ملفات
التغيير القادم
(هنا البيت الأبيض)
فن الدعاية الرمادية
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
«جوزيف جوبلز» .. وزير الإعلام في عهد هتلر، ومؤسس فن الدعاية
السياسية بلونها الرمادي، ساهم بقوة في ترويج الفكر النازي، وساق في ركابه
عشرات الملايين من الألمان، ورغم العداء الغربي للنازية، إلا أن جوبلز يعد
مؤسس مدرسة إعلامية يحتشد ضمن صفوفها صقور الإدارة الأميركية الحالية الذين
تفوقوا على معلمهم الأول؛ بحيث استغنوا عن منصب وزير الإعلام؛ لأن كلاً منهم
بات في داخله «جوبلز» ذاتي، يمارس مهام الدعاية بطريقة تلقائية.
وجوبلز صاحب نظرية نصف الحقيقة؛ ومن هنا جاء الوصف الرمادي.
يعني ذلك خلط بعض الحقيقة مع بعض الأكاذيب وتقديمها كوجبة إعلامية دعائية
متكاملة للشعوب، وهو القائل: «اكذب الكذبة مئة مرة.. تصدقها» ، والدعاية
السياسية بمفهومها الغربي لا يمكن أن تنفك عن الكذب أصلاً، فترجمة المصطلح
الإنجليزي «propaganda» هي في الأصل مصطلح كنسي لوصف التنصير،
وأول من استعمله كان البابا جريجوري الثامن في سنوات (1572 - 1584م) ،
ومعلوم ما بين التزوير والتنصير من ارتباط وثيق.
ولم يقتصر التطوير الأميركي للدعاية السياسية على تعدد «الجبالزة» فقط،
فقد أصبح الميدان غاية في التعقيد والتشعب، وتداخلت السياسة مع الإعلام بصورة
كاملة؛ فمن جهة تحول وتغول الإعلام ليصبح لاعباً أساسياً في الملعب السياسي،
ومن جهة أخرى أصبح الأداء السياسي الرسمي المعلن يبدو وكأنه فقرة إعلامية لها
مقدم ومعد ومخرج، ولتوضيح الجانب الذي نريده من هذه العلاقة المركبة، نقول:
هناك عدة صور للارتباط بين الأداء السياسي الرسمي الإعلامي، وبين الأداء
الحقيقي غير المعلن، يمكن توضيحها باستخدام مفهوم العلاقة بين الشكل وظله؛
ففي بعض الأحيان يكون هناك تماثل بين الاثنين، ويترجم ذلك سياسياً بتزايد
مستوى الشفافية إلى حد كبير، حيث يعبر الشكل عن ظله بنسبة مئة في المئة،
وهو أمر يندر وجوده واقعياً، وأحياناً يكون الظل أصغر من الشكل، حين يراد
التضخيم والخلط والإبراز لما ليس بواقع، وأحياناً يكون الظل أضخم من الشكل،
حينما تتداعى أسباب الكتمان والسرية والإخفاء، لكن في جميع الحالات تبقى درجة
تعبير للشكل عن ظله، أما في الحالة الأميركية، فهناك نمط مبتكر للعلاقة بين
الشكل السياسي وظله؛ حيث حدث افتراق تام ومقصود بين الاثنين في كثير من
مفردات الأداء السياسي وأصبح الشكل لا ظل له، والظل لا شكل له؛ فالثاني غير
معلن، ويفترض ألا يُعرف عنه شيء، والأول يعبر عن شكل افتراضي لا وجود
له في الواقع، وهذا يعني أن الإعلام بمعناه الحرفي فقدَ ماهيته، وطُوِِّع كلية
للدعاية الرمادية.
ولإكمال فهم الصورة، نقول: إن هذا التطويع لم يخضع له الإعلام فقط، بل
حتى العمل الاستخباراتي تم تطويعه على يد «جبالزة» الإدارة الأميركية، ليصبح
تابعاً للقرار السياسي لا قائداً ومرشداً له - في حالات كثيرة - وبدلاً من التتابع
المنطقي: «معلومة - قرار» والذي يجعل من المعلومات المخابراتية محوراً
رئيساً، أصبح القرار السياسي محوراً للمعلومات. يقول راي كلوز أحد
المخضرمين في السي آي إيه: «الرئيس شخص قوي جداً.. وعندما تحس بما
يريد، فمن الصعب جداً ألا تخرج بحثاً عنه وتجده» . ويزيد متخصص آخر
الصورة إيضاحاً فيقول عن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد: «إنه
أيديولوجي، فهو لا يبدأ بالحقائق على الرغم من ذكائه الحاد، إن لديه نقطة
جوهرية، ويقوم بجمع الحقائق لدعم هذه النقطة الجوهرية» . وقد اتضحت هذه
الحقيقة في قضية ادعاء امتلاك أسلحة الدمار الشامل كمسوغ للحرب على العراق.
مؤشر آخر على اهتمام الإدارة الأميركية الحالية بالدعاية الرمادية، يتمثل في
كثرة مراكز الإعلام المتخصصة التي يتم إنشاؤها داخل مختلف الإدارات، وبغرض
التعامل مع العالم العربي والإسلامي بصفة رئيسة؛ فبالإضافة إلى النشاط الإعلامي
المعروف لوزارة الخارجية، أنشأ رامسفيلد مكتب التأثير الاستراتيجي، والذي
اشتهر باسم «مكتب التضليل الإعلامي» وسيأتي الكلام عنه لاحقاً، وكذلك أنشأ
جورج بوش الرئيس الأميركي مكتباً آخر خاصاً به في البيت الأبيض، هو مكتب
الاتصالات العالمية، ويضم 11 موظفاً بصفة مبدئية، ويرمي إلى الترويج لوجهة
النظر الأميركية، ومكافحة المشاعر المعادية للولايات المتحدة، وبالخصوص في
العالم الإسلامي..
