب الأمثل للمعالجة في ظل حقيقة فرار قيادات وأفراد القوات
المسلحة العراقية؟
خامساً: كيف انعكس قرار إلغاء القوات المسلحة على تصاعد المقاومة
العراقية؟
* أولاً: كيفية بناء القوات المسلحة العراقية:
إن متابعة حجم الإنفاق العسكري على بناء القوات المسلحة العراقية سواء
للتعويض عن خسائرها خلال حرب الثماني سنوات مع إيران، أو لزيادة حجمها
بعد ذلك لعل ذلك يعبر عما وصلت إليه هذه القوات من ضخامة باعتبار أن الإنفاق
العسكري يعتبر من أبرز مؤشرات قياس حجم القوة المسلحة.
إن إجمال حجم الإنفاق العام طبقاً لتقدير وكالة الحد من التسلح ونزع السلاح
التابعة للأمم المتحدة يسير إلى أن العراق قد أنفق في الفترة من عام 1978م وحتى
عام 1980م حوالي 25.2 مليار دولار، كما أنفق في الفترة من عام 1980م وحتى
1989م حوالي 50.2 مليار دولار، بإجمالي حوالي 75.5 مليار دولار بما يعادل
40% من إجمال ناتجه القومي الكلي، 60% من الإنفاق الحكومي.
وصلت ميزانية الدفاع السنوية 12.9 مليار دولار عام 1990م، وأصبح
متوسط ما ينفقه العراق على التسلح 720 دولار لكل فرد في القوة المسلحة من
إجمالي نصيب الفرد من الناتج القومي الذي وصل متوسطه إلى 1940 دولار للفرد
الواحد سنوياً.
زاد هذا الإنفاق من ديون العراق التي وصلت إلى ما يزيد على 70 مليار
دولار.
أدى هذا الإنفاق إلى أن وصل حجم القوة المسلحة العراقية بعد تعويض خسائر
ثماني سنوات من الحرب مع إيران إلى الآتي:
- قوات برية 955 ألف مقاتل منهم 480 ألف من الاحتياط.
- نظمت هذه القوات من خلال 7 - 8 فيالق بها حوالي 60 إلى 66 فرقة؛
منها: 7 فرق مدرعة ميكانيكية، 8 فرق حرس جمهوري، 40 فرقة مشاة، 20
لواء قوات خاصة وصاعقة.
- تمتلك حوالي 6700 دبابة من أنواع متعددة.
- من 3000 إلى 5000 قطعة مدفعية، 500 قطعة مدفعية ذاتية الحركة.
- 200 قاذف صاروخي متعدد الأدلة.
- 180 صاروخ مختلف الأنواع.
- 15000 قطعة صواريخ مضادة للطائرات.
- حوالي 700 - 770 مقاتلة وقاذفة، 1000 طائرة نقل وهليكوبتر وإنذار
مبكر.
التصنيع الحربي العراقي:
نجح العراق في إقامة صناعات حربية متطورة قبل غزوه لدولة الكويت
امتدت لصناعة الصواريخ بالنوعيات والمنظومات المتعددة وذلك من خلال الاعتماد
على الكثير من الخبرات الأجنبية المدربة على تشغيل خطوط الإنتاج لهذه الصناعة،
إضافة إلى خط إنتاج للمقذوفات المضادة للدبابات الفردية وذلك منذ عام 1975م،
كما ركز العراق على إنتاج الصواريخ بعيدة المدى مثل الصاروخ الحسين ومداه
(650) كيلو متراً والصاروخ العباس ومداه (900) كيلو متراً.
وقد سعى العراق لإقامة صناعة للطائرات، وقد بدأ فعلاً في إنشاء مصنع
للطائرات وكان على وشك الانتهاء من إنتاج الطائرة الخفيفة المصنوعة من الألياف
الزجاجية، كما نجح في إنتاج الطائرة الموجهة بدون طيار، وكان يقوم بتصنيع
كامل لكل خزانات الوقود للطائرات.
