المسلمون والعالم
تداخل المسارات في حرب الأديان والحضارات
د. سامي محمد صالح الدالال
حرب مدمرة، لها اسمان: «حرب الحواسم» لدى العراقيين (وقيل: الفتح)
و «حرية العراق» لدى الصليبيين، وهذا بحث حول تلك الحرب التي اندلعت
شرارتها في فجر يوم 17 محرم 1424هـ الموافق 20 مارس 2003م.
أخي القارئ! عندما تصل هذه الدراسة بين يديك وتقع جملها تحت ناظريك
فإن هذه الحرب تكون قد وضعت أوزارها وطوت صفحاتها، وتكون الولايات
المتحدة قد غرست خنجرها الثاني في الجسد الإسلامي بعد أن غرست خنجرها
الأول في أفغانستان.
* أولاً: اللوحة الخلفية:
كثير من الناس ينظرون إلى الأحداث بحسب ظواهرها، وقليل جداً منهم من
يحاول إزاحة الستار عن المحركات الخلفية لها والدوافع النفسية التي تقف وراءها
والبواعث العقدية التي تحدد مساراتها. وسنسلط الضوء على كل من الخلفية
الأمريكية والعراقية.
* الخلفية الأمريكية:
ما يجب أن نعرفه أن اللوحة الخلفية الأمريكية لها عدة أوجه، منها:
الأول: وجه مصلحي يتعلق بالسيطرة على آبار النفط العراقية، وتشغيل
الشركات الأمريكية لعشرات السنين ضمن عقود طويلة الأجل لإعادة إعمار العراق
بعد أن يدمره على رؤوس شعبه، وهذا بدوره سيقضي على البطالة في الولايات
المتحدة وينعش السوق الاقتصادية الأمريكية، ويدعم الدولار، وينشط البورصات
وجميع أسواق الأوراق المالية، ويعطي الثقة لجميع دول العالم بالقدرات الأمريكية
مما يساعد على نشر بضائعها وتسويق منتجاتها.
الثاني: وجه سياسي يتعلق بتثبيت صورة الهيمنة الأمريكية على سياسات
الدول في العالم وقدرتها على توجيه تلك السياسات بما يخدم مصالحها حيث إن
احتلالها لأفغانستان ثم العراق سيسحب البساط من تحت أقدام جميع دول العالم التي
تفكر في معارضة السياسة الأمريكية، كما يعزز تحركاتها الدولية وممارستها لكافة
الضغوط ضمن الأمم المتحدة وخارجها للحصول على ما تريد بما يحقق أهدافها
الحالية والمستقبلية، ويتم كل ذلك باسم نشر الديمقراطية.
الثالث: وجه عسكري يتعلق باتخاذ قواعد عسكرية لها في المناطق الحساسة
من العالم. حيث إن قواعدها في أفغانستان قد غيرت صورة الوضع العسكري
الاستراتيجي في منطقة وسط وشرق آسيا بما أضعف الوضع العسكري لكل من
الصين وروسيا. وإن إيجاد قواعد مماثلة في العراق سيمهد لقيام إسرائيل الكبرى
من خلال ترتيبات معينة تمزج بين السياسة والسلاح في إطار متفق عليه بين دول
المنطقة المؤثرة في الصراع مع اليهود.
الرابع: وجه ثقافي اجتماعي يتعلق بنشر الثقافة الغربية في دول العالم
الإسلامي، وإن ذلك لا يتم إلا من خلال الحضور الأمريكي المباشر في تلك الدول،
وإن بعض أهداف الحرب على العراق داخل في هذا السياق، والذي إطاره العام
مبادرة كولن باول للشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والذي جانبها التفصيلي هو
المذكرة التنفيذية لهذه المبادرة.
الخامس: وجه يهودي يتعلق بنجاح اليهود في تسيير الحزب الجمهوري ثم
مجلس الأمن القومي الأمريكي في اتجاه تحقيق الرغبات اليهودية؛ حيث إن هذا
المجلس ينافس شارون في المسارعة إلى تحقيق أهداف اليهود الكبرى.
وإن من الواضح جداً لديهم أن أهل السنة في منطقة التوسع هم العائق الرئيس
دون الوصول إلى غاياتهم التوسعية. يقول «أناتول لايغن» في دراسته المعنونة
«أسرار الاندفاع نحو غزو العراق» : «.. والاعتقاد بإمكان نشر الديمقراطية
عن طريق القوة الأمريكية لا يكون دائماً حديثاً مخادعاً، بل على العكس، فهو لا
ينفصل عن التصور الأمريكي بأن للولايات المتحدة رسالة في العالم هي ضرورة
نشر العقيدة الأمريكية، غير أن هذا الاعتقاد التبشيري ثبت أيضاً أنه عظيم الفائدة
في تدمير منافسي الولايات المتحدة أو شل حركتهم.. وعلى أية حال فإن الحرب
المعتزمة ضد العراق لا تهدف فقط إلى إبعاد صدام حسين، بل إلى تدمير هيكل
الدولة العراقية الوطنية العربية التي تهيمن عليها طائفة السنة على النحو الذي
وجدت به منذ نشأة هذا البلد. والمفترض أن الديمقراطية التي تحل محل النظام
العراقي الحالي ستكون شبيهة بالديمقراطية القائمة في أفغانستان، أي تحالف
عشوائي من الجماعات العرقية ولوردات الحرب، ويعتمد بصورة كلية على القوة
العسكرية الأمريكية، ويخضع تماماً للرغبات الأمريكية والإسرائيلية. وبالمثل،
فبعد تدمير نظام صدام حسين، إذا لم تخضع المملكة العربية السعودية للرغبات
الأمريكية وتعرضت للهجوم بدورها، فعند ذاك واستناداً إلى الأفكار التي يجري
تداولها في دوائر البحث في واشنطن، سيكون الهدف منها ليس مجرد استبعاد
النظام السعودي والقضاء على الوهابية كأيديولوجية للدولة، بل سيكون تدمير الدولة
السعودية وتقسيمها، وعند ذلك توضع آبار البترول الخليجية تحت الاحتلال
العسكري الأمريكي، ويتولى الأمور في المنطقة أمير تابع، وربما تعود مكة
والحجاز إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في الأردن..» [1] .
السادس: وجه نصراني صليبي متطرف تغذيه مجموعة من المسيحيين
اليمينيين الإنجيليين، وهم يحيطون بالرئيس الأمريكي من كل صوب، غير أن
الذي يجب كشف اللثام عنه أن بوش نفسه هو متطرف مثلهم أو من أشدهم
تطرفاً؛ فهو نصراني متدين جداً ينتمي إلى طائفة التحالف الصهيوني المسيحي
«الميسوديت» . وقد كتب هوارد فاينمان مقالاً بعنوان: «بوش والرب» [2] .
وقد جاء فيه: «إن جورج بوش الابن قد بنى حياته المهنية من خلال نسيج
علاقات مع رجال دين كانوا يشكلون حينذاك الحركة الإنجيلية الصاعدة في الحياة
السياسية، واليوم يمثلون قلب الحزب الجمهوري.. فالمسيحيون المتدينون أشد
الداعمين لبوش؛ لذا فإن حشدهم بأعداد أكبر كان في صدارة أولويات مستشار
الرئيس السياسي كارل روف» .
من هذا المنطلق فإن تصرفات بوش الابن تنبع من هذه البؤرة. يقول فاينمان:
«ويعرف مستشارو بوش أن الكثير من الأمريكيين، وفي العالم أجمع، يرونه
كرجل أعمته معتقداته ومعتقدات أنشط مناصريه» .
لقد نشأ بوش في ظل الكنيسة وانتظم وفق أصولها وتقاليدها، لكنه عاقر
الخمر ثم أقلع عنها عام 1986م، وانخرط في الدراسة المعمقة للكتاب المقدس،
وعمل ضابط اتصال مع اليمين الديني في دعمه لحملة أبيه الانتخابية عام 1987م،
وانفلت لسانه عام 1993م فصرح للصحافي أوستن، وكان يهودياً، بأن المؤمنين
بالمسيح وحدهم سيصعدون إلى الجنة، وانفلت لسانه مرة أخرى بعد أحداث
11 سبتمبر 2001م ليعلن الحرب الصليبية.
ولعب الواعظ المشهور المتطرف بيلي غراهام دوراً رئيساً في انطلاقة بوش
الابن. وعندما رشح بوش نفسه للمنافسة على الرئاسة الأمريكية عام 1999م جمع
كبار القساوسة في قصره لينال بركتهم، وأخبرهم بأنه «تمت دعوته» لينشد
منصباً أرفع. ويقول العاملون في البيت الأبيض إن الأجواء المخيمة على القصر
الرئاسي تتسم بجو من الصلاة. ولطالما كانت مجموعة دراسة الكتاب المقدس
موجودة في البيت الأبيض، وزوجة رئيس الموظفين أندروك كارد قسة في الكنيسة
المنهجية، أما والد مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس فكان مبشراً في آلاباما.