* البيت الأبيض.. قمة الهرم المقلوب:
رغم أن ساكن البيت الأبيض يمثل قمة الهرم الأميركي، لكن يبدو الوضع في
حقيقته على غير هذه الصورة؛ فهناك هرم آخر مقلوب، في أعلاه تصطف مراكز
القوى الأميركية التي تعد المتحكم الرئيس، وتتقاسم هذه المراكز وتتبادل التأثير في
سياسة الإدارة بطريقة لا تترك لجورج بوش نفسه سوى نطاق محدود نسبياً من
الخيارات، ومن خلال هذا الحيز تبدو التوجهات الدينية اليمينية لجورج بوش
وبعض مسؤوليه، وعلى رأسهم رامسفيلد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضعف
شخصية الرئيس الأميركي أتاح الفرصة لتكوين مراكز قوى داخل الإدارة نفسها
تتنازع بدورها السيطرة على هذا النطاق المتاح.
ويمكن تصنيف أربع مراكز رئيسة للقوى، في مقدمتها: القوى الرأسمالية،
وتتمثل في الشركات الكبرى، وعلى رأسها شركات السلاح، واللوبي اليهودي، ثم
يلي ذلك الإعلام، وإن كان يعتبر وسيلة تأثير غير مستقلة يتحكم فيها أطراف
متعددة، ثم يأتي في الأخير الشعب الأميركي، وهو يفترق عن سابقيه في كونه
ليس كياناً واحداً محدد المعالم والمطالب، ولكنه كيانات متعددة، في الدين والعرق
والتوجه، بل حتى الانتماء، فهو من مراكز القوى الافتراضية، لكن تفرقه،
وتكتل الأطراف الأخرى يجعله في ذيل قائمة التأثير، ويفقده القدرة على المواجهة
والتحدي لتأثير القوى الأخرى، ويجعله أكثر قابلية للخداع؛ لذا كان خداع الشعب
الأميركي بمثابة علم وفن له أصوله وقواعده، وتميزت الإدارة الجمهورية الحالية
بزعامة جورج بوش بمنهج تجديدي في صياغة العلاقة بين الإدارة الأميركية
والشعب، وكانت أحداث سبتمبر، والحرب على الإرهاب، هي المنطلق الأساسي
لهذا النهج، وكان الإعلام وسيلته الرئيسة.
ولكي نفهم توجهات الإعلام الأميركي، ينبغي الإشارة إلى حجم السيطرة
والتأثير اليهودي في هذا المجال؛ فالشركات الإعلامية الكبرى الثلاث: والت
ديزني، فياكوم، تايم وارنر، والصحف الأميركية الكبرى: نيويورك تايمز،
والواشنطن بوست، ووول استريت جورنال، وكذلك الشبكات التلفزيونية الرئيسة:
سي بي إس، إم بي سي، إيه بي سي، وشبكة فوكس، سي إن إن، والمجلات
الكبرى، التايم، النيوزويك، وكبرى شركات إنتاج الأفلام: كولومبيا، مترو
جولدن ماير، وورنر برازر، بارامونت، يونيفرسال، سينشري فوكس ... كل
هذه المؤسسات الأميركية الضخمة يملكها أو يديرها أو يسيطر عليها تماماً اليهود.
وباختصار: تشير الأبحاث المتخصصة إلى أن 155 شخصاً يسيطرون على
الإعلام الأميركي، أغلبهم بالطبع من اليهود ومؤيديهم، وإذا كنا تحدثنا عن التأثير
التبادلي بين الإعلام والسياسة، فيمكن لنا أن نلخص دائرة التأثير المتبادل بين
العناصر الثلاث كما يلي: (يهود سياسة - يهود إعلام - إعلام سياسة - سياسة
إعلام) ، ومن ثم يسهل ملاحظة أن اليهود لا يكمن تأثيرهم الأخطر في ممارسة
أساليب الضغط المباشر، ولكن في إيجاد مناخ سياسي عام مواكب - في الولايات
المتحدة - يتم من خلاله تنفيذ مخططاتهم بصورة تلقائية، ودون تدخل مباشر في
كل حين.
* القوة.. اللغة الرسمية لإعلام البيت الأبيض:
تبنت إدارة الصقور الجمهورية نمطاً جديداً من الإعلام الرسمي هو انعكاس
للسياسة الرسمية يُفعِِّل لغة القوة العسكرية في الأساس كوسيلة للحوار والتخاطب في
السياسة الدولية، بمعنى أن العلاقات الدولية التي تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها
تعاد صياغتها حرفياً وفق موازين القوة الفعلية، وقد نجحت الإدارة الأميركية في
ذلك كثيراً، على الأقل في العلاقات مع العالم الإسلامي، ويمكن ملاحظة ذلك بتتبع
التصريحات والخطب السياسية ذات العلاقة على الجانبين؛ حيث يمكن بسهولة
تمييز التغير في هذا المجال بالمقارنة بين فترتي رئاسة بيل كلينتون ورئاسة بوش
الحالية.
ويمكن تقسيم مهام الإعلام الرسمي إلى أربعة:
أولاً: الترويج: وهو واضح المعنى، ولا يكون مرتبطاً أو مقترناً في العادة
بمهام السياسة الآنية، وبالنسبة للإدارة الأميركية؛ فهي تسعى لإعطاء انطباع للرأي
العام العالمي بكونها تسعى لتحقيق الأمن والسلام العالميين، ولنشر الديمقراطية
والحرية في دول العالم.. إلخ، كما يشمل ذلك إطلاق بعض الأسماء ذات الدلالة
على بعض الأعمال، من قبيل: حرب النجوم، العدالة الدائمة حرية العراق.
ثانياً: التشويش أو التضليل: ويكون مقترناً ببعض المهام السياسية، ويتم
بإطلاق كَمٍّ من المعلومات المضللة التي تحدث حالة من اللبس حول حقيقة الأحداث،
ويعتبر مكتب التأثير الاستراتيجي الذي أسسه رامسفيلد في البنتاجون مثالاً عملياً
على ذلك.
