قضايا دعوية
رؤى ومواقف وعبر
د. إبراهيم بن ناصر الناصر [*]
كشفت أحداث الحملة الأمريكية على العراق عن دروس كثيرة، وذكَّرت بعبر
عظيمة يحسن بنا الوقوف عندها وتدارسها ومعرفة الرؤى الصحيحة؛ لنتخذ
المواقف الشرعية المناسبة لخدمة الدعوة وحفظ الأمة ونصرة الدين، ومن ذلك:
أولاً: عدم التسرع والعجلة في أيام الفتن، ولزوم التؤدة في جميع الأمور،
وضبط ردود الأفعال:
فالتؤدة خير كلها إلا في أمور الآخرة، وتتأكد في أوقات الفتن والهرج
والحوادث الكبيرة، ومن التؤدة استشارة الناصحين من الدعاة والعقلاء وأهل العلم،
وعدم التفرد بالرأي في اتخاذ المواقف العلمية أو العملية، وأن يُستشار مَنْ يجمع
بين العلم الشرعي وبين البصيرة في أحوال الزمان، مع قوة الديانة ما أمكن، مع
العلم أن التؤدة لا تتعارض مع ضرورة اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.
ومن الميادين التي يحصل فيها التعجل:
1 - أحاديث الفتن والملاحم فهي جزء من ميراث النبوة ما صح منها، ومن
العلم الذي يتعبد المسلم به ربه تعلماً وتعليماً في كل وقت، يقوي به إيمانه ويحسن
به الظن بربه، ولا يسوغ تحذير الناس من هذا العلم بسبب ردة فعل من بعض
الجهلة الذين يسلكون طريقة غير شرعية في التعامل مع هذا العلم وفهمه.
وترويج مصطلح «التعلق بالغيبيات» لا يسوغ إلا ببيان المقصود منه بياناً
واضحاً؛ وهو التحذير من ترك العمل تعلقاً بما في الغيب، وبيان أنه لا يجوز
تنزيل أحاديث الفتن والملاحم على وقائع معينة أو أشخاص بأعيانهم مثل (المهدي،
القحطاني، السفياني، ... ) ؛ قبل أن يتحقق من العلامات والأوصاف والأحوال
التي جاءت في الأحاديث ما يقطع أو يغلب على الظن بأنها هي المقصودة، مع
الحذر من ترويج الأحاديث الموضوعة والضعيفة في هذا الباب إلا للتحذير منها؛
فمصنفات هذا العلم أحد أودية الوضع كما ذكر علماؤنا.
2 - الرؤى والمنامات، وتأثر المواقف بها، فضلاً عن انطلاقها منها،
فالحذر من مكر الشيطان في هذا الباب؛ فالرؤيا للمؤمن مبشِّرة وليست حاكمة على
مواقفه.
3 - اتخاذ المواقف بناءً على حوادث جزئية، أو مقدمات الأحداث الكبيرة،
أو التهويلات الإعلامية؛ فهالة أمريكا العسكرية والإعلامية جعلت أكثر أهل
الأرض يقطعون بأن الحملة على العراق ستنجح بالوقت والكيفية التي تروِّجها
أمريكا، حيث ستحصل انتفاضة للشعب العراقي وتحسم المعركة خلال يومين،
وعندما أبدت العراق مقاومة باسلة في البداية وأعاقت التقدم الأمريكي؛ ذهب الكثير
إلى أن أمريكا ستندحر في المعركة! وهكذا.
ثانياً: وفي ظل الحوادث الكبرى ينبغي التشديد في أخذ الحيطة والحذر من أمور:
1 - الأمن من مكر الله؛ بترك الدعوة إلى الله وعدم تربية الناس على الإيمان،
وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الفساد وعدم إقامة الحجة
على الناس حكاماً ومحكومين، وترك تحذيرهم من الوقوع فيما يضاد التوحيد من
مظاهرة الكفار ومناصرتهم، قال الله تعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (هود: 117) ، وقال: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: 25) .
2 - مكر الزنادقة والمنافقين ومرضى القلوب في الداخل، والذين يظهرون
في أوقات الفتن وينتهزون شغل الناس بالمحن لتنفيذ مخططاتهم الفاسدة في
مجتمعات المسلمين، ويتقوون بموقف الكفرة الأمريكان الغاضب على كل ما هو
إسلامي؛ فيُحَذَّر منهم، وتُفضَح مخططاتهم بين المسلمين، وتلبيسهم على المؤمنين،
فهم إخوان للعدو الصليبي. قال الله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (الحشر: 11) . وقال
تعالى: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (المنافقون: 4) .
3 - ترك مناصحة السمَّاعين للمنافقين الذين تجري على ألسنتهم شبهاتهم،
ويرددون مصطلحاتهم، ويحسنون الظن بهم؛ باسم الوحدة الوطنية، واحترام الرأي
الآخر، والمصير المشترك، والسِّلم الاجتماعي، والحوار مع الآخر. قال الله
تعالى: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] (التوبة: 47) .
ثالثاً: دعوة العامة وغيرهم إلى الأخذ بأسباب النجاة، ومن ذلك:
1 - الدعاء والتضرع إلى الله برفع البأس واستنزال النصر، قال تعالى:
[فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 43) ، ويُؤكد ذلك مع الضعفاء والشيوخ الكبار من
الصالحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا
بضعفائكم؟» [1] .
2 - كثرة العبادة خاصة في أوقات الفتن، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم» [2] . الحديث. وقال صلى الله
عليه وسلم: «العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ» [3] ، وعند أحمد: «العبادة في
الفتنة كالهجرة إليَّ» [4] ، والمعنى أن الناس زمن الفتنة يتبعون أهواءهم كأهل
الجاهلية؛ فمن استمسك بدينه وعبدَََ ربَّه كان بمنزلة من هاجر من أهل الجاهلية إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المعنى أن الناس ينشغلون في الفتنة عن العبادة،
فرغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة وقت انشغال الناس وإعراضهم عنها.
رابعاً: هل كانت الحرب حرب مصالح أم حرباً صليبية؟ وما حجم البعد الديني
فيها؟
هذه الحرب يسوغ أن نطلق عليها أنها «حرب صليبية» ، وهذا المصطلح
للحرب أقر به السياسيون الغربيون فضلاً عن رجال الدين، وتحت لافتة «الحرب
الصليبية» تدخل أبعاد كثيرة؛ منها البعد الديني، والبعد الحضاري، والبعد
العنصري، والبعد الاقتصادي (المصالح) . صحيح أنها ليست حرباً دينية بمفهوم
الحروب الدينية التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى، لكنها «حرب صليبية»
بمفهوم حروبهم للمسلمين التي أطلقوا عليها «الحروب الصليبية» في نهاية
القرن الخامس الهجري، والتي دخلت فيها الأبعاد المذكورة جميعاً؛ فالصليب لدى
الغربيين اليوم يمثل انتماء وهوية حضارية أكثر من أن يمثل التزاماً دينياً. أما البعد
الديني في هذا الصراع فله خمسة مظاهر:
الأول: أحد مكونات بيئة القرار الأمريكي الخارجي هو البعد الديني لدى
الإنجيليين الصهاينة المؤثرين في ذلك القرار.