وقد أعد برنامجاً شاملاً يسمح للكنائس والكنس اليهودية والجوامع باستخدام الأموال
الفيدرالية لتقديم برامج رفاهية اجتماعية. وقد تبلورت محصلة ذلك كله في
التصدي للعدو الأول الذي يراه منافساً للانتشار المسيحي وهو الإسلام. فالحرب
على الإسلام مردها إلى شدة إيمانه بالمسيحية. يقول فاينمان: «يفكر بوش في
سياسة خارجية تستند إلى الإيمان، لكنها من النوع القادر على تفجير الوضع،
يفكر في حرب محتملة باسم الحرية المدنية، بما في ذلك الحرية الدينية، في القلب
القديم للإسلام العربي» أي الجزيرة العربية. وهذا يعني أن حربه على أفغانستان ثم
على العراق ما هي إلا تمهيد لذلك، وسيأتي المزيد من ذلك لاحقاً في هذه الدراسة.
ويقول فاينمان: «لكن المبشرين الإنجيليين لا يخفون رغبتهم في تحويل المسلمين
إلى المسيحية ولا سيما في بغداد. وإذا كان أحد أهداف إطاحة صدام منح شعب
مقموع حرية العبادة؛ فكيف للرئيس أن يعارضه في ذلك؟! إن الرئيس الأمريكي
بوش يغذي نفسه يومياً بهذه الأفكار، وخاصة التي تقرر أن صدام» شرير «
بالمعنى المسيحي الذي يراه. يقول فاينمان:» في معظم الأيام يستيقظ بوش قبل
انبلاج الفجر، حين تكون أعلى الأصوات خارج البيت الأبيض مجرد هدير
مضجر لطائرات إف 16 وهي تجوب السماء البعيد. وحتى قبل أن يجلب لزوجته
لورا فنجان القهوة الصباحية، ينزوي في مكان هادئ للقراءة. أما النص الذي
يقرؤه فليس ملخصاً إخبارياً أو برقيات استخباراتية أرسلت خلال الليل، فهذه
النصوص سيقرؤها فيما بعد في المكتب البيضاوي، كما أنه لا يقرأ كتاباً
ترفيهياً لكن بدل من ذلك أخبر أصدقاءه أنه يقرأ عظات إنجيلية قصيرة
بعنوان: (Highest His For Utmost My أعظم ما يمكنني لأعظم
العظماء) . مؤلف الكتاب أوزوالد تشيمبرز. وفي ظل الظروف الراهنة تبدو
أصداؤه التاريخية رنانة للغاية. وتشيمبرز هو مبشر معمداني من أستكتلندا مات
عام 1917م «. ولهذا قال القس الأمريكي فريتس ريتسش:» لم يحدث في التاريخ
أن كانت أمريكا مسيحية سياسياً وبشكل علني مثل ما هي اليوم. وإن تقديم بوش
تسويغات دينية لحربه على العراق لهو أمر مقلق، بل ومرعب لكثيرين « [3] .
إن خلاصة الحديث في هذا الوجه النصراني أن بوش يقود حملة صليبية على
العالم الإسلامي باسم» الحرية «، ولذلك سمى حملته على العراق بـ» حرية
العراق «.
السابع: الوجه التخطيطي؛ حيث إن قضية الحرب على العراق ليست وليدة
هذا القرن. بل بداياتها التخطيطية كانت مع نهايات القرن الماضي. وقد كان للعالم
الاقتصادي لينرون لاروش المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية عام
2004م دور بارز في كشفه من خلال بيان وزعه في العام الماضي 2002م قبيل
مرور الذكرى الأولى على أحداث 11 سبتمبر 2001م. (تم توزيع مليون نسخة
من هذا البيان في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية) . ونحن نشير إلى أهم
النقاط الواردة في هذا البيان مما له متعلق بموضوع الحرب على العراق، وذلك
ضمن النقاط التالية:
1 - الإعلان عن وجود أدلة صلبة تشير إلى أن الحملة الرامية إلى حث
الرئيس بوش عن شن حملة على العراق هي سياسة وضعتها الحكومة الإسرائيلية
عام 1996، بناء على توجيه من الشبكة اليهودية القابعة في موقع القرار الأمريكي.
2 - ابتدأت القصة بقيام ريتشارد بيرل [*] الذي كان يشغل قبل استقالته
مؤخراً منصب رئيس مجلس الدراسات الدفاعية (وهي مجموعة استشارية تقدم
دراساتها وتوصياتها لبول وولفو ويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي حالياً) بتقديم
وثيقة مكتوبة إلى رئيس وزراء الكيان اليهودي بنيامين نتانياهو عام 1996م يقترح
فيها سياسة إسرائيلية خارجية تقوم على إلغاء اتفاقيات أوسلو ومبدأ الأرض مقابل
السلام وتسعى لضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدولة اليهودية بشكل نهائي،
ويتم ذلك من خلال حرب على العراق تنتهي بزعزعة استقرار حكومات سوريا
ولبنان والسعودية وإيران، وقد تم تحضير هذه الوثيقة في معهد الدراسات
الاستراتيجية والسياسية المتقدمة الذي يموله البليونير اليميني ريتشارد ميلون
سكيفي، وله مقران أحدهما في القدس والآخر في واشنطن. عنوان الوثيقة هو:
انقطاع نظيف: استراتيجية جديدة لضمان أمن البلاد:
وقد شارك في كتابة هذه الوثيقة (بحسب مناصبهم الحالية) كل من:
- ريتشارد بيرل (رئيس مجلس الدراسات الدفاعية سابقاً) .
- دوجلاس فيث (مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون السياسة) .
- ديفيد وورمسير (مساعد خاص للمفاوض الرئيسي في وزارة الخارجية
لشؤون نزع السلاح) .
- ميراف وورمسير (مديرة قسم سياسات الشرق الأوسط في معهد هادسون) .
- جون بولتون.
وقد ألقى نتانياهو بعد يومين من استلامه مسودة هذه الوثيقة من بيرل خطاباً
أمام الكونغرس الأمريكي مردداً الأفكار التي وردت بها، وفي نفس اليوم نشرت
صحيفة وول ستريت جورنال مقتطفات منها، ثم نشرت مقالاً في اليوم التالي 11/
7/1996م تتبنى فيه وثيقة بيرل.
3 - في بداية فبراير 1998م شنت الحكومة البريطانية بقيادة توني بلير
بالتنسيق مع الحكومة اليهودية والشبكات اليهودية في الولايات المتحدة حملة
ضاغطة على الرئيس الأمريكي كلينتون لتبني وثيقة بيرل وشن حرب على العراق
بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وقد دعم ذلك وزير الخارجية البريطاني آنذاك
روبن كوك بتقديمه تقريراً حول جهود العراق بامتلاك تلك الأسلحة، وقد تضمنت
الحملة رسالة مفتوحة موجهة إلى كلينتون بتاريخ 19/2/1998م كتبها بيرل نفسه
وعضو الكونغرس السابق ستيفن سولارز تطالب فيها الرئيس بالقيام بحملة شاملة
تقودها الولايات المتحدة لتغيير نظام الحكم في بغداد. وقد شكلت تلك الرسالة
ضغطاً هائلاً على كلينتون لثقل مكانة الموقعين عليها، وتضم ممن هم الآن في
إدارة بوش كلاً من: إليوت أبرامز في مجلس الأمن القومي، ريتشارد آرميتاج في
وزارة الخارجية، جون بولتون في وزارة الخارجية، دوجلاس فيث في وزارة
الدفاع، فريد أيكل في مجلس الدراسات الدفاعية، زالماي خليل زادة في البيت
الأبيض، بيتر رودمان في وزارة الدفاع، دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الحالي،
بول وولفو ويتز نائب وزير الدفاع الحالي، ديفيد وورمسير في وزارة الخارجية،
دوف زاخيم في وزارة الدفاع. ولم يستجب كلينتون لهذه الرسالة مما أثار غضب
كل من نتانياهو وبلير بشكل شديد جداً. لكن الضغوط على كلينتون استمرت إلى
أن أثمرت عملية» ثعلب الصحراء «تحت وطأة فضيحة مونيكا لوينسكي، غير
أن تلك الضربة التي وجهت للعراق لم تكن مقنعة لليهود.
4 - استعداداً لاحتمال تولي بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية تم
إدراج بول وولفو ويتز ضمن الدائرة الداخلية المحيطة ببوش قبل عام من انتخابات
الرئاسة، وذلك بمبادرة من الوزير الأسبق جورج شولتز. وفي عام 1999م أصبح
كل من وولفو ويتز وكونداليزا رايس مسؤولي شراكة عن تأليف فريق السياسة
الخارجية والأمن القومي لحملة بوش، وهو الفريق الذي أطلق عليه» الفولكان «
(وهي آلة الحديد والنار عند الرومان) . وقد كان ريتشارد بيرل من أوائل من
ضموا إلى الفريق، كما ضم مجموعة من المشتبه بهم في قضية الجاسوس اليهودي
جوناثان بولارد وهم فرانك جافني، وستيفن براين، ومايكل ليدين؛ ليتولوا
تدريس الرئيس بوش بواطن وظواهر السياسة الخارجية والأمن القومي. وقد قامت
هذه المجموعة المهيمنة اليوم على إدارة بوش بترتيب اجتماع يوم 10 يوليو 2002
لمجلس السياسات الدفاعية، وطالبت فيه بتطهير قيادة الأركان الحربية الأمريكية
من كل المعارضين للحرب ضد العراق، كما دعت إلى احتلال منابع النفط
السعودية والتخلي عن العلاقات المتميزة مع الأسرة المالكة السعودية، وهي نفس
الأفكار الواردة في الوثيقة المقدمة إلى نتانياهو [4] .