ثالثاً: التسويغ: وعادة ما يحدث في أعقاب تنفيذ بعض المهام السياسية أو
العسكرية والتي تثير الرأي العام المحلي والعالمي لما ترتب عليها من نتائج معلنة.
رابعاً: التغطية أو التعتيم: وتأتي أيضاً في أعقاب تنفيذ مهام سياسية، لكن
يمنع إعلان نتائجها، وما يترتب عليها من أحداث.
ويتأثر أداء المهام الأربعة للإعلام الرسمي إلى حد كبير بالقوة السياسية
والعسكرية، وبصورة عامة يتأثر بمنظومة القطبية السائدة في العلاقات الدولية،
فالوضع في حالة العالم متعدد الأقطاب، يختلف عنه في حالة الثنائية القطبية، أو
عالم القطب الواحد كما هو حالياً، فعلى سبيل المثال تحتل مهمة الترويج شأناً كبيراً
في الوضعية المتعددة والثنائية، وكذلك فإن التسويغ يتسم بكونه مركباً، ويحظى
بمستوى عال من الأهمية.
وقد اتخذت الإدارة الأميركية الحالية من أحداث سبتمبر منطلقاً لتفعيل وضعية
عالم القطب الواحد بصورة كاملة، وجاءت الحربان على أفغانستان، ثم على
العراق، كتطبيق عملي على هذه الوضعية.
يقول الرئيس الأميركي بوش في إحدى خطبه: «سوف نعلم الأنظمة
الخارجة على القانون أن حدود السلوك المتمدن سوف يتم احترامها في هذا القرن
الجديد» ، ويقول تشيروفسكي مدير مكتب تحويل القوة في البنتاجون: «نحن
نقبل حقيقة أنه نظراً لما قمنا به في العراق، فإننا نخلق حقيقة استراتيجية جديدة،
وهذا يعني وجود فرصة مختلفة لعملية رسم مختلفة للقوة» .
وبناء على ذلك فقد ترتبت وصيغت المهام الأربعة للإعلام الرسمي على نحو
جديد، فلم يعد للترويج أهميته السابقة، وإن كانت الإدارة الحالية تهتم كثيراً
بالترويج قبل أن تقدم على عمل ما مباشرة، كما حدث في حربيها على أفغانستان
والعراق، حيث كان التركيز قوياً على مخاطبة الشعبين الأفغاني والعراقي، وإبراز
مهمة القوات الأميركية على أنها تحرير الشعبين، وقد بلغ ذلك حد إقامة محطة
إذاعية متنقلة تحملها ست طائرات، تجوب الأراضي الأفغانية، وتخاطب الأفغان
بلغتهم المحلية، ولكن بمجرد تحقيق الأهداف والفراغ من العملية، يتبخر الاهتمام
بالترويج.
وأصبح التشويش والتضليل سياسة رسمية معلنة، تسبب رامسفيلد من فرط
حماسته في كشفها، قبل أن يعلن تراجعه عنها، وإن كانت صحيفة الواشنطن
بوست قد أكدت بعد ذلك أن مكتب التضليل لا يزال يمارس عمله بصورة غير
معلنة، ويخضع الأميركيون لتأثيره تماماً كسائر شعوب العالم، أما التسويغ فتأثرت
صياغته بلغة القوة إلى حد كبير، فلم يعد متعدد الطبقات، بل يكفي تسويغ أولي
سطحي ذو طبقة واحدة، ومن لم يعجبه «فليشرب من البحر الميت» كما يقول
عرفات فاقد القوة.
أما التغطية والتعتيم، فقد برزت أهميتهما في الحرب على العراق، حيث
أصبحت شكوى وسائل الإعلام الرئيسة قلة المعلومات عما يحدث، فالأخبار مثلاً
تتحدث عن عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف التي ألقتها الطائرات
الأميركية، بينما الأهداف المعروفة حتى الآن لا تشكل ربع الأماكن التي
ألقيت عليها الصواريخ، وليست هناك أي إحصائية دقيقة أو غير دقيقة عن
القتلى بين العسكريين أو المدنيين العراقيين، وقد عبر رامسفيلد نفسه دون قصد عن
ذلك، في سياق اعتراضه على ما تبثه الفضائيات العربية من لقطات، لا تعبر عن
حقيقة ما يجري، فقال: «ما نراه ليس الحرب في العراق، بل شرائح من
الحرب» ، فمن يخفي إذن بقية الشرائح؟
* البيت الأبيض يقصف عقول الأميركيين:
لم ينتج عن هجمات سبتمبر انهيار مادي لبرجي نيويورك فقط، بل تسعى
إدارة الرئيس الأميركي بوش إلى قصف الأبراج التي لا تزال موجودة في العقول
الأميركية، ولا أعتقد أنه في التاريخ الأميركي الحديث يوجد حدث كهجمات سبتمبر
تم توظيفه بقوة وكثافة، وعلى جميع المستويات المحلية والعالمية؛ بحيث أصبحت
أغلب القرارات الأميركية منذ سنتين انعكاساً له، أو تأثراً به، أو استغلالاً له، أو
تضخيماً في نتائجه وتوابعه، حتى لم يعد ذلك الحدث يتحمل، ويوشك أن يتداعى
سياسياً، مع عقول الأميركيين.
ورغم أن الرئيس بوش يحرص على ترداد مصطلح الحرية، حتى اختار
لحربه على العراق اسم «حرية العراق» لكن ذلك لا يمنع أن أولى ضحايا
هجمات سبتمبر على الصعيد الأميركي الداخلي هي الحرية نفسها، ولا شك أن هذه
الحرية بمفهومها وتطبيقها الأميركي تشكل عائقاً كبيراً أمام أهداف الإدارة الأميركية
داخلياً وخارجياً، ويهمنا هنا الحرية الإعلامية، والتي تبين مدى الحاجة إلى
تكميمها، وقد نجحت تلك الإدارة في تحقيق بعض ذلك، باستغلال ما يمكن تسميته
بإرهاب الإجماع الوطني من ناحية، وعن طريق التشويش على المعلومات والتعتيم
عليها من ناحية ثانية، وإعادة صياغة قانونية للإعلام الأميركي من ناحية ثالثة،
وقد أثمر ذلك نتائج باهرة؛ حيث ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز اعتماداً على
استطلاع للرأي أن 59% من الأميركيين يقرون بأن على السلطة السياسية
والعسكرية أن تبسط رقابة أقوى على الإعلام الأميركي.
