الصفحة الأخيرة
التقليد من الوجهة النفسية
إن الله تعالى جبل بني آدم، بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين
المتشابهين. وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم.
حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. ولما كان بين
الإنسان مشاركة في الجنس الخاص: كان التفاعل فيه أشد. ثم بينه وبين سائر
الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلابد من نوع تفاعل بقدره. ثم بينه وبين
النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلابد من نوع من المفاعلة.
ولأجل هذا الأصل: وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم
أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الأدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان
اكتسب من بعض أخلاقه، ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل،
وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من
أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق
الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النُّفرة.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة؛ توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور
الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم،
كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من
غيرهم ممن جرّد الإسلام.
والمشاركة في الهدى الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً، وإن بعد المكان
والزمان، فهذا أيضاً أمر محسوس.
فمشابهتم في أعيادهم ولو بالقليل؛ هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي
هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به، ودار التحريم
عليه.
فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق
والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات. وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط.
ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر
زواله بعد حصوله لو تفطن له. وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع
يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة.
اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص 220