والمظهر الثاني: الخلفية الدينية لدى الرئيس بوش، فهو تلميذ مخلص
للقسيس المتشدد بيلي جراهام، وعضو في طائفة «الميثوديت» التي تمثل
التحالف الصهيوني المسيحي، والذين يؤمنون بفكرة هدم المسجد الأقصى، وإقامة
الهيكل، وأن المسيح لن يظهر ما دام المسجد الأقصى قائماً، وأن إسرائيل مشروع
إلهي لا بد أن يسيطر، ويرى أنه يخوض حرباً تحت شعار «عودة المسيح» ،
وأن الإسلام «دجل ديني» .
والمظهر الثالث: احتلت العراق مساحة كبيرة في العقل الديني للمسيحيين
الإنجيليين، فكتب طائفة «الميثوديت» حافلة بالحديث عن العراق، وأن المسيح
إذا خرج لا بد أن يحيط به الذهب النقي الخالص الذي يكون في دولة مسلمة قريبة
من أورشليم، وأن هذه الخصائص تنطبق على العراق، ويعتقدون أن جبل الذهب
ما زال موجوداً داخل العراق، وإن لم يُكتشف بعد، كما أن بابل وملكها الذي
سيدمر إسرائيل مرة أخرى هي إحدى نبوءات كتبهم.
والمظهر الرابع: مطالبة الرئيس الأمريكي للكونجرس بأن يصدر بياناً
يطالب فيه الأمريكيين بتقديم الصلوات لصالح الجيش الأمريكي في العراق،
وفتاوى حاخامات اليهود في إسرائيل للجنود اليهود الأمريكيين والبريطانيين بإقامة
صلواتهم في خيامهم غرب نهر الفرات؛ بناءً على أنهم في أرض إسرائيل الكبرى.
والمظهر الخامس: أن أحد أبرز المستهدفين بهذه الحروب هم أهل الدعوة
والجهاد، وبيئات المسلمين الدينية والدعوية والجهادية.
صحيح أن الدول المشاركة في الحرب هي الدول البروتستانتية (أمريكا،
بريطانيا، أستراليا) ، فقط لكن الدول الكاثوليكية متعاطفة معهم، ومن خالفهم قبل
الحرب بدأ يتعاطف معهم بعد الحرب، ثم لا ننسى الدور الإسرائيلي في هذه
الحرب، فإسرائيل في قلب الحدث تخطيطاً وإعداداً ومشاركة، ولذا يمكن أن
نصف هذه الحرب بوصف أدق، وهو أنها «صليبية صهيونية» .
خامساً: سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وسنة الإملاء والإمهال للكافرين:
فكل فتنة تقع بين المسلمين والكافرين هي مقتضى هاتين السُّنتين، قال تعالى:
[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 141) ، فمحق
الكافرين يسبقه تمحيص المؤمنين، قال تعالى: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا
نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ] (آل عمران:
178-179) .
فالمسلمون في مواجهة الفتن يكونون تحت الابتلاء والتمحيص؛ لأن المسلمين
اليوم فيهم الصادق والكاذب، والمؤمن والمنافق؛ وفيهم دعاة الإصلاح ودعاة الفساد،
وفيهم قوي الإيمان وضعيفه، وفيهم من تعصف به الأفكار والعصبيات
والانتماءات الجاهلية؛ فتأتي الأحداث للتمييز والفرز؛ بحيث يظهر الصالح من
الطالح، والأصيل من الرديء، ومريدو الآخرة من مريدي الدنيا. والابتلاء
والاختبار يقع على ما في القلوب، وعلى ما تتلفظ به الألسنة، وما تفعله الجوارح،
وما يُتخذ من مواقف؛ لتتضح مواقف الصدع بالحق من مواقف المداهنة، ومواقف
البراءة من الشرك وأهله من مواقف الركون إليهم ومظاهرتهم.
سادساً: انكشاف أمريكا من أهم دروس الحوادث تلك، وأبرز ما ظهر في مجالين:
1 - المجال الإعلامي: وكيف أن أمريكا تُسَخِّر آلتها الإعلامية في التضليل،
وإصرارها على ذلك على الرغم من وعي الكثيرين به. كذلك المؤسسات الإعلامية
الأمريكية وهي غير حكومية تتحالف مع حكومتها في هذا التضليل، والذي يقع
معظمه على الشعب الأمريكي خاصة والشعوب الغربية عامة؛ فاحتراف الكذب
والتضليل بالحجم الذي تُظهره هذه الحوادث يكشف جانباً من أخلاقيات هذه
الحضارة، والذي وصل إلى ضرب الصحفيين غير الأمريكيين وقتلهم عندما
اقتضى الأمر ذلك؛ من أجل التعتيم الإعلامي؛ ضاربة بذلك الأعراف والأخلاقيات
والمعاهدات التي تمنع ذلك.
2 - المجال الأخلاقي: حيث تختفي كثير من القيم التي تدعيها الحضارة
الغربية؛ فتأييد بوش في حربه الظالمة على العراق يزداد داخل الشعب الأمريكي
بعد رؤيتهم للدمار في العراق؛ وهذه مأساة أخلاقية لدى هذا الشعب. ثم قتل
المدنيين من النساء والأطفال والاستهانة بدمائهم، وتدمير المنشآت المدنية، واحتقار
الآخرين، والاستهتار بهم؛ فالأسرى العراقيون، وقبلهم أسرى جوانتانامو، يجوز
إظهارهم على وسائل الإعلام وهم في منتهى المهانة، أما الأسرى الأمريكان
والبريطانيون فلا يجوز؛ لأنه يخالف «اتفاقية جنيف» في شأن الأسرى!!
موقف عنصري بغيض، فهم يرون أن الفرق بين المسلمين وبينهم كالفرق بين
200 دولار التي دفعتها أمريكا دية لكل فرد قُتل جراء قصف أمريكا الخاطئ لحفل
زفاف إبان حملتها على أفغانستان، وبين 10 ملايين دولار التي دفعت لكل واحد
من قتلاهم في حادثة لوكربي، وهذا يدل على «سقوط أخلاقي» مروِّع، بل
هو انكشاف لحقيقة هؤلاء الأخلاقية، وانهيار في أخلاقيات هذه الحضارة؛ مما
يتيح فرصة تربوية لأجيال المسلمين في تخفيف شعور الإعجاب والانبهار بهؤلاء
القوم وحضارتهم.
