مجله البيان (صفحة 4575)

دراسات في الشريعة

العلاقات الإسلامية النصرانية

رؤية شرعية في الماضي والحاضر والمستقبل

(1 ـ 2)

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،

ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد

أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله

بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه

كتاباً لا يغسله الماء، ففتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وأقام به

الحجة، وأضاء به المحجة، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.

فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم

الدين.

أما بعد:

فلقد كان أولى الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب، وذلك

لأسباب:

أحدها: أنه البشارة المرتقبة التي زفها الأنبياء إلى أقوامهم، وخلعوا عليه

وعلى أتباعه أجلَّ الأوصاف، وأكرم المعاني، فتعلقت أفئدتهم بذلك النبي المنتظر،

قال تعالى: على لسان عيسى ابن مريم - عليه السلام -: [وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي

مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد] (الصف: 6) ، وقال: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ

الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ

عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ

الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ

أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (الأعراف: 157) .

والثاني: أنه البينة التي بها افتكاكهم من دوامة الخلاف المرير الذي مزقهم كل

ممزق، حتى كفَّر بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، قال تعالى: [لَمْ يَكُنِ

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ] (البينة: 1) .

والثالث: أنه فَتْحٌ لأهل الإيمان على أهل الشرك والأوثان، قال تعالى:

[وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى

الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ] (البقرة:

89) .

ولكن هذا التوقع لم يقع إلا بصورة جزئية فردية، فقد تحددت مواقف أهل

الكتاب؛ من يهود ونصارى، إبان العهد النبوي، وحين تنزل القرآن. وبدلاً من

أن تنضوي زعامتا الديانتين (اليهودية والنصرانية) في الديانة الإسلامية التي تمثل

الامتداد الطبيعي لملة إبراهيم - عليه السلام -؛ ناصبتاها العداء، وتفنَّنتا في ردها،

ومحاولة وأدها في مهدها.

ونقصد في هذه المقالة الإلمام بمجمل العلاقات التاريخية بين المسلمين

والنصارى؛ بوصفها الجبهة الساخنة ذات الشوكة والمواجهة، والكر والفر،

والمد والجزر، على مدار التاريخ، بينما تختفي اليهودية في معظم فترات التاريخ

عن الصدارة بسبب القلة العددية، والشتات القومي ليهود، والذلة والمسكنة التي

ضربها الله عليهم، دون التقليل من خطرهم وكيدهم الخفي.

ولا شك أن الإحاطة بتفاصيل ومفردات العلاقات التاريخية بين المسلمين

والنصارى عمل موسوعي ضخم؛ يتطلب توافر عشرات الباحثين عليه لِسِعَة رقعته

الزمانية والمكانية، وتنوع مادته.

والمقصود هنا وضع خطوطٍ عامة بارزة لتكوين خلفية تاريخية، يستصحبها

الناظر للأحداث الراهنة، ويستشرف بها المستقبل؛ إثر أحداث الحادي عشر من

سبتمبر وتداعياتها.

يمكن أن نقسم تاريخ العلاقات الإسلامية النصرانية إلى عدة مراحل متميزة:

- المرحلة الأولى: (المرحلة النبوية) :

دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب عامة، والنصارى خاصةً، إلى

الإسلام، والتوحيد، ونبذ الشرك، كما أمره ربه بقوله: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا

إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا

بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران:

64) . ونهاهم عن مقالة التثليث، والغلو في الدين، فقال: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ

تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ

وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً

لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] (النساء: 171) ، وشنَّع عليهم ادعاء بنوة المسيح لله سبحانه،

فقال: [وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ

الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] (التوبة: 30) . فاستجاب لدعوته

صلى الله عليه وسلم مَنْ سبقت له من الله الحسنى، والذين أثنى الله عليهم بقوله:

[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً

لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ

يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا

عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] (المائدة: 82-83) ،

فاتصلت علائقهم بملة إبراهيم، وآتاهم الله أجرهم مرتين، كما قال تعالى: [وَلَقَدْ

وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ *

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ

يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]

(القصص: 51-54) .

وأما من أصروا على مقالتهم، وغلبتهم شقوتهم، فقد حكم الله بكفرهم، فقال:

[لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] (المائدة: 17) ، وقال:

[لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا

عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (المائدة: 73) ، وأمر نبيه

صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتالهم، فقال: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ

بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ

أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] (التوبة: 29) .

وقد تذرع النبي صلى الله عليه وسلم بكل الوسائل لدعوة زعمائهم، ومراجعهم

الدينية والسياسية؛ فكاتب ملوكهم: هرقل عظيم الروم، والمقوقس عظيم القبط،

والحارث بن أبي شمر ملك غسان، والنجاشي ملك الحبشة الذي وليهم بعد

أصحمة - رحمه الله -.