كما تسيطر هيئة التصنيع العسكري العراقي على جميع المصانع الحربية
والتي يتبعها أربعة مجمعات صناعية حربية كبرى تضم حوالي عشرين مصنعاً من
مختلف نوعيات وذخائر الأسلحة.
وقد كانت هناك خطة طموحة لاتجاهات البحوث والتطوير في الصناعات
الحربية بإدخال تعديلات وتحسينات على نظم التسليح المستوردة والموجودة في
الخدمة شملت عشرة نوعيات من الطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع، وقد
كان العراق يستعين بالخبرة الأجنبية في هذا المجال وخاصة من بريطانيا وألمانيا
وفرنسا والصين.
وقد شملت المشروعات التي استكمل تطويرها ستة مشروعات تركزت أساساً
في تطوير الصواريخ، وقنابل الطائرات العنقودية، وقنابل الطائرات الارتجاجيه،
والرؤوس الحربية الحاملة للصواريخ، ومستودعات الطائرات.
* ثانياً: انعكاس المغامرات غير المحسوبة لنظام (صدام حسين) على القوة
المسلحة العراقية:
بدأ الرئيس العراقي حربه ضد إيران في 22/9/1981م، وكان احتياطي
النقد لبلاده يبلغ 35 مليار دولار، تم استنفادها في 36 شهراً الأولى من الحرب،
وعند وقف إطلاق النار بين العراق وإيران بلغ حجم مديونية العراق ما بين 70 إلى
80 مليار دولار معظمها لدى الكويت والمملكة العربية السعودية. كما شملت
الخسائر البشرية - قتل ربع مليون عراقي، وأسر 100 ألف آخرين، وتدمير
هائل في البنية الأساسية للدولتين، مما أنهى الحرب والعراق على حافة الإفلاس،
وأصبح «صدام حسين» نفسه على حافة السقوط.
ثم كان التحول المفاجئ الذي طرأ على السياسة العراقية إزاء إيران
والتنازلات العديدة التي قدمتها بغداد لطهران والتي كانت مثار حديث العالم ودهشته؛
فقد قدم العراق تنازلات عديدة من أهمها اعترافه باتفاقية الجزائر عام 1975م
والانسحاب من الأراضي الإيرانية، إضافة إلى التعويضات العسكرية والتي تمثلت
في حصول إيران على كل ما يمكنها الحصول عليه من النفط العراقي والذي يصل
إلى 150 ألف برميل من النفط يومياً يتم نقلها عبر شط العرب عن طريق الأسطول
العراقي من اللوريات، ثم بالسفن من شبه جزيرة «الفاو» وتبلغ قيمته 4.5 مليون
دولار يومياً، أي ما يعادل 1.5 مليار دولار سنوياً، مما دعا وزير الخارجية
الإيراني «علي أكبر ولاياتي» في ذلك الوقت إلى التصريح بأن ما تحقق يُعد
أعظم الانتصارات الإيرانية على مدى التاريخ؛ حيث كانت تطالب إيران بـ 300
مليار دولار تعويضات عسكرية، ولكنها حصلت على ما هو أكبر من ذلك، في
مقابل وعد إيراني بعدم مهاجمة العراق في حالة دخولها حرباً مع الولايات المتحدة
وحلفائها.
وكان من الطبيعي بعد انتهاء دور العراق في مواجهة وتحجيم القوة الإيرانية
وإضعافها، وبعد كل هذا النمو والطفرة التي أخلت بالميزان الاستراتيجي مع
إسرائيل، وأصبح يميل لصالح العرب لأول مرة منذ بدأ قيام دولة إسرائيل؛ كان
من الطبيعي أن يتم توافق استراتيجي أمريكي إسرائيلي على ضرورة تجريد العراق
من وسائل قوته العسكرية خاصة اتجاهه لإنتاج أسلحة دمار شامل، وبداية امتلاكه
لناصية التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وقد مر هذا التخطيط بثلاث مراحل رئيسية:
أولها: مرحلة ما قبل الغزو العراقي لدولة الكويت وتحديداً بعد انتهاء الحرب
العراقية الإيرانية.
