دراسات في الشريعة
(2 ـ 2)
محمد بن عبد الله الدويش [*]
* قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد:
من العرض السابق يلاحظ كثرة المفاسد والمصالح في المشاركة في وسائل
الإعلام، وكثرتها أيضاً في الامتناع عن المشاركة، وهذا يستوجب توخي الحذر في
الحكم بجواز المشاركة أو الحكم بمنعها؛ فالورع مُسْتَصْحَب في الحالين، وليس كما
شاع عند كثيرين أنه إنما يكون في الترك لا في الفعل.
ومما ينبغي التنبه له أن التعارض بين المصالح نفسها وبين المفاسد نفسها، أو
بين المصالح والمفاسد إنما يتصور إذا كان بين مصلحتين لا يمكن الجمع بينهما؛
فتُفوَّت الصغرى لتحصيل الكبرى، أو بين مفسدتين لا يمكن تلافي كل منهما؛
فترتكب الصغرى لتفويت الكبرى، أو بين مصلحة ومفسدة لا يمكن التفريق بينهما؛
بل فعل المصلحة مستلزم لوقوع المفسدة، وترك المفسدة مستلزم لترك المصلحة،
فيرجح الأرجح من المفسدة أو المصلحة. أما عند عدم التعارض في شيء من ذلك
فلا ترجيح أصلاً.
ويتوجب النظر في هذه التعارضات بمعيار مهم في الموازنة بين المصالح
والمفاسد لا يمكن أن تُجرى الموازنة إلا بإعماله؛ وذلك من خلال زوايا أربع:
1 - تقويم ذات المصلحة أو المفسدة، وبيان ترتيبها في مقاصد الشريعة في
حفظ الدين والنفس والعقل والعرض أو النسل والمال. هذا في الموازنة بين
المقاصد، فيقدم المقدم، ويؤخر المؤخر على هذا الترتيب.
فإذا تزاحم الوقت على إنسان فإما أن ينقذ مسلماً من الهلاك المحقق، أو ينقذ
امرأة من الاغتصاب، وكِلا الأمرين في مقدوره: وجب عليه أن ينقذ النفس،
وهكذا.
وإذا تعارض كشف العورة للطبيب مع الخوف على فوات النفس أو ما دونها
من الأعضاء: ارتكبت مفسدة كشف العورة لمصلحة حفظ النفس أو العضو، وذلك
لكون كشف العورة من حفظ العرض، وعلاج المرض المذهب للنفس من مقصد
حفظ النفس وهو مقدم على حفظ العرض.
وفي وسائل الإعلام مثلاً مفسدة الاختلاط العارض مع النساء في الممرات، أو
عند تسجيل الحلقة مفسدة في حق شخص واحد وهو الشيخ المقدم؛ ولكن يستفيد منه
خلق لا يُحصَوْن في قيام الحجة وتبليغ الدين؛ فتبليغ العلم لأعداد كبيرة في
الضروريات، أو الاستفادة العامة والوعظ والتذكير، ولكن مفسدة الاختلاط على
شخص واحد في مقصد متأخر عن حفظ الدين وهو حفظ العرض، وليس في ذات
العرض، أو الفاحشة ولكنه في ذرائعها.
2 - ثم يلحقه نظر آخر في تقديم كل مقصد؛ ففي كل واحد منهما ما هو
ضروري أو حاجي أو تكميلي، وهي على هذا الترتيب أيضاً في المقصد الواحد
وبين المقاصد أيضاً: فيقدم الضروري لحفظ المال على الحاجي لحفظ الدين، ويقدم
الحاجي لحفظ العقل على التحسيني لحفظ الدين.
وذلك كشرب قليل المسكر الذي لا يسكر مثله لحفظ مال كثير يوشك على
التلف؛ فحفظ المال هنا واقع في الضروريات، وترك شرب ما لا يسكر واقع في
الحاجيات التي شرع الله أحكامها حفظاً للضروريات وهي باب سد الذرائع.
وإذا تعارض تبليغ الدين الضروري الذي لا يقوم دين المرء إلا بمعرفته ولا
سبيل إلى ذلك إلا بالنظر إلى النساء مثلاً وجب تبليغ الدين وارتكاب مفسدة النظر؛
لكون معرفة مثل هذه الأحكام الضرورية واقعة في مقصد ضروري من الدين،
وتلك في حاجي لحفظ العرض.
3 - درجة الشمول؛ فقد يتحرر للمجتهد والمستدل نظر آخر في درجة شمول
وأثر المصالح والمفاسد المتعارضة قد يقدم به حاجياً ذا مقصد مؤخر على ضروري
ذي مقصد مقدم؛ كفوات مقصد ضروري لحفظ نفس مسلم واحد على فوات مقصد
حاجي لحفظ مال أمة؛ كشخص قد يتعرض للقتل يعارضه ضياع مصدر اقتصادي
رئيس للملايين من الناس.
4 - مراعاة درجات القطعية أو غلبة الظن أو الشك من عدم ذلك في التعامل
مع هذه المتعارضات.
فإذا كانت المفسدة متيقنة أو يغلب على الظن وقوعها والمصلحة مشكوك في
تحصيلها: لم يجز أن ترتكب المفسدة لأجل هذه المصلحة.
والعكس صحيح أيضاً؛ فإذا كانت المفسدة مشكوكاً في وقوعها، والمصلحة
متيقنة لم يجز ترك المصلحة لأجل المفسدة: كمن تعارضت في نظره مصلحة
المشاركة في عمود صحفي في مطبوعة سيارة، أو في الإجابة على أسئلة القراء
ومفسدة تزكية المطبوعة، وكانت المصلحة مقطوعاً بها أو مظنونة، والمفسدة
مشكوكاً فيها فيعمل هنا بمقتضى المصلحة. ولو كان الشك في المصلحة والقطع في
المفسدة لم تجز المشاركة وهكذا.