سابعاً: كشفت الحوادث وجود تباين في المواقف بين الأنظمة والشعوب وبين
القادة والقواعد:
ففي الوقت الذي نرى قطاعات من الشعوب الإسلامية تنهض مناصرة للقضية
العراقية، ويتدفق المتطوعون لدعم الشعب العراقي؛ نجد أن أغلب الأنظمة في
البلاد الإسلامية والعربية مشاركة أو متحالفة أو ساكتة عما يحدث للمسلمين في
العراق؛ خاصة بعدما بانت وحشية الحرب واستهتار الأمريكان والبريطانيين بدماء
الشعب العراقي، ووضوح دور (إسرائيل) في الحرب؛ مما يؤكد أن هذه الأنظمة
تتحمل مسؤولية أكبر عن حال ضعف المسلمين، وفي كلٍّ ضعف؛ لكن الله يزع
بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ فالكثير من أفراد الشعوب الإسلامية والعربية يبادرون
إلى الجهاد في سبيل الله عندما يوجد ميدان معركة، وعندما تجري انتخابات حرة
يصوتون لرافعي شعار الإسلام، وعندما يجري استفتاء حول تطبيق الشريعة يفتون
لصالحها؛ لكن بيئة الحكام وملئهم في البلاد الإسلامية تقف حجر عثرة أمام هذه
المبادرات الإيجابية من الشعوب، فأزمة الأمة في القيادة تظهر في طائفتين:
1 - القيادات السياسية الخائرة، والتي لم تعد تملك قرارها، وحسمت أمرها
في الانسجام مع أمريكا، وقبول هيمنتها على حساب دينها وسيادتها وشعوبها.
2 - القيادات الدعوية والعلمية الحائرة، والتي لم تستطع أن تواكب تطلعات
قواعدها وتلاميذها، والمترددة في مواقفها.
ثامناً: التاريخ يعيد نفسه، ويجسد سننه ودروسه، والغافلون يكررون المأساة
ولا يلتفتون للعظات والآيات:
وذلك بتكرار ما حدث في التاريخ الماضي وكثر في التاريخ المعاصر؛ وهو
وقوف بعض المسلمين في خندق واحد مع الكفرة الأعداء ضد مسلمين آخرين،
حدث هذا أيام الصليبيين في بلاد الشام، وحدث مع ملوك الطوائف بالأندلس،
وحدث أيام الاستعمار الأوروبي لبلاد المسلمين في العصر الحديث، وحدث أثناء
الحملة الأمريكية الأخيرة على أفغانستان، ويتكرر المشهد اليوم فيما يجري من
أحداث على الساحة العراقية بوقوف بعض دول الجوار للعراق في خندق واحد مع
الأمريكان المعتدين، والتاريخ ينبئ عن نهاية غير كريمة للذين يضعون أنفسهم
مطية للكافر، فضلاً عن سبَّة التاريخ، ومذمة الأجيال، وعقوبات الله العاجلة
والآجلة.
تاسعاً: [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأنعام:
129) :
ومعنى الآية أن الله سبحانه وتعالى يُسَلِّط بعض الظالمين على بعض، ويهلك
بعضهم ببعض، وينتقم من بعضهم ببعض جزاءً على ظلمهم وبغيهم؛ فطغاة بغداد
ظلموا وبغوا على شعوبهم المسلمة، وعلى جيرانهم من المسلمين؛ فسلَّط الله عليهم
من هو أقوى وأظلم، وفي الأثر: «عقوبتان معجلتان: العقوق والبغي» ، والله
تعالى ينتصر للمظلوم من الظالم بتسليط بعض عباده على ذلك الظالم ولو كانوا
كفاراً، وقد قيل:
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيُبلى بأظلم
وهذا درس أشبه بالسُّنة الثابتة، ونوجهه إلى طائفتين:
1 - إلى الحكام الظالمين لشعوبهم؛ أن الله لهم بالمرصاد، وأن الظلم عاقبته
وخيمة، وعقوبته معجلة، وأن الذي يعين الظالم على ظلمه ظالم مثله ومستحق
للعقوبة.
2 - ثم نوجهه درساً للشعوب المسلمة عامة وشعب العراق خاصة؛ للعودة
إلى الله وترك الذنوب والمعاصي، ونبذ الانتماءات والولاءات غير الشرعية؛ فما
نزلت عقوبة إلا بذنب، ولا رُفعت إلا بتوبة، وأن الشعب العراقي الذي كان
موضعاً لظلم حكامه، ثم ضحية لعدوان الأمريكان الظالم في مرات عديدة يجب عليه
أن يتذكر قول الله تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) ، إن هذا الشعب جدير بالنصر إذا
صدق مع الله؛ فتاريخه مجيد في بناء حضارة الإسلام، وحاضره مشرف في
مقاومة المحتلين.
عاشراً: هذه الحرب إذا حققت أهدافها العاجلة؛ فسوف ننتظر أهدافاً آجلة تسعى
إليها القوى المنتصرة خاصة أمريكا وإسرائيل:
وأخطرها هدفان رئيسان:
- التغريب الذي ستقوم عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
- والتطبيع الذي ستقوم عليه إسرائيل.
ولن يتحقق هذان الهدفان إلا بمحاولة إزالة العوائق من طريقهما، والعائق
الرئيس هم أهل العلم والديانة، أو هو الدين بذاته، وإزالته تكون بعلمنة المجتمع
وتغريبه، وتحريف ثوابت الدين، ومراجعة المواقف، لطرح نموذج محرف
للإسلام يتواءم مع رياح التغريب والتطبيع بما يسمى لدى الغرب بـ (الإسلام
المعتدل) ، ويسميه البعض بـ (الإسلام الأمريكي) . وسوف ينشط تيار النفاق
في توطين هذا النموذج من خلال الاستقواء بالموقف الغربي واليهودي، ومن خلال
تمكين الحكام لهم من وسائل التوجيه والإعلام، ومن خلال استثمار مواقف بعض
مرضى القلوب ممن كان ينتمي إلى الدعوة والعلم في يوم من الأيام، ومن خلال
كلام رخو لبعض الدعاة في هذا الزمان.
حادي عشر: غياب معاني القرآن الكريم عند الحوادث:
فحكم تولي الكفار ومظاهرتهم ومناصرتهم على المسلمين من أوضح المسائل
وأجلاها في القرآن، وقد أجمع أهل العلم على حرمتها، وهي من الوضوح لدرجة
أن تجد من صبيان المسلمين مَنْ يحفظها، ولأهميتها كانت هذه المسألة إحدى أهم
المسائل التي قامت عليها الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية، وقد اعتبرها إمام
هذه الدعوة إحدى المكفرات؛ ومع هذا كله عند الحوادث تغيب هذه المعاني حتى
عن بعض أهل العلم؛ وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما قال:
«الناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث» [5] .
عايشنا هذا الموقف من بعض المسلمين والمفتين في أحداث أفغانستان
الأخيرة، ونشاهده الآن في أحداث العراق كما قال تعالى: [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ] (التوبة: 126) .