ولفهم المنهج الذي تعاملت، وتتعامل به إدارة بوش في المجال الإعلامي،
على الصعيد الأميركي، سوف نقسم الكلام على محورين: الإعلام كآلة أو وسيلة،
الإعلام كمضمون أو رسالة.
* أولاً: الإعلام كآلة أو وسيلة:
كما سبق فإن أكبر وأضخم المؤسسات الإعلامية الأميركية يسيطر عليها أو
يملكها اليهود؛ ولذلك فاحتمالات خروجها عن الصف ضعيفة، وإن خرجت
فبحساب ولحساب.. وفي ظل ثوابت لا تتبدل على الأقل بالنسبة للقضية التي
نعالجها، مع أهمية الانتباه إلى أن جورج بوش نفسه ليس من ضمن هذه
الثوابت..
وبالإضافة لهذه المؤسسات فإن الإدارة الأميركية تبذل جهوداً عظيمة في سبيل
تأمين وسائل الإعلام، وتحويلها من منبر لليبرالية والاستقلالية إلى بوق يرى
المصالح الأميركية القومية كما تراها الإدارة، ولا شك أن الأمر ليس سهلاً أبداً،
نتيجة مناخ الحرية المطلقة التي كان يعيشها الأميركيون، ولكن السيطرة على
المؤسسات الكبرى يحل الإشكال بدرجة كبيرة.
وهنا ملاحظة هامة لكي لا ترتطم المعلومات في الأذهان وهي أن فن تحريك
العرائس الإعلامية في أمريكا يختلف تماماً عنه في عالمنا العربي فالأول فن راق
يعتمد تقنية التحريك عن بعد ولكن في محيطنا العربي تبدو العرائس ومن يحركها
على المسرح السياسي بلا حرج.
وفي محاولة لضرب وسائل الإعلام الأمريكية المستقلة والأصغر حجماً،
والتخلص من الأصوات المعارضة، تسعى الإدارة الأميركية للحصول على موافقة
الكونجرس على اقتراح لفك القيود عن قوانين ملكية وسائل الإعلام، وهو تعديل
خطير يتوقع أن يطلق حملة من حمى من الاندماجات، مما سيقضي على وسائل
الإعلام الصغيرة، ويرسخ حالة احتكار الأخبار.
يقول تيد تيرنر مؤسس السي إن إن مبيناً خطورة التعديل القانوني: «لو
كانت هذه القوانين مطبقة في عام 1970م لكان من المستحيل إنشاء شركة تيرنر
برود كاستنج أو سي إن إن بعد ذلك بعشر سنوات» ، ومن النتائج البارزة لهذا
القانون الجديد أنه سيسمح لمجموعة استشمارية واحدة أن تمتلك محطات تلفزيونية
يشاهدها 45% من الأميركيين، بدلاً من 35% حالياً، وهي وضعية خطيرة،
خاصة لو عرفنا أن الأفلام والتلفاز يشكلان الرأي العام الأميركي كما يقول ديفيد
ماك الخبير في معهد الشرق الأوسط للدراسات في واشنطن.
وكدلالة على تأثير هذا التوجه على العقل الأميركي، فإن شبكة فوكس
الإخبارية التي يملكها الملياردير اليهودي روبرت مردوخ، حظيت مؤخراً بنسبة
مشاهدة عالية، حتى إنها تجاوزت منافستها السي إن إن بـ 300 ألف مشاهد
أميركي في وقت الذروة، وذلك رغم أن المحطة تتبنى المفهوم الرسمي للإعلام إلى
حد كبير، ويدير قسمها الإخباري أحد مستشاري الحزب الجمهوري الحاكم،
روجرز أيلز الذي عمل سابقاً كمستشار إعلامي في إدارات نيكسون وريجان
وبوش الأب.
يقول أحد الصحفيين العرب: «تبدو مقولة أنه ينبغي السماح للرأي بأن
يتطور بشكل طبيعي دون أي تدخل خارجي وهما في الدول الديمقراطية، كما في
الديكتاتورية؛ فالرأي العام ظل دائماً توجهه وتتدخل فيه آلة الحرب والعسكريون» .
وعقب هجمات سبتمبر بدأت الإدارة الأميركية في الاهتمام بالتأثير الكبير
لشركات الإنتاج السينمائي في هوليود، واجتمع مستشار بارز في البيت الأبيض مع
40 من كبار المديرين التنفيذيين بصناعة الأفلام السينمائية لمناقشة كيفية المساهمة
في حرب أميركا على الإرهاب، وتم تشكيل لجنة خاصة برئاسة جاك فالينتي
رئيس جمعية «موشن بيكتشر أوف أميركا» ، وهو من أبرز شخصيات هوليود
وأكثرهم نفوذاً، وأنتج بمعرفة هذه اللجنة عدة أفلام دعائية تروج للقيم الأميركية،
لكن تغير الحال بعد الحرب على العراق والتي لقيت معارضة قوية في هوليود،
ورفض فالينتي إنتاج أي أعمال تروج لذلك، وقال: «لا نحتاج إلى إنتاج أفلام
دعائية وكل هذه السخافات» ، واقترح توزيع المزيد من الأفلام الجديدة على
القوات الأميركية.