ومن مجالات النظر والترجيح في هذه المسائل:
* رعاية قواعد الشريعة:
ومن ذلك:
1 - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فتبليغ الدين، وتعليم العلم الشرعي
الواجب، وإنكار المنكرات أمر يجب على طلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل،
وحين يتوقف تحقيق ذلك على وسيلة معينة تصبح هذه الوسيلة واجبة.
2 - ما حرم سداً للذريعة يباح للمصلحة الراجحة.
3 - لا عبرة بالتوهم، فالمصلحة المتوهمة فاسدة.
4 - أن «جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأن
جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على
أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك
الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات» [1] .
5 - حقيقة الورع المشروع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. وكذلك» الورع «المشروع هو الورع
عما قد تخاف عاقبته وهو ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه
مفسدة أعظم من فعله - مثل محرم معين - مثل من يترك أخذ الشبهة ورعاً مع
حاجته إليها، ويأخذ بدل ذلك محرما بيِّناً تحريمه، أو يترك واجباً تركه أعظم فساداً
من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له
وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة. وكذلك من
» الورع «الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه وتمام» الورع «
أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على
تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في
الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل
محرمات، ويرى ذلك من الورع؛ كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك
ورعاً، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك
من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من
بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع،
وكذلك» الزهد والرغبة «: من لم يراع ما يحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد
وما يكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج
إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله، أو تضعف قوته عما يجب عليه من
حقوق الله تعالى، أو حقوق عباده أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والجهاد في سبيل الله لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم حتى
يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار، فلا ينظر المصلحة الراجحة في
ذلك. وهؤلاء الذين زهدوا في» الإرادات «حتى فيما يحبه الله ورسوله من
الإرادات بإزائهم» طائفتان «: طائفة رغبت فيما كره الله ورسوله والرغبة فيه
من الكفر والفسوق والعصيان، وطائفة رغبت فيما أمر الله ورسوله لكن لهوى
أنفسهم لا لعبادة الله تعالى..» [2] .
وقال أيضاً: «.. والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها،
وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان،
ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان: [وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا
عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] (الأحقاف: 19) . وأكثر المتكلمين
يردون باطلاً بباطل وبدعة ببدعة؛ لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل
الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد
البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة؛ وقد ذكرنا
فيما تقدم أصناف البدع. ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج»
[3] .
* كلام بعض أهل العلم في أمثال هذه المسألة:
مخاطبة أهل البدع بلغتهم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «فإن كان الكلام في المعاني
المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء
الله وصفاته بالشرائع.. فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً،
وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم؛ فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم
أوْلى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع
شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار
يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب» [4] .
ترك مخالفة الكفار في الهدي الظاهر لمصلحة:
وقال أيضاً: «ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير
حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر؛
بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان
في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم،
لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد
الصالحة» [5] .
وقال أيضاً: «وقال أبو الحسن الآمدي: فأما ما يبيعون في الأسواق في
أعيادهم فلا بأس بحضوره؛ نص عليه أحمد في رواية مهنا، وقال: إنما يمنعون
أن يدخلوا عليهم بِيَعَهم وكنائسهم، وأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا، وإن
قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم؛ فهذا الكلام محتمل لأن يكون أجاز شهود
السوق مطلقاً بائعاً أو مشترياً؛ لأنه قال: إذا لم يدخلوا عليهم كنائسهم وإنما يشهدون
السوق فلا بأس؛ هذا يعم البائع والمشتري لا سيما إن كان الضمير في قوله
(يجلبون) عائداً إلى المسلمين؛ فيكون قد نص على جواز كونهم جالبين إلى
الأسواق، ويحتمل وهو أقوى أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط، ورخص في
الشراء منهم ولم يتعرض للبيع منهم؛ لأن السائل إنما سأله عن شهود السوق التي
تقيمها الكفار لعيدهم، وقال في آخر مسألته: يشترون ولا يدخلون عليهم بِيَعَهم؛
وذلك لأن السائل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم وكأنه والله أعلم قد سمع ما
جاء في النهي عن شهود أعيادهم، فسأل أحمد: هل شهود أسواقهم بمنزلة شهود
أعيادهم؟ فأجاب أحمد بالرخصة في شهود السوق، ولم يسأل عن بيع المسلم لهم
إما لظهور الحكم عنده، وإما لعدم الحاجة إليه إذ ذاك. وكلام الآمدي أيضاً محتمل
للوجهين؛ لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع أيضاً لقوله: (إنما يمنعون أن يدخلوا
عليهم بِيَعَهم وكنائسهم) وقوله: (وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم) فما
أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها من غير دخول الكنيسة،
فيجوز لأن ذلك ليس فيه منكر ولا إعانة على معصية؛ لأن نفس الابتياع منهم
جائز ولا إعانة فيه على المعصية بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه لعيدهم عنهم
الذي يظهر أنه إعانة لهم وتكثير لسوادهم، فيكون فيه تقليل الشر. وقد كانت
أسواق في الجاهلية كان المسلمون يشهدونها، وشهد بعضها النبي - عليه السلام -،
ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج، ومنها ما كان يكون لأعياد
باطلة؛ وأيضاً فإن أكثر ما في السوق أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية؛
فهو كما لو حضر الرجل سوقاً يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوماً أو العصير
لمن يخمِّره فحضرها الرجل يشتري منها، بل هو أجود؛ لأن البائع في هذا السوق
ذمي، وقد أقروا على هذه المبايعة. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري
منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وحديث عمر
رضي الله عنه، وأحاديث أخر بسطت القول فيها في غير هذا الموضع؛ مع أنه لا
بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية. فأما بيع المسلم لهم في
أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك أو
إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل
وهو أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنباً أو عصيراً يتخذونه خمراً، وكذلك لا يجوز
بيعهم سلاحاً يقاتلون به مسلماً، وقد دل حديث عمر رضي الله عنه في إهداء الحلة
السيراء إلى أخ له بمكة مشرك على جواز بيعهم الحرير؛ لكن الحرير مباح في
الجملة وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين؛ ولهذا جاز التداوي به في أصح
الروايتين ولم يجز بالخمر بحال، وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه؛ فهذا
الأصل فيه اشتباه؛ فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد جُوِّزَ ذلك. وعن أحمد
في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان» [6] .