إن الذهول عن هذه المعاني يحتاج إلى تعريف بها، وبعض الناس يعرف إذا
عُرِّف، لكن بعضهم يقع تحت تأثير الأهواء السياسية والمطامع الشخصية؛
فيحرِّف معاني كتاب الله عند حلول الحوادث، وغلبة الأهواء، وتحكُّم السياسة
بالدين.
ثاني عشر: ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، ولا بينه وبين أحد معين من
خلقه عهد:
فالمسلمون الذين يقفون مع الظالم المجرم ويعينونه على الظلم والإجرام؛ ماذا
ينتظرون؟ أليسوا ظالمين مثله.. والله توعد الظالم بالأخذ الشديد؟ قال صلى الله
عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» [6] ، ثم قرأ: [وَكَذَلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102) ، عندما
يعان المجرم (أمريكا) على تدمير بلد مسلم، وتقتيل وتشريد شعب مسلم في
أفغانستان، ثم يتكرر الموقف مع هذا المجرم، فيعان على تدمير بلد آخر وتقتيل
شعب مسلم آخر في العراق؛ ماذا ينتظر هؤلاء الراكنون إلى الظالمين؟ هل اتخذوا
عند الله عهداً أن يحفظ لهم أمنهم ورغد عيشهم من أجل أن يعينوا بها الكفرة على
قتل المسلمين وتدميرهم؟ حاشا الله الحَكَم العدل من ذلك؛ فليحذر أولئك العقوبات
الأخروية الآجلة، والابتلاءات الدنيوية العاجلة؛ فالظلم عاقبته وخيمة، وليحذر
أهل العلم والدعوة والرأي في الأمة من السكوت على ذلك وعدم الإنكار؛ فالله تعالى
يقول: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ] (الأنفال: 25) .
ثالث عشر: (إسرائيل) في قلب الحدث:
فالمعلومات المثيرة التي تنشر عن دور غلاة اليهود في أمريكا في إعداد
مشروع الحرب وصياغة أهدافه، ودور إسرائيل في الإعداد لها وفي المشاركة فيها
بأساليب مختلفة، فضلاً عما بقي طي الكتمان ولم يُنشر؛ يؤكد بما لا يدع مجالاً
للشك علاقة الحرب باليهود وبمشروعاتهم في المنطقة، والتي لُخصت بثلاثة
أهداف:
الأول: رئيس أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية (موشيه يعلون) يعلن
بأن الانتصار يسرب الشعور بالعجز والهزيمة لدى العرب عامة والفلسطينيين
خاصة؛ مما يجعل من العام الحالي عام الحسم ضد الانتفاضة.
والثاني: أورده (شفتاي شفيط) رئيس الموساد الأسبق الذي توقع أن يسود
العالم العربي بعد الحرب مناخ ثقافي مغاير يعطي للجناح الداعي إلى التطبيع مع
(إسرائيل) قوة دفع جديدة.
والثالث: صرح به (داني جيلرمان) رئيس اتحاد الغرف التجارية في
(إسرائيل) بأن النصر سيجلب العديد من الفوائد الاقتصادية لـ (إسرائيل) ، وهي
حصولها على نفط رخيص من العراق، وتراجع المخاطر الأمنية التي تهدد
(إسرائيل) ؛ مما سيؤدي إلى تقليص النفقات الأمنية، ثم فتح السوق العراقي
للبضائع الإسرائيلية.
ونحن المسلمين إزاء هذه الحقائق المذهلة نؤكد أمرين:
1 - أن هذه حرب أوقد نارها اليهود والمسيحيون المتهودون في أمريكا،
والصهاينة في (إسرائيل) ، ووعدوا شعوبهم بالنصر فيها، والله سبحانه وتعالى
توعدهم بقوله: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] (المائدة: 64) ؛ لذا
يجب أن نحسن الظن بربنا، ونثق بوعده لنا، وأن نارهم سيطفئها الله؛ بالحيلولة
دون تحقيق أهداف الانتصار بعد الحرب، أو دفع ثمن باهظ لا يكافئ الأهداف، أو
بأي صورة أخرى قد لا ندركها الآن، والمهم أن نستيقن أن وعد الله محقق في
الحال أو في المآل.
2 - أن مآل اليهود القريب بين تهديدَيْن: فإما أن ينتصر اليهود في هذه
المعركة نصراً يمكنهم من تحقيق أهدافهم؛ ومن هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل؛
ومن ثم تحقيق العلو الثاني الكبير لهم والإفساد الثاني في الأرض، قال الله تعالى:
[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ
كَبِيراً] (الإسراء: 4) ، وإذا تحقق هذا الأمر لهم فسيقع عليهم قضاء الله
الموعود لهم: [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 7) . وإما أن لا يتحقق لهم ذلك
فتُدخل آثار الحرب ونتائجها الولايات المتحدة في وضع يشجع الشعب الأمريكي
على فتح ملف اليهود ودورهم في توريط أمريكا في مشكلات دولية وأزمات عالمية؛
مما يؤدي إلى موقف مستقبلي رافض لليهود ولدورهم في أمريكا والعالم، وهناك
إرهاصات مبشرة في هذا الاتجاه.
رابع عشر: حال الأمة المسلمة وسبيل النهوض بها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما
تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ
كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» [7] .
فحال الحكومات العربية في مؤتمر القمة العربي، ومؤتمر وزراء الخارجية
العرب، وحال الحكومات الإسلامية في مؤتمر القمة للدول الإسلامية، والتي
انعقدت لمناقشة الأزمة العراقية؛ يُجسد حالة الغثاء تلك، وحال التشرذم والخداع
والهوان، وهذه حال مرت على الأمة في تاريخها السابق، ودفعت ثمنه غالياً،
ولعل من أحلك فترات ذلك التاريخ الذي ينبغي أن يعتبر به هو غزو التتار للعالم
الإسلامي، وتدمير بغداد؛ فما أشبه الليلة بالبارحة؛ إلا أن تتار اليوم قدموا من
الغرب وليس الشرق، وحكام بغداد طغاة وليسوا خلفاء.
والعبرة من هذه الحادثة التاريخية هو الاعتبار بالأسباب، فأسباب سقوط بغداد
سابقاً هي الأسباب نفسها لاحقاً، ففي الحالين هناك أعداء كفرة متربصون في
الخارج، ومنافقون خائنون في الداخل، وفي سدة الحكم رؤساء غير جديرين
بالقيادة مع الفارق بين خلفاء الأمس وطغاة اليوم، ثم كيف احتوت الأمة آثار هذه
الكارثة، ويظهر هذا في ثلاثة أمور:
1 - أن الإعصار التتري المدمر لم يوقفه إلا الجهاد في سبيل الله، والذي
نهضت به الأمة معتبرة بما حصل في بغداد؛ حيث بدأت طلائعه في مقاومة أهل
الشام لهم في موقعة (شقحب) ، ثم بالمعركة الفاصلة في (عين جالوت) التي
كانت بداية النهاية لهذا الغزو الهمجي.
