دراسات في الشريعة
هيثم بن جواد الحداد [*]
التشبه بالغير حالة تطرأ على النفس البشرية، تنبئ عن ولع هذا المتشبه بمن
تشبه به؛ ولذلك فإنها في كثير من أحيانها تعتبر ظاهرة غير صحية؛ إذ إنها تدل
على رغبة صاحبها في الخروج عن طبيعته إلى طبيعة غيره الذي يختلف عنه في
الخُلُق والخَلْق، ثم يمتد أثرها ليشمل مظهر الفرد والأمة، ثم تبعيتها للغالب.
لهذا ولغيره أولت الشريعة هذه القضية اهتماماً بالغاً، وحرصت على
محاصرتها في مبادئ نشوئها قبل أن تستفحل لتصبح ظاهرة مرضية على مستوى
الأمة بأسرها. ومن ثمّ توجّب بيان مظاهرها، وضوابطها، وأحوالها، حتى يكون
الفرد، بل تكون الأمة على حذر منها.
وككثير من القضايا انقسم الناس تجاه التشبه طرفين متناقضين، ووسط بينهما؛
فغلت طائفة فجعلت التشبه بالغير كل فعل حصلت فيه مشابهة معه دون أية
ضوابط. وفرطت طائفة أخرى فلم تقم لهذه القضية وزناً، ولم ترسم لها حدوداً،
وكأنها ألغتها من قاموس أحكام الشريعة. ولعلنا في هذه المقالة نتلمس الإنصاف،
والتوسط الذي جعله الله سمة هذه الأمة [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143) .
ومن أجل طلب الاختصار، الذي أضحى رغبة للقراء، حسن الاكتفاء بثلاثة
مباحث أرجو أن تكون كفيلة بإيضاح المهم من جوانب هذه المسألة.
* خطورة التشبه، وآثاره السيئة:
التشبه مرض خطير ذو آثار سيئة ينوء بإحصائها هذا المقال، لكن لا بد من
الإشارة لأشد تلك الآثار سوءاً:
1 - التشبه بالغير في أصله نابع من تفضيل الإنسان هيئة غيره على هيئة
نفسه، وقد يكون محموداً، وكثيراً ما يكون مذموماً لا سيما إذا كان تشبهاً بالمخالف
في أصل الخلقة، أو الديانة؛ إذ ربما اقتضى عدم رضا الفرد أو المجتمع بالهيئة
التي خلقها الله عليها، وهو الأمر الذي يتضمن شيئاً من كفران النعمة التي اختص
بها الله عز وجل ذلك الفرد أو المجتمع؛ فالرجل المتشبه بالمرأة، غير راض عن
هيئته التي كرمه الله عليها، لينتقل إلى هيئة مغايرة إلى إنسان آخر اختصه الله
بخصائص أخرى، وكذلك حينما تتشبه الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، فكأنها بذلك
تعلن بصراحة أن هيئة تلك الأمة الكافرة خير لها من هيئتها التي كرمها الله جل
وعلا بها.
2 - التشبه بالغير دليل قوي على الضعف النفسي الداخلي للفرد أو الأمة،
وهو دليل على هزيمة نفسية بالغة، والشريعة لا تقبل من المسلمين أن يعلنوا تلك
الهزيمة الشنيعة، وأن يعترفوا بها حتى وإن كانت واقعاً.
إنّ الاعتراف بالهزيمة، وإعلانها على الملأ يزيد الضعيف ضعفاً، ويزيد
القوي قوة، ويمكن القوي من رقبة الضعيف، بل يتجاوز ذلك إلى الإعلان الصريح
بالخضوع والتعظيم لهذا المتشبه به، فلذا حرصت الشريعة على دفعه بكل شكل.
إن العزيز لا يمكن أن يحاكي غيره، فضلاً عن أن يتشبه به؛ بل إنه ينتظر
من غيره أن يحاكيه ويقلده.
فالتشبه بالغير ينبعث من نفسية محطمة ذليلة، هذه النفسية أكبر عائق
لنهوض صاحبها مادياً ومعنوياً.
