قضايا دعوية
بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
(2 ـ 3)
د. فريد الأنصاري [*]
في الحلقة الأولى بدأ الكاتب بإلقاء الضوء على مفهوم (بعثة التجديد) ،
وبيان أن البعثة بمعناها التجديدي إنما هي حركة الإسلام أكثر مما هي حركة
إسلامية، ثم قام بتحليل مصطلح الحركة الإسلامية وبيان مضمونه، وعرض
المراحل السننية التي تتعرض لها الحركة الإسلامية، وناقش مدى تأثر الحركة
الإسلامية بأجواء العولمة، ثم انتقل بعد ذلك لبيان معالم البعثة الجديدة، والتي
يواصل الحديث عنها في هذه الحلقة.
في معالم بعثة التجديد:
الوجود الديني للمجتمع الإسلامي ذاته هو هدف المعركة الجديدة، وساحتها
هي الإنسان المسلم نفسه؛ ليس بما كان مقصوداً في الاستعمار القديم، ولا بما كان
مقصوداً بالظلم السياسي الحديث الذي مارسته الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي
تحت غطاء الحماية الغربية، ولكن المسلم مقصود اليوم بالتدمير؛ باعتباره حائلاً
طبيعياً متيناً دون الأمن الصهيوني، وحلم (إسرائيل الكبرى) ، ودون التمكن
الأمريكي من النفط العربي، ولذلك فهو مستهدف في عقيدته، ونظام تربيته وتعليمه،
ونمط حياته، مستهدف ببرامج تعليمية وإعلامية أخرى، وبنظم اجتماعية جديدة،
وبتدمير كلي لمفهوم الأسرة، وبناء تركيبة اجتماعية أخرى، لا يبقى من إسلامها
إلا أسماؤها! تماماً على نحو ما يصنعون لما يسمى بـ (الجيل الثالث) من أبناء
المهاجرين في الغرب، حيث ذوبت النظم الغربية شخصيتهم الإسلامية، فضاعوا
كما ضاعت بقايا (الموريسكيين) من أهل الأندلس، في المجتمع الإسباني
النصراني!
لقد جيشت أمريكا لذلك جيوش عولمتها المحمولة على دبابات (المارينز) ،
والمحمية ليس بأسلحة التدمير الشامل فقط؛ ولكن أيضاً بأسلحة الإعلام والاقتصاد
والثقافة والتعليم والتقنين الاجتماعي ... إلى آخر ما يمثل فضاء الديمقراطية في
مفهومها الغربي!
إن قضية (المورسكيين) اليوم في كل مكان، حتى كأن العالم الإسلامي في
عصرنا هذا (أندلس) كبيرة! ألا إن هذه بصيرة، ولكن [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) !
تلك هي طبيعة المعركة الجديدة؛ فإما بعثة جديدة، وإما الانقراض لا سمح
الله! ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يحفظ كتابه إلى يوم القيامة؛ تلك عقيدتنا، وقد
تواتر ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: [هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
(التوبة: 33) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا تزال طائفة من أمتي
منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة!» [1] ، وقال أيضاً: «لا
تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم؛ حتى
يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس!» [2] .
لكن القضية هي مسؤولية الإنسان المسلم الذي تعلق هذا الدين بربقته، عقيدة
وشريعة ومصيراً، في الدنيا وفي الآخرة. إنها مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجيل،
إنها مسؤولية (حفظ الدين) التي أناطها الله جل وعلا بالتكليف التعبدي الإنساني،
وما حفظه كما تبين من قبل إلا (ببعثة للتجديد) ، تنطلق كلما أحدق الخطر ببيضة
الإسلام.
وإن عِظَم الخطر اليوم، وشموليته، وعمقه، بما لم يسبق له مثيل في
منهجية التدمير الوجداني؛ لجدير بأن يكون وحده مؤشراً قوياً على أن الزمان زمان
بعثة جديدة! ولمن كان يبصر فتلك بشائرها تلوح أنواراً في الأفق، وما جاء الفرَج
قط إلا بعد (حتى) الدالة على أقصى غايات الضيق، والنهاية في مسالك الحرج،
قال عز وجل: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم
مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ، وقال سبحانه: [حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا
عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) .
يستعمل مصطلح (البعثة) في عملية التجديد الشمولية للدين؛ أخذاً من كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فصلناه من قبل؛ لأن هذا المصطلح هو
المفتاح الحقيقي لما نريده من مفهوم للتجديد الذي يبدد عن العالم الإسلامي بحول الله
ظلمات الجاهلية الجديدة، في صورتها (العولمية) الأخيرة.