2 - أن الأمة عندما انهارت في بغداد عسكرياً، ودمر التتار مكتبات العلم،
وقتلوا العلماء؛ لم تنهزم علمياً ولا معنوياً؛ فبقيت دمشق والقاهرة وغيرهما من
حواضر العلم في العالم الإسلامي منارات للعلم، وكانت تلك الفترة وما بعدها من
أزهى العصور العلمية، وبقي العلماء ينشرون العلم، ويربون على الإيمان،
ويحرضون على الجهاد.
3 - أن الدور الباطني الخطير الذي مثَّل طابوراً خامساً للتتار وخيانة ومكراً
بالمسلمين في سقوط بغداد؛ نبه الأمة وفتح عينها على دور المنافقين داخل الصف
الإسلامي واستعدادهم للتحالف مع الأعداء الكفرة، وقد أدرك ذلك مبكراً حكام
المسلمين من السلاجقة والأيوبيين فأزاحوهم عن قيادة الأمة.
وخلاصة العبرة هنا أن العلاج مما نحن فيه هو بالجهاد في سبيل الله لدحر
العدو الخارجي، والعلم بالشريعة لزيادة الإيمان في الأمة، والوعي بأساليب العدو
الداخلي للحذر منه.
خامس عشر: استشراف مستقبل هذه الحوادث وتداعياتها:
إن المستشرف لمستقبل هذه الحملة يمكن أن يحصر استشرافه بشكل عام في
احتمالين:
أحدهما: أن تتعرقل أمريكا في حملتها ولا تتمكن من تحقيق أهدافها حتى بعد
أن استطاعت إسقاط النظام العراقي، وأن تدفع ثمناً باهظاً لحملتها لا يكافئ النتائج،
وهذا له صور متعددة لا مجال لتفصيلها هنا، وسيكون من نتائج هذا الاحتمال لو
تحقق؛ زوال الوهم وانكسار الغطرسة الأمريكية، وانتعاش الروح المعنوية
للمسلمين، وجراءة دول العالم على أمريكا، وازدياد مواقع المقاومة لنفوذها، وما
ينطبق على أمريكا ينطبق على إسرائيل، ويمكن أن يكون من آثار ذلك تقهقر
المشروعَيْن الأمريكي والإسرائيلي في الهيمنة العالمية والإقليمية، وفي هذا نصر
ظاهر للإسلام والمسلمين في المدى القريب.
الاحتمال الآخر: نجاح الحملة على العراق، ونجاح مشروع أمريكا في
ترتيب آثار هذا الانتصار بترتيب أوضاع المنطقة، ومن ذلك: الضغط لإحداث
تغييرات دينية وفكرية، وترويج العلمنة، وتقليص مساحة الدين والتدين في
المجتمع، وتشجيع طوائف من المفكرين والباحثين والمفتين والمؤسسات الدينية
على التناغم مع هذه الأطروحات، وتسويغها دينياً مع دعم رسمي وإعلامي، وقد
يشارك في هذه الفتنة بعض من ينتسب إلى العلم والدعوة والفتوى، وتثار الشبهات
حول أصول الدين والمراجعات لثوابت الإسلام، ويُمكَّن لأصحابها؛ مما يسبب فتنة
لكثير من الناس، وعند هذه النقطة وفي هذا الحال سيبرز ثبات طائفة من الناس
على الحق والسنة، والذين سينافحون عن هذا الحق بالحجة والبيان، وسيستعصون
على هذه التراجعات بالرغم من التحدي والمحاصرة المتوقعة لهم، وعندها سنكون
أقرب إلى رؤية صور من معاني الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها من
الكفار، ولا من خذلها من المسلمين.
وقد تشهد بيئة الدعوة والعلم والمجتمع انقساماً وتمايزاً بين الفئة الثابتة على
الحق والفئة المستدبرة للحق المداهنة فيه، وسنرى صورة من صور انقسام الناس
إلى فسطاطين؛ فسطاط إيمان، وفسطاط نفاق، عند هذه النقطة يتحقق معنى من
معاني النصر ويبرز في أجلى صورة؛ من حيث التميز، والثبات، وانتصار
الطائفة، والظهور بالحق والبرهان، كما قال تعالى: [فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] (الصف: 14) .
الدرس المقصود من ذلك هو أننا بين نَصْرَيْن: نصر حسي عاجل؛ أو نصر
معنوي آجل تكون نتائج هذه الحوادث مفاتيح لهما بحسب أي احتمال يقع، فلله
الحمد والمنة أن هدانا لهذا الدين المنصور على أي حال.
سادس عشر: أبرزت حملة أمريكا على العراق، وقبلها أفغانستان، حجم الحرب
النفسية التي تديرها الولايات المتحدة ضد خصومها:
وكشفت حملتها على ما تسميه بالإرهاب صوراً خطيرة لهذا النوع من الحرب
المستمرة؛ لأن الحرب النفسية من أمضى الأسلحة في الصراعات والمواجهات،
فهي تجرد الخصم من إرادته القتالية، ومن روحه الجهادية؛ لأنها تستهدف العقل
والتفكير والقلب والعواطف لكي تحطم الروح المعنوية وتقود إلى الهزيمة، وهو
سلاح مستخدم منذ القدم، والنبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه أنه نُصر
بالرعب مسيرة شهر، وممارسة الحرب النفسية من قِبَل المسلمين ضد خصمهم هو
نوع من الجهاد.
والحرب النفسية التي جرت أثناء الحملة على العراق ظاهرة وجلية، وهي
مستخدمة من قِبَل أمريكا في مطاردتها للشباب المسلم المجاهد، وهم يمارسونها على
المسلمين حتى في أحوال السلم، وكثير من المسلمين مهزوم بسبب هذه الحرب
النفسية خاصة بعد التقدم الكبير في وسائل الإعلام، حيث نشأت أوهام ضخمة في
عقول المسلمين لصالح أعدائهم.
والدرس المستفاد من ذلك هو الحذر من هذه الحرب الخطيرة، واليقظة
الشديدة لإبطال مفعولها، ومسؤولية قادة الأمة والمربين فيها هي إبطال مفعول هذا
السلاح الموجه إليهم، ورده بأساليب مناسبة محترفة، ومن المناسب أن يقوم بعض
المهتمين برصد هذا النوع من الحرب وأساليب ممارسته تفصيلاً؛ من أجل أن
يتضح الدرس المقصود، وتتحقق الفائدة المرجوة في المستقبل.
