الورقة الأخيرة
يحيى أبو زكريا [*]
ظلّ الغرب وعلى مدى سنوات نهضته الشاملة يتباهى بشموليّة قوانينه وعدم
تغيّرها تبعاً لتغيّر الحكومات والأنظمة كما هو شأن الدول العربية التي لا تعرف
قوانينها ثباتاً وتتعرّض باستمرار للنسخ، وكان الغربيون يعتبرون أن استقرار
قوانينهم هو السبب المباشر لتطورهم المستمر، ومن هذه القوانين المركزيّة ما له
صلة بحقوق الإنسان واللجوء السياسي والإنساني في الغرب.
وإلى وقت قريب كانت العواصم الغربية ترفض المساومة على قوانينها
وخصوصاً عندما كان الأمر يتعلق بإلحاح الدول العربية في المطالبة بأشخاص
مطلوبين لديها بتهم متعددة، وكانت العواصم الغربية تتذرّع بقولها إن الأدلة المقدمة
من قِبَل الأجهزة الأمنية العربية واهية ولا ترقى البتّة إلى مستوى الدليل القاطع،
وكانت تطالب بمزيد من البراهين والأدلّة، وكانت الأنظمة العربية تقدّم ملفات
إنشائيّة أبعد ما تكون عن المستند القانوني، وكثيراً ما كانت بعض العواصم الغربية
تدعي أنّ الأشخاص المشبوهين والمطلوبين وهي تطالب برؤوسهم أنّ هؤلاء
ينتمون إلى الإسلام السياسي الذي يهدد الحضارة الغربية، وأنّ أصحاب هذا الطرح
لو وصلوا إلى السلطة بأسلوب العنف فسوف يهددون الغرب ويقضون على العلمانيّة
الغربيّة التي هي النموذج الرائع والمتميز في نظر النخب الحاكمة الراهنة في العالم
العربي. ورغم هذه المقدمة والديباجة التي تعودت الأجهزة الأمنية العربية تقديمها
لنظيراتها الغربية فإنها لم تكن كافية البتّة لإقدام الغرب على نسخ ثوابته وقوانينه
والتفريط في من لاذوا به لاجئين - حسب مواثيق جنيف - لقضايا اللجوء التي
وضعت سنة 1951م، ووافقت عليها كافة الدول الغربية التي رفعت راية حقوق
الإنسان والاستماتة في الدفاع عن هذه الحقوق وقد تم بموجب هذه المواثيق تقسيم
العالم إلى عالم ديموقراطي يرعى حقوق الإنسان، وعالم ديكتاتوري شمولي يلاحق
الإنسان في كل تفاصيل حياته المعنويّة والماديّة. وبناءً عليه وقع انفصال كبير بين
هذين العالمين، وباتت السياسات تصاغ في ضوء المبادئ المذكورة. ورغم
المجهودات الدوليّة المبذولة في المحافل الدوليّة ومساعي دول محور الجنوب الذي
كان على الدوام يتهم بالاستبداد لرأب الصدع بينه وبين العالم الحرّ الليبرالي المنافح
عن حقوق الإنسان كما يزعم؛ إلاّ أنّ أي تقارب لم يتحقق، بل إنّ الفجوة ازدادت
اتساعاً بين المحورين إلى أن وصلت إلى إيصال حاكم بلغراد الأسبق ميلوسوفيتش
إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي هولندا وهو محسوب على محور الديكتاتورية،
بينما ظلّ أرييل شارون رئيس وزراء الدولة العبريّة طليقاً رغم مجازره المتعددة؛
لأنّه ينتمي إلى محور الديموقراطية حسب تصنيفات المنظّرين الغربيين. وبعد
أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقع تقارب كبير ومدهش بين محور الديكتاتوريات
ومحور الديموقراطية؛ وبسرعة البرق تناست العواصم الغربيّة منطلقاتها وثوابتها،
فباتت تستقبل ملفات الأجهزة الأمنية برحابة صدر، وخرجت من دائرة العمل
بالبيّنة إلى دائرة العمل بالشبهة، ويكفي أن يكون المشتبه فيه مقيماً للصلاة متوجهاً
للكعبة المشرفة في صلواته الخمس قارئاً للقرآن لتثبت الشبهة، ويصبح المشتبه فيه
تحت دائرة الضوء مجرداً من الحقوق كل الحقوق التي أقرّها القانون الغربي نفسه.