إضافة إلى ذلك، نسجل ما يلي:
1 - في إحدى كنائس ولاية فرجينيا أقيم مؤتمر ضد الحرب على العراق،
وكان أحد المتحدثين جيمس موران العضو الديمقراطي في الكونغرس، فأبدى
ملاحظات هامة حول دور اليهود في هذه الحرب، نشرتها صحيفة» واشنطن
بوست «مما دعا الصهاينة إلى شن حرب شعواء عليه نقبت في حياته الشخصية.
2 - كتب الصحفي والسياسي بيوكانان الذي كان أحد مرشحي الحزب
الجمهوري لرئاسة أمريكا في مجلته:» أمريكا كونسير فاتف «قائلاً:» لأول
مرة بدأ الناس يتحدثون علناً عن شيء ظلوا يهمسون به سراً، لأول مرة ظهرت
حقيقة حزب الحرب اليهودي، لأول مرة هناك أسماء ووثائق « (أورد أسماء
اليهود في المواقع الحساسة في الإدارة الأمريكية) .
3 - كيرن نوينج مراسل القناة الأولى في الكيان اليهودي، وأمنون
إبراموفيتش كبير المعلقين في القناة، وعودي سيجل مراسل القناة الثانية، أجمعوا
أن مشروع الحرب على العراق من وضع ثلاثة من غلاة اليهود الأمريكيين هم:
ريتشارد بيرل، جون وولفو فيتز، دوغلاس فيث؛ حيث هم الذين صاغوا أهداف
الحرب وحث الإدارة الأمريكية على خوضها. وهؤلاء الثلاثة محسوبون على
الليكود اليهودي. وقد عقدوا بعد شهر من أحداث 11 سبتمبر اجتماعاً مع كل من:
أفرايم هلايفي (كان وقتذاك رئيس الموساد وهو الآن مدير مجلس الأمن القومي في
الكيان اليهودي) وعاموس مالكا (رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الكيان
اليهودي) إضافة إلى رئيسي قسم الأبحاث في كل من الموساد وجهاز
الاستخبارات العسكرية في الكيان اليهودي، وذلك لصياغة أهداف الحرب الميدانية
والاستراتيجية، وتم تشكيل لجنة تنسيق عسكرية مشتركة، يتم من خلالها أن يقوم
الكيان اليهودي بتقديم كل ما يتطلبه الجهد الحربي الأمريكي إبان غزوه للعراق.
4 - تم تشكيل لجنة للتنسيق السياسي يرأسها من الجانب الأمريكي مستشارة
الأمن القومي كونداليزا رايس وتضم أعضاء من فريقها في مجلس الأمن القومي،
ومن جانب الكيان اليهودي تضم دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون وبعض كبار
موظفي وزارة الخارجية، وقد عملت هذه اللجنة على توفير الظروف السياسية
المساعدة على الحرب، وعلى رأسها خطة» خارطة الطريق «.
5 - تم تشكيل لجنة عسكرية ضمت جنرالات في هيئة أركان الجيش
الأمريكي ومنهم الجنرال تومي فرانكس، قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأمريكي
وقائد حملة الحرب على العراق، وكانت مهمة اللجنة تقديم معلومات استخبارية عن
الأوضاع في العراق تساعد على حسم المعركة ضد بغداد، والمساعدة في تقديم
خطط ميدانية بشأن الحرب.
6 - تبنى الأمريكيون خطة لاغتيال الرئيس العراقي صدام حسين أُطلق عليها
اسم:» تسنيلم «حسب ما ذكرته كل من القناة الأولى في تلفزيون الكيان اليهودي
وشبكة الإذاعة العامة» «ليشيت بيت» . وقد وضع الكيان اليهودي هذه الخطة
في صيف عام 1991م بسبب إطلاق الصواريخ العراقية على فلسطين المحتلة في
حرب الخليج الثانية، وقد أشرف على الخطة رئيس أركان الجيش اليهودي آنذاك
الجنرال أيهود باراك. وتقرر أن تنفذ العملية وحدة «سيريت متكال» أي سرية
الأركان حيث قامت بالتدرب عليها في منطقة «تسيليم بيت» على بعد حوالي 35
كلم إلى الجنوب الشرقي من مدينة بئر السبع. الخطة لم تنفذ بسبب خطأ فني أثناء
التدريب أودى بحياة خمسة من الجنود اليهود. تبنى الأمريكيون بعد ذلك الخطة
وأدخلوا تعديلاتهم عليها، وتدربوا على تنفيذها، لكنها لم تنفذ بسبب تطور ظروف
جر المنطقة إلى حرب لإسقاط نظام بغداد بدل مجرد اغتيال صدام.
7 - كشف برنامج «بوبو ليتكا» الذي بثته القناة اليهودية في 18/3/2003م،
أن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني عقد خلال الشهرين السابقين للحرب
لقاءات مع 70 خبيراً إسرائيلياً في مختلف المجالات، ناقشهم خلالها في كيفية حسم
المواجهة مع العراق.
8 - حدثان إضافيان مهمان لهما دلالتهما في الحرب على العراق.
الأول: دخول وحدتين عسكريتين يهوديتين للعمل في غرب العراق وعدد
أفرادهما حوالي خمسة آلاف وذلك لمسح المنطقة للتأكد من عدم وجود صواريخ
عراقية تهدد الكيان اليهودي.
الثاني: دعا الحاخامان الأكبران في دولة الكيان اليهودي، ومجلس حاخامات
المستوطنات إلى إقامة الصلوات يوم الأربعاء 26/3/2003م، من أجل سلامة
جنود التحالف الذين يحاربون في العراق. وقد اشترك في تلك الصلوات السفيران
الأمريكي والإنكليزي [5] . فالحرب على العراق هي حرب يهودية صليبية.
9 - في تصريح أدلى به هانز بليكس كبير مفتشي الأسلحة التابعين للأمم
المتحدة لصحيفة «البايس» الإسبانية قال: «إن من المؤكد أن الحرب على
العراق تم التخطيط لها مسبقاً منذ زمن طويل، لذلك كان موقف الولايات المتحدة
حيال المفتشين يثير الشكوك في بعض الأحيان، وأن مسألة أسلحة الدمار الشامل
العراقية جاءت في المرتبة الرابعة لدى الولايات المتحدة وبريطانيا على لائحة
أسباب الحرب، وبودي أن أعرف حقاً إذا كانوا سيعثرون عليها. إن ما ذكر
بخصوص عقود مفترضة أبرمها العراق لشراء اليورانيوم المخصب من النيجر كان
تضليلاً فاضحاً» [6] .
وبعد؛ فتلك كانت سبعة أوجه ربما تساعد في توضيح الجوانب غير المنظورة
في أعماق الأحداث التي تضطرم على الساحة في دائرة الخلفية الأمريكية.
* الخلفية العراقية:
ينظر اليهود بحذر شديد وتيقظ وثاب إزاء كل ما يشكل عوامل قوة في الحكم
في العراق، وينطلقون في ذلك من منظار توراتي نبوءاتي مفاده أن الذين
سينقضُّون في آخر الزمان على دولة الكيان اليهودي فيدمرونها ويجتثون جذورها
ويعيدون تشتيت اليهود بعد أن يقتلوا منهم من يقتلون هم البابليون، أي العراقيون.
ولهذا السبب فإن تدمير العراق قضية ضاغطة في العقل اليهودي؛ لأن ذلك يؤخر
تحقيق النبوءة التوراتية.
ويتضمن تدمير العراق في الفكر اليهودي الحالي:
- تدمير الجيش العراقي تدميراً شاملاً.
- تدمير البنية التحتية العراقية.
- السيطرة على نظام الحكم في العراق.
- التغلغل إلى داخل البنية العراقية اقتصادياًُ وسياسياً وعسكرياً وثقافياً
واجتماعياً وسلوكياً، وطي صفحة تاريخها الحضاري الإسلامي.
- توقيع اتفاقيات سلام مع الجهة الحاكمة في العراق قبل أو بعد أن يضم
الكيان اليهودي الأراضي الفراتية العراقية الداخلة في مشروع إسرائيل
الكبرى.
ولقد كانت مشاركات الجيش العراقي، رغم محدوديتها، في الحروب السابقة
مع دولة الكيان اليهودي ذات طابع مرعب بالنسبة لليهود، سواء التي كانت في عام
1948م والتي توقفت بسبب «ماكو أوامر» أو التي كانت في حرب 1973م
والتي أوقفت تقدم الجيش اليهودي نحو دمشق عند قرية سعسع السورية.