سابع عشر: هل كنا ننتظر أن ينتصر النظام البعثي العلماني في العراق، وهو
النظام الذي حارب الإسلام وأهله، وطارد أولياء الله، ونحى شريعة الله؛ ولم
يملك حتى القوة المادية المكافئة لأمريكا؟
لم نكن ننتظر ذلك في لحظة من اللحظات، ومن انتظر ذلك فهو لم يفقه سنن
الله الكونية والشرعية، فنظام البعث فاقد لأسباب النصر الشرعية ولأسباب النصر
المادية، فكيف يُنتظر منه ذلك؟ نعم تمنى البعض أن تطول مدة الحرب من أجل
مزيد من الاستنزاف لأمريكا والنكاية بها، ومن أجل إعطاء فرصة المقاومة للشعب
العراقي، وحصلت بوادر ذلك في بداية الحرب، وعندما تعلق الناس بالآمال جاءت
النهاية المعبرة عن حقيقة الواقع لحكمة أرادها الله ولا شك؛ حتى يعي المسلمون
الدرس بوضوح، وحتى تثبت السنن ولا تتبدل، وحتى تبقى قوانين النصر
والهزيمة حجة على الناس، لو انتصر النظام البعثي العلماني لأصبح فتنة للناس
مسلمين وكفاراً، ولارتفعت الرايات الجاهلية العلمانية من جديد، ولتأخر النصر
الموعود به المسلمون، والذي سيحققه الله على مقتضى سننه الثابتة في الزمان
والمكان المقدرين، وبالأشخاص المرادين لله العزيز الحكيم.
ثامن عشر: لماذا هزم نظام البعث العلماني؟
أكثر الناس يوحدون السبب فينسبون ذلك إلى قوة آلة الحرب الأمريكية، وهذا
سبب مهم لكنه ليس الوحيد، فكما سبق أن النظام البعثي فاقد لأسباب النصر
الشرعية والمادية، ومن ذلك أن من أهم عوامل الهزيمة أن هذا النظام يعيش
كجزيرة معزولة وسط شعب مقهور يتحين الفرصة للانقضاض على هذا النظام
المستبد، فقامت العلاقات بينهما على أساس من الشك والريبة والتربص، ولذا
عندما حانت الفرصة وانهار النظام انقسم الشعب إلى طائفتين؛ طائفة رحبت بالغزاة
كرهاً في النظام، وطائفة رافضة للاثنين، فبقي النظام معزولاً عن شعبه، وكثرت
الخيانات وعندما سقط بدأت حملة ثأر وتصفيات لعناصر النظام؛ في صور تذكر
بمصير الظالمين ونهايتهم.
والعبرة من ذلك هي للحكام المستبدين المستكبرين على شعوبهم الظالمين لهم،
والمستأثرين بخيرات بلادهم على حساب المحرومين؛ أن يعيدوا النظر في علائقهم
بشعوبهم، ويتخلوا عن الظلم والاستبداد والاستئثار بالثروات، وينشروا العدل،
وهذا هو الذي يعزز الجبهة الداخلية ويقوي تماسكها؛ بحيث تستعصي على
الاختراق من قِبَل العدو الخارجي، فلا يفكر بغزوها أصلاً، وبذلك يتحقق الأمن في
الأوطان، قال الله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ] (الأنعام: 82) ، وليعلم الحكام أنه لا سبيل لتوافق الشعوب معهم
إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، والأخذ بمنهج الإسلام الشامل، قال الله تعالى:
[إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] (الإسراء: 9) .
تاسع عشر: عندما وقعت الحرب على العراق، اضطربت المواقف، وحار الناس:
هل يقف المسلم مع العراقيين في ظل حزب البعث ذي الراية الجاهلية، أم
يترك العراق سلماً للغزاة الصليبيين؟ وهل يتعين على الشباب المسلم القادر أن
يذهب إلى هناك، وما هو موقف الشباب المسلم داخل العراق؟ وإزاء هذا
الاضطراب الذي سببه واقع العراق وسوء الأحوال السياسية حيال هذه القضية
نسجل النقاط التالية:
1 - يجب أن لا ننظر للعراق وكأنه شخص الحاكم المستبد أو حزبه العلماني،
فالعراق بلد مسلم وشعب مسلم وحضارة إسلامية لا تُختصر في حاكم أو حزب
تمكن منه في لحظة تاريخية حرجة ومؤقتة. وهكذا الموقف من كل بلد مسلم سيطر
عليه طاغوت أو ظالم، فكل شعب مسلم أو بلد مسلم هو جزء من الأمة الواحدة، له
حق الولاء العام والمناصرة عند الحاجة.
2 - إن الأمة المسلمة في حالة مواجهة شاملة مع عدوها من خلال جبهات
متعددة؛ جهادية، سياسية، دعوية، ثقافية، إعلامية، وكلها بحاجة إلى عناصر
صالحة حسب اختصاصها، وهذه الحاجة منها ما هو فرض عين، ومنها ما هو
فرض كفاية، وعلى الأمة أن تكون في حالة نفير عام من خلال معنى الجهاد العام
في كل الجبهات، وكذا عندما تنفتح جبهة من جبهات المواجهة مع العدو؛ ينبغي أن
نتعامل معها بناء على ما سبق، فلا تترك من الجبهات الأخرى لحساب هذه الجبهة
الجديدة، ولا تلغى الواجبات الأخرى لحساب الواجب الجديد، والاستثناء من ذلك
يقرره أهل الحل والعقد من الدعاة والعلماء الصادقين العالمين بأحوال الجهاد
والمجاهدين.
3 - إن جهاد المسلمين منذ أكثر من قرن وإلى الآن هو نوع من جهاد الدفع،
وأحكام جهاد الدفع تختلف في بعض الأحوال عن أحكام جهاد الطلب؛ من حيث
الراية، وإذن الإمام، ومقاصد القتال المباشرة، فيجب أن لا ننزل أحكام جهاد
الطلب وهي غالب ما في أبواب الجهاد من كتب الفقه على جهاد الدفع.
العشرون: أثبتت الحوادث أن تفوق أمريكا المسلح عامل مهم في انتصاراتها
الأخيرة كما في صربيا وأفغانستان والعراق، وما لم يتغير ميزان القوى لصالح
الآخرين ولو بشكل نسبي فستبقى أمريكا متغطرسة بقوتها مهيمنة بجبروتها،
والدروس المستفادة من التجارب السابقة تدل على أنه لا سبيل لمواجهة أمريكا
من حيث الأسباب المادية إلا بإحدى وسيلتين:
الأولى: حيازة أسلحة غير تقليدية (الدمار الشامل) وعلى رأس القائمة
السلاح النووي. وهذه الأسلحة لم تعد سراً من الأسرار، فالعلم ليس فيه أسرار أو
خصوصيات، وصدَّام قطع شوطاً في هذا المجال لكن حماقاته وسوء مقاصده
أحبطت مشروعه، والسوق العالمية تحفل بأعداد هائلة من العلماء المتخصصين في
هذا المجال، بل حتى بالمواد والأجهزة اللازمة، وعندما سقط الاتحاد السوفييتي
سرّح أعداداً هائلة من العلماء، وهُربت كميات كبيرة من المواد، وهذا الدرس تفوه
به وزير الدفاع الهندي عندما أجاب عن الدرس من حرب الخليج الثانية بقوله:
عليكم ألا تقاتلوا أمريكا ما لم يكن بحوزتكم أسلحة نووية. وتقدمه كوريا الشمالية
اليوم كدرس من حرب الخليج الثالثة؛ بقولها إنها لن تكرر خطأ العراق بتدمير
أسلحة الدمار الشامل التي بحوزتها كما فعل العراق، ولم يشفع له ذلك ويمنع
الحرب عنه.