ولهذا فإن العقلاء من أي أمة من الأمم يأبون أن تقلد شعوبهم عدوهم، بل إنهم
يحرصون على تميزهم بتراثهم وتقاليدهم وأزيائهم حتى ولو رأوا أن العدو له تراث
وتقاليد وأزياء خير مما هم عليه؛ وما ذلك إلا لأنهم يدركون الأبعاد النفسية
والاجتماعية، بل والسياسية للتبعية الشكلية للعدو.
3 - التشبه في المظهر الخارجي يبعث الباطن على الميل والمحبة؛ وهذا
أصل مقرر من طبائع النفس البشرية، وأصله أن الإنسان كل بطبيعته، لا ينفصم
جزء منه عن الآخر؛ فكما أنه إذا مرض منه عضو تأثرت له باقي الأعضاء،
فكذلك باطنه وظاهره بينهما ارتباط وثيق؛ فأعمال الطاعات الظاهرة تزيد في
الإيمان القلبي، وأعمال القلوب الباطنة تحرك الجوارح للعمل، وهكذا.
وقد أطنب شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير هذا الأصل وبيانه، وتطبيقاته
وبيانه [1] ، وخلاصته بعبارة موجزة لتلميذه وشارح كلامه ابن القيم - رحمه الله -:
«لأن المشابهة في الزي الظاهر تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن كما دل عليه
الشرع والعقل والحس؛ ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار والحيوانات
والشياطين والنساء والأعراب» [2] .
4 - التشبه بالغير، والولاء لا سيما القلبي أمران متلازمان، والمسلمون
مطالبون بالبراءة من الكفار بشتى أنواعهم، قال الله جل وعلا: [لاَ يَتَّخِذِ
المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ] (آل عمران: 28) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله
والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل» [3] .
ومن المشاهَد في القديم والحديث أنه ما قصد فرد أو طائفة مشابهة قوم آخرين
إلا أصبح له نوع ولاء لهم، وحتى لو لم تقصد المشابهة؛ فإذا أصبحت ظاهرة
متفشية، أورثت هذا الولاء.
ومما يستملح ذكره في هذا المقام أن دولاً مثل ألمانيا، وفرنسا، والصين،
حاربت تفشي الظاهرة الأمريكية بين أبنائها من لغة وهيئات وأشكال، درءاً لخطر
الولاء لأمريكا، وذوبان شخصية أبنائها، ومن المؤسف أن بعض دول الغرب
الكافرة أحست بهذا الخطر، وعملت على مقاومته أكثر مما عملت دول إسلامية
كثيرة.
* ضوابط التشبه الممنوع:
الإجابة عن هذا السؤال تتضح إذا اتضحت حقيقة التشبه ومدلوله، فنقول
وبالله التوفيق: إنّ التشبه الذي ورد النهي عنه في أحاديث كثيرة، والذي ورد في
كلام الفقهاء يحصل بإحدى طريقتين:
الأولى: قصد التشبه بطوائف معينة، والأصل فيه حديث الرسول صلى الله
عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد
مطولاً، وأبو داود مختصراً، وكل حديث ورد فيه لفظ «تشبّه» ، مثل حديث
ابن عمر مرفوعاً: «غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود» [4] ، وحديث: «لعن
الله المتشبهين من النساء بالرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال» [5] .
وضابط هذا النوع: أن يقصد فاعله مشابهة طائفة من أولئك؛ فمدار المنع:
القصد، ودليل هذا الضابط مأخوذ من دلالة كلمة «تشبّه» التي هي على وزن
تفعّل، والتي تفيد حصول الفعل بقصد وتكلف له، لا سيما إذا تعدت بالباء.
وعليه فإن هذا النوع يحصل بقصد المسلم مشابهة فئة من الذين نهي عن
مشابهتهم، حتى لو تشبه في فعل أو قول ليس من خصائصهم، بل حتى لو كان
مما يشتركون فيه مع غيرهم ممن لم يمنع المكلف من مشابهتهم. من أمثلة ذلك ما
لو لبس الإنسان لباساً مباحاً أصلاً، ولو كان مشتركاً بين المسلمين والكفار،
كالبنطال، لكنه لبسه بقصد أن يشابه الكفار، فقد ارتكب محرماً (في أقل أحواله) .