وإذا كان لنا من كلام عن (بعثة التجديد) فهو عن بعض معالمها الكبرى،
وهو كلام مبني بالدرجة الأولى على استقراء النصوص القرآنية والحديثية، ثم
بدرجة ثانية على قراءة ضرورات المعركة الجديدة وطبيعتها، بما أشرنا إليه قبل.
أول ما ابتُدئت به بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو نزول آيات من القرآن،
وكان ذلك حدثاً عظيماً لم يحصل بعده في سيرته صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم
منه وأعجب! وقد بقي القرآن أداته صلى الله عليه وسلم الأساس للدعوة إلى الله
وتوحيده تعالى، مع ما ألهمه تعالى وأوحى إليه من الحكمة؛ مما نطق به في حديثه
صلى الله عليه وسلم، وسار به في سيرته؛ إلا أن القرآن كان منبع الأنوار كلها.
وتدفق الإسلام على الناس وفشا بينهم بتدفق آي القرآن وسوره عليه صلى الله
عليه وسلم، فكان المادة الأساس في تربية الجيل؛ انطلاقاً من دار الأرقم، وشعاب
مكة، إلى الهجرة نحو المدينة، إلى فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ في
ظرف زمني لا يتعدى بضعاً وعشرين سنة! ومن هنالك انطلق إلى العالم في ظرف
يقارب الأول، مع الخلفاء الراشدين وآخرين من بعدهم. إن هذه ملحوظة أساسية؛
أعني: التدفق الدعوي في ظرف زماني قصير! بل قياسي بالنسبة لقانون الاجتماع
البشري، في انتشار الأفكار والعقائد والمذهبيات، ففي نحو بضع وعشرين سنة من
التداول الاجتماعي للقرآن تربيةً وجهاداً؛ يكون الإسلام دين الله المكين في الأرض!
ثم الدين الظاهر على كل الأديان والملل والنِّحَل، يخضع له الملوك والجبابرة في
كل مكان؛ إسلاماً أو جزيةً! إنها بعثة إذن!
وبتأمل السيرة النبوية واستقراء مراحلها، ونصوص الكتاب والسنة المتعلقة
بها، وبمفهوم البعثة، وبالنظر إلى حجم الفساد والانحراف الذي ضرب العالم اليوم؛
يمكن استخلاص معالِمَ لِبعْثَةِ التَّجديد فيما يلي:
المَعْلَمُ الأول: التداول القرآني:
إن أهم معلم وأوضح خاصية يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً؛ هي
ظاهرة التداول القرآني، ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساساً،
فقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في بداية الأمر من كتابة شيء غير
القرآن! وذلك كما في حديثه المشهور؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا
عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج،
ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار!» [3] ، وقد تواترت أخبار الحركة
القرآنية التي طبعت جيل الصحابة؛ اهتماماً، وقراءة، ومدارسةً. وإنما كان النبي
صلى الله عليه وسلم يشتغل به داعياً إلى الله ومربياً، وإنما أسلم معظم من أسلم من
الصحابة تأثراً بسماع شيء من القرآن. لقد كان للقرآن في جيلهم خبرٌ مَهيب، ونبأ
عظيم، يتلقونه ويبثونه؛ حتى صار القرآن هو الحديث الأبرز في تلك المرحلة،
تَنَزُّلاً وتداولاً.
إن المسلمين اليوم يقرؤون القرآن، نعم؛ ولكنهم لا يتداولونه، إننا نقصد بـ
(التداول) : الاشتغال الذي يعمر الحياة؛ حتى يطغى على كل شيء سواه؛ تلاوةً،
وتعلماً، ومدارسةً، وتدبراً، وتبصراَ، وفُشُوّاً بين سائر فئات المجتمع وطبقاته.
هذا شيء مع الأسف مفقود اليوم، ولا يكون إلا (ببعثة جديدة) تجدد اشتغال
الأمة بالقرآن.
وكان لجيل الصحابة في عهد النبوة وبعده مجالسُ قرآنية، ليست كأغلب
مجالس السهرات القرآنية التي تُعقد اليوم للسماع والتغني، كلا! ولكنها كانت
مجالس قرآنية متكاملة، تتضافر فيه التلاوة، والتعلم، والتزكية، على كمال ما
تكون التربية النبوية لخير الأجيال [4] ، وذلك بشهادة القرآن العظيم في مثل قوله
تعالى: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل
عمران: 164) ، وقوله سبحانه: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(الجمعة: 2) .
وانطبعت تلك التربية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا أهل
قرآن؛ وسُموا لذلك بـ (القرّاء) ، فعَنْ أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ:
«جَاءَ نَاسٌ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا
الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ، فِيهِمْ خَالِي
حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَه بِاللّيْلِ، يَتَعَلّمُونَ» [5] .