الثاني: تحييد ترسانة أمريكا العسكرية؛ من خلال انتهاج أسلوب حرب
العصابات كما يحصل في أفغانستان، وأسلوب العمليات الاستشهادية كما يحصل في
فلسطين، وهذان الأسلوبان كفيلان بهزيمة أمريكا وإن على المدى الأطول، وفتح
جبهات متعددة عليها تستنزفها بشرياً واقتصادياً ومعنوياً.
حادي وعشرون: وسقطت راية قومية أخرى، وبسقوطها يمكن أن تعلن وفاة
الفكر القومي العلماني الذي ابتليت به الأمة منذ أواخر الدولة العثمانية، والذي
نشأ برعاية غربية ثم استخدموه من أول ما ظهر لإسقاط الدولة العثمانية:
ثم في تمزيق الأمة إلى طوائف عرقية، وإلى شيع وأحزاب، وإثارة النعرات
القومية لدى الشعوب المسلمة غير العربية، حتى في البلد الواحد، ثم تمزيقه
بواسطة هذا الفكر. ففي بلد كالعراق يرفض الأكراد حكم العرب، ويرفض
التركمان حكم الأكراد والعرب وهكذا، لقد كان لهذا الفكر دور رئيس في هزائم
الأمة المتلاحقة، ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه مع كل هزيمة يتسبب فيها تيار من
تيارات هذا الفكر يكون هو المهزوم الأول، فهزيمة 1967م أسقطت التيار
الناصري الذي كان سبباً فيها، وهزائم فلسطين أسقطت تيار القوميين العرب الذي
كان سبباً فيها، وهزائم حرب الخليج أسقطت البعث الذي كان سبباً فيها، وبسقوط
هذه الراية التي حكمت دولاً، وانتظمت مثقفين ومفكرين، واجتاحت عقولاً وشعوباً
في العالم العربي؛ تكون الساحة العربية الإسلامية قد تخلصت من فكرين علمانيين
هما الفكر القومي والفكر الشيوعي الذي سقط من قبل عند سقوط الاتحاد السوفييتي،
ولم يبق إلا الإسلام في مواجهة الفكر الليبرالي الغربي، فالصراع القادم والمعارك
القادمة هي بين ذينك المنهجين وتينك العقيدتين، وسيكون الصراع طويلاً في
المركز وعلى الأطراف، وستكون الأرض المباركة في فلسطين حيث المسجد
الأقصى وما حولها، وأرض الجزيرة العربية حيث المسجد الحرام والمسجد النبوي
وتخومها؛ من أبرز ميادين الصراع، فالعدو شرس ومتمكن وممتد ويستند إلى دين
وثقافة وحضارة تبقي الصراع ممتداً في المستقبل كما هو في التاريخ، كما أخبر
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم عن الروم ذات القرون، وما جرى معهم اليوم ما
هي إلا نطحة من نطحاتها، وسيستمر ذلك الصراع والله أعلم حتى يلتحق هذا
الصراع بأحداث الملاحم التي ستكون بين المسلمين والروم في آخر الزمان، قال
تعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة:
217) .
ثاني وعشرون: ما أشبه الليلة بالبارحة، في عام 1917م جاءت بريطانيا
بجحافلها لاحتلال العراق بقيادة الجنرال مود؛ رافعة شعار تحرير العراق من
العثمانيين، ونشر الديمقراطية وإزاحة الدكتاتورية كأهداف معلنة، وأما الأهداف
الحقيقية فهي استعمار بلد مسلم والسيطرة على نفطه:
وما أن استقروا حتى تنكروا لكل تلك الوعود وغدروا بالشعب، وأدخلوا البلاد
في ممتلكاتهم الاستعمارية، واليوم يتكرر المشهد مع ممثل آخر هو أمريكا التي أتت
بجحافلها بقيادة الجنرال فرانكس؛ رافعة الشعار نفسه ومعلنة الأهداف نفهسا كما
يرددها هذا الجنرال في قطر كل يوم. قال الله تعالى: [تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (البقرة: 118) .
وأمام هذا الواقع والتاريخ نسجل ما يلي:
1 - أن الغدر شيمة لهذه الدول، وخاصة بريطانيا سابقاً عندما كانت الدولة
العظمى، وأمريكا لاحقاً عندما أصبحت القوة العظمى، فها هي أمريكا قد غدرت
بحلفيتها باكستان فيما سمي حرب الإرهاب؛ عندما مكنت خصومها الطاجيك من
حكم أفغانستان، ووقفت مع الهند ضدها. وغدرت بتركيا عندما نكثت بوعودها لها
بعد حرب الخليج الثانية، ولا نستبعد أن تغدر بها اليوم فيما يخص قضية الأكراد
والأمثلة كثيرة.
2 - على الحكام الذين راهنوا على حماية أمريكا لهم وزهدوا في بناء جيوش
قوية، وفرطوا في بناء جبهة داخلية صامدة؛ أن يعيدوا حساباتهم، فالاتفاقيات
السرية وتحالفات الحماية لن تقيم لها أمريكا أي وزن بعد اليوم، وها هي قد ضربت
بالمجتمع الدولي كله عرض الحائط، وأعلنت الحرب على العراق من طرف واحد.
3 - على حكام دول الخليج أن يتعظوا بما يجري ويأخذوا حذرهم، ولا يبقوا
يتغنوا بالعلاقات الاستراتيجية مع أمريكا، فالمعادلات تغيرت والعلاقات تبدلت،
ودوافع أمريكا للمحافظة على العلاقات الاستراتيجية معهم انتهت، فلم تعد أمريكا
بحاجة إلى الإسلام لمواجهة الشيوعية لأن الشيوعية سقطت، وليست مضطرة إلى
بترول الخليج دون خيار؛ لأن بترول الخليج ليس له خيار إلا أمريكا في ظل
القطب الواحد المارق، فضلاً عن بترول العراق المسيطر عليه الآن، وبعد ذلك
ليس بين أمريكا وبين هذه الدول نسب ديني ولا ثقافي ولا حضاري.