عدم ترك الواجب حذراً من رؤية المنكر:
في فتاوى العز بن عبد السلام: «وسئل عمن له أخ في الله في غير بلده أو
شيخ يرجو بركة زيارته ورؤيته وفي تلك البلدة المقصودة منكرات كثيرة منها ما
يراه عياناً، ومنها ما يعلم بوجوده؛ وفي حال سفره أيضاً لا يسلم من شيء يشاهده؛
فهل يُكرَه لمثل هذا السفر أم ما حكمه؟ وهل كذلك الخروج لصلاة الجماعة إذا
ظن أنه لا يسلم من رؤية المنكر لكثرته؟ فأجاب: أما الزيارة والخروج لصلاة
الجماعة فلا يتركان لما يشاهد من المناكر؛ إذ لا يترك الحق لأجل الباطل؛ فإن
قدر على إنكار شيء من ذلك في خروجه بيده أو لسانه فعل وحصل له على ذلك
أجر زائد على أجر الصلاة والزيارة، وإن عجز عن ذلك كان مأجوراً على كراهية
ذلك بقلبه، وكذلك الغزو مع الفجرة إن قدر على إنكار فجورهم أنكره وحصل على
ثواب الإنكار، وإن عجز عنه كرهه بقلبه وأثيب على كراهته لذلك؛ لأنه إنما
يكرهه تعظيماً لحرمات الله عز وجل، ولو ترك الحق لأجل الباطل لترك الناس
كثيراً من أديانهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل الحرم وفيه ثمانية وستون
صنماً وكانت داخل الكعبة، وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة، فتحرج
بعض الصحابة من السعي بينهما لأجلهما، فنزل قوله تعالى: [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن
يَطَّوَّفَ بِهِمَا] (البقرة: 158) ؛ كي لا يترك حق لأجل الباطل، والله أعلم» [7] .
تولى الولاية المستلزمة لبعض الظلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض
فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك - إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك
محرماته ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة: جازت له الولاية، وربما
وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من
جهاد العدو، وقَسْم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل: كان فعلها واجباً؛ فإذا
كان ذلك مستلزماً لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء
بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو
المستحب إلا به، فيكون واجباً أو مستحباً إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك
الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم،
ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها. ودفع
أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة
بنية دفع ما هو أشد منها جيداً. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد؛ فمن
طلب منه ظالم قادر وألزمه مالاً فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم،
وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسناً،
ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئاً. وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية
والعمل: أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك
الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح. ثم الولاية وإن كانت جائزة
أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم
حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة، واستحباباً أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف
الصدِّيق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن
الأرض، وكان هو وقومه كفاراً كما قال - تعالى -: [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِه] (غافر: 34) . وقال تعالى عنه: [يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ
أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم] (يوسف: 39 - 40) ، ومعلوم أنه مع كفرهم لا
بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته
وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف
يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله؛ فإن القوم لم يستجيبوا له لكن
فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته
ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) . فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أوكدهما لم
يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوْكد تاركَ واجبٍٍ في
الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن
فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي
هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر
وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم؛ وهذا كما
يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. هذا
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:» من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا
ذكرها؛ فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك «. وهذا باب التعارض باب واسع جداً
لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه
المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل. ووجود ذلك من
أسباب الفتنة بين الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛
فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة،
وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة،
والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة
والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات؛ لكون
الأهواء قارنت الآراء؛ ولهذا جاء في الحديث:» إن الله يحب البَصِر النافذ عند
ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات « [8] . فينبغي للعالم أن
يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -:
العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء؛ لا التحليل والإسقاط. مثل أن يكون في
أمره بطاعة فعلاً لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعاً لوقوع تلك المعصية مثل
أن ترفع مذنباً إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضرراً
من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم
منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به
ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة
ينهى، وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح
الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح. وعند التعارض
يرجح الراجح - كما تقدم بحسب الإمكان؛ فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد
بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح
الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت
كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا
الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى
وقت التمكن كما أخر الله - سبحانه - إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها» [9] .