وهذا يظهر حينما يكون للإنسان هيئة وزي معين اعتاد عليه في بلده وبين قومه،
ثم عمد إلى تغييره بغير سبب شرعي. ولو سمى الإنسان أحد أولاده باسم مشترك
بين المسلمين والكفار، لكنه قصد مشابهة الكفار في هذا الاسم فقد ارتكب محرماً
كذلك، ومن هذه الأسماء المشتركة سارة، وسوزان، آدم، ونحوها. ولو نظّم
الإنسان أثاث منزله قاصداً التشبه بالكفار في منازلهم فقد ارتكب مخالفة. ولو لبست
المرأة لباساً مشتركاً بين الرجال والنساء لكنها قصدت به مشابهة الرجال حرم عليها،
بل تعرضت للعن والطرد من رحمة الله، وكذا الأمر بالنسبة للرجل. وكذا لو
قصد الرجل إلانة صوته واستعمال بعض الكلمات قاصداً بذلك مشابهة النساء دخل
في الذم، بل في اللعن؛ وذلك دون من كانت أصل خلقته كذلك [6] . وإذا سنت
الدولة أنظمة، أو خططت مدنها أو مبانيها قاصدة بذلك التشبه بالدول الكافرة، حرم
هذا القصد (في أقل أحواله) ونظر في ذات الفعل، فإن كان فيه مصلحة راجحة
ولا بديل عنه، وهو خارج عن المشابهة، فلا بأس وإلا وجب تغييره.
وهذا النوع أعني التشبه بقصد ونية هو أشد أنواع التشبه تحريماً، بل قد
أشار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد يكون في بعض الأحوال كفراً مخرجاً من الملة،
نسأل الله السلامة.
أما الطريق الثاني: فهو مشابهة أحد تلك الطوائف فيما هو من خصائصهم،
والأصل فيه كل حديث أمر بمخالفتهم، أو نهى عن مشابهتهم في أمر من الأمور
معللاً إياه بأنه من فعل الذين كفروا، أو اليهود والنصارى، مثل حديث يعلى بن
شداد بن أوس الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» [7] ، وحديث
عمرو بن العاص مرفوعاً: «فصل ما بين صيامنا وصيام اليهود أكلة السَّحَر» [8] ،
وحديث عمرو بن العاص أيضاً حينما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه
ثوبين معصفرين، فقال له: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» . ويدخل فيه
كذلك كلُّ دليل أفاد تحريم مشابهتهم بغير لفظ «تشبه» ، أو أفاد المنع من تكثير
سواد فئة ما.
فضابط هذا النوع هو المشابهة فيما هو من خصائصهم، أي مما يختصون به
ويكون شعاراً لهم وعلامة يتميزون بها عن غيرهم. وهذا هو الذي يحصل فيه
إشكال عند كثير من الناس؛ فبعض الناس يوسع ذلك فيدخل في ذلك كل فعل
يفعلونه ولو لم يكن شعاراً لهم، أو خصيصة من خصائصهم، وفي المقابل ضيقه
آخرون فلم يدخلوا فيه كثيراً من خصائصهم.
والاستدلال على هذا القيد لا يتم إلا إذا بينَّا أنّ النهي عن مشابهة طوائف
معينة لم يرد مطلقاً من أي قيد، وإنما ورد فيما إذا كان الفعل مورد النهي خصيصة
من خصائصهم بها يتميزون، وأن المشابهة فيما عدا ذلك باقية على أصل الإباحة.
وأدلة ذلك كما يلي:
أولاً: الأحاديث التي منعت من التشبه معللة إياه بأنه من لباس الكفار، أو من
لباس أهل الكتاب كحديث عمرو بن العاص المتقدم، وهذا يعني أنهم يختصون به؛
فلم تنه عن المشابهة لمجرد أنها مشابهة، بل نهت عن مشابهة مخصوصة.
ثانياً: إن مدلول مشابهة قوم لا يتحقق إلا إذا كان الفعل محل البحث خاصاً
بهم غير مشترك بينهم وبين غيرهم، وإلا لاعتبر مشابهاً لهم ولغيرهم، فلا يصح
أن يقال إنه مشابه لطائفة دون الأخرى.