ثانيها: مرحلة الغزو العراقي لدولة الكويت وما بعدها.
ثالثها: مرحلة ما بعد أحداث 11/9/2001م في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى ذلك فقد بدأت الاستفزازات التي انطلقت سراً وعلانية ضد الحكومة
العراقية، وتوالت الحملات الإعلامية التي تتوعد بتحجيم القوة المسلحة العراقية،
والتي نجح العراق في بنائها؛ حيث قدرها المحللون بأنها وصلت لمرتبة القوة
الرابعة في العالم أجمع، ومن ثم حققت ولأول مرة التفوق المطلق على القوة
المسلحة الإسرائيلية سواء في الأسلحة التقليدية وفوق التقليدية، بل واقتربت كثيراً
من امتلاك السلاح النووي العربي.. وقد كان طبيعياً أن تنزعج الولايات المتحدة
وحليفتها إسرائيل من هذا التفوق وهو الأمر الذي أدى إلى عقد مؤتمر قمة عربي
في بغداد في 28/5/1990م لإمكان التصدي لهذه التهديدات فيما وصفه المحللون
بأنه مثال لتضامن عربي فعال لم يسبق له مثيل إلا في وقفة الأمة العربية وتضامنها
أثناء عمليات أكتوبر 1973م، وقد انتهى مؤتمر القمة إلى قرارات عدة لعل أهمها
ما صدر عنه لصالح جمهورية العراق وأبرزها:
أولاً: الاستنكار الشديد للحملات الإعلامية والسياسية والتهديدات الموجهة ضد
العراق، والتأكيد على التضامن العربي الفعال مع جمهورية العراق مع حقه في
اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتأمين وحماية أمنه الوطني بما في ذلك امتلاك وسائل
العلم والتكنولوجيا وتوظيفها للأغراض السلمية.
وثانياً: التأكيد على حق جمهورية العراق والدول العربية في الرد على أي
عدوان على أية دولة عربية خاصة العراق، وذلك بالوسائل التي تراها مناسبة
لتأمين الدفاع عن نفسها وعن أمنها وسيادتها.
وثالثها: الدعوة إلى مواصلة السلام بين العراق وإيران على أساس قرار
مجلس الأمن رقم (589) واتفاقية جنيف الثالثة لعام 1946م الخاصة بمعاملة
أسرى الحرب.
ثم كانت المغامرة الثانية «لصدام حسين» بقيامه بغزو دولة الكويت في
أغسطس 1990م مما هيأ ظروفاً مناسبة لتدمير جيش ودولة العراق.
فقد أجمع كافة المحللين العسكريين على أن الولايات المتحدة التي قادت الحشد
العسكري لقوات أكثر من (35) دولة في العملية «عاصفة الصحراء» قد
تجاوزت هدف تحرير الكويت وعودة الحكومة الشرعية لها بتدمير القوات المسلحة
العراقية إلى تدمير البنية الأساسية للدولة والقدرات الصناعية ووسائل الاتصال
ومعظم الكباري والمعابر وخطوط أنابيب ومصافي وأماكن شحن وتصدير النفط
ومعظم المدن الرئيسية العراقية.
وقد كانت القوة المسلحة العراقية الخاسر الأعظم في هذه الحرب؛ فقد كان
لأوجه القصور والنقص في أدائها أثره على الهزيمة العسكرية الموجهة لها؛ حيث
تعرضت لخسائر وصلت إلى ما بين 40 إلى 60% من حجمها!!! تم أجهزت
العقوبات الاقتصادية القاسية التي قررها مجلس الأمن على ما تبقى من قوة مسلحة
عراقية وما كان يملكه من قاعدة صناعية حربية؛ حيث أعاق الحصار المحكم على
العراق منع وصول قطع الغيار والمعدات الفنية لما تبقى له من قوة مسلحة تقليدية،
مما يمكن معه القول بأنها تحولت إلى مجرد أعداد جوفاء لا تمتلك كفاءة قتالية أو
فنية فعالة.. هذا إلى جانب قرار مجلس الأمن بإزالة ترسانة العراق من أسلحة
الدمار الشامل والتي قامت اللجان الفنية التي شكلها بتدميرها وكذلك قدرات تصنيعها
مع فرض نظام للمراقبة لا يسمح بإعادة إنتاجها مستقبلاً.