وفي مجموع الفتاوى: «.. وسئل الشيخ - قدس الله روحه - عن رجل
متولٍّ ولايات ومقطع إقطاعات وعليها من الكُلَف السلطانية ما جرت به العادة وهو
يختار أن يسقط الظلم كله ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن
ترك ذلك وأقطعها غيره وولى غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء، بل ربما يزداد
وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه فيسقط النصف، والنصف
الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه؛ فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها
وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها. فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعِه؟
وقد عُرِفت نيته واجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه؟ أم عليه أن يرفع يده
عن هذه الولاية والإقطاع؟ وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم بل يبقى ويزداد. فهل
يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟
وإذا لم يكن عليه إثم؛ فهل يطالب على ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن
يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة؟ وإذا
كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به ورفع ما رفعه من الظلم؛
فهل الأوْلى له أن يوافق الرعية؟ أم يرفع يده؛ والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم
يبقى ويزداد برفع يده؟ فأجاب: الحمد لله. نعم! إذا كان مجتهداً في العدل، ورفع
الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على
الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية
والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا
تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه.
فنشر العدل - بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان - فرض على الكفاية يقوم
كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة
هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم. وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه
رفعها لا يطالب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالاً لا يمكن دفعها إلا بإقرار
بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر
الظلم أو يزيده ولا يخففه كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيراً للمسلمين من
إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره، ومن
تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان من غيره، والمُقْطَع الذي يفعل هذا
الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما
يطلب منهم؛ فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم يثاب ولا إثم
عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا
والآخرة إذا كان مجتهداً في العدل والإحسان بحسب الإمكان. وهذا كوصي اليتيم
وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره
بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم
للقادر الظالم: فإنه محسن في ذلك غير مسيء؛ وذلك مثل ما يعطي هؤلاء
المكَّاسين وغيرهم في الطرقات والأشوال والأموال التي اؤتمنوا، كما يعطونه من
الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما يباع ويشترى؛ فإن كل
من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلا بد أن يؤدي
هذه الوظائف؛ فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد
العباد وفوات مصالحهم. والذي ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه
تضاعف الظلم والفساد عليهم فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع
الطريق فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم. فمن قال لتلك القافلة:
لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئاً من الأموال التي معكم للناس فإنه يقصد بهذا
حفظ ذلك القليل الذي ينهى عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل
والكثير وسلبوا مع ذلك؛ فهذا مما لا يشير به عاقل فضلاً أن تأتي به الشرائع؛ فإن
الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب
الإمكان. فهذا المتولي المُقْطَع = الذي يدفع - بما يوجد من الوظائف، ويصرف
إلى من نسبه مستقراً على ولايته وإقطاعه - ظلماً وشراً كثيراً عن المسلمين أعظم
من ذلك ولا يمكنه دفعه إلا بذلك إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئاً
هو مثاب على ذلك ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة. وهذا بمنزلة
وصي اليتيم وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من
المظالم السلطانية إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم؛ فولايته جائزة ولا إثم
عليه فيما يدفعه، بل قد تجب عليه هذه الولاية. وكذلك الجندي المقطع الذي يخفف
الوظائف عن بلاده ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يُطلَب منه خيل وسلاح ونفقة لا
يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف؛ وهذا مع هذا ينفع المسلمين في
الجهاد فإذا قيل له: لا يحل لك أن تأخذ شيئاً من هذا، بل ارفع يدك عن هذا
الإقطاع فتركه وأخذه من يريد الظلم ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئاً
جاهلاً بحقائق الدين، بل بقاء الخيل من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم
وأنفع للمسلمين وأقرب للعدل على إقطاعهم مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان خير
للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعاً وأكثر ظلماً. والمجتهد من
هؤلاء المُقْطَعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه الله على ما فعل
من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن
إلا ذلك [و] كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه. والله أعلم» [10] .
* تعارض المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال ابن تيمية: «.. وجماع ذلك داخل في» القاعدة العامة «: فيما إذا
تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح
الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن
الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فيُنظر في المعارض
له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به،
بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح
والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل
عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر؛ وقلَّ أن تُعوز النصوص من يكون
خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين
بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو
يتركوهما جميعاً: لم يجز أن يؤمَروا بمعروف ولا أن يُنهَوْا عن منكر، ينظر: فإن
كان المعروف أكثر أُمِرَ به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. ولم يُنه عن منكر
يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل
الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات. وإن كان
المنكر أغلب نُهِيَ عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر
بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله
ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمَر بهما، ولم يُنه عنهما.
فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان
المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة..» [11] .
* من كلام بعض العلماء المعاصرين في هذه المسألة:
حيث إن وسائل الإعلام المعاصرة نازلة من النوازل فقد كان ينبغي لأهل العلم
والفقه أن يبحثوها ويحرروها؛ ومعظم كلام المعاصرين حول وسائل الإعلام يكاد
ينحصر في الحديث عن أثرها، وضرورة استخدامها، أو عن التحذير من اقتناء
وسائل الإعلام السيئة ومتابعتها، دون الحديث عن حكم المشاركة فيها، وفيما يلي
نورد بعض ما وقفنا عليه من الفتاوى في ذلك.