كما ناظر أساقفتهم حين وفد عليه نصارى نجران، وحاجَّهم وباهَلَهم، ولكن

القوم ضنوا بمُلْكهم وشرفهم في قومهم، فمنهم من أعطى الجزية، ومنهم من شهر

السيف، وصد عن سبيل الله.

ومن شواهد عداء النصارى للمسلمين في هذه المرحلة:

- حَشْدهم مائتي ألف مقاتل من الروم، ونصارى العرب، في معركة

«مؤتة» ، مقابل ثلاثة آلاف مجاهد من المسلمين [1] .

- قَتْلهم فروة بن عمرو الجذامي عامل الروم على من يليهم من العرب لما

أسلم، وصَلْبهم إياه [2] .

- قَتْلهم «صفاطر» الأسقف لما شهد شهادة الحق، وقد كان مقدماً معظماً

عند الروم [3] .

- المرحلة الثانية: من عام 11هـ إلى عام 114هـ:

تضم هذه المرحلة عصر الخلفاء الراشدين، وصدر الإسلام، وعلى وجه

التحديد: من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى معركة «بلاط الشهداء» في

زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، حيث بلغت الدولة الإسلامية الفتية أقصى

اتساعها في غرب أوروبا، وشارفت جيوش عبد الرحمن الغافقي - رحمه الله -

على اجتياح فرنسا.

وتمثل هذه المرحلة «المرحلة الذهبية» للإسلام مع النصرانية، حيث تم

طي بساط النصرانية عن الأقاليم المعمورة؛ في الشام، والعراق، ومصر،

والمغرب، بل وإسبانيا، وجنوب فرنسا، ونشرت أعلام الإسلام عبر سلسلة

متتابعة من الفتوحات السريعة المذهلة، كان قوادها ولحمة سداها أصحاب محمد

صلى الله عليه وسلم.

يقول برنارد لويس [4] : (لقد وصل محمد إلى السلطة والحكم أثناء حياته،

وقد أسس بنفسه أول دولة إسلامية، وحَكَمَها مع أصحابه، لقد انتهت مهمة الرسالة

الروحية لمحمد بوفاته، ولكن رسالته الدينية والسياسية استمرت على يد خلفائه.

وتحت حكم الخلفاء؛ تقدم المسلمون من انتصار إلى انتصار، وبالتالي نشأ خلال

قرن واحد كيان شاسع الأصقاع، يمتد من حدود الهند والصين، إلى جبال

البيرينيه، وسواحل المحيط الأطلسي. وهو كيان يحكم ملايين الأتباع، وبأعدادٍ

هائلة؛ ممن اعتنقوا الدين الجديد ... إن تاريخ الدولة الإسلامية المبكر الذي يحظى

بالقداسة؛ يشكل جوهر ولب ذاكرة ووعي المسلمين في كل مكان، وهو يحكي

قصة الفتوحات السريعة المتواصلة، والتي تساقط أمامها زعماء العقائد الفاسدة التي

تضطهد شعوبها. لقد وصل الإسلام إلى الانتصار النهائي؛ سواء من حيث العقيدة

أو السلاح، وأوصل كلمة الله إلى البشرية كلها، وفرض الشريعة الإلهية على العالم

كله) [5] .

(.. وهكذا، فعندما وصل المسلمون في العصور الوسطى إلى صقلية،

وإسبانيا، والبرتغال؛ شاهدنا بعد فترة قصيرة عمليات تحول ودخول جماعات

كثيرة من النصارى إلى الدين الجديد) [6] .

ويقول «جيبون» : (لو انتصر العرب في تور بواتييه، لتُلي القرآن وفُسّر

في أكسفورد وكمبردج) [7] .

- المرحلة الثالثة: من عام 115هـ إلى عام 490هـ:

تشغل هذه المرحلة حيزاً زمنياً طويلاً، يمتد من منتصف العقد الثاني من

القرن الثاني الهجري، حيث بلغت الفتوحات الإسلامية أقصى امتدادٍ لها، وآذنت

بالانحسار التدريجي البطيء. وينتهي بالإرهاصات السابقة لأولى الحملات

الصليبية على بلاد الشام في العقد الأخير من القرن الخامس الهجري، أي ما يقارب

أربعمائة سنة تقريباً.