وكانت للقرآن أخبار يحرص المؤمنون على تتبعها وتناقلها؛ لأن القرآن
أخلاق، ومنهج حياة، فكان حرصهم عليه حرصاً على بناء حياتهم، فعن عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - في حديث طويل؛ أنهم كانوا يتحدثون أن غسان تُنَعِّلُ
الخيلَ لغزو المدينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حراساً بعوالي المدينة؛
لمراقبة ذلك عن بعد. قال عمر - رضي الله عنه -: «وكان لي جار من
الأنصار، فكنا نتناوب النزولَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً،
وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك» [6] .
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتدت تلك المجالس مع الفتوح إلى
سائر الأمصار، يصف لنا التابعي الجليل أبو رجاء العطاردي طريقة ذلك، وكيفية
تنظيم أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للمجالس القرآنية بالعراق، قال:
«كان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد، مسجد البصرة، يعقد
حِلَقاً، فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين، يقرئني القرآن!» [7] .
وقد تخرّج من هذه الحِلَق الدراسية خَلْقٌ كثير من التابعين، فعن أبي كنانة أن
أبا موسى الأشعري «جمع الذين قرؤوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاثمائة، فعَظَّمَ
القرآنَ، وقال:» إن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا
القرآنَ، ولا يتبعنكم القرآنُ؛ فإنه من اتبع القرآنَ هبط به على رياض الجنة! ومن
تبعه القرآنُ زَخَّ في قفاه، فقذفه في النار! « [8] .
ودأب الصحابة - رضوان الله عليهم - على هذا المنهج؛ حتى لكأن الأمة
إنما قامت حينما قامت بالقرآن.. وكذلك كان.
فنخلص إذن إلى أن التداول القرآني كان له في البعثة الأولى وجهان:
الأول: تداول اجتماعي، وتم بمقتضاه بث الاشتغال بالقرآن في كل مرافق
الحياة الاجتماعية، يُتَلَقى خبرُه، وتضبط عبارته، وتُحفظ تذكرته. ثم يُبَثُّ ذلك
كله، ويذاع في الناس، لتسير الآيات في الآفاق، فيعمر القرآن الحياة الاجتماعية؛
ذكراً ومذاكرةً. ولو يلحظ ذلك في العمل الدعوي التجديدي اليوم؛ إذن يتحول
القرآن إلى خُلُق اجتماعي عام، وتتحول قضاياه، وقصصه، وعِبَرُه، وحِكَمُه،
وأمثاله إلى (ثقافة شعبية) سارية. وذلك من شأنه أن يصنع نسيجاً اجتماعياً مسلماً،
عميقاً ومتيناً، لا تخترقه عوادي العولمة الثقافية والإعلامية؛ مهما اشتدت ريحها.
والثاني: تداول تربوي، وهو الذي اختصت به (مجالس القرآن) التي
كانت تعمر المساجد، والبيوت، والبساتين، والشعاب، والبطاح سِرّاً في مراحل،
وعلناً في مراحل أخرى مما كان قبل الهجرة ومما كان بعدها؛ تعلماً، وتزكيةً،
ومدراسةً، وتدبراً، وتَبَصُّراً؛ لتخريج أهل القرآن الحكماء الربانيين الذين يربون
الناس، والذين هم مادة الاستمرار الحضاري للأمة وعمودها الفقري، والذين
ذكرهم الله جل وعلا في قوله: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا
كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) .
المَعْلَمُ الثاني: الإمامة العلمية:
إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يحدد (إمامة) بعثة التجديد، وينص
عليها بصورة واضحة، لا غَبَش فيها ولا إبهام. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
» إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإنّ الأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا
الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ « [9] . بيد أن (الوراثة) ها هنا تقتضي
إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية، لا مجرد العلم الخالي من كل عمل،
ومن أي رسالة! فذلك علم مدَّعَى غير موروث. فالعلماء الورثة: هم أهل الرسالة،
وحُمَّالُ البلاغ القرآني، ولقد أصَّل الشاطبي - رحمه الله - ذلك، وهو أحد أئمة
التجديد في الأندلس، فوصف العالم المتصدر للتربية والتجديد؛ بـ (الوارث) ،
و (المُنْتَصِب) ، كما وصفه بالرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم،
والفقيه، والعاقل، في نصوص جديرة بأن تشد إليها الرحال! وهي اصطلاحات
كلها دالة عنده على (إرث) النبوة في منهج التربية والتعليم والتزكية للأمة.