فتوى الشيخ ابن باز، رحمه الله: سئل: «دعوتم إلى الاستفادة من وسائل
الإعلام في مجال الدعوة والتوجيه، ومنها تلك التي فيها التصوير، لكن بعض
الدعاة إلى الله لا يزالون يتحرجون من تلكم الصورة. ماذا تقولون في ذلك؟
فأجاب: لا شك أن استغلال وسائل الإعلام في الدعوة إلى الحق ونشر أحكام
الشريعة وبيان الشرك ووسائله والتحذير من ذلك ومن سائر ما نهى الله عنه من
أعظم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وهي من نعم الله العظيمة في حق من
استغلها في الخير، وفي حق من استفاد منها ما ينقصه في دينه ويبصره بحق الله
عليه. ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج منه بعض أهل العلم من أجل ما
ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في التصوير ولعن المصورين؛ ولكن
بعض أهل العلم رأى أنه لا حرج في ذلك إذا كان البروز فيه للدعوة إلى الحق
ونشر أحكام الإسلام والرد على دعاة الباطل عملاً بالقاعدة الشرعية وهي: ارتكاب
أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعاً، وتحصيل أعلى
المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعاً. وهكذا يقال في
المفاسد الكثيرة والمصالح الكثيرة.. يجب على ولاة الأمور وعلى العلماء إذا لم
تتيسر السلامة من المفاسد كلها أن يجتهدوا في السلامة من أخطرها وأكبرها إثماً.
وهكذا المصالح يجب عليهم أن يحققوا ما أمكن منها الكبرى فالكبرى إذا لم يتيسر
تحصيلها كلها، ولذلك أمثلة كثيرة وأدلة متنوعة من الكتاب والسنة منها قوله
- تعالى -: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ]
(الأنعام: 108) ، ومنها الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة
رضي الله عنها:» لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأقمتها على
قواعد إبراهيم «الحديث متفق عليه.
وبهذا يُعلَم أن الكلام في الظهور في التلفاز للدعوة إلى الله سبحانه، ونشر
الحق يختلف بحسب ما أعطى الله الناس من العلم والإدراك والبصيرة والنظر في
العواقب. فمن شرح الله صدره واتسع علمه ورأى أن يظهر في التلفاز لنشر وتبليغ
رسالات الله فلا حرج عليه في ذلك وله أجره وثوابه عند الله، ومن اشتبه عليه
الأمر ولم ينشرح صدره لذلك فنرجو أن يكون معذوراً لقول النبي صلى الله عليه
وسلم:» دع ما يريبك إلى ما لا يريبك «وقوله صلى الله عليه وسلم:» البر ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ... «الحديث.
ولا شك أن ظهور أهل الحق في التلفاز من أعظم الأسباب في نشر دين الله
والرد على أهل الباطل؛ لأنه يشاهده غالب الناس من الرجال والنساء والمسلمين
والكفار، ويطمئن أهل الحق إذا رأوا صورة من يعرفونه بالحق وينتفعون بما
يصدر منه، وفي ذلك أيضاً محاربة لأهل الباطل وتضييق المجال عليهم، وقد قال
الله - عز وجل -: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]
(العنكبوت: 69) ، وقال - عز وجل -: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] (النحل: 125) ، وقال: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] (فصلت: 33) . وقال النبي صلى
الله عليه وسلم:» من دل على خير فله مثل أجر فاعله «، وقال - عليه الصلاة
والسلام -:» من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تتبعه لا ينقص
ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا
ينقص ذلك من آثامهم شيئاً «0 أخرجهما مسلم في صحيحه. وقال صلى الله عليه
وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما بعثه إلى اليهود في
خيبر:» ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه؛
فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم «متفق على صحته.
وهذه الآيات والأحاديث الصحيحة كلها تعم الدعوة إلى الله سبحانه من طريق
وسائل الإعلام المعاصرة، ومن جميع الطرق الأخرى كالخطابة والتأليف والرسائل
والمكالمات الهاتفية وغير ذلك من أنواع التبليغ لمن أصلح الله نيته ورزقه العلم
النافع والعمل به. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى «متفق على صحته. وقال عليه الصلاة
والسلام:» إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم «أخرجه مسلم في الصحيح. وأسأل الله عز وجل أن يوفق علماء
المسلمين وولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه»
[12] .
وللشيخ رحمه الله فتوى أخرى جاء فيها: «هل علماؤنا أدوا واجبهم
الإعلامي نحو مواطنيهم؟ ولماذا لم يساهم كثير منهم في وسائل الإعلام المرئي
والمسموع؟ وهل الكسب في العمل به مكروه أو محرم؟
فأجاب: هذا تختلف فيه آراء أهل العلم: منهم من يرى جواز الدخول فيه،
ومنهم من يتوقف عن ذلك من أجل الصور؛ فلهذا كثر من يتوقف عن ذلك، فهو
محل اجتهاد ومحل اختلاف بين أهل العلم في جواز الدخول في ذلك والبروز في
الشاشة لإلقاء الكلمات والتوجيه، ومنهم من فعل ذلك ورأى أن هذا فيه مصلحة،
وأنه يُغتفَر في جنبه ما يتعلق بالتصوير، ومنهم من توقف في ذلك. ولهذا
المساهمون في الوسائل المسموعة والمقروءة أكثر من المساهمين في المرئية من
أجل هذا الأمر الذي سمعت وهو مسألة التصوير» [13] .