* ثانياً: الإعلام كمضمون أو رسالة:
يقول بعض الصحفيين الأميركيين باول كروغمان من النيويورك تايمز:
«إن مصطلح تلفيق يبدو رقيقاً للغاية بالنظر إلى ما فعلته إدارة بوش طوال
الوقت» ويضيف: «هذه الإدارة اعتادت بشكل غير مسبوق في تاريخ الولايات
المتحدة، وبشكل منتظم وبصفاقة، التلاعب وتشويه الحقائق..» ورغم أن
منطلقات التلاعب تتعلق بالحرب على الإرهاب، إلا أن الأمر اتسع ليشمل مختلف
المجالات، وكما يقول كروغمان إنها استراتيجية مألوفة لدى فريق عمل بوش
اتبعها في قضايا تتنوع من الضرائب إلى الطاقة، ثم يضرب مثالاً على ذلك
بالقول: «أعلنت اللجنة القومية للحزب الجمهوري أن التخفيضات الأخيرة المتعلقة
بالضرائب ستفيد كل من يدفع الضرائب.. وتلك ببساطة أكذوبة؛ فقد سمعتم عن
قصة الملايين الثمانية من الأطفال الذين حرموا من إعفائهم من الضرائب نتيجة
تعديل في اللحظة الأخيرة، هذا التعديل سيؤدي في نهاية الأمر إلى حرمان 50
مليون عائلة أميركية من أي فائدة» .
ومنذ سبتمبر 2001م، والإدارة الحالية تسعى لفرض رقابة ضمنية على ما
تبثه وسائل الإعلام بحجة المصالح القومية، ولكي يتكتل المجتمع في مواجهة
الإرهاب، وتتزايد حدة الرقابة مع بداية كل حرب تتورط فيها الإدارة؛ كما حدث
في أفغانستان، ثم في العراق؛ حيث برزت بقوة وظيفتا التعتيم والتضليل، وبات
المجتمع الأميركي الذي ترعرع على الحرية المطلقة، يعاني من قلة المعلومات،
وعدم حصوله حتى على ما يحصل عليه المواطن العربي العادي، رغم الفارق
الكبير في الحرية الإعلامية، ومنذ إنشاء مكتب التضليل الاستراتيجي في البنتاجون،
يرصد الباحثون أن 50% من الأميركيين باتوا يعتقدون أن أسلوب التغطية
الإخبارية قد انحدر، وكتب كل من بيل كافاتش وتوم روزينيستل الباحثان
المتخصصان مقالاً هاماً في نيويورك تايمز أكدا فيه أن نسبة حصول المواطن
الأميركي على الحقائق قد انخفضت في شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين إلى
63% بعدما كانت في سبتمبر 75%، وذلك بناء على دراسة لمعهد أبحاث أجراها
على محطات التلفزة والصحف والمجلات الرئيسية.
وتتبع الإدارة الأميركية وسائل مختلفة في سبيل ممارسة الرقابة على الرسالة
الإعلامية، فقد استدعت مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس مسؤولي وسائل
الإعلام الرئيسة في أميركا، ونبهتهم إلى أهمية ما يسمى «منع التسريب..
leakage» ، ومُنعت محطات التلفاز من بث رسائل زعيم القاعدة، وفي
بعض الحالات تم عمل مونتاج لها، بحجة التأكد من عدم وجود رسائل مشفرة،
وسعياً للسيطرة على التغطية الصحفية للحرب على العراق، فقد رافق القوات
الأميركية نحو 500 صحفي، ووزع عليهم لائحة بالقيود والممنوعات تشمل خمسين
بنداً في 12 صفحة، ومن أهمها عدم نشر أي صور إلا بعد اعتبارها مناسبة من
المختصين، وذكرت بعض التقارير أن الوكالة الحكومية الأميركية للصور
والخرائط، اشترت حقوقاً لاحتكار جميع صور الأقمار الصناعية في أفغانستان،
وذلك منذ بدء العمليات العسكرية هناك.
وقد اعتمدت إدارة بوش منذ حرب أفغانستان مبدأ إعلامياً يمكن تسميته
(التهيئة للأسوأ) حيث يتم تهيئة الأمريكيين لتقبل معدلات عالية من الخسارة البشرية
والمادية وكذلك في المدد المتعلقة باستمرار الحرب والبقاء في كل من أفغانستان
والعراق فيتم الحديث عنها دائماً بالحد الأقصى وقد أبدى الأمريكيون تقبلاً غير
متوقع في هذا المجال وهو ما ينبغي أن يدفع قادة المقاومة في البلدين لإعادة النظر
في استراتيجية المواجهة عن طريق إرهاق الوجود الأمريكي.
أيضاً يلاحظ المتابع للإعلام الأميركي أثناء الحرب على العراق أنه لا يرد
ذكر الصوت الرسمي للعراق، وكأنه كيان غير موجود، بينما يتم التركيز بقوة
على مؤتمرات التحالف والمعارضة العراقية، وقبل بدء الحرب شن الرئيس
الأميركي حملة ترويج لأهدافها، من خلال خطبه وكلماته للأميركيين، أكثر فيها
من الحديث عن الفظائع التي يرتكبها رجال صدام، وعن خطورة أسلحة الدمار
الشامل التي يمتلكها، وبالغ فاعتبر أن القضاء على هذه الأسلحة يرتبط مباشرة
بتحقيق الأمن للمجتمع الأميركي.
وتولى المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض جانباً من الحملة، حيث مارس
نوعاً من الحجر على بعض التساؤلات المطروحة بالنسبة للحرب على العراق،
خاصة فيما يتعلق بمدتها، وأعرب عن الاستياء البالغ لجورج بوش من هذه الأسئلة
التي تثيرها وسائل الإعلام الأميركية.
ورغم أن إدارة بوش لا تزال تمتلك ناصية الأمور في هذا المجال، إلا أن
هناك صيحات تذمر وتململ، خاصة مع اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية. يقول
الصحفي الأميركي باول كروغمان: «كل مرة تأتي الإدارة بمن يدافع عنها - بمن
فيهم حشد من وسائل الإعلام - ممن يصرون بشكل ساذج على أن اللون الأسود
أبيض، وأن الأعلى أسفل» .