وهكذا خرجت دولة العراق أكبر دولة عربية قوة عسكرية واقتصادية؛ حيث
كانت ضمن دول عربية محدودة تمتلك ثروة بترولية زراعية وثروة صناعية
وثروات أولية إلى جانب قوة بشرية وكوادر علمية شكلت رصيداً هائلاً للقدرة
العربية في مواجهة كل ما يتهددها من عدائيات، وأعادت الخلل الشديد في ميزان
القوى خاصة العسكرية منها لدولة إسرائيل مما هيأ ظروفاً مناسبة لفرض السلام
الإسرائيلي!!
إن الحقيقة التي أكدتها متابعة الأحداث بعد مرور «أكثر من عشر سنوات»
من انتهاء حرب الخليج تشير إلى تضخيم حجم القوة المسلحة العراقية المزعومة هو
المسوغ الرئيسي لاستمرار اتباع سياسة أمريكية / بريطانية تجاوزت مهمة تحرير
دولة الكويت وعودة السلطة الشرعية لها إلى تدمير الدولة.. وإبادة الشعب العراقي
من خلال السير على طريق عدة محاور متوازية ومتكاملة:
أولها: دعم واستمرار عمل اللجنة الفنية لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية
واستغلالها كوسيلة لاختراق أمن العراق من جانب. ولاستمرار فرض العقوبات
الاقتصادية المدمرة له من جانب آخر.
وثانيها: تقسيم العراق بفرض مناطق حظر جوي يحجبه تأمين الشيعة في
الجنوب والأكراد في شمال العراق.
وثالثها: غض الطرف عن الاختراق الإيراني والعلميات العسكرية التركية
المتكررة لغزو شمال العراق تحت زعم كبح العمليات الإرهابية سواء (لجماعة
مجاهدي خلق الإيرانية) أو ضد (حزب العمال الكردستاني) .
ورابعها: صياغة محكمة لإنفاق «النفط مقابل الغذاء» بما يسمح بالسيادة
الكاملة على مبيعات النفط وأوجه إنفاقها مما يعد اختراقاً صارخاً لأمن وسيادة العراق.
وخامسها: اتباع سياسة الضربات الجوية والصاروخية بحجة فرض قرارات
مجلس الأمن.
ثم كانت أحداث 11/9/2001م في الولايات المتحدة الأمريكية لتكون دولة
العراق هي الضحية له بعد أن أصبحت هدفاً سهلاً وهشاً يسهل تحقيقه؛ حيث تردد
أن قرار غزو العراق قد صدر بعد هذه الأحداث مباشرة، وأن الخطوات التنفيذية له
بدأت عند إعلان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في 20/9/2002م على مرحلتين
رئيسيتين:
- مرحلة أطلق عليها الحرب الدبلوماسية انتهت بصدور قرار مجلس الأمن
رقم 1441.
- ومرحلة الحرب الساخنة التي بدأت في 20/3/2003م بدون قرار من
مجلس الأمن وبدون سند من شرعية دولية لتأكيد إصرار الولايات المتحدة على
استكمال مخطط لتدمير العراق والانطلاق منه لمرحلة إعادة صياغة الشرق الأوسط.