إن العراق دولة ذات إمكانات هائلة على كافة المستويات، غير أن حزب
البعث العربي الاشتراكي الذي حكمها أدخلها في نفق أظلم مما كان فيها، حيث:
1 - أراد اقتلاع عقيدة الإسلام من أبناء العراق، وشرع في زرع عقيدة
علمانية كافرة تحت شعاره المعروف: وحدة حرية اشتراكية.
2 - استخدم جميع أنواع البطش والشدة والقمع والتعذيب والقتل والتنكيل ضد
معارضيه وخاصة التيار الإسلامي بكافة فصائله وتوجهاته.
3 - بدد الثروة العراقية الهائلة في البذخ والإسراف والاستهتار.
4 - دخل في حرب طاحنة غير مسوغة مع إيران استمرت حوالي ثماني
سنوات قضت على الأخضر واليابس في العراق.
5 - قام بغزو الكويت واحتلها ظلماً وجوراً وتعسفاً وبغير أي سبب، فأحدث
فيها القتل والتدمير والإحراق والاغتصاب والسرقة، ثم انسحب منها بعد حرب
ضروس أدت إلى الوجود الدائم للقوات الأمريكية وغيرها في عموم منطقة الخليج،
كما قضت على قدرات الجيش العراقي وشلت فاعليته. وقد صب هذا الاحتلال في
تحقيق المشروع اليهودي الخاص بإضعاف العراق تمهيداً للقضاء عليه.
6 - أدى احتلال الكويت إلى إضعاف الموقف العربي، وساعد في تشرذمه
إلى أبعد من تشرذمه الأول، وقسم العالم العربي إلى محاور متخاصمة، مما ساعد
على انتعاش المشروع السياسي اليهودي والذي تم تتويجه بمعاهدة السلام مع الأردن
وتوقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993م.
إلى هذا الحد فإن نظام حكم حزب البعث في العراق كانت جميع تصرفاته
تصب في نهاياتها في سلة المشروع اليهودي التوسعي، ولذلك لم يكن مطروحاً
إسقاط هذا النظام أو استبداله، ولكن بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وانسحاب
الجيش العراقي من الكويت حصلت أمور مهمة جعلت اليهود يعيدون النظر في
موقفهم من هذا النظام ووجوب اتخاذ إجراءات محددة إزاءه لإعادة ضبط مساره
على نسقه السابق، وإلا فإن آخر الدواء الكي!! أي اقتلاع هذا النظام الحاكم
والدخول في المرحلة الجديدة لتوسيع الكيان اليهودي ضمن المخطط الليكودي الذي
وضعه نتانياهو ثم طوره شارون.
إن النقاط التالية تلقى ضوءاً على ما ذكرناه:
1 - لقد كان فكر صدام حسين إلى حين غزوه للكويت مواتياً وملائماً ومطابقاً
للمشروع اليهودي في المنطقة، مما جعله أهلاً لرضا السيد الأمريكي، حيث إنه
أحسن استعمال اللافتات القومية والشعارات الوطنية كما فعل جمال عبد الناصر،
كما أن اتصالاته السابقة مع السفارتين البريطانية والأمريكية في القاهرة عندما كان
طالباً قد أكسبته الثقة به.
في عام 1979م بعث القس جاكوب ياسو راعي أبرشية ديترويت برسالة
تهنئة إلى صدام بمناسبة صعوده إلى الحكم، وتلقى مقابل ذلك 250 ألف دولار
كهدية من الحكومة العراقية الجديدة للكنيسة الكلدانية في ديترويت، كما تلقى دعوة
لزيارة العراق قام بتلبيتها عام 1980م برفقة 25 عضواً من رعايا الكنيسة؛ حيث
سلم لصدام حسين مفتاح مدينة ديترويت نيابة عن الطائفة الكلدانية؛ وذلك بحضور
عمدة مدينة ديترويت كولمان يونغ بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس الكنيسة.
وتلقى مقابل ذلك شيكاً آخر بقيمة 200 ألف دولار لتسديد الديون المستحقة على
الكنيسة.
يقول القس ياسو الذي بلغ الآن 70 عاماً: كان صدام حسين مواطناً أمريكياً
صالحاً في ذلك الوقت، وعاملنا معاملة الملوك، وكنا ضيوفاً على الحكومة العراقية،
وفرش لنا طاقم السفارة السجاد الأحمر. لقد تغير الزمن منذ ذلك العهد، فقد كان
صدام حسين صديقاً للولايات المتحدة في ذلك وألعوبة في يدها، يعتمد على دعمها
له في مواجهة غريمه الإيراني، بل إن حزب البعث نفسه تأسس بفضل الدعم
الأمريكي [7] .
2 - بعد حرب الخليج الثانية وإخراج الجيش العراقي من الكويت تيقن صدام
أن الولايات المتحدة قد قلبت له ظهر المجن، لقد قادت تآلفاً وتحالفاً عالمياً لدحر
جيشه وطرده من الكويت. وكان اللوبي اليهودي الذي نوهنا عنه هو المحرك
الخلفي لتلك الأحداث. هنا شعر صدام حسين بالخطر المحدق، وأن الخطوة التالية
ستكون الإطاحة به نفسه؛ لأن المرحلة في الفكر اليهودي التوراتي قد تجازوت
خدماته. لذا فقد بدأ يعد العدة لمواجهة محتملة، وكان واضحاً لديه أن إمكانات
العراق مهما بلغت فلن تطال القدرات الأمريكية الفائقة والساحقة. وقد وجد أن
تطوير أسلحة الدمار الشامل، والتي قد جرب بعضها في حلبجة إبان الحرب مع
إيران، هي عتاده للردع. هنا نشط اللوبي اليهودي، وحاصرت الولايات المتحدة
العراق سياسياً في مجلس الأمن بعد أن حاصرته اقتصادياً بعد حرب الخليج الثانية،
ومن خلال مجلس الأمن أيضاً، فقرروا مراقبة العراق داخلياً من خلال ما سموه
بفرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وهي الأسلحة الكيميائية والبيولوجية
والنووية.
3 - إن إصرار الولايات المتحدة، المتخمة إداراتها بالشخصيات اليهودية
البارزة، على إرسال فرق التفتيش عام 1996م لم يأت من مجرد الخوف من
امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؛ ذلك لأن كميات هائلة من هذه الأسلحة قد تم
تدميرها بعد حرب الخليج الثانية بإشراف الأمم المتحدة، ودمر قسم كبير آخر بعد
إرسال فرق التفتيش عام 1996م والتي استمرت إلى أن طردها العراق عام 1998م
لقيامها بأدوار تجسسية ولعدم موافقة الأمم المتحدة على رفع الحصار عن العراق.
إن الخوف جاء من تسرب الصحوة الإسلامية التي عمت العالم الإسلامي إلى
مختلف فئات الشعب العراقي ومن ثم إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي
نفسه.
إن المنتسبين لهذا الحزب ثلاث فئات رئيسة:
- فئة النخبة: وهم المؤسسون الأوائل الذين يحملون الفكر القومي الوطني
العلماني المعادي لأي توجه إسلامي، وهم بمثابة عمود الخيمة. إن عدد هؤلاء قليل
قياساً على مجموع أعضاء الحزب.
- فئة المنتفعين: وهم الذين انتموا إلى الحزب إما لتثبيت مصالحهم الخاصة
والحفاظ عليها من المصادرة، وإما لاستغلال اسم الحزب للحصول على منتفعات
ذاتية. إن عدد هؤلاء أيضاً ليس كبيراً قياساً إلى مجموع منتسبي الحزب، لكنه
بذاته كبير نسبياً وهو أكثر بكثير من فئة النخبة. ويدخل ضمن هؤلاء «فدائيو
صدام» الذين يكتسبون مزايا مصلحية خاصة.
- فئة المضطرين: وهم عموم أبناء الشعب من موظفين وفلاحين وأصحاب
مهن وتجار وطلبة وغيرهم، ممن يجبرون على الانتساب إلى الحزب وإلا تعرضوا
للطرد من وظائفهم أو مضايقتهم في أرزاقهم، وهذه الفئة هي الفئة الكبيرة جداً من
منتسبي الحزب.
إن جميع تلك الفئات تضم عرقياً العرب والأكراد والتركمان والشركس
والأشوريين ومن في حكمهم، وتضم طائفياً السنة والشيعة، وتضم دينياً المسلمين
والنصارى وغيرهم.
إن الصحوة الإسلامية التي دخلت العراق رغماً عن قيادة حزب البعث قد
شملت المسلمين في الفئات الثلاث بدرجات متفاوتة لكنها تركزت في الفئة الثانية
خاصة، ومع توالي السنين المنصرمة أصبحت هذه الصحوة ذات ثقل وزخم لا
يمكن للحزب البعثي العلماني تجاهله أو تجاوزه، خاصة أن بعض المؤسسين قد
تأثروا بها، حتى بات واضحاً لدى الجميع أن هناك خللاً كبيراً في طبيعة مفهوم
الصراع، إذ تبين تماماً أن الطرف الآخر، وهو الولايات المتحدة تنطلق في
صراعها مع العراق من خلفية دينية عقدية، وإن مقابلة ذلك بحفنة من الشعارات
الفارغة التي لا تستند إلى عقيدة ذات بعد ديني حضاري لا يجدي شيئاً وأن نتيجته
محسومة حتماً لصالح الطرف الآخر.