(فالانتصاب) إنما هو تجرد لمهمة البلاغ؛ تماماً كما تنتصب الجبال بين الصحارى
والبطاح؛ أعلاماً للضالين عن الطريق، فيراها كل العابرين، وتكون بذلك مثارات
اتباع واقتداء. قال - رحمه الله -:» إن المنتصب للناس في بيان الدين مُنْتَصِبٌ
لهم بقوله وفعله، فإنه وارثُ النبي، والنبي كان مبيناً بقوله، وفعله. فكذلك
الوارثُ لا بد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثاً على الحقيقة! ومعلوم أن
الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يتلقون الأحكام من أقواله، وأفعاله،
وإقراراته، وسكوته، وجميع أحواله. فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في
الفعل؛ كما في التحفظ فى القول؛ فهو ذلك! وصار من اتبعه على هدى. وإن كان
على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى! لكن بسببه! « [10] ، وقال في
منهج اقتداء الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم:» وكانوا يبحثون عن
أفعاله، كما يبحثون عن أقواله، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب! «
[11] .
ذلك هو عالِم البعثة إذن؛ داعية رباني حكيم، مجدِّد ومجتهد، منتصب للناس
بعلمه وورعه؛ مُعَلِّماً، وداعياً، وهادياً، ومربياً.
وملاحظة السيرة النبوية تفضي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كوَّن
عدداً كبيراً من علماء الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ
بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم
كثير! جيل من العلماء الأئمة، كانوا فقهاء، وحكماء ربانيين، ولم يكونوا مجرد
نقلة، بل أسهموا في بناء حضارة الأمة، ونهضتها الأولى.
وبعثة التجديد لن تكون إلا بمثلهم، منهجياً؛ أي بقيادة علمية متميزة كماً وكيفاً،
فلا بد من عدد وفير من أهل العلم؛ من الذين يحملون الرسالة، ويشتغلون
بالقرآن؛ تعليماً، وتزكيةً، وتفقيها في الدين. وإنما أولئك هم العلماء الربانيون كما
سبق قول أبي إسحاق الشاطبي - رحمه الله -:» الذين يربون الناس بصغار العلم
قبل كباره «، كما جاء في بعض تراجم الإمام البخاري - رحمه الله -[12] ،
والذين لا تفتنهم آحاد الجزئيات عن ملاحظة الكليات، ويراعون المآلات قبل
الجواب عن السؤالات، إنهم قوم يحملون أخلاق النبوة علما وحِلْماً.
ولقد ظن بعض أهل الخير من المشتغلين بالدعوة اليوم؛ أن الناس قد
انصرفوا إلى طلب العلمي الشرعي بوفرة زائدة عن الحاجة! ولا يزالون ينصحون
الشباب بالعدول عن ذلك؛ بدعوى أننا في حاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس
المسلم، والفيزيائي المسلم. وأقول: نعم، نحن في حاجة إلى كل أولئك وأضرابهم،
لكن حاجتنا إلى (علماء البعثة) آكد وأشد! ودعوى حصول الكفاية من العلماء
باطلة! فأولاً ليس كل من انتسب إلى العلوم الشرعية هو من علماء بعثة التجديد،
بما ذكرنا وما وصفنا من مفهوم (العالِمية) ، فإنما العلماء: الفقهاء الربانيون
الوُرَّاث، كما سبق تفصيله. وليس العالم المنتصب أو الوارث هو من جمع في
ذهنه عدداً كبيراً من المحفوظات والمكتبات! ولكنه من أوتي حكمة التصرف في
المعلومات؛ بما يناسب الزمان والإنسان! ولشيخ المقاصد أبي إسحاق الشاطبي
كلمة ذهبية في هذا، قال - رحمه الله -: إن على العالم الرباني» أن لا يذكر
للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي! بل يربي بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض
العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها؛ وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه! ( ... ) ،
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في
مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها في
ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما
تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن
لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة
الشرعية والعقلية! « [13] .
إن أمثال هؤلاء ليس منهم في الأمة إلا الندرة! بله القلة، بله الكثرة والوفرة!
ولقد رأيتَ كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرَّج للناس منهم جيلاً!
فما ظنك بزماننا هذا؟ وقد بلغ عدد المسلمين في العالم ملياراً ونصف المليار! هذا
إذا حددنا مخاطَبنا في المسلمين خاصة، وإنما الإسلام جاء لمخاطبة العالمين!
ثالثاً: يسر الدعوة وبساطة المفهومات:
إن من أهم معالم البعثة النبوية؛ أنها تميزت باليسر، والسهولة في الخطاب،
وفي التكليف، وهذا أمر مهم جداً لضبط الاتجاه الدعوي المعاصر؛ ذلك أن بعض
الحركات الإسلامية إنما انغلقت على نفسها بسبب عسر مفهوماتها، وتنطع فهمها،
وما جرت عليه من حمل الناس على العنت، وقد تواتر في الدين مفهوم (رفع
الحرج) ، وما تعلق به من قواعد كلية، فالنصوص القرآنية والحديثية مجمعة على
هذا المعنى؛ بما يجعله كلية قطعية من كليات الدين؛ دعوةً، وتكليفاً. فالخطاب
القرآني صرح بذلك تصريحاً، ونص الحق جل وعلا على اليسر بإطلاق، فقال سبحانه: [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 32) ، وقال تعالى:
[فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (الدخان: 58) ، وقال جل وعلا في
الآية الجامعة المانعة، على سبيل الشمول والاستغراق: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) ، إلخ.