إن السمة المميزة لهذه المرحلة من ناحية العلاقات الإسلامية النصرانية، على

جانبيها الشرقي والغربي (أي في خط المواجهة مع الإمبراطورية البيزنطية شرقاً،

والفرنجة غرباً) ؛ كونها مرحلة كرٍّ وفرّ، ومناوشات متبادلة، وحماية ثغور،

ومعاهدات صلح، وتبادل أسرى، دون أن تشهد إضافة أقاليم كبار لدار الإسلام،

كما كان الحال في المرحلة الأولى، وربما كانت الكفة راجحة للجانب الإسلامي في

العقود الأولى من هذه المرحلة، وخاصة في خط التماس مع الإمبراطورية

البيزنطية، ثم مالت الكفة لصالح الجانب النصراني في أواخر هذه المرحلة،

وخصوصاً في بلاد الأندلس.

في النصف الثاني من القرن الخامس؛ وقعت ثلاثة أحداث كبار في تاريخ

العلاقات الإسلامية النصرانية:

أولها: معركة «ملاذكرت» أو «مانزكرت» عام 463هـ / 1070م،

بين جحافل الإمبراطورية البيزنطية بقيادة ملك الروم «أرمانوس» ، والسلاجقة

السُّنيين بقيادة السلطان ألب أرسلان؛ في معركة من معارك التاريخ الفاصلة، كان

الظفر فيها حليف المسلمين [8] .

الثاني: سقوط مدينة «طليطلة» بيد «ألفونسو» ملك قشتالة، عام 478

هـ / 1085م بعد حكم دام 372 سنة [9] .

الثالث: استيلاء الفرنج النورمانديين على جزيرة «صقلية» عام 484هـ /

1090م [10] .

إن لهذه الأحداث الكبار دلالات كباراً أيضاً:

1 - لقد كانت معركة «ملاذكرت» إيذاناً بانهيار الخطر البيزنطي، وإخفاق

محاولات النصارى من قِبَل المشرق، ومن ثم التفكير الجاد بالبحث عن سبل أخرى.

(ولم تقم للروم مذ ذاك قائمة، وبعدها لم ينفك أباطرة بيزنطة يوفدون البعثات إلى

الغرب، يروجون الدعوة للحروب المقدسة) [11] .

2 - كان سقوط «طليطلة» عاصمة القوط قديماً بيد النصارى إيذاناً بأفول

شمس المسلمين في الأندلس، فقد كانت هذه المدينة واسطة عقد المدن الأندلسية،

وسُرُّة الجزيرة، وقد عبَّر بعض الشعراء عن هذا المعنى بقوله:

يا أهل أندلس حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلطِ

الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ

ونحن بين عدوٍّ لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات في سفطِ [12]

3 - كان سقوط جزيرة «صقلية» بأيدي الفرنج إيذاناً بانتهاء سيادة

المسلمين البحرية على بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) ؛ بوصفها درة ذلك

البحر، وكبرى جزره، والمسيطرة على طرق التجارة والأساطيل فيه. واطمأن

النصارى على سلامة عاصمتهم الكبرى «روما» التي هددها الفاتحون المسلمون،

وحاصروها عام 231هـ / 850م، في عهد البابا «سرجيوس الثاني» [13] .

- المرحلة الرابعة: من عام (490 - 690هـ) :

تمثل هذه المرحلة فترة الحملات الصليبية المنطلقة من غرب أوروبا

النصرانية ووسطها إلى بلاد المشرق الإسلامي (سواحل الشام، ومصر، وآسيا

الصغرى) ، في سبع حملاتٍ متعاقبة، استغرقت قرابة قرنين من الزمان

(490 - 690هـ) ، بالإضافة إلى استمرار الزحف النصراني جنوباً على بقية

الأندلس المسلمة، وبقية جزر البحر الأبيض المتوسط.

إن السمة المميزة لهذه المرحلة هي انتقال المجابهة النصرانية من

الإمبراطورية البيزنطية الأرثذوكسية إلى دول أوروبا الكاثوليكية وغربها؛ بقيادة

بابوات روما، وبالتالي انتقال أرض المعركة من الحدود والثغور المتاخمة

للإمبراطورية البيزنطية في آسيا الوسطى إلى العمق الإسلامي في السواحل الشامية،

وبيت المقدس؛ بسبب عمليات الإنزال البحري التي تقذف بها هذه الحملات، أو

الجموع الهوجاء التي تنطلق من الممالك الأوروبية لتلتقي عند أسوار القسطنطينية،

وتُفوّج هناك.

ويمكن أن يؤرخ لبدء الحملات الصليبية بالاجتماع الحاشد الذي دعا إليه البابا

«أوربان الثاني» في مدينة «كليرمون» ، في جنوب فرنسا، في نوفمبر من

عام 1096م، وحضره كبار الأساقفة، والأمراء، والإقطاعيين.