ثالث وعشرون: الحذر من حزب أمريكا داخل المجتمعات الإسلامية والعربية،
والذي سينشط هذه الأيام خاصة داخل المجتمعات المحافظة:
وهذا الحزب سوف يستثمر ظروف انتصار أمريكا وهزيمة العراق،
وتهديدات أمريكا المتلاحقة للدول الأخرى، وضغوطها على تلك المجتمعات
المحافظة؛ من أجل تحقيق مكاسب علمانية تغريبية حاضراً، وتطبيعية مع اليهود
لاحقاً، وسيُعرفون صراحة أو في لحن القول، ومن ذلك:
1 - الإشادة بالدور الأمريكي في تحرير العراق، واستدعاؤها لتحرير مزيد
من الدول، وإقناع الناس بصدق دعوى الحرية والديمقراطية المجلوبة بالدبابات
الأمريكية.
2 - الهجوم على البنية الدينية والبيئة الاجتماعية المحافظة (المرأة) ،
والمناهج الشرعية لتمهيد الطريق للتغريب والتطبيع، وقد بدؤوا ينادون بها من الآن.
3 - الهجوم على الدعاة والمطالبة بتقليص دورهم في المجتمع، وعزلهم عن
مواقع التأثير، وعن إدارة الشأن العام.
4 - إثارة نقاشات وحوارات حول مسائل شرعية مجمع عليها، ونقد ثوابت
الدين كالجهاد في سبيل الله، وإبراز الخلاف الشاذ حول كثير من الأحكام الشرعية
كتشريع غير ما أنزل الله، والشغب على قواعد وأصول متفق عليها كأصل سد
الذرائع، وإعادة إجلال أهل البدع والأهواء، وترديد مقولات المستشرقين
وتلامذتهم وترويجها.
رابع وعشرون: وسقطت المراهنة على الخرافات والاستكانة إلى تعبيرات الرؤى:
وبان انحراف منهج تنزيل أحاديث الفتن والملاحم على الأوضاع المعينة
والأشخاص المسمين، ذلك المنهج الذي نشط أصحابه منذ حرب الخليج الثانية، ثم
حرب أفغانستان، ثم حرب الخليج الثالثة، وأصدروا عدداً من المصنفات وروجها
لهم الجهلة. وهي مصنفات يستند فيها أصحابها إلى بعض مصادر أهل الكتاب وإلى
نبوءات العرَّافين والدجالين، وإلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة. وقد أثرت في
مواقف بعض الضعفاء والجهلة، وتشوّف لوقوعها دهماء الناس؛ لذا يجب أخذ
العبرة بالنتائج والآثار لمثل ذلك، وتحذير الناس منه، وعدم تكراره فالمدعى أنه
المهدي لم يظهر، والسفياني المزعوم أنه صدام قتل أو شرد ولم يدخل بيت المقدس،
وتعبيرات الرؤى لم تقع، قال تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) .
خامس وعشرون: [فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً]
(النساء: 19) :
سقط العراق تحت الاحتلال الأمريكي العسكري، وليس هذا أول احتلال
للعراق ولا لغيره، فقد تكرر دخول الغزاة منذ الحروب الصليبية إلى اليوم بلاد
المسلمين، ثم يخرجون بمقاومة الشعوب المسلمة لهم، والأيام دول، وقد كان
المسلمون يحكمون إسبانيا في يوم من الأيام وسيفتحون روما بالوعد النبوي مستقبلاً،
قال الله تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران: 140) ، لكن
المحصلة النهائية بعد هذا التداول والصراع ستكون للإسلام حتماً، نستشرفه مستقبلاً
ونعتقده ديانة، قال تعالى: [وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132) ، وحتى يتم ذلك
لن يهزم الإسلام هزيمة شاملة، وستبقى الطائفة المنصورة على مدار الزمان حتى
يتم التمكين الشامل للإسلام والمسلمين؛ ولذا فإن المصائب والهزائم التي تحل
بالمسلمين تكون دروسها زاداً لهم في الطريق، وتذكيراً لهم عن الغفلة، وإيقاظاً
لضعف هممهم، وإعادة لهم إلى الله، كما حصل في العراق، حيث نستطيع أن
نلتمس حكماً عظيمة ودورساً كثيرة؛ من ذلك:
1 - كثير من الدروس المذكورة في هذه الورقة وأخرى لم تذكر وذكرها
غيري لم تستبن إلا بمثل هذا الحدث، ومن ثمار هذه الدروس زيادة الوعي في
الأمة، الوعي بالواقع، والوعي بأحوال الناس والزمان، والفهم لآيات الله في
الأنفس والآفاق، وإدراك سنن الله في التاريخ والمجتمعات، ومعرفة طبيعة هذا
الدين، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل.
2 - معرفة حال القيادات السياسية التي تقود الأمة، وأنها خائرة جائرة
وليست أهلاً للمواجهة ولا تستحق النصر، كذلك الأحزاب والأفكار التي تقوم عليها
هذه الأنظمة وأسست عليها نظمها وقوانينها ودساتيرها، فهي على شفا جرف هار،
وهذا سيدفع بالأمة إلى حظيرة الإسلام وإلى الاحتماء بمظلة الدين.
3 - سقوط الرايات العمِّية الجاهلية، والدعاوى الملبسة للحق بالباطل،
والمدلسة على الناس دينهم، وبروز العدو الحقيقي الصليبي في وضح النهار؛ يزيل
الغبش الذي يعمّي على الناس مشروعية الجهاد في سبيل الله، فالكافر الأجنبي
سيثير روح المقاومة في الأمة، ويستدعي روح الجهاد، وتستبين سبيل المجرمين
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة] (الأنفال: 42) ، حيث
تتقلص المساحة على أهل النفاق والأهواء في أن يبقوا مع العدو سراً ومع المسلمين
علناً؛ كما هي حال كثيرين من حكام ومحكومين، قال تعالى: [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]
(البقرة: 14) .
4 - قد يتيح الوضع القادم في العراق هامشاً من الحرية والانفتاح يسمح
للدعوة والدعاة بالنشاط والانتشار، ويكثر العلم وطلابه، وينشط المصلحون في بلد
ظل مغلقاً في وجه هذه الأنشطة منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويعود أهل العلم والدعاة
الذين شردهم النظام السابق خارج العراق ليؤدوا دورهم الإصلاحي والدعوي
والعلمي في بلد هو في أمسّ الحاجة إلى مثلهم في هذه الأيام.
5 - وأخيراً: نختم بهذا الحديث العظيم الذي يختصر لنا الدروس ويبين
الأحوال السابقة واللاحقة للأمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله
زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي
منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها
بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن
ربي قال يا محمد: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيت أمتك أن لا
أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم،
ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم
بعضاً» [8] ، زاد بعضهم: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع
عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي
بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون
ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من
أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله
تبارك وتعالى» ، ولفظ الحاكم: «ولكن لا تزال طائفة يقاتلون على الحق
ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» [9] .