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثيه إلى اليمن جابر بن عبد الله
ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - فقال لهما:» يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبشّرا ولا
تنفّرا « [14] ، وقال صلى الله عليه وسلم:» إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ
أَحَدٌ إلاّ غَلَبَهُ، فَسَدّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَيَسّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ
وَشَيْء مِنَ الدّلْجَة « [15] . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:» يَا أَيّهَا النّاسُ،
عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا، وَإِنّ أَحَبّ الأَعْمَالِ إِلَىَ
الله مَا دُوِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلّ « [16] ، وروى الصحابي الجليل أنس بن مالك - رضي
الله عنه - قال:» جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا، وقالوا:
أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر!
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً! وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر!
وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً! فجاء رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه
وسلم إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛
لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي
فليس مني « [17] ، ومثل هذا في السُّنة كثير جداً؛ مما يفيد استقراؤه كليةً قطعية
من كليات الدين، فوجب إذن أن يؤخذ على هذا الوزان؛ تكليفاً وتعليماً، ودعوةً
وتزكيةً، وما خالفه فإنه يُرَدُّ إليه. ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -
رحمه الله - من بعد ما سرد عدداً من أدلة اليسر والتيسير في الشريعة:» وهذا
وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يُحصر! فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون
عنه إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين « [18] .
ولقد التقط أبو إسحاق الشاطبي هذا المعنى العظيم، فجعله أصلاً من أصول
المقاصد، حيث استعمل مصطلح (الأمية) في وصف الشريعة، لكن ليس بمعنى
الجهل، وهذا أمر غلط فيه كثير من طلبة العلم، ممن قرأه في كتاب الموافقات؛
فمن السذاجة أن يفهم عن أبي إسحاق - رحمه الله - أنه يصف الشريعة بالجهل،
أو أنها غير صالحة إلا للعوام! كيف وهو شيخ المقاصد المجدد لعلم أصول الفقه؛
ولكن بمعنى السهولة والبساطة واليسر في الفهم وفي التكليف؛ على ما أصلنا آنفاً.
وقد نقل المصطلح من دلالته اللغوية، الدالة على الجهل بالحساب والكتاب،
ليستعمله في وصف الشريعة نفسها، لكن بدلالة أخرى اصطلاحية، على مفهوم
منهجي، متعلق أساساً بمعنى اليسر المشترك في التكليف، وفي تطبيق الشريعة،
قال - رحمه الله - في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد في الموافقات:» هذه
الشريعة المباركة أمية « [19] . وهو ما فسره في موطن آخر بقوله:» ربما أُخِذ
تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك
شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أُخِذ
على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال؛ إما على الإفراط، وإما على التفريط،
وكلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمٌ! فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان
الذي به جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا! كما تقدم عن
الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء، والذين أخذوه على
الإفراط أيضاً قصروا في فهم معانيه، من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد
بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهوداً عند العرب فلا يعتبر فيها « [20] .
وهذا معنى عظيم؛ إذْ عدم اعتباره أدى بكثير من الناس إلى الزيغ عن جادة
المنهج النبوي، في الدعوة والتكليف، وإنما الأصول قائمة على حمل الناس على
الوسط والتوسط، والاعتدال، لا على الغلو؛ سواء في ذلك: الفهم أو التكليف.
فالداعية قد يؤدي به التمسك بآحاد الأدلة دون اعتبار كلياتها الأصولية إلى
الانحراف في المنهج. كما أن مراعاة بعض الجزئيات في الفهم والإفهام لا ينقض
ما تقرر قطعاً في الكليات الاستقرائية، فقد تقرر مثلاً أن الدعوة يجب أن تقوم على
منهج التيسير والتبشير؛ قصد التمكين من عموم التطبيق والتنزيل، فإذا وجد ما
يخالفه حمل عليه وأرجع إليه. وعدم مراعاة ذلك يوقع في إشكالات منهجية،
ويؤدي إلى مناقضة الفروع للأصول وهو محال.
فليس كل شيء يتناوله البحث، ويصح في التحليل والاستدلال؛ يصلح ليكون
مادة للدعوة والتربية، ومقصداً شرعياً يخاطب به عموم الناس.
إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على منهجهم؛ إنما كانوا
على (عقيدة سلفيةٍ موضوعاً؛ تربويةٍ منهجاً) ، لا على (عقيدة سلفيةٍ) موضوعاً،
(جدليةٍ) منهجاً، وفرق بينهما كبير!