ثالثاً: عدم ورود ما يوجب على المسلم أن يقصد إلى أن يتميز في أموره غير
العبادات لا سيما اللباس عن غيره، فقد أسلم الصحابة، ومنهم من كان مشركاً،
ومنهم من كان نصرانياً، أو يهودياً، ولم يؤمر أحد فيما نقل، أن يغير من لباسه،
أو من أموره الأخرى، لمجرد مخالفة قومه السابقين والتميز عنهم. وإنما أُمِرَ
المسلمون على وجه العموم أن يتميزوا عن اليهود والنصارى والمشركين في الأمور
التي تعتبر من شعارات هؤلاء القوم.
ومما يوضح معنى خصيصة من خصائصهم أنه إذا رئي هذا الفاعل لذلك
الفعل لقيل عنه إنه من تلك الطائفة التي منع من مشابهتها، وهذا واضح في الفعل
الذي لا يفعله إلا المخالفون، من يهود ونصارى وغيرهم، أما الفعل المشترك بين
المسلمين وغيرهم، أو بين طائفة وغيرها، لكن أغلب من يفعله هم الطائفة التي
نهي عن التشبه بها، لم تعد تلك المشابهة من القسم الممنوع؛ لأن الفعل ليس من
خصائصهم التي يتميزون بها عن غيرهم.
قيود توضح حقيقة التشبه، لا سيما الطريق الثاني من طرق التشبه:
1 - اختلاف صور التشبه باختلاف العرف: أي بحسب الزمان والمكان
والأحوال:
وعليه؛ فإن صور هذا القسم تختلف باختلاف عرف الزمان والمكان؛ فقد
يكون هناك ثمت فعل من خصائص طائفة في وقت ما أو زمان ما، لكنها أصبحت
مشتركة بينهم وبين غيرهم في زمان آخر أو مكان آخر، فلا يصدق عندئذ أن هذا
الفعل من خصائصهم، إلا إذا ورد نص يفيد النهي عنها لذاتها وجعلها بذاتها تشبهاً؛
فعندئذ يكون فعلها نفسه محرماً، ويكون كذلك من التشبه بصرف النظر عن الزمان
والمكان.
مثال ما يختلف حكمه بحسب عرف الزمان والمكان، بعض الألبسة؛ فمثلاً
لو أن بلداً من البلاد لا يعرفون هذا السروال الحديث (البنطال) إلا أنه لباس
للنصارى، فعندئذ يكون لبسه في حق أولئك القوم محرماً؛ لأنه من خصائص
النصارى، وتكثيراً لسوادهم، وعكس الحكم يقال لو لكان الحال بالعكس.
قال ابن حجر في فتح الباري: (وَقَدْ ثَبَتَ عِنْد مُسْلِم مِنْ حَدِيث النَّوَّاس بْن
سَمْعَان فِي قِصَّة الدَّجَّال «يَتْبَعهُ الْيَهُود وَعَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَة» وَفِي حَدِيث أَنَس أَنَّهُ
رَأَى قَوْماً عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَة فَقَالَ: «كَأَنَّهُمْ يَهُود خَيْبَر» وَعُورِضَ بِمَا أَخْرَجَهُ اِبْن
سَعْد بِسَنَدٍ مُرْسَل «وُصِفَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الطَّيْلَسَان فَقَالَ: هَذَا
ثَوْب لا يُؤَدِّي شُكْره» وَإِنَّمَا يَصْلُح الاسْتِدْلال بِقِصَّةِ الْيَهُود فِي الْوَقْت الَّذِي تَكُون
الطَّيَالِسَة مِنْ شِعَارهمْ، وَقَدْ اِرْتَفَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأزْمِنَة فَصَارَ دَاخِلاً فِي عُمُوم الْمُبَاح)
[9] .
بل يفهم من كلام ابن حجر في ذلك الموطن أنه ذهب إلى ما هو أبعد من هذا
وهو أن المنع من مشابهة قوم فيما هو من خصائصهم في وقت ما، قد ينقلب من
المنع إلى كراهة تركه مثل أن يصبح لباس الطيالسة من شعار أهل الفقه والصلاح
وعدمه هيئة للسوقة من الناس، فلا ينبغي عندئذ على من كان من الفقهاء ترك ذلك
اللباس والحالة كذلك.
