متابعات
فهد بن محمد بن عبد الرحمن القرشي [*]
لقد قرأت رسالة [2] فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي،
الموجهة إلى أهل اليمن، والتي نشرت في مجلتكم الغرَّاء في عددها (181) في
شهر رمضان المبارك لعام 1423هـ، وهذه الرسالة بحث يُكتب بماء الذهب؛ لا
لأن كاتبها فضيلة الشيخ الدكتور سفر الحوالي، ولكن لما حوت وحملت بين طياتها
من ملامح ذلك المنهج البديع لأهل السنة والجماعة ومعالمه في تعاملهم مع أهل
القبلة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى: أنها جاءت في وقت عصيب أحوج ما
نكون فيه لمراجعة مناهجنا الدعوية، وتعاملنا مع أهل قبلتنا؛ لأن الأمة الإسلامية،
أفراداً وجماعات، شعوباً وحكومات، تمر بمرحلة مخاض، بل بمعركة وجود أو لا
وجود، فهي حرب مصيرية بالنسبة للأمة الإسلامية؛ مما يستدعي منا النظر
الفاحص الصادق في حالنا، وفي دعوتنا، وفي قربنا أو بعدنا عن منهج أهل السنة
والجماعة بعامة، وفي التعامل مع أهل القبلة بخاصة.
1 - إن جهل ثلة من شباب الصحوة الإسلامية المباركة بذلك المنهج القويم
سبَّبَ له ضيقاً في أُفُقه، وَعطَناً في فكره، فضلاً عن تلك الأزمة التي يعيشها بعضٌ
منَّا في قَصْر حديثهم على النخبة فقط [3] ؛ متغافلين عن سلبية هذا الأمر الذي
يجعلنا نفرِّط في شريحة كبيرة من المسلمين؛ غير مبالين بما لديهم من طاقات
وإمكانات قد تفوق في بعض الأحيان ما عند النخبة، وما خبر أبي محجن عنا ببعيد.
وثمة أمر آخر مهم: هو توجيه الدعوة لتعم جميع شرائح المجتمع؛ لأن
مقصدنا هو تعبيد الناس لربِّ الناس.
والفهم الصحيح لمنهج أهل السنة والجماعة في تعاملهم مع أهل القبلة يجعلنا
نستفيد من كل الطاقات والإمكانات، كما يجعلنا نسير في خطوط متوازية يكمل
بعضنا بعضاً، ويعين بعضنا بعضاً، ويجبر بعضنا كسر بعض، رحماء بيننا، لا
أن نسير في خطوط متقاطعة يهدم بعضنا بناء بعض، ويأكل بعضنا لحوم بعض،
ويفرح بعضنا بخطأ بعض، ويسفِّه بعضنا رأي بعض، كما هو الحال!
2 - قال الشيخ - حفظه الله -: «إن سبيل السنة والاتباع، كما هو أهدى
سبيل وأقومها هو كذلك أوسعها وأرحمها، وقد وسع السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار ومسلمي الأعراب ... » إلخ.
فمن الواجب علينا جميعاً أن يسعنا هذا المنهج الذي وسع سلفنا الأخيار من
المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب، على ما بينهم من تفاوت في الإيمان،
والعمل، والعلم، وغير ذلك من منازل السائرين إلى رب العالمين، فأحسن
محسنُهم إلى مسيئهم، وصبر حليمهُم على جاهلهم، وصحح مصيبهُم لمخطئهم،
وهم مع كل ذلك بل أشد منه كما حصل بينهم رضي الله تعالى عنهم جميعاً من قتال
إخوة متحابون متآلفون، فلا بد إذن أن يسعنا ما وسعهم.
والناظر إلى شباب الصحوة المباركة اليوم يرى بعضهم يعيش في عزلة عن
ذلك المنهج، وسبب ذلك فهمه غير الصحيح لبعض معاني الشريعة الإسلامية،
وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يكون بسبب طبيعته التي جُبل
عليها من الشدة والغلظة في غير محلها، أو يكون بسبب الغلو، سواء كان في
التدين أو في الإنكار، حتى إنك ترى غضب بعضهم إذا رأى رجلاً مدخناً أو مرتكباً
لمعصية ما كغضبه لمن وقع في ناقض من نواقض الإسلام سواء بسواء!!
وقد يرجع ذلك إلى ضيق الأفق عند بعضهم، وهو ما يجعله ينفر من مجالسة
كل من يخالفه، ولو كان خلافه معه في حركة الأصبع في التشهد، أو النزول في
السجود: هل هو على الركبتين أو اليدين [4] ؟ ونحو ذلك من المسائل التي لا
ينتهي فيها الخلاف إلا إذا أطبق الجهل، وأناخ بكلكله، وضرب بجرانه في عقول
المسلمين، فأين مثل هؤلاء من سير سلفنا الصالح الذين وقع بينهم الخلاف في
مسائل تتعلق بأركان الإسلام، كاختلافهم في الوضوء من لحم الإبل مثلاً؛ فمن
أوجبه أبطل صلاة من لم يتوضأ منه، أو كان ذلك الخلاف متعلقاً بالأعراض؛
كاختلافهم في معنى (القرء) المذكور في قوله تعالى: [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء] (البقرة: 228) ، وهم مع ذلك متحابون، يحب بعضهم
بعضاً، ويجل بعضهم بعضاً؟!
3 - قال الشيخ - سلَّمه الله -: «وهم لا يهدرون الأحكام الثابتة والأصول
الكلية لأجل الأحكام العارضة والوقائع العينية» .
وهذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير كما تقول العرب؛ إذ إنك ترى ثلة
من شباب الصحوة المباركة بدلاً من أن يجعل الأصول والمحكمات المتفق عليها
التي عبر عنها شيخ الإسلام بـ (الدين المشترك بين الأنبياء) [5] أصلاً تقوم الأمة
عليه في ولائها وبرائها، وفي حبها وبغضها؛ جعل بدلاً من ذلك تلك المسائل
الجزئية، أو قل المسائل التي يسعنا فيها ما وسع سلفنا من قبل، فأصبحت هي
الميزان في قرب الأشخاص منه أو بعدهم عنه، ولذا فمن الطبيعي بعد ذلك أن
يحدث إهدار أحكام ثابتة وأصول كلية لأجل تلك العوارض، فبمجرد ما تختلف مع
أحد منهم في مسألة ما إلا ضرب بحرمة دمك ومالك وعرضك عرض الحائط! وقد
يجعل حكماً عارضاً يتغير بتغير الزمان والأشخاص أصلاً مستقراً لا يقبل التغيير
والتبديل أبد الآبدين، ويستخدمه مع كل أحد.
4 - قال الشيخ - وفقه الله -: «وهم أقوياء في الحق من غير غلو،
رحماء بالخلق من غير تهاون» .
والذي نراه من بعض أولئك وفقنا الله تعالى وإياهم لأحسن الأخلاق والأعمال
والأقوال القوة في الحق، وهذا مما يُحمد عليه، ولكنه في المقابل يتمتع بغلظة
وجفاء وقوة مع الخلق، سواء كان ذلك في دعوته أو أمره ونهيه؛ مما قد يكون سبباً
وليس مسوِّغاً في رفض بعض الخلق للحق، فما أن يقع أحدهم في جرم أو خطيئة
إلا شتمه بأقذع العبارات، وعنَّفه أيما تعنيف، فضلاً عن هجره لمدة غير معلومة!!
[6] مستبعداً وجود إيمان في قلب ذلك الرجل صاحب الخطيئة أو المعصية؛ لأن
عقله لا يحتمل وجود شخصٍ ما يقع في كبيرة من كبائر الذنوب كشرب الخمر مثلاً،
وهو ممن يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يشهد له النبي
صلى الله عليه وسلم بذلك لما صدق! بل ما هو أشد من ذلك كما ذكر صحاب
الرسالة فضيلة الشيخ أنه قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الحرص الشديد
على السنة؛ مع الوقوع الصريح في البدعة، وما الخوارج عنا ببعيد.
5 - قال الشيخ - حفظه الله -: «وهم يوفون الكيل والميزان بالقسط، ولا
يبخسون الناس أشياءهم» .
وهذه دونها خرط القتاد إلا على من وفقه الله تعالى ويسره لذلك؛ لأن إيفاء
الكيل والميزان بالقسط، وعدم بخس الناس حقوقهم، وخاصة إذا كانوا من
المخالفين لك فيما يسوغ فيه الخلاف؛ لا يستطيع ذلك إلا أفذاذ الرجال، وهم قلائل،
ومما زاد الطين بلة؛ أن معيار العدل والإنصاف، وعدم بخس الناس أشياءهم
عند الكثير إلا من رحم ربي قائم على التجاذب الشخصي، والمحبة لذلك الشخص،
أو مدى طاعته له، فمثل هذا من المقربين ولو كان من المفرِّطين، وهو طالب
العلم ولو كانت بضاعته فيه مزجاة، وهو من الشجعان القلائل وإن كان يخاف من
ظله، وهو من العباقرة الأذكياء وإن كان من البلداء، أما الطرف الآخر؛ فهو
مهضوم الحق وإن كان من المبرزين المشهود لهم بالعلم والعقل والفضل، وأخطاؤه
طوام، وزلاته لا تغفر وإن كانت ما دون الشرك، وآراؤه شاذة وإن كانت صواباً،
وعلمه ممزوج وإن كان حافظاً، وغير ذلك مما يطول الحديث فيه. وصدق الشاعر
عندما قال:
... وعين الرضا عن كل عيب كليلة ...
... ... ... ... ... ولكن عين السخط تُبدي المساويا ...
أما بالنسبة لاختيار أيسر الأمرين، وارتكاب أخف الضررين؛ فهذا ما لا
يعرفه بعضهم؛ بحجة أنه يجب حمل الأمة على الأفضل، ولا تعارض بين
الأمرين، ولكنه افترض التعارض، فهذا سيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وسلم
الذي لا يشك أحد في بلوغه أعلى المراتب والدرجات ما خُير بين أمرين إلا اختار
أيسرهما ما لم يكن إثماً [7] ، وهذا ما تعلمه أصحابه رضي الله تعالى عنهم منه
صلى الله عليه وسلم، رجالاً ونساءً، فقد روى البخاري في صحيحه عن الأزرق
بن قيس قال: «كنا بالأهواز [8] نُقاتل الحرورية [9] فبينا أنا على جُرُف نهر [10]
إذا رجل يُصلي [11] ، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تُنازعه، وجعل يتبعها
قال شعبة: هو أبو بَرزة الأسلمي فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا
الشيخ. فلما انصرف الشيخ قال: إني سمعتُ قولكم، وإني غزوت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات وثمانياً، وشهدت تيسيرَهُ، وإني
إن كنت أن أُراجع مع دابتي أحب إليَّ من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق عليَّ»
[12] .
وهذه ابنة زيد بن ثابت رضي الله عنها وعن أبيها كانت تعيب على بعض
النساء ما يفعلنه من أنهن كن يَدْعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر،
وكانت تقول: «ما كن النساء يصنعن هذا» [13] . والأمثلة في هذا الباب كثيرة
جداً.
6 - قال الشيخ - حفظه الله -: «ومن حكمتهم في الدعوة: أن يظهروا
محاسن الأئمة المتبوعين» .
وهذا أدبٌ جم وخُلُق رفيع، وهو مما يساعد على وحدة الكلمة والصف، وما
وقع فيه أولئك الأئمة من خطأ يُبين ويُكشف بالأسلوب الحسن بعيداً عن الأشخاص
وتجريحهم، مع المحافظة على فضل الأكابر؛ لأن المقصود رد القول الخطأ دون
النيل من قائله، أما عندما تنعكف الصحوة المباركة على نفسها، وتبدأ القدح في
رموزها وعلمائها؛ فهذا بداية سقوطها وانهيارها، وإن تعجب فعجب من ذلك التغير
الذي يصيب بعض الناس فينتقل من طرف المحبة بل والغلو في بعض الأحيان إلى
الطرف الآخر وهو البغض، والأدهى من ذلك والأمرُّ أن تأتيك هذه الانتقادات
الجارحة، والتي يضع قائلها نفسه في موضع أئمة الجرح والتعديل، تأتيك ممن
ليس تخصصه تخصصاً شرعياً، بل من أناس ليسوا من أهل العلم ولا هم من
طلابه، ومع ذلك يُقدم على مثل ذلك ولكأنه إلا شيخ الإسلام.
7 - قال الشيخ: «هم أكثر الناس ازدراءً للنفس في ذات الله، وأبعدهم عن
ادعاء الكمال» .
أقول: إن السلف رضي الله عنهم جمعوا بين أمرين:
الأول: الخوف من مكر الله تعالى مع كثرة أعمالهم.
الثاني: خوفهم من عدم قبول أعمالهم؛ لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين.
ومن جاء بعدهم من الخلف (أي بعد القرون المفضلة) إلا من رحمه الله
جمعوا بين أمرين؛ هما:
الأول: الأمن من مكر الله تعالى مع قله العمل.
والآخر: ظنهم بأن أعمالهم جميعها متقبلة منهم!
وهذان مرضان خطيران يُفسدان على الشخص دينه ودنياه؛ أما بالنسبة لإفساد
دينه فظاهر، وأما بالنسبة لإفساد ذلك دنياه؛ فلما يدخل عليه بسببه من العجب،
والغرور، والتعالي على الخلق، وظنه أنه هو الذي على الصواب والحق، وغيره
ليس على شيء، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي يمقته عليها الخالق سبحانه
وتعالى قبل المخلوق.
وأخيراً أقول: هذا ما أسعفني به قلمي؛ فإن أصبت فمن الله وحده لا شريك
له، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأنا راجع إن شاء الله تعالى عن أي خطأ
وقعت فيه، فالمعصوم من عصمه الله تعالى، فمن كانت له ملاحظة أو تصحيح
فليُهدها إليَّ، وله مني دعوة صالحة بظهر الغيب.
ولا تزال هذه الرسالة القيمة تحتاج إلى شرح مفصل مع ذكر بعض الأمثلة؛
إذ بالمثال يتضح المقال، وخير قلم لذلك قلم كاتبها.