إن (العقيدة السلفية موضوعاً؛ التربوية منهجاً) ؛ هي التي وردت في كتاب
الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي خرّجت جيل الصحابة
والتابعين، وسائر العلماء الربانيين، وهي التي أطاق الجمهور من المسلمين
اعتقادها والعمل بها، وكانوا بها صالحين.
فلم تكن البعثة المحمدية إلا بسيطة وسهلة، وميسرة تيسيراً في الفهم والعمل،
ولا نجاح لعمل دعوي يخرج عن هذا المنهج، ولذلك كان هذا مَعْلَماً من معالم
(بعثة التجديد) ، فحاجة العالَم اليوم إلى الدين شديدة، وعودة الناس إلى الله رغبة
أكيدة، وهي كامنة في الوجدان الإنساني، تنتظر أهل البعثة ليكتشفوها، وينزلون
عليها كلمات الله طريةً ندية. وأما التعقيد فلا يجعل ماءها إلا غوراً، فلا يستطيع
المعنتون له طلباً.
البعثة اليوم - بعد ما حفره رجال الصحوة والدعوة، من أهل الحركات
الإسلامية وغيرهم - هي على عمق صخرة واحدة، قريبة ورقيقة، تحتاج إلى من
يكشف عنها شقاً واحداً؛ لتتدفق جداول وأنهاراً.
رابعاً: التنظيم الفطري:
وأحسب أن هذا المَعْلَمَ هو من ألطف حِكَم البعثة المحمدية، فقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم منظماً في عمله كله، لا ارتجال فيه ولا فوضى، ولا
اضطراب ولا عبث، بل كل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم كانت بحسابها؛
إذ» كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن « [21] .
والقرآن نظام بديع، بل هو أبدع نظام؛ مبنىً ومعنىً، عقيدةً وشريعةً، لغةً
وجمالاً، وهو الذي فيه قول الله تعالى: [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ
إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] (لقمان: 19) ، كما أن سيرة الرسول صلى
الله عليه وسلم نظام كلها، وحكمة جميعها. ومن هنا كان إنكار تنظيم الدعوة إلى
الله، والعمل الإسلامي التجديدي؛ غباءً وجهلاً بالدين، وانحرافاً عن سنن الله في
الكون وفي المجتمع، وهي المبثوثة في الكتاب والسنة، أو ربما كان موقفاً سياسياً
مريباً؛ للتشويش على الحركة الإسلامية، وإرباك عملها الدعوي الجهادي،
ليس إلا!
لكنَّ التنظيم ذا الطبيعة الميكانيكية، كما اعتمدته أغلب الحركات الإسلامية
المعاصرة؛ صار إلى ما ذكرناه من الحزبية الضيقة! وهو ابتداع شنيع، وخطأ
فظيع! إذ آل أمره إلى محاصرة الدعوة الإسلامية حصاراً ذاتياً، فصار كثير من
(الإسلاميين) بذلك يعيشون في منفى اختياري، بين شعوبهم ومجتمعاتهم! بسبب
الغلو في بناء التنظيمات، والمبالغة في تسوير الجماعات، على طريقة المنظمات
الغربية. كيف الحل إذن؟ إنه الوسط، الوسط دائماً حل لكل انحراف سبَّبه الغلو،
ولذلك جعلنا تسمية هذا المعلم بـ (التنظيم الفطري) ؛ تحرزاً عن (التنظيم
الحزبي) الذي أهلك الدعوة وحاصر الدعاة، وأجبرهم على الإقامة داخل أفكارهم
وهياكلهم!
إن (التنظيم الفطري) هو النسق الجميل الذي ينظم العبادات في الإسلام،
وهو أكثر ما يتجلى في صلاة الجمعة والجماعة، وهو الذي طبع السيرة النبوية في
حركيتها ومراحلها، فالقيادة الشرعية يفرزها علمُها وورعُها، وتصنعها تجربتُها،
فتنتصب للناس هنا وهناك بلا حرص، وتؤم المجتمع بصورة طبيعية، بلا تحيل،
ولا تشنج، ولا قتال! لا تفرض نفسها فرضاً، ولا تسعى إلى ذلك قصداً، وإنما
الناس هم الذين يطلبونها؛ لما فاض عنها من العلم والهدى، ولما انبعث عنها من
أخلاق النبوة، وكذا لما تحقق فيها من برهان (الإرث النبوي) ، (فالعلماء ورثة
الأنبياء) كما سبق بيانه بأدلته ومقاصده.