فتوى الشيخ ابن عثيمين: سئل: «وسائل الإعلام تؤدي دوراً مؤثراً في
عصرنا؛ فهل ترون أنه يجب استعمالها - مثل التلفاز - في نشر كثير من الوسائل
التي قد لا تنتشر عن طريق غيره مثل ما تنتشر عن طريق التلفاز؟ وما رأيكم
فيمن يقول: إنه لا يجوز المشاركة في وسائل الإعلام بوضعها الراهن؛ لأنها تنشر
المنكرات والمشاركة فيها هو إقرار لهذه المنكرات؟
فأجاب رحمه الله: أرى أنه يجب استخدام وسائل الإعلام في الدعوة إلى الله
عز وجل؟ لأن ذلك مما تقوم به الحجة، وأرى أن وسائل الإعلام تستخدم في
الدعوة إلى الله - عز وجل - على وجوه شتى بمعنى: أن نجعل ركناً في الدعوة
إلى التوحيد.. وركناً في الدعوة إلى العقيدة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.. وركناً
في الدعوة إلى إخلاص العبادة لله عز وجل؛ بحيث لا يقصد الإنسان التذلل إلى
حاكم أو إلى من هو أكبر منه، وما أشبه ذلك.. وركناً في الفقه مثل العبادات
وغيرها.. وركناً في المعاملات مثل الأنكحة وغيرها؛ يعني ذلك أن تكون الدعوة
واسعة عامة. وأن لا تجعل هذه الأمور أو الموضوعات مكثفة بحيث يمل منها
القارئ أو المشاهد، بل يقتصر على ما لا يكون فيه ملل للناس وإتعاب لهم، حتى
ينتفع الناس بذلك أكثر، على شرط أن لا يحل محلها ما فيه إضلال الخلق لأخلاقهم،
أو ما أشبه ذلك. ولكن أرى أنه إذا كان هجر هذه الوسائل وعدم المشاركة فيها
سبباً في ترك المنكر، فإنه يجب مقاطعتها ومهاجرتها حتى تترك هذا المنكر لما هو
خير. أما إذا كان هذا الأمر لا يفيد وربما يزيد الطين بلة؛ بحيث تفرغ لنشر شر
أكبر وأكثر، فأرى أنه يجب استغلال هذه الفرصة، ونشر الدعوة إلى الله تعالى من
خلال هذه الوسائل. ثم هذا المنكر الذي يعرض - كما يقول السائل - لا يعرض
في الوقت الذي أنت تلقى فيه الخير، بل هو منفصل عنه، فيكون من أراد استمع
إليه وشاهده، وإذا جاء الوقت الذي فيه المنكر يغلق المذياع أو التلفاز وينتهي منه»
[14] .
* الخلاصة:
مما استعرضناه من قواعد المصالح والمفاسد في الشريعة وقواعد الترجيح
بينها، ومن القواعد الشرعية ورعايتها، ومما نقلناه من أقوال أهل العلم المعتبرين
قديماً وحديثاً، يمكن أن نستخلص جملة من النتائج:
1 - أن مسألة المشاركة في الوسائل الإعلامية بصورتها الراهنة من النوازل
وموارد الاجتهاد؛ فلا نعلم نصاً في الشريعة يقضي بمنع المشاركة أو جوازها.
2 - أن الشريعة قد عللت بعض أحكامها برعاية المصلحة والمفسدة والترجيح
بينهما؛ كالذي ذكره الله - تعالى - عن الخمر والميسر.
3 - أن المتأمل في أحكام الشريعة الأخرى يلحظ رعايتها لهذا الجانب، وأنه
ما من شيء شرعته إلا ومصلحته خالصة أو راجحة، وما من شيء منعته إلا
ومفسدته خالصة أو راجحة.
4 - لم يقل أحد من العلماء المعتبرين إن كل مصلحة مهما بلغت في عظمها
فهي مهدرة عند وجود أي مفسدة مهما بلغت في صغرها؛ بل أقاويلهم واضحة في
تقرير اعتبار الترجيح بين المصالح والمفاسد [15] .
5 - أن بعض الناظرين في هذه المسألة وقع في إفراط أو تفريط؛ فمنهم من
جعل النظر العقلي المجرد ومصالح هذه الحياة الدنيا نصب عينيه عند الترجيح بين
المصالح والمفاسد؛ فخرج بالعجيب من الاختيارات والفتاوى، وفي مقابل هؤلاء
من أهدر كل مصلحة خوفاً على الناس من ارتكاب ما يصاحبها من مخالفة؛ فهدموا
القواعد وألغوا الأصول والقياس الواضح من أجل منع الناس من المعصية.
6 - وسائل الإعلام أنواع، منها:
أ - وسائل سليمة في غاياتها ووسائلها، كالمجلات والجرائد والإذاعات التي
لا تشتمل على مخالفات شرعية.
ب - وسائل لها غايات سليمة لكنها تقع في بعض المخالفات الشرعية تساهلاً.
ج - وسائل فيها الخليط من الخير والشر؛ نظراً لأن غاياتها الربح والشهرة
في الغالب.
د - وسائل فاسدة مفسدة في غاياتها وفي وسائلها.
7 - المشاركون في وسائل الإعلام أقسام:
أ - من تكون مشاركته تزكية لهذه الوسيلة؛ نظراً لكونه عَلَماً بارزاً وله شهرة
في الدعوة، ويقتدي به قطاع عريض من الناس.
ب - من لا تكون مشاركته مشتملة على تزكية لهذه الوسيلة، إما لكونه يبين
ما فيها من مخالفات - ولو عَرَضاً في كلامه وفتاويه - أو لكونه قد عرفت أقواله
ومواقفه.
ج - صنف آخر دون هؤلاء يمكن أن يبينوا الحق أو يردوا على بعض البدع
والمنكرات، أو يدلوا بآرائهم في كثير من المسائل والقضايا خاصة إذا كانت مبنية
على علم صحيح، أو استشاروا فيما يقولون طلبة العلم الموثوقين.
8 - أنواع المشاركة:
المشاركات أنواع منها:
أ - الدعوة إلى الله تعالى، وتبليغ دينه، والنصح للناس.
ب - الدفاع عن الإسلام ومزاحمة أهل الباطل.
ج - الرد على المنكرات في تلك الوسيلة أو في غيرها.
