دراسات في الشريعة
من فقه الجهاد
الأمين الحاج محمد أحمد [*]
الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيل الله رهبانية الإسلام، وذروة سنامه،
فأعزَّ به المؤمنين وأكرمهم، وأذلَّ به الشرك والمشركين وأهانهم.
فالجهاد في سبيل الله بنوعيه: جهاد الطلب، والدفاع ماض إلى يوم القيامة،
وما ترك المسلمون جهاد الكفار والمنافقين وركنوا إلى الدنيا إلا ذلوا وهانوا على
أعدائهم: «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة [1] ، واتبعوا أذناب
البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى
يراجعوا دينهم» [2] .
فجُلُّ المسلمين اليوم مفرطون إلا من يباشر الجهاد بنفسه أو ماله وينوي الغزو
منهم لتركهم فريضة الجهاد وركونهم إلى الدنيا فاستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو
خير، فسلَّط الله عليهم أعداءهم فساموهم سوء العذاب، فقتلوا أبناءهم ونساءهم،
واستباحوا حرماتهم، واغتصبوا أراضيهم وممتلكاتهم، وتركوهم في حال لا
يحسدون عليها أبداً:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
لم يكتف المسلمون اليوم بترك جهاد الطلب الذي هو أسُّ الجهاد، بله تقاعسوا
وتخاذلوا عن نصرة إخوانهم المضطهدين في دينهم، المحارَبين في أوطانهم
وديارهم، المسلوبة حقوقهم، المهانة كرامتهم، المستذلة حرماتهم، كما هو الحال
في فلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والهند، وغيرها من بلاد المسلمين، بل
لم يكتفوا بالخذلان والوقوف متفرجين على إخوانهم المغلوبين، وإنما حارب بعضهم
جنباً إلى جنب مع الكفار، وتجسسوا على إخوانهم، كما حدث في أفغانستان،
وقدموا تسهيلاتهم لقوات العدو ليقضوا على دولة الطالبان.
أرجو أن تقارن أخي المسلم بين حالنا وحال سلفنا في هذا المضمار، لترى
البون الشاسع والفرق الواسع بين حال الناس اليوم وحالهم بالأمس، وبين جيوش
اليوم ومجاهدي الأمس.
عندما وصل القائد المسلم عقبة بن نافع - رحمه الله - المحيط الأطلسي، بعد
أن فتح كل شمال إفريقيا، قال: «يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد
مجاهداً في سبيلك» ، ثم قال: «اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا
البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يُعبد أحد من دونك» ، ثم وقف
ساعةً وقال لأصحابه: ارفعوا أيديكم؛ ففعلوا، فقال: «اللهم! إني لم أخرج بطراً
ولا أشراً، وإنك لتعلم إنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن
تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم! إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين
الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا، يا ذا الجلال والإكرام!» ، ثم انصرف راجعاً
[3] .
وعندما نادت المرأة المسلمة المعتصم بدار السلام «بغداد» وهي بعمورية
«أنقرة» وقالت: «وامعتصماه» ، قال لها: لبيك يا أَمَةَ الله. ولبس لأْمته [4] ،
وعبَّأ جيوشه، وذهب لخلاصها من الأسر، وضمَّ تلك الرقعة إلى الدولة الإسلامية.
وما فعله المعتصم العباسي فعله الخليفة الأموي الحكم بن هشام بالأندلس،
عندما استغاثت به امرأة كذلك في ناحية وادي الحجارة بالأندلس قائلة: «واغوثاه
يا حكم! قد ضيعتنا وأسلمتنا واشتغلت عنا، حتى استأسد العدو علينا» . فلما وفد
عباس إلى الحكم وهو أحد عماله رفع إليه شعراً يستصرخه فيه، ويذكر قول المرأة
واستصراخها به، وأنهى إليه عباس ما عليه الثغر من الوهن والْتياث الحال، فرثى
الحكم للمسلمين، وحَمِيَ لنصر الدين، وأمر بالاستعداد للجهاد، وخرج غازياً
لأرض الشرك، فأوغل في بلادهم، وافتتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل كثيراً،
وأسر كذلك، وقفل على الناحية التي كانت فيها المرأة، وقال لأهل تلك الناحية
وللمرأة: هل أغاثكم الحكم؟ قالوا: شفى واللهِ الصدورَ، ونكى في العدو، وما
غفل عنا؛ إذ بلغه أمرنا، فأغاثه الله وأعزَّ نصره [5] .
فمَنْ للمستغيثات والمستغيثين في فلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والهند؟
فليستغيثوا بمن شاؤوا من المسلمين، ولكن ليس لهم مغيث إلا الله، ولله درُّ القائل:
ربَّ وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الضحايا اليُتَّم
لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم
وبعدُ؛ فهذا تحذير ووعيد، ونهي شديد، وتغليظ أكيد، من الفرار من
الزحف، وتولي الأدبار، وخذلان الأخيار، عن حكم ذلك ووزره، وما ورد فيه
من أدلة، إلا في بعض الحالات التي أذن الشرع بالتولي فيها.