ومن أمثلة ما يصح أن يقال فيه خصيصة من خصائصهم: لبس طاقية اليهود
السوداء، أو لبس عمامة السيخ، أو قص الشعر مثل طريقة بعض المشهورين
بالفسق والفجور ونحو ذلك.
2 - متى يمنع من مشابهة غير المسلمين في عباداتهم وشعائرهم الدينية الخاصة
بهم؟
لا شك أن استقراء الأدلة الواردة في هذا الباب يفيد بأنّ مشابهة غير المسلمين،
سواء كانوا يهوداً أو نصارى، أو مشركين، أو مجوس أو غيرهم، في شيء من
عباداتهم البدعية أو الشركية، أمر محرم. لكن يبقى النظر في مشابهتهم في أصل
عبادتهم الصحيحة - إن وجدت - فالظاهر من هذا أنه لا بأس به إذا لم تكن تلك
العبادة شعاراً لهم يتميزون بها عن غيرهم [10] .
والأصل في هذا أن الشريعة الإسلامية وافقت الشرائع السابقة في أصل
العبادات التي تدل على التوحيد الخالص، وخلت من شائبة الابتداع والتحريف،
ولم تلغها كلية لمجرد أنّ غير المسلمين يفعلونها، ولكنها أمرت بمخالفتهم في وصف
تلك العبادات لا سيما تلك التي تعتبر شعاراً لأهل الكتاب، أو تدل على الشرك، أو
تدل على الابتداع في الدين، أو تغيير معالمه.
ففي الحج مثلاً، ثبت أنّ المشركين كانوا يحجون، لكنّ بعضهم ابتدع في
الحج أموراً بدعية وأخرى شركية، فامتنعت قريش من الوقوف بعرفة مثلاً، زعماً
منها أنه لا يليق بهم وهم أهل الحرم أن يقفوا في الحل، وهذا كبر وغرور،
فجاءت الشريعة الإسلامية بالنهي عن ذلك صراحة، بل وجعلت ركن الحج الأكبر:
الوقوف بعرفة.
فأقرّت الشريعة أصل الحج، ولم تغير كل معالمه، فضلاً عن أن تنفيه بالكلية
تمييزاً عمن يحج من غير المسلمين، لكنها في نفس الوقت منعت من مشابهة
المشركين في الشعائر التي ابتدعوها من عند أنفسهم.
نعم! قد يقال إن الحج أصلاً من شعائر ملة إبراهيم الحنيفية؛ فنحن حينما
نحج نترسم خطى أبينا إبراهيم - عليه السلام - تاركين ما ابتدعه المبتدعون فيه،
لكن لا بد أن يُعلم أنه في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يفعله في الغالب
إلا أهل مكة ومن حولهم وهم أهل شرك وأوثان، فأصبح من شعائرهم. ثمّ إن
هناك عبادات وشعائر أخرى حصل بينها وبين شريعتنا اشتراك وليست هي من
ميراث نبينا إبراهيم - عليه السلام - كما في صيام عاشوراء.
ففي صيام عاشوراء كان بإمكان الشريعة أن تبدل صيامه بصيام يوم آخر، أو
تنهى عن صيامه، لكنّ صيامه مشروع من حيث أنه شكر لله على نجاة نبينا موسى
- عليه السلام -؛ لذا أقرته الشريعة، لكنه مع ذلك من شعائر اليهود وخصائصهم،
فأمرت الشريعة بصيام يوم قبله أو يوم بعده حتى لا تحصل المشابهة في
خصيصتهم هذه، مع وجود قدر مشترك بين العبادتين.
لكن يلاحظ أنّ المشركين كانوا يصومون عاشوراء، وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يصومه في مكة كما هو ظاهر حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في
الصحيحين قَالَتْ (واللفظ للبخاري) : «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؛ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ
وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ
تَرَكَهُ» . فحصلت موافقة بينه صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في هذه
الشعيرة، كما حصلت موافقة لهم في شعائر أخرى، فلم ينه عن موافقتهم والحالة
كذلك، لكنه نهى عن موافقة اليهود في صيام عاشوراء، لمَّا كان خصيصة من
خصائصهم، وأضاف إليه ما يميز المسلمين عنهم.