وكثيراً ما كان المحققون الأمنيون الغربيون يسألون المشتبه فيهم وهذه الأسئلة
استقيتها من أشخاص مسلمين جرى فعلياً التحقيق معهم في أكثر من عاصمة غربيّة:
هل تؤدّي الصلاة؟ هل تشرب الخمر؟ ما هو مذهبك الديني؟ هل أنت
ملتزم بالإسلام وتؤدّي فرائضه، أم أنت مسلم بالاسم؟ هل أمك محجبة وزوجتك
وبناتك محجبات؟ ما هي الكتب التي تقرؤها؟ ما رأيك في هذا الشيخ وذاك الشيخ
وماذا تعرف عن الخلاف الفقهي بين هذا وذاك؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي
يستشف سامعها أنّ هناك توجهاً جديداً يشبه إلى حدّ كبير منطق محور الديكتاتوريات
في التعامل مع المشبوهين. والأخطر من ذلك قيام بعض العواصم الغربيّة بتجريد
مسلمين حصلوا على حقّ اللجوء السياسي والإقامة الدائمة من هذا الحق ومن حقّ
الإقامة الدائمة كما فعلت النرويج مع الملا كريكار الذي جرى تجريده من حقّ
اللجوء السياسي والإقامة الدائمة، وطرده من النرويج؛ علماً أنّ المخابرات
النرويجية لم تعثر على أي دليل يدينه غير الإلحاح الأمريكي بالمطالبة برأسه، مع
الإشارة أنّ كريكار كان معتقلاً في هولندا، وجرت تبرئته لعدم وجود دليل مادي
ملموس ضدّه. كما أنّ السلطات الأمريكية وبعد اعتقال الدكتور سامي العريان
وبعض النشطاء الفلسطينيين في أمريكا، أعطى وزير العدل الأمريكي لنفسه
الحق في تجريد أي مسلم أو عربي من الجنسية الأمريكية وطرده خارج الأراضي
الأمريكية مع أول طائرة مغادرة. كما أنّ الأجهزة الأمنية الغربية أبدت موافقتها
المبدئيّة على تسليم كل المطلوبين للعواصم العربية، وقد جرى فعليّاً تسليم
العشرات في دجى الليل وبدون علم المنظمات الدوليّة كمنظمة العفو الدوليّة التي
بادرت إلى تقديم احتجاجات بالجملة إلى العواصم الغربية التي انتهكت ما يعتبر
مقدساً في الغرب، كما أنّ العواصم الغربية أعطت أوامرها إلى أجهزتها الأمنية
بإجراءات سحب الجنسية الغربية من بعض (المشبوهين) الذين كانت تطالب بهم
العواصم العربية، وسحب حقّ اللجوء السياسي من كثيرين، أمّا المشبوهون الذين
طالبوا باللجوء؛ فقد جرى ترحيلهم إلى العواصم العربية التي طالبت برؤوسهم،
علماً أنّ قوانين اللجوء لا تجيز تعريض حياة طالب اللجوء للخطر، وأقصى ما
يُفعل فيه هو أنّ يُرفض طلبه ويُسأل عن وجهة الدولة التي يريد السفر إليها. إنّ
التغيرات الدوليّة أحدثت تقارباً كبيراً بين محور الديكتاتوريّة ومحور
الديموقراطيّة؛ وللأسف الشديد؛ فقد أصبح الاثنان كفكيّ مقصّ ظاهرهما مختلف
وباطنهما متَّحد على تمزيق الإسلام والمسلمين.
* مستقبل الوجود الإسلامي في الخارطة الأوروبيّة:
أدّى قانون مكافحة الإرهاب البريطاني الذي تمّت الموافقة عليه بالأغلبيّة في
البرلمان في وقت سابق إلى بعث القلق والمخاوف لدى العديد من الجاليات الإسلاميّة
في العواصم الغربية خوفاً من أن يكون القانون مقدمة لتطويق الوجود الإسلامي
بمختلف صوره في العواصم الغربيّة قاطبة. وفي هذا الصدد ذكرت مصادر
أوروبيّة عليمة بأنّ العواصم الغربيّة مجتمعة كانت على علم بالقانون البريطاني،
وهي موافقة جملة وتفصيلاً على ما أقدمت عليه لندن، وقد تحذو هذه العواصم
حذوها، بل إنّ عدداً غير قليل من العواصم الغربيّة وافقت وعلى الفور على
مشروع مشابه إن لم يكن أقسى عقب أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر بعد
تعرض أمريكا للحوادث المعروفة، وتستطرد هذه المصادر قائلة إن التنسيق بين
الأجهزة الأمنيّة في العواصم الغربيّة قائم على قدم وساق، وأنّ انتقال المعلومات
بين كل دولة أوروبيّة وأخرى عضوة في الاتحاد الأوروبي يتمّ أسرع من البرق
وبشيفرات إلكترونيّة خاصة، وتستطرد هذه المصادر مؤكدة أن كافة الاتجاهات
الإسلامية بمختلف مشاربها الفكرية والحركيّة والفقهيّة هي تحت الرصد الدقيق
وفي كل التفاصيل، وحتى المساجد التي أقيمت هنا وهناك في معظم العواصم
الغربيّة هي تحت الرصد المتطوّر للغاية. والغرض كما تذهب إليه هذه
المصادر هو ليس إلحاق الأذى بهذه المجموعات بقدر ما تعتبر المسألة مندرجة في
سياق الحفاظ على الأمن القومي في أوروبا، وتجميع أكبر قدر ممكن من
المعلومات عن كيفية أداء هذه المجموعات الإسلامية. وتعتبر شبكة أسامة بن لادن
ضمن الأولويّات الملحّة لكل الأجهزة الأمنيّة الأوروبيّة مجتمعة، ويتمّ التنسيق
في هذا الخصوص مع وكالة الاستخبارات الأمريكيّة وفق آليّات موضوعة
بكيفية أمنيّة معقدة للغاية.
وتؤكّد نفس المصادر الأوروبيّة بأنّ القانون البريطاني هو بالون اختبار
سيتبعه قانون أوروبي عام ستتمّ الموافقة عليه ضمن المجموعة الأوروبية. وبعد
بداية العمل بالقانون البريطاني سارعت باريس إلى مطالبة لندن بتسليمها الجزائري
رشيد رمضة المتهم في قضايا تفجيرات في باريس. وبناءً على ذلك تذكر المصادر
الأوروبيّة أنّ الوحدة الأمنية بين دول أوروبا يجب أن تسبق الوحدة السياسية
والاقتصاديّة، وهو ما يشير إلى حساسية المرحلة المقبلة بالنسبة للوجود الإسلامي
في خارطة أوروبا الموحدة.