4 - إن المناقشات الحزبية المستفيضة تمخضت عن ضرورة إعادة الالتصاق
بالبعد الديني الإسلامي لمقابلة البعد الديني النصراني اليهودي، وقد أفضى ذلك إلى
ما أطلق عليه العراق بـ «الحملة الإيمانية» . وقد بدا ذلك واضحاً في الخطاب
الرسمي العراقي الذي أصبح قوياً في هذا الاتجاه ابتداء من عام 1996م. وقد تبنى
قيادة هذه الحملة صدام حسين نفسه مستفيداً من المكنوز الحضاري الديني الإسلامي،
معتبراً ذلك المكنوز أداة لموازنة الصراع، حتى وإن كان إيمانه الذاتي به ضعيفاً
أو منعدماً. ونظراً لأن الكوادر الحزبية كلها كانت قد عبئت بالشعارات القومية عبر
عقود سبقت فإن الحملة الإيمانية جاءت مشوبة بهذه الشعارات. وهذا يفسر اختلاط
«ألفاظ شعارات» هذه الحملة قومياً وإسلامياً، إضافة إلى ذلك فإن إزالة الجذور
العميقة للفكر القومي العلماني من عقول وقلوب الفئة الأولى بالذات، وهم النخبة،
قضية فيها نظر، بل هي صعبة جداً إن لم تكن مستحيلة.
5 - من جهة أخرى يمكن القول إن المرحلة التي وصل إليها المخطط
اليهودي قد تجاوز مرحلة الخدمة التي يقدمها حزب البعث العربي الاشتراكي، وإن
هذا الحزب ربما قد استنفد أغراضه، سواء في العراق أو في سوريا.
6 - وبما أن هذا التوجه، أعني تأثير الصحوة الإسلامية على القواعد
الحزبية، قد أخذ مساره وغذ سيره بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991م فإن
اليهود قرروا مسابقة الزمن وإسقاط هذا النظام، فركبوا صهوة الخيل الأمريكية
النصرانية، وشرع بيرل ونتانياهو في اتخاذ الإجراءات العملية لذلك.
7 - إن استحضار هذه الخلفية لا يلغي خلفية السيطرة على آبار البترول
وسوى ذلك من المصالح العظمى التي تحقق الآمال الاقتصادية لرجال البترول
الحاكمين للبيت الأبيض، وكذلك المصالح الاستراتيجية التي تحقق الهيمنة الشاملة
للولايات المتحدة على دول العالم.
هذا هو مجمل اللوحة الخلفية فيما يتعلق بالعراق.
* ثانياً: قوى المجابهة في الميزان:
العراق من جهة، وأمريكا وبريطانيا وحلفاؤها من جهة أخرى هما قوى
المجابهة. ولتحليل مكونات هذه القوى لا بد من سبر مكوناتها، وأهمها ما يلي:
أولاً: الجانب السياسي:
ابتدأت الحرب والوضع السياسي كالتالي:
1 - العراق موافق تماماً على قرار مجلس الأمن 1441 ويقوم بتنفيذه بشكل
دقيق. (راهنت أمريكا على عدم موافقة العراق على عودة المفتشين الدوليين، ثم
على عدم قبول العراق لهذا القرار، لكن العراق فاجأها بالموافقة فأسقط في يدها) .
2 - العراق فتح أبوابه للجان التفتيش البيولوجي والكيماوي والنووي.
3 - تقارير مسؤولي لجان التفتيش «بليكس» و «البرادعي» أشادت
بالتعاون العراقي في كافة الجوانب الإجرائية وسجلت ملاحظات على الجوانب
الجوهرية، لكنها غير أساسية.
4 - أعلن العراق رسمياً خلو أراضيه من جميع أسلحة الدمار الشامل، لم
تفلح لجان التفتيش في العثور على أي منها رغم أن عملها استمر حوالي أربعة
أشهر ونصف الشهر.
5 - إخفاق كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي في اقناع مجلس الأمن في
أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل.
6 - طلب العراق من الولايات المتحدة أن ترسل مبعوثين في الـ صلى الله عليه وسلم.I.C
لاستخراج أسلحة الدمار الشامل التي تدعي وجودها لديه فلم تستجب لهذا الطلب.
7 - طلب الرئيس العراقي صدام حسين أن يجري مناظرة علنية مع الرئيس
الأمريكي جورج دبليو بوش فرفض.
8 - تمكن العراق من الحصول على تأييد مؤتمر القمة العربي ومؤتمر منظمة
التضامن الإسلامي ومؤتمر قمة عدم الانحياز في معارضتهم للحرب عليه.
9 - حاولت الولايات المتحدة الحصول على قرار من مجلس الأمن يفوضها
استخدام القوة ضد العراق، فأخفقت إخفاقاً ذريعاً في جمع الأصوات التي تمرر هذا
القرار، رغم محاولاتها الشديدة في الضغط على الدول الأعضاء في مجلس الأمن.
10 - الموقف الروسي الفرنسي الألماني المناهض لاستعمال القوة ضد
العراق كان حاسماً في عدم إمكانية تمرير القرار الأمريكي من مجلس الأمن،
خاصة وأن كلاً من روسيا وفرنسا هددتا باستعمال حق النقض «الفيتو» لإسقاط
القرار.
11 - قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها دخول الحرب ضد العراق دون
الحصول على تخويل من مجلس الأمن، وأعلن ذلك الرئيس الأمريكي بوش في
خطابه في يوم الإثنين 15 محرم 1424هـ الموافق 18 مارس 2003م.
12 - وبذلك تكون الولايات المتحدة قد مارست عملاً عدوانياً حربياً سافراً
خارج منظومة الشرعية الدولية. ويترتب على ذلك أن جميع الدول التي تساعد
أمريكا ووقفت معها في هذه الحرب خارجة أيضاً على الشرعية الدولية.
13 - وبما أن الولايات المتحدة هي القطب الوحيد الدولي، وقد تبعها في
موقفها ذلك حوالي 49 دولة؛ فهذا يعني فقدان الأمم المتحدة دورها العالمي، وأنها
باتت غير ذات قيمة مؤثرة في الصراعات الدولية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة
قد تجاوزت مفهوم القوة العظمى المنضبطة في دائرة الأمم المتحدة إلى دائرة القوة
العظمى المطلقة التي لا يحد حركتها شيء. وبذلك تكون قد دخلت كلياً في دائرة
الإهلاك الرباني السنني لجمعها بين الاستكبار والظلم.
قال تعالى: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ]
(فصلت: 15) .
وقال تعالى: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً]
(الكهف: 59) .
وبذلك يكون العراق قد خرج منتصراً بامتياز في المعركة السياسية عشية
اندلاع الحرب؛ إذ تمكن بحنكة لافتة من:
1 - عزل الولايات المتحدة وحلفائها عن المجتمع الدولي.
2 - دق إسفين غائر في وحدة الكيان الأوروبي.
3 - إعادة نبش الصراع بين روسيا والولايات المتحدة بما يمكن اعتباره
مقدمة لعودة الحرب الباردة بين الطرفين.
4 - الحصول على دعم سياسي دولي من معظم حكومات العالم.
5 - تعرية انهزامية حكومات معظم الدول العربية والإسلامية أمام شعوبها
والعالم.
6 - إعادة النظر في التحالفات الدولية القائمة الآن.
7 - إظهار عورة الأمم المتحدة وضعفها الشديد وذلك أمام دول العالم أجمع.
8 - عدم تمكينه دولة الكيان اليهودي من القيام بأي دور إبان الأزمة السياسية.
9 - استقطابه لبعض الدول العربية لتقف في صفه تماماً كسوريا ولبنان.
10 - نجاحه بشكل غير مرئي في تصديع التحالف التركي الأمريكي.
ثانياً: الجوانب العسكرية والاقتصادية والإعلامية:
لا مجال للإسهاب في بيان التفوق الساحق للولايات المتحدة على العراق في
هذه الجوانب كلها. فالولايات المتحدة دولة نووية متخمة بالقوة العسكرية حتى
النخاع، وتتميز بتقدم تقني وتعبوي فائقين. أساطيلها تجوب المحيطات، وقواعدها
متوزعة في أرجاء البقاع، وأقمارها الصناعية تغطي الأجواء. اتخذت قرار
الحرب على العراق استناداً إلى هذه القوة الهائلة وانطلاقاً من أطماع صليبية يهودية
ظلماً وعدواناً. لقد قررت خوض حرب غير عادلة.
أما العراق فإن قواه العسكرية متهالكة، عتاده قديم، وأسلحته يعلوها الصدأ،
ومستوى الصيانة في الحضيض، وخدماته دون مستوى التواضع، لقد تعرض
لهزيمة شديدة في حرب الخليج الثانية، رغم أنه خرج من حرب الخليج الأولى
منتصراً. ورغم ذلك فقد كان متوقعاً أن تكون قابليته للتصدي للقوات الأمريكية
وحلفائها متوقدة، لكونه يقاتل على أرضه ودفاعاً عن نفسه وماله وعرضه، وأنه
يخاصم معتدياً اعتدى عليه ظلماً وجوراً. وأن عدوه عدو صليبي حاقد يحمل في
جوف قلبه ثارات التاريخ الصليبية، وأنه طليعة للهجمة اليهودية الصهيونية
التوسعية، لكن القيادة البعثية في بغداد خذلت تلك التوقعات.
وبناء على ذلك يتقرر لدينا أن القوة العسكرية المحضة هي لصالح الولايات
المتحدة. لكن القوة المعنوية إن لم تكن متكافئة، فإنها تميل شيئاً ما لصالح العراق
من حيث البواعث والحوافز.
وأما في الجانب الاقتصادي، فإن الولايات المتحدة هي أقوى دولة في العالم
اقتصادياً، أما العراق فلا يزال ينوء تحت أثقال الحصار منذ أكثر من اثني عشر
عاماً، مما أدى إلى ضعف شديد في خدماته الغذائية والصحية والعلمية وغيرها.
فهو من هذا الجانب غير مؤهل لدخول أية حرب مع أية دولة مهما كانت ضعيفة.
وأما في الجانب الاعلامي فإن الإعلام الأمريكي يغطي من خلال قنواته
المتنوعة جميع ربوع الدنيا، ويكاد يتمكن من إعادة صياغة أجناس البشر على وفق
المنظور الأمريكي في الأفكار والممارسات. إنه إعلام عولمة الأمركة.
وأما الإعلام العراقي فهو إعلام متواضع لا تصح مقارنته إلا مع مثيلاته من
الأجهزة الإعلامية المتخلفة في العالم الثالث.
وبناء على ذلك فإنه كان من المتوقع أن تحظى الولايات المتحدة بدعم دولي
هائل لموقفها من الحرب على العراق استناداً إلى إعلامها النشط جداً، والذي يتميز
بقدرته الفائقة على قلب الحقائق وتسويق الزيف في أنحاء العالم، غير أن الواقع
كان على خلاف ذلك تماماً؛ إذ خرجت المظاهرات الصاخبة في جميع دول العالم
تندد بحرب أمريكا على العراق، وقد تضمن ذلك حرق الأعلام الأمريكية والتنديد
الشديد بسياسات الولايات المتحدة، ولا تزال هذه المظاهرات مستمرة. هل كان
ذلك بسبب قوة الإعلام العراقي؟!! كلا!! بل هو رد فعل طبيعي لهذه الشعوب على
الاستكبار الأمريكي والغطرسة التي تمارسها ضد دول العالم ولاستعلائها المستحقر
لباقي شعوب المعمورة. ولكن من اللافت أن الحكومة الأمريكية لم تلق بالاً لكل هذه
المظاهرات وتلك الاحتجاجات وضربت بها كلها عرض الحائط، واعتبرت ذلك
مجرد هيجان من الغوغاء لا يستحق أن يعار حتى ولو مجرد التفاتة.
بعد أن استعرضنا توزعات الجوانب المختلفة لدى الطرفين العراقي
والأمريكي، فإننا لن نغادر هذه المحطة قبل أن نبين المرتكزات التي ارتكز عليها
كلا الجانبين عندما قرر المضي في الطريق إلى نهايته التصادمية الحربية.
المرتكزات الأمريكية هي كالتالي:
1 - السمعة الأمريكية والهيبة العالمية (رغم الإخفاق السياسي في مجلس
الأمن) .
2 - القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية.
3 - وجود أرض انطلاق متاخمة للعراق مباشرة (هذا المرتكز خسروه في
تركيا وربحوه في الأردن والكويت) .
4 - هزالة وضعف الجوانب العسكرية والاقتصادية والإعلامية لدى العراق.
5 - انهيار الروح المعنوية العراقية لدى الشعب والجيش.
6 - اشتعال انتفاضات ضد النظام العراقي في مختلف المدن العراقية.
7 - تمرد قطعات الجيش على النظام العراقي الحاكم.
8 - تشكيل ائتلاف عسكري من قوى المعارضة تكون طليعة للتقدم العسكري
الأمريكي في أرض العراق.
9 - استسلام الجيش العراقي بمجرد مجابهته للجيوش المتحالفة.
10 - هرب القادة السياسيين والعسكريين بمجرد بدء الحرب.
11 - انهيار أركان الدولة (سياسياً وعسكرياً) عندما تتساقط المدن العراقية
الواحدة تلو الأخرى في أيدي الجيوش المتحالفة.
12 - وبناء على ذلك فإن الحرب ستكون خاطفة ولا تحتاج إلى تعبئة عظيمة
كتلك التي كانت في حرب 1991م.
يلاحظ في المرتكزات الأمريكية أن التأييد الدولي مغيب عنها، رغم أنها تقود
تحالفاً من 50 دولة. لكن هذا التأييد فاقد لزخمه بسبب المعارضة الروسية الفرنسية
الألمانية الصينية، وكذلك معظم الدول الإسلامية والعربية، وإن كان ظاهرياً.
ويلاحظ أيضاً أن بعض هذه المرتكزات لم يتحقق. وبناء عليه فإن الخطة
الاستراتيجية الأمريكية لهذه الحرب قد أصابها خلل مما أدى إلى إدخال تعديلات
عليها تضمنت استخدام أقصى إمكانات القوة العسكرية المتاحة، ما عدا الذرية.
المرتكزات العراقية هي كالتالي:
1 - التأييد السياسي الدولي، وخاصة التأييد الروسي والفرنسي.
2 - العزل السياسي للولايات المتحدة وبريطانيا، وقيام المظاهرات العارمة
في أرجاء الدنيا المعارضة للحرب.
3 - استخدام طرق ووسائل غير تقليدية في مجابهة القوى العسكرية للحلفاء.
4 - تسليح كافة فئات الشعب لتحويل المعركة إلى مجابهة شاملة وليست
قوات الجيش فحسب.
5 - الاستفادة من خبرات الحروب السابقة ضد إيران وضد التحالف عام
1991م.
6 - تلاحم الشعب مع السلطة باعتبار أن هذه الحرب هي حرب احتلال
للعراق وليس مجرد حرب لإسقاط النظام؛ فالمعركة هي معركة دفاع عن الدين
والوطن والعرض والمال.
7 - توزيع الهبات والعطايا والهدايا وإسباغ الوعود لكافة القبائل والعشائر في
مختلف أنحاء العراق، وذلك في حال وقوفها مع النظام.
8 - نجاح الإعلام العراقي في وضع كل مؤيد أو متحالف من أي فئة في
الشعب العراقي مع الأمريكان والإنكليز في خانة الخيانة العظمى وبيع الضمير
والوطن للأجنبي.
9 - المراهنة على أن جميع الشعب العراقي بكافة فصائله سيقف ضد
الاحتلال الأجنبي، سواء كان ذلك عن اقتناع أو عن خوف من القمع والبطش من
قبل فدائيي صدام.
10 - المراهنة على أن الأكراد، وإن أيدوا الأمريكان، فإنهم لا يقبلونهم
حاكمين عليهم أو متسلطين في أراضي تواجدهم.
تلك كانت أهم مرتكزات العراق في مجابهته للحلفاء. والملاحظ أنها عملت
لصالحه إلى حين حصول الانهيار الكبير في دفاعات بغداد التي أدت إلى احتلالها
واختفاء جميع أفراد القيادة العراقية وعلى رأسهم صدام حسين.
* النصر الأمريكي:
- لم يكن أمام الولايات المتحدة في تلك الملحمة الكبرى سوى الانتصار،
وليس ثمة خيار آخر؛ فإنها لو لم تنتصر فإنها ستتعرض إلى الانهيار الداخلي
الحتمي، فضلاً عن انهيار كافة المخططات النصرانية واليهودية الموضوعة لهذه
المنطقة والمخطط لإنجازها عقود عدة أهمها السنوات العشر القادمة والتي تبتدئ من
1/1/2003م.
- ولم يكن أمام العراق في تلك الملحمة الكبرى سوى الانتصار، وليس ثمة
خيار آخر، فإنه إذا لم ينتصر في هذه الحرب فإن نظام حزب البعث سينهار إلى
الأبد، كما أن العراق سيقع فريسة الاحتلال الأمريكي الإنكليزي وحلفائهما وستحقق
دولة اليهود خطوة عظيمة في اتجاه إقامة دولتها الكبرى، وهذا الذي حصل بالفعل.
فعندما نشبت الحرب تحقق الهدف الأمريكي وتم احتلال العراق من قِبَل القوات
الغازية الأمريكية والإنكليزية. وقد لعب الإعلام لدى الطرفين دوراً بارزاً ومميزاً
إبان الحرب، وقد حاول الإعلام العراقي رغم هزالته أن يحقق ندية للإعلام
الأمريكي، وذلك من خلال التحرك النشط لوزير إعلامه محمد سعيد الصحاف.