* «هنا البيت الأبيض» ... شعار إجباري للإعلام العربي:
ازدحم الفضاء العربي في وقت قصير نسبياً بنحو 140 قناة فضائية،
وتزايدت نسب مشاهدة الجمهور لهذه الفضائيات، وتفيد إحدى الدراسات العلمية
الحديثة أن نسبة 69% من الجمهور العربي يشاهدون الفضائيات لمدة أربع ساعات
يومياً، وأن 31% منهم يشاهدونها لمدة ثلاث ساعات يومياً، و34.5% لمدة
ساعتين، و15% لمدة ساعة واحدة يومياً، على حين بلغت نسبة نمو مقتني أطباق
البث 12% سنوياً، و40% من هذه الفضائيات تتبع الحكومات العربية، والبقية
تعتبر مستقلة ظاهرياً فقط، وعلاوة على ذلك فهي تعبر بصورة أو أخرى عن
ثوابت النظام الذي ينتمي إليه أصحابها، وتمثل البرامج الإخبارية في هذه
الفضائيات حوالي 5% فقط.
وقبل أن نتناول العلاقة بين البيت الأبيض والإعلام العربي، ينبغي أن نشير
إلى بعض السمات المميزة للإعلام العربي، خاصة في مجال الفضائيات،
باعتبارها الأكثر تأثيراً في الرأي العام العربي حالياً.
أولاً: تتبنى قناة الجزيرة باعتبارها طليعة القنوات الإخبارية وأكثرها تأثيراً،
نهجاً إعلامياً متميزاً، على الساحة العربية، وهو نهج غربي في الأساس يقوم على
الاستقلالية والحياد النسبي والحرية في الطرح الإعلامي، وهذا النهج الغربي له
تأثير هائل في استثارة الشعوب المحرومة من سماع الحقيقة لسنوات طويلة، وقد
تأثر الرأي العام العربي إلى درجة كبيرة بما يقدم وفق هذا النهج الذي أغرى بعض
الجهات الأخرى دولاً أو غير ذلك بالتقليد، فرأينا عدداً من الدول تنشئ قنواتها
الخاصة غير الرسمية، لكي تستطيع عن طريقها أن تبث وجهات نظرها ورؤاها
بعيداً عن القالب التقليدي الذي ملّه الناس، ولكن المشكلة في هذا النهج الإعلامي
الغربي المنشأ، أنه يثير كمّاً من المشكلات بقدر ما يحقق كثيراً من الإيجابيات؛
بحيث يدفع للتساؤل: هل هذا هو النهج الأمثل لوسائل الإعلام في واقعنا العربي؟
النظرة قصيرة الأجل تبرز الإيجابيات، والنظرة طويلة الأجل تبرز السلبيات،
ولكن هل بات في ديار العرب من يهتم بالنظر طويل الأجل؟
المفارقة هنا تكمن في الاختلاف الجوهري بين الواقع الغربي الذي نقل عنه
هذا النهج، وبين الواقع العربي؛ فقد تبنت وسائل الإعلام الغربية ذلك النهج
بطريقة طبيعية ومنطقية متساوقة مع التطور السياسي والحضاري، وهو ما يعني
أن الشعب الذي يتم مخاطبته عن طريق هذا الإعلام، مؤهل ويمتلك من أدوات
التعبير والتغيير ما يجعل من استثارته بهذه الطريقة أمراً له وجاهته، وفائدته،
بينما في واقعنا العربي لم نستورد إلا بعض ذلك النهج الإعلامي دون أدوات التعبير
والتغيير لمن تتم استثارتهم، فماذا إذن؟ يجد الناس أنفسهم في مفترق طرق: إما
أن يكبتوا مشاعرهم التي استثيرت، وإما أن ... يكبتوها ... وهذا الكبت ينقلنا إلى
احتمالات أخرى؛ فقد يولد الانفجار، ولكن هذا أمر تحترز منه الشعوب العربية
جيداً، وقد ينشأ عنه حالة من اللامبالاة، بعد أن اكتشفوا الطامتين في وقت واحد:
حجم العداء والتآمر ضدهم، وضآلة إمكاناتهم أو المسموح لهم باستخدامه منها،
وهناك احتمال ثالث، وهو أن تتحول وسائل الإعلام الثورية في حد ذاتها إلى
وسيلة «للتنفيس» والتهدئة.
ثانياً: تعيش الأمة العربية حالة من السيولة في ثوابتها ومتغيراتها، والإعلام
أثر وتأثر بذلك إلى حد كبير، وفي خضم هذه الفوضى يصبح البحث عن موقف
ثابت أو رأي محدد أو مرجعية واحدة للأمة أمر صعب المنال، ومن ثم يصبح
الرأي العام المستسلم لوسائل الإعلام نهباً للاختراق من الجهة المؤثرة والقوية التي
تملك أن تفرض شعارها.
ثالثاً: من مظاهر التقليد الأعمى الإعلامي للغرب، الهرولة غير العادية من
وسائل الإعلام لتغطية الأخبار بطريقة غوغائية، لا تنطلق من ثوابت أو منطلقات
نفعية عامة، بل كل همها البحث عن خبر جيد ومثير، وفي أثناء الحرب على
العراق، تجمَّع في الأردن وحدها نحو 1400 صحفي يبحثون عن أي أخبار، ولما
تبين لهم فقر المادة أصيبوا بإحباط شديد، وعلى شاشات التلفاز تتابع سيل لا ينقطع
من الخبراء والمحللين الذين تتضارب أقوالهم، يتحدثون عن تطورات المعارك،
وعن المقاومة العراقية الباسلة، ثم لما تبين عدم بسالتها، تحدثوا عن المعركة
المنتظرة على أسوار بغداد، ثم لما تبين عدم وجود أسوار، انطلقوا يتحدثون عن
عراق ما بعد الحرب. فوضى عقلية غير عادية عصفت بعقول الشعب العربي،
وتقاذفته ذات اليمين وذات الشمال، ليفيق بعدها وهو لا يدري ماذا حدث وكيف
حدث؟ ولتنقله وسائل الإعلام مرة أخرى وببساطة شديدة لمتابعة أحداث الشوط
( ... ) من القضية الفلسطينية، وعلى الهواء مباشرة من العقبة وشرم الشيخ، ورام
الله وغزة و ... إلخ.