هل وصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى إمامة الناس بانتخابات
حرة أو مقيدة؟ وقبْلَهم قياداتُ التابعين، ثم قبلهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم وخلفاؤه الراشدون؛ ألم يكن الوجدان الإسلامي مجمعاً عليهم قبل توليهم، وبعد
توليهم؟ ألم يكونوا أئمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليسوا هم أهل
شوراه صلى الله عليه وسلم، وأهل الحل والعقد عنده؟
إن أئمة بعثة التجديد لا تصنعها الانتخابات الراجعة إلى أصوات العوام! ولا
الديمقراطيات التي قد تُغَلِّب الغثَّ على السمين، وتنصر الباطل على الحق؛ بمجرد
كثرة الغث، وغلبة أهل الباطل عدداً، من الفاتنين والمفتونين.
ولقد رأينا في بعض الظروف من تجاربنا الدعوية، كيف أن ذلك المنهج
الهجين قدَّم في الولايات الدعوية للصف الإسلامي السفهاءَ على الحلماء، والأشقياءَ
على الأتقياء، وذلك لعمري هو غاية الفساد! وإنما الحَكَمُ في إمامة بعثة التجديد،
أو (حركة الإسلام) هو قاعدةُ المحدثين المشهورة: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا
عمن تأخذون دينكم) [22] .
ركنان عظيمان في الشخصية الإسلامية القيادية، لا يجوز تخلفهما، كلاهما
أو أحدهما؛ فيمن انتصب لإمامة التجديد: (القوة والأمانة) ؛ فهما أساس الولايات
الشرعية في الدين، قال تعالى: [إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ]
(القصص: 26) . وقال سبحانه على لسان يوسف - عليه السلام -: [قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] (يوسف: 55) . وصار ذلك
مرجع المحدِّثين في تقويم الشخصية الإسلامية، في خاصيتي (الضبط والعدالة) .
وكل ذلك إنما مآله إلى ذينك المفهومين: (القوة) و (الأمانة) في الإنسان المسلم.
ذلك إجماع السابقين، في التأمير والتقويم، ولا خير في بدع اللاحقين! كيف
التنظيم الفطري إذن؟ إنه شبكة بسيطة من العلاقات العلمية والتربوية، يشرف
عليها مجموع مُتَنَامٍ من العلماء الربانيين، ينتصبون للاشتغال بالقرآن العظيم
ومفاهيمه؛ تداولاً تربوياً واجتماعياً، فمرجعه إذن إلى عنصرين:
الأول: مجموع من (الأئمة المنتصبين) للبعثة باصطلاح الشاطبي الآنف
الذكر، كل منهم محور للعاملين والمتعلمين، يقومون فيهم مقام النبي صلى الله عليه
وسلم، كما حدده القرآن، بلا ابتداع ولا تضليل، ولا ترسيخ لوساطات الأشياخ
والأقطاب والأبدال، وإنما هم الربانيون وُرَّاثُ النبوة، كما سبق وصفهم بأدلته،
تتحدد علاقاتهم جميعاً في ذلك علماء ومتعلمين بقول الله تعالى: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) .
فـ (التعليم والتزكية) هما مناط (القوة والأمانة) اللذين يقوم عليهما بناء
الأمة الإسلامية في بعثة التجديد، تماماً كما قام في البعثة الأولى.
ولمفهومي (التعليم والتزكية) تفصيل بيناه في غير هذا المكان، فلا حاجة
للتكرار [23] . فالعلماء الربانيون، أو الوُرَّاثُ المنتصبون، هم الركن الأول لكل
بعثة حقيقية، بوجودهم وبانتصابهم ينتصب الدين ويقوم، وبغيابهم تنتصب المحن
والفتن! وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن الله لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛
اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا! « [24]
وترجم الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: (باب: كيف يقبض العلم؟
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دُروسَ العلم [25] وذهابَ العلماء، ولا
تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتُفْشُوا العلمَ، ولتجلسوا حتى يعلم من
لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً) .
وإن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم فعلاً من المعضلات، في هذه المرحلة
الحرجة من الاكتساح العولمي الصهيوني؛ هو هذا الموت المتواتر، والمستحر
بالعلماء، مع ضعف نتاج الخلف! فهذا مما يجب الانتباه إلى خطورته الشديدة،
وإلى الضرورة الاستعجالية التي تقضي بتفرغ شباب الصحوة الإسلامية لطلب العلم
الشرعي، بشروطه المذكورة قبل؛ قصد إنتاج علماء البعثة المنتصبين لها، وإنما
الموفق من وفقه الله.
الثاني: الاشتغال التداولي بالقرآن العظيم؛ تربوياً واجتماعياً؛ بناء على
مناهج القرآن الدعوية، كما سبق بيانه في (المَعْلَم الأول) من معالم البعثة؛ وذلك
لتجديد بنية الدين في المجتمع.