د - معالجة القضايا - الاجتماعية ونحوها - من خلال نظرة واقعية صادقة،
ومنهج شرعي مؤصل.
هـ - المشاركة في القضايا العلمية النافعة للناس في أمور دنياهم، كالنواحي
الطبية أو الزراعية ونحوها.
وبناء على ما سبق من:
1 - عرض للمصالح والمفاسد المترتبة على استخدام وسائل الإعلام
والمشاركة فيها.
2 - وعرض بعض القواعد الشرعية والفقهية المتعلقة بهذا الموضوع.
3 - أهمية وسائل الإعلام وقوة تأثيرها سلباً وإيجاباً.
4 - عرض لأنواع وسائل الإعلام وأنواع المشاركين فيها وأنواع المشارَكَة.
يتبين ما يلي:
أولاً: أن الحكم في المشاركة في وسائل الإعلام ليس حكماً واحداً مطلقاً بحيث
يقال إنه يجوز أو لا يجوز، بل الأمر فيه تفصيل مشتمل على أحوال مختلفة.
ثانياً: أن المسألة لا تنحصر في بيان جواز أو عدم جواز المشاركة فيها،
وإنما في وجوبها في بعض الأحيان - على تفصيل يأتي بعد قليل - وعليه فإن على
العلماء والدعاة إلى الله - تبارك وتعالى - أن يدركوا عِظَم المسؤولية تجاه هذا
الباب الواسع العظيم الذي عم أثره في هذا العصر المسمى عصر الإعلام
والاتصالات.
ثالثاً: تفاوت الحكم واختلافه بحسب نوع المشاركة والمشاركين، والوسيلة
المشارك فيها، وتغير ذلك بحسب الزمان والمكان والأحوال؛ فمثلاً عصر
الفضائيات والإنترنت يختلف عما سبقه قبل انتشار هذه الوسائل واتساع تأثيرها.
ونتيجة لذلك يمكن تفصيل حكم المشاركة فيما يأتي:
1 - حاجة الأمة اليوم إلى تبليغ دين الله والدعوة إلى الله وإنكار المنكرات
تقتضي وجوب السعي لإنشاء وسائل إعلام سليمة ولو لازمها وجود بعض المفاسد
المرجوحة، مع الحرص على مدافعة المفاسد قدر الإمكان.
2 - تكون المشاركة في وسائل الإعلام القائمة واجبة في الأحوال الآتية:
أ - إذا كانت الوسيلة غير مشتملة على محرم أو مكروه، وكان إنكار المنكر
أو بيان الحق لأناس أو في بلد لا يتم إلا بذلك. وهذه درجة عالية من الوجوب؛
نظراً لاجتماع مشروعية الوسيلة، وتعيَّن الوجوب في المسألة المتحدث عنها
والقضية الواقعة.
ب - قد تكون الوسيلة مشتملة على محرمات، لكن إنكار المنكر أو بيان الحق
لا يتم إلا بهذه الوسيلة، مع غلبة الظن بأن المصلحة أكبر من المفسدة التي قد توجد
من المشاركة؛ فهذه الحالة لا بد من القيام بالواجب الكفائي فيها لبيان الحق أو رد
المنكر ولو في هذه الوسائل.
3 - هناك حالات تكون المشاركة فيها محرمة، ومن ذلك:
أ - المشاركة في البرامج الموجهة للثناء على أهل الباطل وأعداء الدعوة من
الأنظمة والأفكار والأحزاب لما في ذلك من تلبيس على الناس.
ب - المشاركة في بعض الوسائل والبرامج التي يتولاها ويشرف عليها أهل
البدع والانحراف، حين تكون هذه المشاركة سبباً في تزكيتهم وترويج برامجهم
ومطبوعاتهم، وأُمكن مخاطبة معظم المتابعين لهذه الوسائل ودعوتهم من خلال
وسائل أخرى.
ج - المشاركة في المناسبات البدعية، ولو لم يتضمن ذلك النص على جواز
الاحتفال والمشاركة في هذه البدع؛ إذ فيه تلبيس على الناس وإيهام لهم.
د - مباشرة فقرات تشتمل على أمر محرم في ذاته.
هـ - تصدي من ليس لديه العلم الشرعي الكافي للفتيا والحديث في القضايا
الشرعية المهمة، أو مناظرة أهل الأهواء ونحوهم.
أما المداخلات الهاتفية في البرامج المفتوحة المباشرة كالحوارات، فيتصدى
لذلك فئة ممن يملكون القدرة.
وأما المشاركة في البرامج الحوارية المفتوحة في القنوات التي تُعنى بمثل هذه
البرامج فينبغي أن يتصدى لها من تكون لديه القدرة العلمية وقوة الحجة والبيان.
4 - ما سوى هذه الحالات تكون المشاركة فيها جائزة، ما لم يترتب عليها
مفسدة أكبر من مصلحة المشاركة، ومنها:
أ - نشر العلم الذي لا يجب تعلمه على آحاد الناس وتناول ما يحتاجه الناس
من مسائل اجتماعية وتربوية ونحوها.
ب - مشاركة بعض الصالحين من أصحاب التخصصات غير الشرعية في
قضايا تتعلق بتخصصهم، إذا كان ذلك يترتب عليه تعريف الناس بهؤلاء الأخيار،
والاستفادة الدعوية من ذلك. وربما كان الأمر في بعض الصور السابقة مستحباً،
حسب ترجُّح المصلحة.
5 - هناك أحوال من المشاركة تحتاج إلى أن يُجتهد فيها الرأي.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «.. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد
هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها؛ وإلا
اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها
وبدلالتها على الأحكام..» .