رابعاً: يربط كثير من الناس بين زيادة الوعي، والكم الذي يتلقاه يومياً من
الأخبار، عبر مختلف وسائل الإعلام، وهذا فهم غير سوي؛ فالإنسان مهما بلغ
عقله وقدرته على التركيز والاستيعاب لن يستطيع أن يحوز كل ما يتاح له من
أخبار. يقول اللفتنانت نيل بيكهام أحد المتحدثين باسم التحالف: «خطر تكنولوجيا
اليوم هي كثرة الأخبار.. إذا زودت القاد بالكثير من المعلومات والأخبار فإنهم
يصابون بحيرة من كثرتها» .
خامساً: من مظاهر تقليد الإعلام الغربي، ما حدث في الكويت في محاولة
لإعطاء موقف متعاطف مع الشعب العراقي، حيث تم استجلاب أحد الأطفال
الضحايا أحمد الذي يتوفر في حالته كمٌّ مأساوي هائل، ثم يتم التركيز عليه إعلامياً:
أحمد يعالج، أحمد في رعايتنا، أحمد شُفي ... وهكذا ببساطة يتم إثبات التعاطف
مع الشعب العراقي.
سادساً: أبدى عدد من الفضائيات العربية تخبطاً كبيراً في توصيف وتحديد
موقفها من الحرب على العراق، تجاذباً بين متطلبات الموقف السياسي الرسمي،
وبين ادعاء الحياد والاستقلالية، ومثلت تسمية الحرب نفسها مشكلة كبرى، فهناك:
حرب العراق، الحرب على العراق، حرب في العراق، حرية العراق..
وبعض القنوات اتبعت المنحنى الشعبي؛ ففي البداية هي حرب في العراق، ولما
هاج الناس أصبحت حرب على العراق، وفي أول الحرب كانوا: قتلى عراقيين..
ومع سخونة الأحداث أصبحوا شهداء عراقيين، وهكذا..
سابعاً: هناك ظاهرة خاصة بالفضائيات العربية المستقلة فقط، وهي أن هذه
الاستقلالية تبدأ عادة من بعد الدولة التي تنتمي أو ينتمي إليها أصحاب الفضائية،
ويأخذ منحنى الاستقلالية المزعوم في الازدياد مع الاقتراب من الدول المشاغبة ذات
العلاقات المتوترة.
ثامناً: النقاط السابق ذكرها تقدم لنا نتائج هامة، وهي أن الإعلام العربي
ليس مستقلاً بالصورة التي يحاول أن يظهر بها، وأنه قابل للاختراق بسهولة، وأنه
من قلة الوعي الرهان على بعض هذه الفضائيات، والتلقي المفتوح منها، وفي
الأخير أن إمكانية التسرب الأميركي إليها واردة، أو وردت بقوة ...
* ماذا يريد الأميركيون من الإعلام العربي؟
باختصار: يريد البيت الأبيض من وسائل الإعلام العربية أن تقدم صورة
إيجابية عن الولايات المتحدة، وقادتها، وشعبها، وقواتها المسلحة، وأن تنقل
ترجمة عربية حرفية للوصف الذي تقدمه الإدارة الأميركية للمعارك في العراق ومن
قبل في أفغانستان، وكذا الحال في سائر القضايا الهامة.
يعني المطلوب أن يصبح شعار الإعلام العربي: «هنا البيت الأبيض» ،
وقد حسم الرئيس الأميركي القضية بقولته المشهورة: «من ليس معنا فهو ضدنا» .
وكما سبق في تناول الإعلام الأميركي، فسوف ينقسم الحديث إلى محورين:
الإعلام كآلة أو وسيلة، والإعلام كمضمون أو رسالة..
* أولاً: الإعلام كآلة أو وسيلة:
تبنت الإدارة الأميركية في هذا المجال عدة وسائل في اتجاهات مختلفة:
1 - كانت الجزيرة هي البداية، باعتبارها الأكثر تأثيراً، وحضوراً، ومن
ثم كان لا بد من استئناسها، وهذا بدوره له عدة طرق منها الضغط السياسي، ومنها
ممارسة ضغط ميداني عن طريق قصف المكاتب، وقتل بعض المراسلين، ومنها
فتح قنوات اتصال، وتم إنشاء مكتب إعلامي في لندن من مهامه تنسيق العلاقات
مع الجزيرة، عن طريق التركيز على بيان وعرض وجهة النظر الأميركية بصورة
دائمة، خاصة في البرامج الحوارية، وتم تخصيص بعض الشخصيات المفروضة
في هذا المجال، مثل كريستوفر روس المستشار في الخارجية، وينبغي التنبه إلى
أن إدارة بوش لا تريد القضاء على الجزيرة كمنبر إعلامي هام؛ إذ إن استيعابه،
واختراقه أفضل من غلقه، وخاصة أنه يقدم فوائد لا بأس بها في مجالات أخرى.
يقول جيمس روبن المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية: «إن الإدارة أدركت
مؤخراً أنه يجب استغلال قناة الجزيرة وليس التعارك معها حتى يمكن توصيل
رسالة واشنطن» ، وكانت الجزيرة قد تعرضت لحملة تحريض كبرى في بعض
وسائل الإعلام الأميركية، ودعت صحيفة نيويورك ديلي نيوز سادس أكثر الصحف
توزيعاً في الولايات المتحدة إلى إغلاق الجزيرة بقوة السلاح، وقالت إن التعامل مع
هذه القناة مهمة للقوات المسلحة.