وقد ألهب البابا حماس المجتمعين بخطبة بليغة مؤثرة أثار فيها العصبية

الدينية، بل والأطماع الدنيوية، وقد تمحورت حول أربع ركائز:

الأولى: الدعوة إلى حملة مقدسة هدفها فلسطين؛ استناداً إلى نصوص من

الإنجيل.

الثانية: أنه يدعو إلى هذه الحملة باسم الرب؛ بوصفه نائباً عنه في الأرض.

الثالثة: الحث على نبذ الخلافات بين المؤمنين بالمسيح، وتوحيد الجهود.

الرابعة: منح غفران جزئي لكل من يشارك في هذه الحملة؛ سواءً مات في

الطريق أو قتل [14] .

واستجاب الحاضرون لنداءات البابا التحريضية، وصاحوا جميعاً في ذلك

الحقل الفسيح صيحة مدوية، صارت شعاراً في حروبهم المقبلة مع المسلمين قائلين:

(الرب يريدها) أو (تلك إرادة الله) . ثم شرع البابا أوربان الثاني يجوب أنحاء

فرنسا للدعوة إلى حربه المقدسة.

كما برز قادة كنسيون شعبيون، من أمثال «بطرس الناسك» ، هجروا

أديرتهم، وتفرغوا لتهييج الفلاحين والفقراء؛ لإنقاذ مهد المسيح بزعمهم، ودغدغة

مشاعرهم بامتلاك الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً [15] .

وعلى مدى قرنين من الزمان تمخضت أوروبا الصليبية عن سبع حملات

شهيرة موجهة نحو بلاد المشرق الإسلامي، نوجزها بما يلي:

أولاً: الحملة الصليبية الأولى:

تكونت من خمسة جيوش جرارة قدمت من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا،

التقت في عاصمة الإمبراطورية البيزنطية «القسطنطينية» ، في أواخر عام

1096م، ثم عبرت مضيق البسفور متجهة نحو دولة سلاجقة الروم في آسيا

الصغرى، فسقطت عاصمتهم «نيقيَّة» عام 1097م.

وفي الطريق إلى «أنطاكية» جنح قسم من الصليبيين نحو الرها، وكوَّنوا

أول إمارة صليبية في قلب العالم الإسلامي.

وفي أواخر عام 1097م فرض الصليبيون حصاراً على أنطاكية التي صمدت

صموداً باهراً أمام الحصار، لولا خيانة بعض الأرمن المستأمنين على أحد أبراجها،

فسقطت في منتصف عام 491هـ / 1098م، وهكذا تكونت الإمارة الصليبية

الثانية عام 1099م في أنطاكية.

وكان الهدف الأخير، والحلم المنشود لهذه الجموع الهادرة مدينة «القدس» ،

فحاصروها على مدى خمسة أسابيع.

قال ابن كثير - رحمه الله -: (لما كان ضحى يوم الجمعة، لسبع بقين من

شعبان، سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة، أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه

الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل

من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً) [16] .

ثانياً: الحملة الصليبية الثانية:

جاءت هذه الحملة رد فعل بطيء لسقوط إمارة الرها، في عهد البابا

«إيجينيوس الثالث» (1145 - 1153م) ، وتكونت من جيوش ألمانيا،

بقيادة الإمبراطور «كونراد الثالث» ، وفرنسا، بقيادة ملكها «لويس التاسع» ،

ووصلت إلى المنطقة نهاية عام 1147م، وقد مُنيت بالإخفاق الذريع، وعاد الملكان

الصليبيان يجران أذيال الخيبة [17] .

وكان من آثار هذه الحملة على الجانب الإسلامي؛ مزيد من التوحد بين

الممالك الإسلامية؛ فقد صارت بلاد الشام جبهة واحدة، تحت قيادة نور الدين

محمود، في مواجهة الإمارات الصليبية على امتداد الساحل.

وقد تصدى نور الدين محمود زنكي لجهاد الصليبيين، وانتزاع الحصون

والبلاد من أيديهم، في بلاد الشام، في وقائع مظفرة، إلى أن توفي رحمه الله سنة

تسع وستين وخمسمائة، بعد حياة حافلةٍ بالجهاد في سبيل الله.

وتسلَّم الراية بعده الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وبعد أربعة عشر عاماً

قضاها في لمِّ الشمل، وجمع الكلمة، والقضاء على الفتن الداخلية، والإثخان في

الصليبيين، وإصلاح أمور الرعية [18] ؛ تهيأ في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

للملحمة الكبرى مع الفرنج، والتي كانت مقدمة ضرورية لفتح القدس؛ فكانت

معركة (حطين) الفاصلة في شهر ربيع الآخر، حشد فيها الجانبان قواتهما،

وشهدها ملوكهما، ودارت رحى الحرب يومي الجمعة والسبت، لخمس بقين من

ربيع الآخر، (ثم أمر السلطان بالتكبير، والحملة الصادقة، فحملوا، وكان النصر

من الله عز وجل، فمنحهم الله أكتافهم، فقُتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأُسر

ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم، سوى

قومس طرابلس؛ فإنه انهزم في أول المعركة. واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم،

وهو الذي يزعمون أنه صُلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب، واللالئ

والجواهر النفيسة. ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودمغ الباطل

وأهله [19] .