* ثالثاً: الظروف التي كانت سائدة في العراق قبل صدور قرار إلغاء القوة
المسلحة:
لعل قراءة الهدف الاستراتيجي العسكري للصراع المسلح مع العراق والذي
أعلنه الجنرال «ريتشارد مايلز» رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكي يؤكد
ذلك حيث يقول ذلك الهدف: «إقناع النظام العراقي بحتمية سقوطه من خلال
إحداث صدمة قوية بالقصف الجوي القوي الذي يمهد لدخول القوات الأمريكية دون
قتال» . هذا وقد أثار سقوط العاصمة بغداد واستسلام وفتح مدينة البصرة ثاني
المدن العراقية واستكمال إحكام قبضة القوات البريطانية على منطقة شط العرب
الاستراتيجية وآبار النفط بها وذلك يوم 9/4/2003م اليوم الحادي والعشرين
للعمليات.. لقد أثار ذلك عدة احتمالات لهذا الانهيار المفاجئ خاصة مع تزامنه
الاستسلام الكامل لمعظم المدن الرئيسية العراقية بما فيها العاصمة بغداد.. مما طرح
سؤالاً محيراً: هل قررت قيادات القوات المسلحة العراقية عدم مواجهة الغزو
الأمريكي؟ وفي مجال الإجابة على هذا التساؤل فإن أبرز الاحتمالات ترجيحاً هو
ذلك الاحتمال الذي طرحه «أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي» والذي
أعلن فيه عن حقيقة فرار قيادات وجنود القوات المسلحة العراقية وتركهم لأسلحتهم،
ورفضهم استمرار القتال ومواجهة القوات الأمريكية والبريطانية دفاعاً عن نظام
الرئيس صدام حسين من جهة.. وحفاظاً على ما تبقى من العاصمة بغداد والمدن
الرئيسية والبنية الأساسية العراقية من جهة أخرى!!
* رابعاً: ويبقى تساؤل هام: هل كان قرار الإلغاء للقوات المسلحة يمثل الأسلوب
الأمثل لمعالجة الموقف، أم أنه كان هناك بدائل غير هذا القرار؟
الحقيقة أنه بافتراض أن هذا الاحتمال قد حدث فإنه لم يكن يستدعي
بالضرورة إصدار قرار بالإلغاء وتسريح القوات المسلحة ووزارة الدفاع باعتبارهما
أحد أهم مظاهر السيادة للدولة، وكان الأسلوب الأمثل للمعالجة يستدعي سرعة
استدعاء قيادات القوات المسلحة الرئيسية وتنسيق الأسلوب الأنسب لعودة أفراد
القوات المسلحة إلى وحداتهم ثم التفكير في ترشيد وتطهير القيادات والضباط وبناء
كوادر قيادية جديدة تتولى إعادة بناء القوات المسلحة وإصلاح ما تم تدميره منها،
وذلك باتباع الخطوات الآتية:
- تسريح كل قوات وجنود الخدمة الاحتياطية بعد دفع مستحقاتهم المالية طبقاً
للقواعد المالية التي كانت سائدة.. ومن ثم يتم خفض القوة المسلحة إلى حوالي
30 - 40% من حجمها وهي القوات العاملة المحترفة والتي تعتمد في معاشها على
مرتباتها المالية من خلال عملها الدائم بالقوات المسلحة.
- إحالة كبار الضباط من رتبتي العميد واللواء إلى المعاش وإحلالهم بقيادات
جديدة من المشهود لهم بالكفاءة وعدم الانتماء الحزبي أو الولاء المطلق لحكم
«صدام حسين» أو حزب البعث بعد دفع مستحقاتهم المالية.
- إعادة إصلاح وصيانة ما تم إعطابه من الأسلحة والمعدات لرفع الكفاءة
الفنية للمتوفر منها باعتبارها نواة لجيش وطني من ناحية، ولصعوبة تعويض
الإنفاق المالي الذي تم عليها من ناحية أخرى.
- تخزين كل الأسلحة الزائدة عن الحاجة والخاصة بقوات وجنود الاحتياط
الذين تم تسريحهم على أن يكون التخزين بطريقة فنية تسمح بإعادة الاستخدام
مستقبلاً.
- تجميع كافة الذخائر من جميع الأنواع، وتكوين نوايات لتشكيلات مقاتلة
من القوات العاملة فقط حتى يتوفر قدر من الأمن لقوة الاحتلال وضمان عدم إذكاء
روح المقاومة للمستعمر في المستقبل القريب!!