2 - سعت الإدارة الأميركية إلى إنشاء وسائلها الإعلامية الخاصة لمخاطبة
العرب والمسلمين، فقامت بتأسيس إذاعة سوا الموجهة، لمخاطبة الشعوب العربية،
وبدأت البث في 23/3/2002م، واعتبر المسؤولون عنها في إفادة أمام مجلس
الشيوخ أنها حققت نجاحاً، ونقل عن السفير الأميركي في الأردن قوله: إن الإذاعة
حققت شهرة بين الشباب الأردني. وتبث الإذاعة الأغاني، ويتخلل برامجها
نشرات إخبارية تعرض للرؤية الرسمية الأميركية، وبعد نجاح «سوا» اتخذ
الكونجرس قراراً جريئاً بإنشاء فضائية موجهة باللغة العربية، تبث برامجها على
مدى 24 ساعة، وتم تخصيص 245 مليون دولار بالفعل، للبدء في ذلك، وأطلق
على قرار الموافقة: «برامج دبلوماسية الرأي العام» .
3 - أنشأت وزارة الخارجية الأميركية مكتباً خاصاً لشؤون الدبلوماسية العامة،
ترأسته شارلوت بيرز، ومهمته تحسين الصورة الأميركية أمام العرب والمسلمين،
ولكن لم تلبث شارلوت أن قدمت استقالتها لأسباب مرضية، ولكن ذكرت التقارير
أن السبب الحقيقي شعورها بالإحباط؛ لأن أفكارها لم تلق التجاوب واصطدمت مع
المكاتب الأخرى المثيلة في البيت الأبيض والبنتاجون، وكان من أساليب مكتب
شارلوت إنتاج فيلم دعائي عن الولايات المتحدة، بغرض عرضه في الفضائيات
العربية، ولكن رفضه كثير منها.
4 - تمارس الإدارة الأميركية أسلوب التهديد في بعض الأحيان تجاه القنوات
المارقة، والتي يخشى منها ذلك، وقد سبق قتل القوات الأميركية لأحد مراسلي
الجزيرة، وتعرض مراسلي فضائية أبو ظبي للحصار في بغداد، وعندما أذاعت
محطة تلفزيون محلية عراقية رسالة منسوبة لصدام حسين، هدد الجنرال ديفيد
بتراوس قائد الفرقة 101 المحمولة جواً في مؤتمر صحفي بأنه سيقصف المحطة؛
لأنها تحرض على أعمال عنف ضد القوات الأميركية.
* ثانياً: الإعلام كمضمون أو كرسالة:
بدا واضحاً أن معدل التدخل الأميركي في المضمون الإعلامي العربي يتزايد
باضطراد، خاصة بعد الحرب على العراق، وبات من الطبيعي أن يعلق المتحدث
باسم الخارجية أو البيت الأبيض على أشياء من ذلك، وهذا يعني أن مفهوم «من
ليس معنا فهو ضدنا» قابل للتغلغل إلى أي مستوى في الداخل العربي. يقول
ريتشارد باوتشر المتحدث باسم الخارجية الأميركية: «يؤسفني أن الكثير في
الصحافة العربية يسيء تفسير الأمور ويؤجج الأشياء، كل ما نطلبه هو أن نحصل
على فرصة عادلة لسماع رأينا، وأن ينظروا إلى الحقائق، وألا يقفزوا إلى
النتائج» . المشكلة أن العرب والمسلمين لا يحظون بأي من هذه الفرص التي
يتم التحدث عنها، وبينما تعتبر هوليود أن العرب والمسلمين هم فئة الأشرار المثالية
في أفلامها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ويقول أحد المتخصصين في مجال النقد
السينمائي إنه منذ عام 1980م، ومن بين مئات الأفلام التي تتحدث عن العرب،
ليس من بينها إلا 12 فيلماً فقط تتحدث عنهم بصورة إيجابية.
في المقابل نجد أن المسؤولين الأميركيين يشتكون من تنامي الكراهية ضد
الأميركان في الدول العربية، ويصف مسؤول كبير في الخارجية الأميركية تغطية
بعض وسائل الإعلام العربية للحرب ضد العراق بأنها: «مثيرة للمشاعر جداً،
ومتحيزة جداً» . وهذا يعني أن الأميركيين يريدون لنا أن نشاهد تغطية من قبيل
هدم تمثال صدام، ولفه بالعلم الأميركي، أو لقطات لتوزيع عينات الأغذية
الأميركية على الشعب العراقي، بينما الطائرات تقصف مستودعات غذائية عراقية
تحتوي على حمولة عشرين ألف شاحنة.
والمشكلة الحقيقية هنا لا تكمن في الممارسة الأميركية بقدر ما تكمن في رد
الفعل العربي؛ فكما ذكرنا هناك قابلية للاستسلام والاختراق غير عادية، حتى إن
مثل هذه الضغوط تنشئ ما يسمى بقاعدة للمحاسبة الذاتية؛ حيث يحرص
الإعلاميون بداية على الابتعاد عن كل ما يمكن رفضه قياساً على قولة بوش
المشهورة، ليتم تنقية الأجواء الإعلامية من كل ما يمس السياسة الأميركية، وهكذا
فإن اليهود نجحوا في أن يؤسسوا مناخاً مواتياً في الولايات المتحدة يخدم مصالحهم
بطريقة ذاتية، بينما يعجز العرب عن إيجاد مناخ مماثل يخدم المصالح العربية في
بلاد العرب، وبدلاً من ذلك يصبح شعار «هنا البيت الأبيض» اخف وطأة،
وأحمد عاقبة.
وهذا الوضع المتردي يوجب علينا أن نحدد معالم التغلل الأمريكي المرتقب
في الإعلام العربي وكذلك معالم لمنهج إعلامي يصلح لمواجهة هذه الدعاية الرمادية
التي تتغلغل في الأوساط العربية، وهو ما سوف نتناوله في مرة قادمة بإذن الله
تعالى.