وفي الخامس عشر من شهر رجب من السنة نفسها 583 هـ، سارت جحافل

المسلمين إلى بيت المقدس، ففتحوه يوم الجمعة، في السابع والعشرين من رجب،

بعد أن بقي بيد عبدة الصلبان اثنتين وتسعين سنة (492 - 583هـ) [20]

(1099 - 1187م) . ثم اتجه صلاح الدين - رحمه الله - لفتح الحصون

الممتنعة، واستنقاذ مدن الساحل الشمالية، حتى كاد يفتح أنطاكية.

ثالثاً: الحملة الصليبية الثالثة:

كان وقع أنباء انتصارات صلاح الدين مؤلماً في أوروبا، حتى إن البابا

أوربان الثالث (1185 - 1187م) مات من هول الصدمة حين بلغته الأنباء [21] .

قال ابن الأثير: (ثم إن الرهبان والقسوس، وخلقاً كثيراً من مشهوريهم،

وفرسانهم، لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم،

وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس، ودخل بهم بلاد الفرنج، يطوفها بهم جميعاً،

ويستنجدون أهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس.

وصوروا المسيح - عليه السلام -، وجعلوه مع صورة عربي يضربه، وقد جعلوا

الدماء على صورة المسيح - عليه السلام -، وقالوا لهم: هذا المسيح، يضربه

محمد نبي المسلمين، وقد جرحه وقتله. فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا،

وحشدوا حتى النساء) [22] .

وقد تكونت الحملة الصليبية الثالثة من كبار ملوك أوروبا، وهم: الإمبراطور

الألماني فردريك بربروسا (1152 - 1190م) الذي هلك غرقاً في أحد أنهار آسيا

الصغرى، وتمزق جيشه، وملك إنجلترا ريتشارد الأول (1189 - 1199م) ،

وملك فرنسا فيليب أغسطس (1180 - 1223م) .

وقد وصل الفرنسيون عكا في ربيع الأول سنة سبع وثمانين، ثم وافاهم

الإنجليز في جمادى الأولى من السنة نفسها، وحاصروها حصاراً شديداً، واستبسل

أهلها وحاميتها في الدفاع عنها، ومن ورائهم الملك صلاح الدين، يُمدهم بالمؤن

والأقوات عن طريق البحر، حتى سقطت بأيدي الفرنج في السابع من جمادى

الآخرة. وقتل الفرنج ثلاثة آلاف أسير من أهلها صبراً رحمهم الله.

ولم تتمكن هذه الحملة التي علقت عليها الآمال تحقيق أهدافها؛ من استعادة

بيت المقدس ومدن الساحل، رغم ما بذلوه من محاولات، وتكبدوه من خسائر،

وهزائم متكررة. وانحصرت مكاسبهم في الاستيلاء على عكا التي دافع عنها صلاح

الدين الأيوبي سبعة وثلاثين شهراً. وحاولوا أخذ عسقلان، فصدهم المسلمون حتى

يئسوا، وطلبوا الصلح والأمان. وجرت الهدنة بين المسلمين والنصارى في السابع

من شعبان من سنة ثمان وثمانين وخمسمائة؛ على وضع الحرب ثلاثين سنة

ونصف. وعاد ملوك أوروبا يجرّون أذيال الخيبة، وعاد صلاح الدين إلى بيت

المقدس يصلح شؤونها، ثم إلى دمشق حيث توفي - رحمه الله - جاهداً مجاهداً،

في السابع والعشرين من شهر صفر، سنة تسع وثمانين وخمسمائة [23] .

رابعاً: الحملة الصليبية الرابعة:

كان هدف هذه الحملة «مصر» ، وذلك في عهد البابا «إنوسنت الثالث»

(1198 - 1216م) ، ولكن مسار الحملة انحرف عن القاهرة إلى القسطنطينية؛

تحقيقاً لأحلام بابوية روما القديمة في القضاء على الكنيسة البيزنطية الأرثذوكسية،

فدمروا المدينة الحصينة ونهبوها، وقتلوا إخوة الدين، وكفى الله المؤمنين القتال،

سوى فرق قليلة من هذه الحملة اتحدت مع المستوطنين في بلاد الشام من الصليبيين.

قال ابن كثير: (ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام، وقد تقووا بملكهم

القسطنطينية، فنزلوا عكا، وأغاروا على كثيرٍ من بلاد الإسلام من ناحية الغور،

وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل أبو بكر بن أيوب أخو صلاح

الدين، وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية، ونازلهم بالقرب من

عكا، فكان بينهم قتال شديد، وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة،

وأطلق لهم شيئاً من البلاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون [24] .

خامساً: الحملة الصليبية الخامسة:

استهدفت هذه الحملة مصر أيضاً، وانطلقت قوات الصليبيين من عكا على

الساحل الشامي، ونزلت على «دمياط» ، وذلك سنة خمس عشرة وستمائة. وفي

تلك الأثناء توفي الملك العادل، فسقطت دمياط وما وراءها. ثم سار الصليبيون

متجهين نحو القاهرة، ونازلهم المسلمون في مواقع كثيرة، حتى إن الملك الكامل

(عرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس، وجميع ما كان صلاح

الدين فتحه من بلاد الساحل، ويتركوا «دمياط» فامتنعوا من ذلك، ولم يفعلوا.

فقدر الله تعالى أنها ضاقت عليهم الأقوات، فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم،

فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي «دمياط» من كل ناحية،

فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في أنفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى،

حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن، فحينئذٍ أنابوا إلى المصالحة بلا معاوضة)

[25] . وكان ذلك سنة ثمان عشرة وستمائة.

يقول د. قاسم عبده قاسم: (كانت الحملة ضد دمياط آخر محاولات البابوية

لتوجيه حملة صليبية تحت قيادتها فقط، ولحسابها منفردة) [26] .

سادساً: الحملة الصليبية السادسة:

قائد هذه الحملة هو الإمبراطور الألماني المحنك فردريك الثاني (1215 -

1250م) ، والذي استغل تفرق حكام الدولة الأيوبية، وروح الضعف والمسالمة

التي أبداها الملك الكامل أثناء حصار دمياط، فحقق عن طريق السياسة مكاسب لم

تحققها الحملات الصليبية العسكرية الضخمة! فقد قدم فلسطين بستمائة فارس فقط،

وأسطول هزيل [27] ، ومع ذلك رجع وقد تسلم بيت المقدس!

ويصف ابن كثير هذه الملابسة العجيبة، في أحداث سنة ست وعشرين

وستمائة، فيقول: (استهلت هذه السنة، وملوك بني أيوب مفترقون، مختلفون،

قد صاروا أحزاباً وفرقاً، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو

مقيم بنواحي القدس الشريف، فقويت نفوس الفرنج لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم

من البحر، وبموت المعظم، واختلاف مَنْ بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين

أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين

الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده! وتبقى بأيديهم بقية البلاد. فتسلموا القدس

الشريف، وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جداً، وحصل

وهن شديد، وإرجافٌ عظيم. فإنا لله وإنا إليه راجعون) [28] .

وظل بيت المقدس بيد الصليبيين عشر سنين (626 - 636هـ) ،

(1229 - 1239م) . وما أن انقضت سني الهدنة حتى هجم الصليبيون على

جنوب فسلطين، فقاتلهم الأيوبيون في غزة سنة ست وثلاثين وستمائة، وهزموهم

شر هزيمة، ثم استنقذوا بيت المقدس في السنة نفسها، وظلت بأيدي المسلمين،

حتى استولى عليها الإنجليز، ثم اليهود الصهاينة، في العصور الأخيرة [29] .

سابعاً: الحملة الصليبية السابعة:

كانت هذه الحملة موجهة أيضاً إلى مصر، لكن دون المرور بعكا معقل

الصليبيين في السواحل الشامية، بل انطلقت من ميناء مرسيليا الفرنسي بقيادة

لويس التاسع ملك فرنسا، ونزلت قبالة «دمياط» ، وذلك في آخر حياة الملك

الصالح أيوب، (فهرب من كان فيها من الجند والعامة، واستحوذ الفرنج على

الثغر، وقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين) [30] . ثم توفي الملك الصالح في تلك

الأثناء، واستدعي ابنه الملك المعظم توران شاه.

وفي مطلع السنة التالية، سنة ثمانٍ وأربعين وستمائة (في ثالث المحرم، يوم

الأربعاء، كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين

ألفاً، وقيل مائة ألف، وغنموا شيئاً كثيراً ولله الحمد، ثم قتل جماعة من الأمراء

الذين أُسروا، وكان فيمن أُسر ملك الفرنسيين وأخوه) [31] . وقد أفرج عنه فيما

بعد لقاء فدية كبيرة، والانسحاب عن دمياط. وقد كانت هذه الحملة آخر حملة

صليبية على مصر [32] ، بل كانت آخر حملة صليبية ذات بال على المشرق

الإسلامي.