ومن الوسائل التي تعين على اتخاذ الموقف في القضايا المعينة:
- ما تقدم بحثه من رعاية مقاصد الشريعة، ورتبة هذه المقاصد ودرجة
الشمول، ودرجة القطعية والظنية.
- ومن طرق معرفة الأشباه والنظائر الدراسة العميقة للتاريخ القديم
والمعاصر، والوقائع في ظروف مماثلة.
- ومن طرقها أن تعرف أحوال الناس؛ لأن كثيراً من المفاسد إنما هي مبنية
على تصورات الناس ونظرتهم؛ وذلك مثل تزكية هذه الوسائل أو القائمين عليها،
وهذا الأمر لا يختص به الباحثون الشرعيون؛ بل هو راجع إلى نظرة عامة الناس،
وهذا يرجع فيه إلى أهل الخبرة بأحوالهم.
- الاستشارة والمناقشة مع طلبة العلم والدعاة؛ فإنها تفتح للمرء أبواباً لم تكن
لتبدو له بالنظر الفردي المجرد.
والوقائع المشكلة قليلة بالنسبة لغيرها؛ فلو تناولت خمسين حالة مختلفة
كعينات للدراسة تختلف فيها الظروف والأحوال والأشخاص لوجدت أن النظر
واضح في الجملة في نسبة كبيرة منها قد تصل إلى الأربعين حالة من هذه الخمسين،
وهذا هو المطلوب، ولا ينبغي لطالب العلم أن يؤخر النظر فيما يحتاج إليه أكثر
الناس من أجل قضايا قليلة نادرة، ومهما حاولت أن تضع ضوابط تضيِّق دوائر
المشكلات فلا بد أن تبقى صور لم تشملها هذه الضوابط، وقد كانت فتاوى العلماء
السابقين والمعاصرين إنما تعرض لمسائل الكثرة والحاجة.
إنه مهما قيل وكتب في مثل هذا المسائل فلن يُحسم الخلاف بشكل نهائي،
وسيبقى كثير منها محل خلاف وأخذ ورد.
فلا بد أن تتسع صدرونا للخلاف فيما يسوغ الخلاف فيه، ويعذر بعضنا
بعضاً في مواطن النزاع، ولنا أسوة حسنة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وأهل العلم من سلف هذه الأمة «كاجتهاد الصحابة في قطع اللِّينة وتركها،
واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة
وأمرهم أن لا يصلُّوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت
وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة، وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها
بعد الوقت تمسكاً بظاهر لفظ العموم؛ فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة
من الطائفتين» وقال صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر «.
وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها، على إقرار كل فريق للفريق
الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء
والسياسة وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفي
العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما
قضينا وهذه على ما نقضي؛ وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون
على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم. وتنازعوا في
مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية
محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة» [16] .
وعذر المخالف لا يمنع من الحوار، ومن أن يبين كل حجته ودليله، لكن
المحذور البغي والظلم والاتهام.
* نصيحة للمشاركين:
ونصيحتي لأولئك الذين رأوا جواز هذا العمل أن يتقوا الله تعالى فيما يأتون،
وأن يعلموا أن مجرد تقريرهم لصحة موقفهم لا يقتضي التحلل من كل قيد أو ضابط،
ومما يتأكد عليهم في ذلك ما يلي:
1- الورع والحذر من التساهل والترخص؛ فجواز الأصل لا يستلزم منه
جواز كل ما تعلق به.
2- الحذر من الشهرة والسعي لها؛ إذ المشاركة في وسائل الإعلام سبب لأن
يُعرف المشارك بين الناس ويشتهر أمره.
3- الحذر من التعلق بالدنيا ومتاعها، أو أن تكون هي الباعث على المشاركة،
أو على المهادنة خوفاً من انقطاعها.
4- الاجتهاد في إنكار المنكر بقدر الإمكان.
5- ألاَّ تدفعهم الرغبة في الدفاع عن موقفهم إلى تزكية الوسائل السيئة
والمفسدة، وأن يبينوا للناس أن مشاركتهم لا تقتضي رضاهم عن كل ما يبث فيها.
6- أن يعذروا إخوانهم الذين أدى بهم الاجتهاد إلى أن يمتنعوا عن هذه
المشاركة، فكل على خير وبر.
* نصيحتي للممتنعين:
ونصيحتي للذين رأوا أن المشاركة غير سائغة أن يستصحبوا الورع في
التعامل مع من خالفهم كما استصحبوه في الامتناع عن المشاركة في هذه الوسائل،
ومما يتأكد عليهم في ذلك:
1- أن يتذكروا أن موقفهم هو نتيجة اجتهاد خالفه فيه غيرهم من أهل العلم،
وليس حقاً مقطوعاً به يوصف من خالفه باتباع الباطل والقول به.
2- أن يعذروا من خالفهم في الرأي، وأن يتورعوا عن وصفهم برقة الديانة
أو التساهل والترخص ومجاراة العصر؛ فيكفي أن طائفة ممن ترجع الأمة لفتاواهم
ومواقفهم في هذا العصر قد أفتوا بجواز هذا الأمر.
3- الاجتهاد في تبليغ دين الله لعامة الناس الذين يحتاجون إليه، والسعي
لإيجاد بدائل تخاطب عموم الأمة وتصل إليهم.
وعلى المسلم عموماً أن يحذر من القول على الله بغير علم، وحين يصل به
اجتهاده إلى تقرير قول، أو اتباع إمام من الأمة فلا يعني ذلك أن يجزم بأن هذا
شرع الله وحكم الله. والله الموفق وعليه التكلان.