- لا بد أن نلقي ضوءاً على سير العمليات الحربية التي قادت إلى النصر
الأمريكي الإنكليزي الصليبي. لقد استعدت الولايات المتحدة لهذه الحرب أيما
استعداد، ووضعت لها احتمالات منوعة، ثم دربت قياداتها وقواتها تدريبات متتالية
لخوض مختلف أشكال المعارك. وتضمنت التدريبات الجوانب الميدانية والجوانب
الإلكترونية، ثم مثلت هذه الحرب وخاضتها فعلياً على شاشات الكمبيوتر في قاعدة
عديد في قطر. وانطلاقاً من ذلك حشدت الولايات المتحدة حوالي ربع مليون جندي،
وبريطانيا حوالي خمسين ألف جندي موزعة في كافة القطاعات القتالية التي
ستشارك في شن الحرب على العراق بما في ذلك حاملات الطائرات والسفن
الحربية والقواعد الجوية فضلاً عن مراكز انطلاق القوات البرية. ولكن عندما
اقتربت الحرب من لحظة اندلاعها حصل أمران مهمان:
الأول: استراتيجي: وهو رفض البرلمان التركي انتشار القوات الأمريكية
عبر أراضيه متجهة إلى شمال العراق. مما عطل الهجوم على العراق من شماله
وأدى إلى توقف حوالي ستين ألف جندي وعشرين سفينة حربية قبالة السواحل
التركية في انتظار ما سيسفر عنه القرار التركي النهائي، في حين أن ساعة الصفر
لبدء الحرب كانت تقترب سريعاً. وقد أدى ذلك إلى «دربكة» شديدة في الخطة
العامة للحرب وأجهض تناسقها زمنياً وتعبوياً وتكتيكياً ونفسياً.
الثاني: تكتيكي: لكنه مهم جداً؛ حيث إن الخطة العامة المعتمدة من قِبَل
البنتاغون هي تحقيق المفاجأة القاصمة في الضربة الأولى، المفاجأة الزمنية
والمفاجأة التكتيكية. فقد كانت الخطة تقوم على أساس أن تكون الضربة الأولى في
تمام الساعة الواحدة ظهر يوم الجمعة 18 محرم 1424هـ الموافق 21 مارس
2003م حيث يكون الجيش والشعب العراقي منشغلين جميعاً في صلاة الجمعة.
غير أن ورود أنباء مؤكدة من خلال الـ صلى الله عليه وسلم.I.C بوجود القيادة العراقية مجتمعة
في أحد القصور الرئاسية دعا بوش ومستشاريه إلى اتخاذ قرار طارئ وغير
مدروس بتوجيه ضربة ساحقة إلى مقر الاجتماع المذكور، وهكذا كان، مما أدى
إلى تداعي السير الزمني والنفسي للخطة الرئيسة؛ فبدأ التنفيذ الأعرج لتلك الخطة
وقد فقدت عمودها الفقري وهو التوقيت السليم، وقد أعطى الخطأ الأمريكي
التكتيكي الفرصة للعراقيين للاستعداد لتلقي الضربة الرئيسة، فطاشت تلك الضربة
ولم تؤدِّ غرضها.
بعد أن اندلعت الحرب وقعت القيادة العسكرية الأمريكية البريطانية في مطبات
أعدها الجيش العراقي بعناية، من أهمها:
- استدراجه القوات الأمريكية إلى أم قصر ثم الانقاض عليها.
- وضع قوات مدافعة عن المدن، حالت دون تمكن الجيوش الغازية من
احتلالها، رغم ضعف تلك القوات.
وقد أدى ذلك إلى إخفاق القوات البريطانية في احتلال البصرة، وإخفاق
القوات الأمريكية في احتلال الناصرية والنجف وكربلاء.
وتحت الضغط النفسي الذي يلاحق القوات الأمريكية اندفعت تلك القوات نحو
بغداد تاركة خلفها قوى عسكرية غير كافية لمحاصرة تلك المدن، مما نتج عنه
بعثرة القوة العسكرية الأمريكية.
- أدى ذلك إلى أمرين:
الأول: قامت القوات العراقية العسكرية والشعبية بالهجوم على مؤخرات
القوات المتقدمة وبقاياها العسكرية فأوقع فيها خسائر فادحة.
الثاني: طول خطوط الإمداد؛ حيث تبلغ المسافة من مواقع الانطلاق إلى
بغداد حوالي سبعمائة كيلو متر، ولا تستطيع القوات الأمريكية تأمين هذه الخطوط،
ومن المحتمل جداً أن تحاصر القوات الأمريكية على تخوم بغداد في حال ضربت
خطوط إمدادها. وهذا ممكن جداً ومقدور عليه من قِبَل الجيش العراقي.
- بدأت القوات الشعبية والعسكرية بخوض حرب عصابات على مختلف
القطاعات العسكرية الأمريكية والإنكليزية التي أصبحت مبعثرة هنا وهناك، وقد
ساعدت الحيل العسكرية العراقية والكمائن والاستدراجات إلى حالة من التدهور
النفسي لدى القيادات الميدانية لقوات التحالف.
- إحراق البحيرات النفطية التي أعدها العراقيون مما أدى إلى تشبيع الأجواء
بالدخان الكثيف الأسود، مما ترك آثاره على مجسات الالتقاط والاستشعار لصواريخ
كروز، وكذلك عرقل وضوح الرؤية لطياري الهوليكوبتر من طراز أباتشي وكوبر
الأمريكيتين.
- ومن عجائب قدر الله المحكم أن تهب العواصف الهوجاء في أوقات ليست
معتادة وتطارد القوات الأمريكية والإنكليزية ابتداء من مراكز تحشداتها وإلى حين
وصولها إلى تخوم بغداد، مما عطل تنفيذ الخطط الموضوعة وعرقل سير القطعات
العسكرية وتأمين الحماية الجوية لها.
وقد تمكن العراقيون، بسبب العواصف، من إيقاع دمار كبير في القوات
الأمريكية في منطقة الناصرية، وحالوا دون تمكنها من احتلالها لعدة أيام، مما أخر
المرور عبرها في اتجاه بغداد.
- معارك بغداد البرية كانت هي مفاجأة الحرب؛ إذ لم تصمد قوات بغداد
سوى ثلاثة أيام ثم انهارت انهياراً مدوياً، فدخلت القوات الأمريكية بغداد بتاريخ
7 صفر 1424هـ الموافق 9 إبريل 2003م، في حين استمرت المناوشات الحربية
في مختلف المدن الأخرى، ثم ما لبثت أن انحسرت لتحقق قوات التحالف الصليبي
سيطرة كاملة على جميع أنحاء العراق.
لقد حققت هذه الحرب إلى الآن ثلاثة أهداف:
الأول: قضاؤها على الجيش العراقي وإخراجه تماماً من أية مواجهة منظورة
مع الدولة اليهودية.
الثاني: القضاء على البنية التحتية العراقية.
الثالث: إسقاط نظام الحكم في العراق.
* ثالثاً: تداعيات الحرب ونتائجها:
إن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على العراق لم تأت من
فراغ، ولم تتم عبثاً، بل قد جاءت في سياق مدروس ومعد جيداً وبإحكام، في
إطار التمهيد والتوطيد لتحقيق المخطط اليهودي الصهيوني في إقامة الدولة العبرية
الكبرى من الفرات إلى النيل، وذلك من خلال ركوب صهوة الآمال الصليبية التي
توشحت بها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما.
هذه الحرب الضروس، التي وضعت أوزارها وأرخت سدولها، ما هي
نتائجها وما المتوقع من تداعياتها؟ هذا ما سأحاول أن أذكره مقتضباً.
بانتصار أمريكا في هذه الحرب فإن التداعيات والنتائج المتوقعة كثيرة، من
أهمها:
1 - على المستوى الأمريكي الداخلي:
أ - سيستمر ارتفاع الروح المعنوية للشعب الأمريكي إلى أعلى درجاتها بما
يزيد من شعورهم بالفوقية والغطرسة.
ب - إذا واظب الإيقاع الحالي على منحاه فسيعاد انتخاب بوش رئيساً
للولايات المتحدة.
ج - ستنتعش سوق الشركات الأمريكية من خلال تنفيذ عقود إعادة إعمار
العراق الذي سيخرج من الحرب مدمراً تدميراً شاملاً، وقد قُدِّر مبدئياً تكليف إعادة
الإعمار 20 مليار دولار سنوياً، وقدرت المبالغ الكلية بـ 900 مليار دولار،
وهي تقديرات أولية. وسيؤدي ذلك إلى خفض نسبة البطالة بشكل حاد.
د - ستزدهر الشركات الأمريكية لصناعة السلاح، وذلك لتعويض الجيش
الأمريكي عن أسلحته التي فقدها في الحرب.
هـ - هاجس الخوف سيبقى متسرباً إلى داخل قلوب الشعب الأمريكي وذلك
بسبب قلقهم من احتمالات الضربات الانتقامية الداخلية الكبيرة على غرار أحداث
الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
و لن يكون الشعب الأمريكي مستعداً للموافقة على دخول الولايات المتحدة
في أي حرب أخرى في المستقبل المنظور إلا إذا تم إخراجها يهودياً - نصرانياً
بطريقة تفيد أنها دفاع عن النفس وأنها شر لا بد منه.