وبعد أن آل الأمر إلى دولة المماليك الفتية التي قضت على الهجوم التتري

الكاسح في عين جالوت سنة 658هـ، اتجه القائد المظفر الظاهر بيبرس

البندقداري (658 - 676هـ) إلى تصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام بحزم

وعزم وصرامة، فتهاوت معاقل النصارى واحدة تلو الأخرى، في موسم حصاد

رابح، وحصل الفتح الكبير لأنطاكية بعد أن ظلت أسيرة بيد الصليبيين أكثر من

مائة وخمسين عاماً.

وتابع السلطان المنصور قلاوون فتوح سلفه بيبرس، ثم ابنه السلطان

الأشرف خليل، حتى سقط المعقل الأخير للصليبيين في بلاد الشام ميناء «عكا»

سنة (690هـ / 1291م) ؛ مؤذناً بنهاية الوجود الصليبي على أرض الإسلام،

بعد مائتي عامٍ تماماً من حملتهم الأولى [33] .

وفي الوقت الذي كانت تدور فيه رحى حرب صليبية في المشرق الإسلامي؛

كانت تجري أحداث مشابهة في الساحة الأندلسية؛ إذ لم تشترك «إسبانيا

النصرانية» في الحملات الصليبية المتجهة إلى بيت المقدس؛ لأنها كانت تخوض

حرباً صليبية حامية الوطيس في عقر دارها، هدفها طرد المسلمين من شبه الجزيرة

الأيبيرية، وإعادتها إلى المنظومة الأوروبية، والكنيسة الكاثوليكية.

فبعد سقوط «طليطلة» الخطير، مستهل ثمانٍ وسبعين وأربعمائة (478هـ /

1085م) ؛ لم يوقف تقدم الإسبان الجارف لالتهام دويلات ملوك الطوائف إلا

جواز أمير المرابطين، يوسف بن تاشفين (463 / 500 هـ) إلى البر الأندلسي،

والتحام المسلمين والنصارى في سهل «الزلاقة» في معركة فاصلة من معارك

التاريخ الكبرى، كان النصر فيها حليف المسلمين، في الثاني عشر من شهر رجب،

سنة تسع وسبعين وأربعمائة (479هـ / 1086م) [34] .

وكان من ثمرات هذه المعركة إلى جانب وقف الزحف النصراني؛ إنهاء عهد

ملوك الطوائف، وتوحيد الأندلس المسلمة تحت راية المرابطين، إلى أن سقطت

دولتهم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، تحت مطارق الموحدين في البر المغربي،

والنصارى في الأندلس.

انبعثت روح الجهاد الإسلامي في بلاد المغرب مع دولة «الموحدين» الفتية،

في الوقت الذي انبعثت فيه هذه الروح على يد «آل زنكي» ، ثم «آل أيوب»

في بلاد المشرق الإسلامي. فقد قام عبد المؤمن بن علي الموحدي بشن غاراتٍ

برية وبحرية على ثغر «المهدية» ، على الساحل التونسي، واستعادها من الفرنج

النورمانيين حكام صقلية، بعد أن بقيت رهينة بأيديهم اثنتي عشرة سنة. وذلك سنة

خمس وخمسين وخمسمائة (555هـ / 1160م) .

وجاءت الوفود الأندلسية تستنصر إمام الموحدين عبد المؤمن بن علي القيسي

في الدين، فجاز البحر في سنة ست وخمسين وخمسمائة (556هـ / 1161م) ،

وضم ممالك الأندلس ومدنها تحت راية الموحدين، وأثخن في النصارى، حتى

توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وقد حشد حملة عسكرية ضخمة كانت مؤهلة

للقضاء على ممالك النصارى الخمس شمال الجزيرة. وخلفه في جهاد النصارى

ابنه أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الذي قضى أربعة عشر عاماً في الفتوح

ومناوشة الأعداء، حتى قضى نحبه في معركة «شنترين» سنة ثمانين وخمسمائة

(580هـ / 1184م) [35] .

وبعد خطاب تحدٍ واستفزاز بعث به ألفونسو الثامن ملك قشتالة، إلى سلطان

الموحدين أبي يوسف يعقوب بن يوسف المنصور؛ كتب سلطان الموحدين أبو

يوسف على ظهره مجيباً: « [ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا

وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ] (النمل: 37) ، الجواب ما ترى، لا ما

تسمع!» التقى جحفلان عظيمان، كأمثال الجبال، حشد فيها كل طرف وسعه،

يوم التاسع من شعبان، سنة إحدى وتسعين وخمسمائة (591هـ / 1195م) ، في

معركة فاصلة عُرفت باسم «الأرَك» ، انتصر فيها الموحدون، تذكِّر بمعركة

«الزلاقة» التي انتصر فيها المرابطون قبل أكثر من مائة عام في سنة

(479هـ) . وسار الموحدون الظافرون يخترقون الأراضي القشتالية، حتى بدت

لهم مشارف «طليطلة» معقل النصارى، فحاصروها ولكنها امتنعت، فأعقب

ذلك هدنة. وهكذا أوقفت موقعة «الأرَك» زحف النصارى البطيء عشرين

سنة لاحقة.