وحكم هذا النوع - أعني مجرد مشابهتهم حتى لو خلت عن قصد ونية
المشابهة - أنه محرم لعموم الأدلة التي تمنع مشابهة فئات معينة، وتمنع تكثير
سوادهم كذلك.
* الفئات التي نُهي عن التشبه بها:
كما قدمنا في أول هذا البحث أن التشبه بالغير حالة مرضية تطرأ على النفس
البشرية تجعلها تميل إلى محاكاة غيرها والتشبه به؛ فلذا قد تحاكي غيرها ممن هو
مخالف لها في العقيدة، وقد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في أصل الخلقة،
وقد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في الطبيعة التي خلقه الله عليها. ولذلك فقد
نهى الشارعُ المسلمَ أن يحاكي أصنافاً معينة تدل الرغبة في محاكاتهم على تذمر
الإنسان من الهيئة التي أختارها الله له، أو رغبته في محاكاة من أهم أنقص رتبة
منه في الاعتقاد أو في الخلقة.
وهذه الأصناف كما يلي:
1 - المخالفون في العقيدة، وهؤلاء بدورهم أقسام:
فأول المخالفين في أصل العقيدة هو الشيطان الرجيم، ولذا فقد ورد النهي عن
التشبه به فيما هو من خصائصه مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن
عمر: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان
يأكل بشماله، ويشرب بشماله» [11] .
ومنهم المخالف مخالفة كلية في أصل الدين فلا ينسب نفسه للإسلام أصلاً،
كاليهود والنصارى، والملاحدة، والوثنيين، والسيخ، والهندوس، والبوذيين
ونحوهم.
ومنهم من ينتمي إلى اسم الإسلام، لكنه خارج منه بالكلية، كالقاديانية،
والبهائية، والإسماعيلية، الباطنية، والآغاخانية، والنصيرية، وأضرابهم.
ومنهم من ينتمي للإسلام وعده العلماء من أهل القبلة، لكنه أتى ببدعة
أخرجته من الإسلام بالكلية، كالروافض، وبعض الخوارج.
ومنهم من ينتمي للإسلام لكنه صاحب بدعة من البدع الكبار، قد يكفر بها وقد
لا يكفر، كبعض أهل الاعتزال، وبعض الإباضية، ونحوهم.
ومنهم من ينتمي للإسلام، ولم يأت ببدعة من البدع الكبار، لكنه اشتهر
ببدعة معينة، أصبحت عَلَماً عليه، كبعض أهل التصوف.
ومنهم من ينتمي للإسلام لكنه مقترف مصرٌّ على كبائر الذنوب؛ والعياذ بالله.
ومنهم من ينتمي للإسلام لكنه مجاهر بالمعاصي والذنوب.
فكل طائفة من هؤلاء، إن كان لهم ما يميزهم عن غيرهم من الطوائف، من
هيئة أو لباس، أو فعل فلا يجوز تشبه أهل الاستقامة بهم بحال من الأحوال.
2 - المخالف في أصل الخلقة:
كالحيوانات والبهائم، فلا يجوز للإنسان وقد خلقه الله جل وعلا وكرمه على
سائر المخلوقات أن يتشبه بالحيوان الذي هو مخلوق مسخر للإنسان، لا يعقل، ولا
يكلف ... وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على المنع من التشبه بالحيوانات لذلك
[12] .
فلا يجوز للإنسان أن يتشبه في هيئته بهيئة الحيوان، كأن يقص شعره مثلاً
مقلداً شكل حيوان، ولا أن يلبس لباساً يظهره على أنه حيوان، ونحو ذلك.
3 - المخالف في وصف الخلقة:
وهذا فيما كان بين الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل التشبه بالمرأة،
والمرأة يحرم عليها التشبه بالرجل، وقد تقدم حديث: «لعن الله المتشبهين من
النساء بالرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال» [13] .