- من الضروري وضع خطة بناء القوات المسلحة وإعادة تشغيل مصانعها
الحربية ضمن الأسبقيات الرئيسية في خطة إعادة بناء الدولة إذا صدقت النوايا
باعتبار أن القوات المسلحة وامتلاكها لوسائل التصنيع الحربي المختلفة تعتبر أهم
المظاهر الرئيسية لسيادة الدولة وتوفير القدرة لها للدفاع في مواجهة التهديدات التي
تتهددها.
- أهمية اختيار وزير للدفاع عند تعيين حكومة وطنية جديدة يكون من
الكوادر عالية المستوى ومن صفوف المعارضة الوطنية، وأيضاً تعيين رئيس
للأركان له ليقوم باتخاذ الخطوات الآتية على طريق إعادة بناء القوات المسلحة:
* بناء هيئة أركان القوات المسلحة من الفئات عالية المستوى المشهود لها
بالكفاءة والولاء للدولة وليس للنظام.
* فتح المنشآت التعليمية سواء لإعداد الضباط وضباط الصف والجنود
وإعطائهم التعليم الأساسي والتخصصي اللازم لاحتياجات القوات المسلحة مع
التركيز في المرحلة الأولى على نظام التطوع الذي يتطور مستقبلاً إلى نظام التجنيد
الإجباري.
* إحياء دور هيئة التصنيع والإنتاج الحربي وإصلاح المصانع الحربية بكافة
أنواعها، وإعادة تشغيل المدمر منها لتلبية احتياجات القوات المسلحة والاستفادة من
الكوادر والكفاءات والخبرات العلمية والفنية التي تراكمت خلال عقدين من الزمان
والتي تم إعدادها لصالح دولة العراق في هذا المجال. هذا إضافة إلى العديد من
الإجراءات الأخرى التي تضمن وجود قوة مسلحة وطنية كمظهر رئيسي من مظاهر
سيادة الدولة مع مراعاة ألا يتسبب وجود هذه القوة في مواجهة مسلحة قريبة أو
عاجلة مع قوة الاحتلال.
* خامساً: كيف انعكس قرار إلغاء القوات المسلحة على تصاعد المقاومة العراقية؟
إن ما نشهده من تصاعد للمقاومة العراقية يؤكد التخبط الذي تسير عليه الإدارة
الأمريكية الإنجليزية في العراق، وعدم وجود تخطيط لما يسمى «مرحلة ما بعد
صدام» أو مرحلة «فراغ السلطة» كما اتفق على أن يطلق عليها.. وأن ما يؤكد
حقيقة ذلك عدة اعتبارات:
أولها: أن الإدارة الأمريكية قد بدأت بالاعتماد على قائد عسكري هو
«الجنرال جاي جارنر» ومعه حوالي 150 ألف جندي أمريكي وبريطاني
لفرض حكم عسكري صارم في العراق استهدف فرض الأمن وإعادة النظام، مما
جعل استخدام القوة وإطلاق النار وترويع المواطنين هو اللغة والوسيلة الوحيدة
لفرض الأمن مما أثار الشعور العام لدى المواطن العراقي على مختلف انتماءاته
وتوجهاته السياسية.
ثانيها: مع إدراك الإدارة الأمريكية بإخفاق هذا الاتجاه كان تعيينها لحاكم
مدني هو «بول برايمر» مع وعد بتشكيل حكومة مدنية وإصلاح وعلاج ما دمرته
الحرب بالعراق.
ثالثها: أنه منذ بداية عملية الغزو الأنجلو / أمريكي للعراق في
20/3/2003م، وحتى سقوط بغداد ومعظم المدن الرئيسية الأخرى وانهيار نظام
«صدام حسين» في الحادي عشر من أبريل.. ومع كل التدمير الذي أحدثته عملية
الغزو بالشعب العراقي والبنية والمرافق الأساسية والاقتصادية.. فإن أهم ما نجحت
فيه الولايات المتحدة هو فرض القرار 1483 في 22/5/2003م والذي نص
على رفع كافة العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ عام 1991م
باستثناء واردات السلاح؛ حيث يظل الحظر لها قائماً.. وقد عهد القرار لسلطة
الاحتلال باستخراج ثروة العراق النفطية وتسويقها، وحرية التصرف في عائداتها
في غياب الدولة والشعب العراقي ومؤسساته من ناحية.. وغياب رقابة المجتمع
الدولي من ناحية أخرى.