ك - سترتفع قيمة الدولار على حساب العملات الأخرى، وسينخفض
التضخم وترتفع قيمة الأسهم بما يساعد على سرعة تعويض نفقات الحرب.
2 - على مستوى الشرق الأوسط:
أ - تطبيع احتلال العراق ووضع قواعد أمريكية ثابتة فيه، أقلها ثلاثة قواعد:
الأولى شمال البصرة، والثانية غرب بغداد، والثالثة شمال العراق، وفك الحصار
عنه، والوعد بإقامة نظام سياسي أمريكي على طريقة أفغانستان ويضفى عليه
وصف الديمقراطية، ولكن بعد أن تخضع العراق لحكم أمريكي مباشر لسنوات
عديدة. وفي أغلب ظني أن هذه السنوات ستكون مصحوبة باحتمالات عدم
الاستقرار؛ وذلك لأنه ليس من المتوقع أن يذعن الشعب العراقي للاستعمار
الأمريكي لفترة طويلة. وسيكون للعراق جيش رمزي هزيل، لا يكاد يهش ولا
ينش. وسيصبح العراق المركز الاستراتيجي في المنطقة على حساب تركيا
والكويت. وستكون أولويات الحكم العلماني الجديد في العراق القضاء على الصحوة
الإسلامية فيها تحت شعار مكافحة الإرهاب.
ب - توقيع اتفاقيات سلام مع الكيان اليهودي بعد ممارسة الضغوط اللازمة
على سوريا التي سيكون موقفها ضعيفاً جداً بعد أن انتصرت أمريكا في الحرب.
وستشمل الاتفاقيات العراق ولبنان كذلك.
ج - قد يكون المفضل لدى اليهود عدم توقيع اتفاقية سلام مع سوريا ابتداءً،
بل إعلان الحرب عليها (إما مباشرة أو عن طريق الولايات المتحدة) واحتلال
بعض أو كل أراضيها ثم جرها إلى اتفاقية سلام مذلة بعد أن يكون جيشها قد انهار
وقضي عليه في الحرب، وبعد أن تكون بنيتها التحتية قد ضربت (نفس سيناريو
العراق، المتضمن الحصار ثم الحرب) .
د - وفي إطار التسوية الشاملة قد تلجأ دولة الكيان اليهودي خلال السنوات
القادمة إلى تنفيذ برنامجها الذي خلاصته تفريغ الضفة الغربية وقطاع غزة من
الفلسطينيين وإعادة توطينهم في الأردن وجنوب العراق وجنوب سوريا. أو
احتمالات أخرى كثيرة لا محل لذكرها الآن.
هـ - ولإضفاء مزيد من الضوء على ما أوردته في كل من (ب) و (ج)
و (د) ، أسوق ما ذكره شاؤول موفاز، وزير الدفاع في الكيان اليهودي، في
محاضرة له في مركز «حرتسلي، متعدد الاتجاه» وهو أهم وأعرق مركز في
دولة الكيان اليهودي حيث قال: «إن النصر في الحرب يعني إخراج العراق من
دائرة العداء لإسرائيل، والضغط على سوريا لإخراج المنظمات الفلسطينية من
دمشق ولوقف حمايتها لحزب الله في لبنان، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف
مصادر رفد المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع» .
أما عوزي عراد (رئيس وحدة التحليل في المركز المذكور والذي كان
مستشاراً سياسياً لنتانياهو) ، فقد قال: «إن النظام الجديد في العراق سيضع
سوريا وإيران بين فكي كماشة مرعبين، حيث ستجدان نفسيهما محاصرتين من كل
صوب» .
ك - ستحقق دولة الكيان اليهودي مكاسب اقتصادية مهمة؛ حيث ستحصل
على النفط من العراق بأسعار زهيدة، وسيمر أنبوب النفط العراقي عبرها إلى ميناء
حيفا، مما يشكل دخلاً مادياً مجزياً وثابتاً، وستفتح التبادل التجاري معه في أوسع
نطاق، وسوف تحصل على وفر بارز ينجم من تخفيف إجراءاتها الأمنية المتعلقة
بالانتفاضة.
ل - النصر الأمريكي ربما سيضعف الروح المعنوية للفلسطينيين ويشجع
دولة الكيان اليهودي على مزيد من القمع ضد الانتفاضة، نسأل الله تعالى أن لا
يؤدي إلى إيقافها أو وقف زخمها.
م - سيزداد ضغط اليهود في الإدارة الأمريكية لدفعها لاتخاذ مواقف جادة ضد
المملكة العربية السعودية. وكان قد عقد في 8 يناير 2003م اجتماع في الولايات
المتحدة بين الرئيس الأمريكي بوش ورئيس المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة
مورتيمور تسوكرمان؛ حيث طلب الأخير من الرئيس الأمريكي اتخاذ مواقف
متشددة ضد السعودية بعد أن قدم له تقارير رفعتها الاستخبارات اليهودية تفيد أن
السعودية تقدم دعمها للفلسطينيين بما يساعدهم على المضي قدماً في العمليات
الاستشهادية (الإرهابية) فوعده بوش بتأديبهم!!
و هدم المسجد الأقصى.
3 - على المستوى العربي:
أ - سيكون الصوت العربي الحكومي أكثر خنوعاً للسلطة الأمريكية،
وستفرض الولايات المتحدة سياستها على كافة الدول العربية، وستستعد للحرب مع
سوريا إما مباشرة أو عن طريق دولة الكيان اليهودي.
ب - إغراق الدول العربية في بحر الثقافة الأمريكية وخاصة ما يتعلق
بالشهوات والشبهات باسم الديمقراطية والانفتاح.
ج - التطبيع الشامل مع الكيان اليهودي، ويؤيد ذلك ما ذكره شفتاي شفيط
رئيس الموساد السابق من توقعه بأن يسود العالم العربي مناخ ثقافي مغاير، يعطي
للجناح الراعي إلى التطبيع مع إسرائيل قوة دفع جديدة، تمكنهم من الدعوة إلى
مراعاة متغيرات الموقف والواقعية في التعامل مع الأوضاع المستجدة [8] .
د - تغيير المناهج الدراسية أو تعديلها بما يتناسب مع الإرادة اليهودية
النصرانية، وهذا يشمل الدول الإسلامية أيضاً.
4 - على المستوى الإسلامي:
أ - ستكون وطأة الولايات المتحدة على باكستان وأفغانستان أشد.
ب - التجهيز للحرب مع إيران.
ج - دعم الهند في قضية كشمير والتشديد على كافة الحركات الجهادية
ومحاربتها في جميع أنحاء العالم.
د - محاربة الدعوة الإسلامية في كل بقاع الأرض؛ وذلك بتجفيف منابعها
وتطويق أنشطتها وخاصة الدعوية والاقتصادية والثقافية.
6 - على المستوى الدولي:
أ - فرض الهيمنة الأمريكية على العالم وجعل العراق مثلاً لكل من يتمرد
على الإرادة الأمريكية.
ب - احتمال عودة الحرب الباردة مع روسيا، وهذا بدوره سيعيد نظام توازن
الأقطاب عالمياً بما يضع لجاماً يكبح الجموح الأمريكي. وإذا عادت الحرب الباردة
فإن بروزاً شيوعياً قوياً سيشق طريقه نحو الزعامة الروسية.
ج - احتمال وقوع حرب مع كوريا الشمالية.
د - بروز أقطاب دولية بشكل محاور، من أهمها محور ألمانيا وفرنسا
وروسيا.
ك - هيمنة الاقتصاد الأمريكي بما يؤدي إلى مزيد من التبعية لها وخاصة من
جهة اليابان.
ل - انخفاض أسعار البترول عالمياً، وسيؤثر ذلك على خطط التنمية في
دول الخليج العربي بشكل سلبي وقاس.
م - تفتت في الكيان الأوروبي، ومزيد من بروز قطبية زعامة أمريكية في
حلف الناتو.
ن - ستعزز الولايات المتحدة دعمها لتايوان بغية إضعاف موقف الصين،
ومن ناحية ثانية ستعزز الولايات المتحدة علاقاتها الاقتصادية مع الصين لتكون
مسرباً لها للتأثير على وضع الصين الداخلي من خلال الانفتاح على العالم الغربي.
و ستمارس الولايات المتحدة العولمة الأمريكية على كافة المستويات وفي
جميع النواحي سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعسكرياً.
وبعد: فإن الذي ذكرناه ما هو إلا استشراف لما يمكن أن يحدث أو يقع، وهو
مبني فقط على ما يجري بين أيدينا وأمام أعيننا من أحداث جسام في هذه الحرب
التي أضاء أجيج نارها أجواء السماء، وصخت أصوات انفجار قنابلها وصواريخها
آذان الرجال والأطفال والنساء.
ونختم بالقول: إن الغيب لله وحده، وله الأمر في الأولى والعقبى.