وابتدأ الوهن في جانب الموحدين إثر موقعة «العقاب» التي مُني فيها أبو

عبد الله محمد الناصر، سلطان الموحدين، بهزيمة فادحة، وذلك سنة تسع وستمائة

(609هـ / 1212م) ، أعقبها انتكاسات خطيرة في النصف الأول من القرن

السابع الهجري. فقد سقطت «ماردة» و «بطليوس» سنة ثمان وعشرين،

و «أبدة» سنة إحدى وثلاثين، و «قرطبة» سنة ثلاثٍ وثلاثين، ثم «بلنسية»

و «شاطبة» و «دانية» سنة ستٍ وثلاثين، ثم «مرسية» سنة إحدى

وأربعين، وأخيراً «إشبيلية» سنة ستٍ وأربعين وستمائة.

وهكذا تهاوت حواضر الأندلس الشهيرة، الواحدة تلو الأخرى في ملحمة

مأساوية، وبدت الأندلس المسلمة في النصف الثاني من القرن السابع تسير نحو

مصيرها المحتوم، وخاتمتها البائسة، لولا نفحة ربانية أجراها الله تعالى على أيدي

«المرينيين» ، أنعشت الوجود الإسلامي في جنوب الجزيرة، المتمثل في مملكة

بني الأحمر في «غرناطة» ، والذين لم تفدهم مصانعتهم للنصارى في تجنب

استنزافهم إياهم، واستنقاصهم أراضيهم من أطرافها، فاستنجد بنو الأحمر بأخوَّة

الدين، فهب أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني لنجدتهم، وتمكن من دحر

النصارى سنة أربعٍ وسبعين وستمائة (674هـ / 1275م) ، وقتل قائدهم

«دونونة» ، الذي عاث في أرض المسلمين قتلاً، ونهباً، وفساداً. ثم سار،

فحاصر «إشبيلية» ، و «شريش» سنة خمسٍ وسبعين، وتوغل في أراضي

النصارى سنة سبعٍ وسبعين. كما تمكن الأسطول المريني من الانتصار على

الأسطول القشتالي في معركة بحرية، سنة ثمان وسبعين وستمائة، أسفرت عن

تحرير «الجزيرة الخضراء» ، التي أراد النصارى بالاستيلاء عليها قطع الطريق

على المدد الآتي من المغرب الإسلامي. واضطر «شانجة» ملك قشتالة إلى طلب

الصلح من المسلمين. وهكذا اكتشف النصارى أن من الخير لهم الرضى بوجودٍ

إسلامي محدود في جنوب الأندلس، دون المخاطرة بعمل عسكري أحمق يثير حمية

المسلمين في العَدْوة المقابلة، فيتعرضون لحملة إسلامية لا يستطيعون التنبؤ بآثارها.

وقد أجّلت هذه التحسُّبات والمخاوف دولة بني الأحمر قرنين من الزمان، إلى أن

سقطت آخر الحواضر الإسلامية من بلاد الأندلس مدينة غرناطة، في الثامن من

ربيع الأول، سنة سبعٍ وتسعين وثمانيمائة (897هـ / 1492م) . ولله الأمر من

قبل ومن بعد [36] .

لقد كانت حرب الاستعادة الإسبانية Recconquest Spanish كما يسميها

المؤرخون النصارى، حرباً صليبية صرفة، تقف خلفها حركة الإصلاح الكلوني

التي ولدت في «دير كلوني» ، في مطلع القرن العاشر الميلادي (910م) ،

وأشعلت فكرة الحرب المقدسة ضد المسلمين الغزاة الذين استولوا على الممالك

النصرانية. فقد أكد البابا جريجوري السابع أن إسبانيا جزءٌ من أرض القديس

بطرس، وأن الجزيرة الأيبيرية جزء لا يتجزأ من الجسد المسيحي. كما حرَّم البابا

«باسكال الثاني» (1099 - 1118م) ، وكان راهباً كلونياً، على الفرسان

الإسبان المشاركة في الحروب الصليبية في الشرق [37] ، وذلك لأولوية المشاركة

في الحرب الصليبية في الغرب على أرض الأندلس.

وللحديث بقية إن شاء الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015