واللهَ أسأل أن يوفق المجاهدين في سبيله، وأن يجعل جهادهم خالصاً لوجهه
الكريم، ولنصرة هذا الدين، وأن يسدد سهامهم وآراءهم، ويخذل أعداءهم ومن
والاهم.
* حكم الفرار من الزحف وتولي الأدبار:
الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر العظام، لما فيه من الخذلان البين
والخطر العظيم على الإسلام والمسلمين، ولهذا ورد فيه من التغليظ والتهديد ما ورد،
وقد أجمعت الأمة على تحريمه إلا بشروط معينة وأسباب واضحة.
* الأدلة على تحريمه:
من القرآن الكريم:
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ
الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ
مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (الأنفال: 15-16) .
وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال:
65-66) .
وقال: [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّه] (البقرة:
249-251) .
من السنة المطهرة:
الأدلة على تحريم الفرار والتولي من الزحف من السنة، ما يأتي:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«اجتنبوا السبع الموبقات [6] ! قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله،
والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» [7] .
- سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، قال: «الإشراك بالله،
وقتل النفس المسلمة، وفرار يوم الزحف» [8] .
- وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده رضي الله
عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: «وإن أكبر الكبائر عند الله يوم
القيامة الإشراك بالله ... والفرار في سبيل الله يوم الزحف» [9] .
- روى عبد الله بن المبارك بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«الجريء كل الجريء الذي إذا حضر العدو ولى فراراً، والجبان كل الجبان الذي
إذا حضر العدو حمل فيهم حتى يكون منه ما يشاء الله. فقيل: يا أبا هريرة!
كيف هذا؟ قال: إن الذي يفر اجترأ على الله عز وجل، وإن الجبان فَِرقَ [10]
من الله عز وجل» .
* فالتولي يوم الزحف لا يجوز إلا في بعض الحالات منها:
1 - أن يكون متحرِّفاً لقتال، والتحرف: الزوال والتحرك عن مواجهة العدو.
2 - أو متحيزاً إلى فئة، أي منضماً إلى جماعة المسلمين، قريبة كانت هذه
الجماعة أم بعيدة.
* الوعيد الوارد في الفرار من الزحف: هل هو خاص بيوم بدر أم عام؟
قولان لأهل العلم، الراجح منهما أنه عامٌّ إلى يوم القيامة، وهذا مذهب
الجمهور، مالك، والشافعي، وأكثر العلماء؛ لأن الآية: [إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا]
(الأنفال: 45) نزلت بعد بدر.
وذهب بعض أهل العلم منهم أبو سعيد الخدري، ونافع، والحسن، وقتادة،
وهو مذهب أبي حنيفة، أن هذا الوعيد خاص ببدر.
* من أقوال العلماء في ذلك:
قال أبو زكريا النحاس رحمه الله: «اعلم أن الفرار من الزحف حيث لا
يجوز من أعظم كبائر الذنوب عند الله تعالى بإجماع العلماء، وفاعله مستحق
لغضب الله ومقته، وأليم عذابه، وقد ورد في الترهيب من ذلك والتحذير من فعله
جملة أحاديث» [11] .
قال ابن قدامة رحمه الله: «وجملته أنه إذا التقى المسلمون والكفار، وجب
الثبات، وحرم الفرار بدليل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ] (الأنفال: 15) ، وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا
كان يوم بدر خاصة، ولا يجب في غيرها، والأمر مطلق، وخبر النبي صلى الله
عليه وسلم عام؛ فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل، وإنما يجب الثبات
بشرطين: أحدهما: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا
عليه جاز الفرار، لقوله تعالى: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن
يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] (الأنفال: 66) ، وهذا إن كان لفظه لفظ
الخبر فهو أمر بدليل قوله: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] ولو كان خبراً على حقيقته لم
يكن ردُّنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفاً، ولأن خبر الله تعالى
صدق لا يقع بخلاف مخبره، وقد عُلم أن الظفر والغلبة لا تحصل للمسلمين في كل
موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون، فعلم أنه أمر وفرض، ولم يأت
شيء ينسخ هذه الآية، لا في كتاب ولا سنة، فوجب الحكم بها.
قال ابن عباس: نزلت [إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]
(الأنفال: 65) ، فشقَّ ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من
عشرة، ثم جاء تخفيف فقال: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] إلى قوله: [يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]
فلما خفف الله عنهم في العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد، رواه
أبو داود [12] . وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما
فر.
الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة، ولا ليتحرف لقتال: فإن قصد
أحد هذين، فهو مباح له لقول الله تعالى: [إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة]
(الأنفال: 16) . ومعنى التحرف لقتال، أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه
أمكن، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو من نزلة
إلى علو، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفر من أيديهم لتنتقض صفوفهم أو
تنفرد خيلهم من رجالاتهم. أو ليجد فيهم فرصته، أو ليستند إلى جبل، ونحو ذلك
مما جرت به عادة أهل الحرب.