فهما عنصران إذن كما ذكرنا: الأئمة العلماء بشروط البعثة ومعالمها، ثم
المنهجية القرآنية المنظِّمة لفقه الدعوة، هذا الفقه الذي ينتج بذاته تلقائياً، وذلك
بمجرد تنزيل نصوص القرآن على واقع النفس وواقع المجتمع. وهو سِرٌّ لمن
تدبره من أسرار الإعجاز القرآني في الدعوة والتربية، وذلك يغني عن كثير من
المحركات الإدارية التي لا تفيد إلا في إثقال حركة الإنتاج الدعوي، وتقييد
المبادرات، كما هو علم الميكانيك والنظام الحزبي الذي يمنع كل حركة لم تنتج عن
حركته، وهو ما تعتمده كثير من الحركات الإسلامية اليوم مع الأسف، فنظامها
الميكانيكي الصرف يفرض عليها قتل التجديد والمبادرات، لا إحياءه وإنتاجه،
ومثل هذا لا ينتج بعثة، ولا تجديداً، وإنما قد يحفظ للأمة بعض المصالح إلى حين.
كما قد يجر عليها من المفاسد ما يفوق تلك المصالح في بعض الظروف! أما
أفكار البعثة التي تنظم العمل الدعوي بشكل تلقائي؛ فإنما هي منهج الاشتغال
بالقرآن تداولاً كما بيناه.
إن (التداولية القرآنية) هي التي صنعت المجتمع الإسلامي الأول على يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي حضَّرت جيل الهجرة، وخرجت رجاله
(الأقوياء الأمناء) من مجالس القرآن، من دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومن بين
شعاب مكة، وهي التي صنعت الدولة الإسلامية الأولى؛ انطلاقاً من مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
إن بث بصائر الآيات في المجتمع، عبر شبكة العلماء الربانيين، المنظمين؛
لكن بمنهجية القرآن الدعوية؛ يكفيك ويغنيك عن تأمير الأمراء بصورة ميكانيكية،
وانتخاب النقباء، وإنشاء الخلايا المعقدة، الحية والنائمة! فالقرآن وحده نظام البعثة
وتنظيمها؛ لكن لو كان له مهندسون مبصرون! فالتنظيم الحزبي له مصالحه وله
مفاسده، والتنظيم الفطري يجلب تلك المصالح، ويدرأ تلك المفاسد، وإنما الموفق
من وفقه الله.
ولا يصلح للدعوة غير ذلك؛ إذ كان المقصود الاستجابة لداعي بعثة التجديد،
فتدبر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بث الإسلام بين الناس، وفي
تربيتهم على مبادئه، إنما كان يُؤَمِّر (القراءَ) ويرسلهم إلى الأمصار، ويختار من
أصحابه أعلمهم وأحكمهم؛ للمهمات القيادية، والأمور الصعبة. وجاهد بذلك المنهج
السهل والبسيط، يكتشف القيادات، وينوط بها رسالة القرآن؛ لتدور في (تداولية)
شاملة، بصورة حلزونية تستوعب المجتمع شيئاً فشيئاً؛ حتى نزل قوله تعالى:
[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] (النصر: 1-3) ، فما كان لتنظيم حزبي
معقد أن يعيد الناس إلى دين الله أفواجاً من بعد ما خرجوا عن كثير من حقائقه
أفواجاً!
إن المراهنة على التنظيمات الإسلامية ذات التركيبة الحزبية الميكانيكية لإقامة
الدين بصورة كلية؛ لهي مغامرة خاسرة! نعم يمكنها أن تدافع عن الإسلام بصورة
جزئية، ويمكنها إذا وصلت إلى السلطة أن تستصدر بعض التشريعات؛ لحفظ
الدين وحمايته، وهو شيء مهم وحسن؛ ولكن لا يمكنها أن تحمل الناس عليه حملاً،
ولا أن تجعله حركة وجدانية في المجتمع، ولا هي قادرة أن تستوعبهم دعوياً ولا
تربوياً. فتنظيمها الحزبي هو بطبيعته نموذج تجزيئي، فلم يضعه الفكر البشري
ليستوعب الجميع، بل ليستوعب فئة محدودة جداً من الناس، ويبقى المجتمع بعيداً
عن هموم الحركات، وصراعات الأحزاب، ذات الأبواب والألقاب! ويتوب الله
على من تاب!
فدع بصائر القرآن العظيم تصنع خلاياها الطبيعية في المجتمع، كل المجتمع،
وتبسط هندستها العمرانية بين شرائحه، كل شرائحه.
وإنما خلايا التنظيم الفطري هي (مجالس القرآن) ، وإنما رأيه العام هو
(التداول الاجتماعي) الطبيعي للآيات والسور، وإنما مقراته هي المساجد! وإنما
قياداته هم العلماء الربانيون المنتصبون للبعثة والتجديد.