رابعها: قامت سلطة الاحتلال استناداً لهذا القرار بإلغاء القوات المسلحة ونزع
سلاح العراق بالكامل، وإلغاء وزارة الإعلام وتسريح أعضائها، بل وتمادت في
حل وتسريح العديد من أجهزة الدولة بالقدر الذي جعل الحالة في العراق كالآتي:
- توقف برنامج النفط مقابل الغذاء والذي كان يوفر الغذاء لحوالي 16 مليون
مواطن بالقدر الذي أعلنت معه منظمة الغذاء العالمي بأن هناك حوالي 10 مليون
أسرة عراقية يتهددها الجوع.
- إلغاء الوزارات المدنية وتسريح أكثر من نصف مليون موظف بها.
- إلغاء الأجهزة الأمنية وأجهزة الشرطة والتي قدرت بنحو 250 ألف مواطن.
- إلغاء القوات المسلحة والتي كان قوامها حوالي 350 ألف جندي وضابط.
- فرض الأمن من خلال دوريات مسلحة تطلق النيران عشوائياً على
المتظاهرين أو المحتجين في صورة تماثل ما يحدث في الضفة الغربية وغزة على
أيدي حكومة «شارون» .
كل هذه الإجراءات حولت الغالبية العظمى من الشعب العراقي إلى شعب جائع
افتقد موارده المالية التي كان يتعيش منها سواء ما كان يقدم من معونة في إطار
برنامج النفط مقابل الغذاء أو توقف الرواتب الشهرية لكل العاملين بالدولة والقوات
المسلحة وأجهزة الأمن وكل من كان ينتمي لحزب البعث الذي كان يحكم العراق!!
هذا إلى جانب عدم البدء حتى في إصلاح البنية الأساسية التي دمرتها العمليات
العسكرية والتي تسببت في انقطاع المياه والكهرباء، وعدم وجود صرف صحي
بالقدر الذي بات يهدد بانتشار الأوبئة خاصة «مرض الكوليرا» . إلى جانب
ضعف تجهيز المستشفيات ونقص الأدوية وعدم توفر وسائل العلاج الأمر الذي لا
يجد معه المواطن الجائع والمهدد أمنياً سوى أن يقاوم وأن يثور، ومن هنا كان
الانطلاق المبكر للمقاومة دون انتماء عقائدي أو تنظيم شعبي.
إنها بداية حقيقية لثورة الجياع. كل هذه أسباب عجلت ببدء الثورة والمقاومة
خاصة مع اتضاح الأهداف الحقيقية وراء عملية الغزو من ناحية والخطأ الفادح
الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية بإلغاء القوات المسلحة والشرطة وتحويل هذه الكوادر
إلى عاطلين مما يفرض عليهم تنظيم المقاومة وتدريبها ضد الغزو في فترة زمنية
قدر لها من ثلاثة شهور إلى ستة شهور.
وفي النهاية أقول: إنه إذا صح ما قامت به القوات المسلحة من رفضها
الدفاع عن نظام «صدام حسين» ربما يكون ذلك نتيجة طبيعية لمعاناة هذه القوة
التي تم الزج بها في مغامرات ومخاطرات غير محسوبة تحقيقاً لطموحات زعامية
زائفة أو لنزعة دموية جارفة لحاكم اتصف بقدر كبير من التسلط والدموية
والدكتاتورية بالقدر الذي انفض عنه العالم كله شرقه وغربه شماله وجنوبه، وأذاق
شعبه ودولته والمنطقة العربية كلها ويلات وكوارث واستنزاف وإهدار لثروتها
وأمنها بالقدر الذي كان عاملاً حاسماً في تشجيع كل الطامعين والحالمين بنهب هذه
الثروات، بل والتفكير في تغيير البيئة العربية كلها التي أنجبت قادة مثل «صدام
حسين» .