* لا فرق في هذا بين أن يكون الجهاد فرض عين أم فرض كفاية:
الفرار من الزحف من أكبر الكبائر، وأعظم العظائم، وهو من المهلكات
الموبقات، سواء كان الجهاد فرض عين أو فرض كفاية، طالما أن المرء شهد
القتال، ووقف في الصف.
قال النحاس - رحمه الله -:» اعلم أن الجهاد إذا كان فرض كفاية على
الإنسان ثم حضر الصف صار عليه فرض عين، وحرم عليه الفرار، وإنما يحرم
الفرار إذا لم يزد عدد الكفار على المثلين، فإن فر متحرفاً لقتال كمن ينصرف
ليكمن في موضع ويهجم أو يكون في مضيق فينصرف ليتبعه العدو إلى متسع يسهل
القتال فيه ... وكذلك إذا فر متحيزاً إلى فئة يستنجد بها جاز، وسواء كانت تلك
الفئة قليلة أو كثيرة قريبة أو بعيدة على الصحيح. ومن عجز بمرض أو نحوه، أو
لم يبق معه سلاح فله الانهزام إن لم يمكنه الرمي بالحجارة، فإن أمكنه الرمي
بالحجارة حرم عليه الانهزام على الأصح، ويسن لمن وقع له شيء من الأعذار
وأراد أن يولي، أن يولي متحرفاً أو متحيزاً، ولو مات فرسه وهو لا يقدر على
القتال راجلاً فله الانهزام، ولو غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل لم يجز له الانهزام
على الصحيح، وإن زاد عدد الكفار على المثلين جاز الانهزام، وإن كانوا رجالة
والمسلمون فرساناً، فلو كان المسلمون رجالة والكفار فرساناً حرمت الهزيمة « [13] .
* حكم الفرار إذا كان عدد المسلمين أكثر من اثني عشر ألفاً:
ذهب أهل العلم في حِل الفرار إذا كان عدد المسلمين اثني عشر ألفاً أو أكثر
مذهبين:
1 - يجوز الفرار إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعفي عدد المسلمين، للأدلة
السابقة.
2 - لا يجوز الفرار لما روي عنه صلى الله عليه وسلم:» ولن يغلب اثنا
عشر ألفاً من قلة «، وهذا مذهب العمري [14] الزاهد، وروي عن مالك - رحمهما
الله -، والحديث فيه متروك لا يحتج به، فالصواب القول الأول.
قال القرطبي - رحمه الله -:» قال ابن القاسم - رحمه الله -: ويجوز
الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً، فإن
بلغ اثني عشر ألفاً لم يحل لهم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على الضعف لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة» فإن أكثر
أهل العلم خصّصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. قلت: رواه أبو بشر
وأبو سلمة العاملي، وهو الحكم بن عبد الله بن خُطَّاف، وهو متروك، قال: حدثنا
الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أكثم بن
الجَوْن اغزُ مع غير قومك يحسن خلقك، وتكرم على رفقائك، يا أكثم بن الجَوْن!
خير الرفقاء أربعة، وخير الطلائع أربعون، وخير السرايا أربعمائة، وخير
الجيوش أربعة آلاف، ولن يُؤتى اثنا عشر من قلة» [15] . وروي عن مالك ما
يدل على ذلك من مذهبه، وهو قول للعمري العابد إذ سأله: هل لك سعة في ترك
مجاهدة من غيَّر الأحكام وبدَّلها؟ فقال: إن كان معك اثنا عشر ألفاً فلا سعة لك في
ذلك « [16] .
* الخلاصة:
إن الفرار من الزحف والتولي منه من عظائم الأمور الجالبة للشرور في
الدارين، وأن الإقدام في حرب العدو والثبات في الصف لن يقدم الأجل، وأن
الفرار من ذلك لا يؤخره. ورضي الله عن خالد بن الوليد ذلك البطل المغوار
والمجاهد الشجاع، حيث قال عندما حضرته الوفاة:» لقد خضت عشرين زحفاً،
وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، وها أنا أموت
على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء «أو كما قال.
وقد رُخّص للمسلمين إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعفي عدد المسلمين، في
التحيز إلى فئة، قريبة كانت أم بعيدة، أو التحرف لقتال، ولكن الأفضل والأحسن
الأخذ بالعزيمة والثبات مهما بلغ عدد الكفار وعتادهم؛ لأن النصر من عند الله
سبحانه وتعالى لمن كان في ثباته نكاية بالكفار، أو احتمال فتح للمسلمين، وإن لم
يكن إلا أن ينال الشهادة مقبلاً غير مدبر، لكفاه فخراً، وإعزازاً، ورفعة؛ والله
أعلم.
اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر
على الأعداء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على سيد
ولد آدم أجمعين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين.