دراسات في الشريعة
عقد التأمين..
نظرة فقهية موجزة لأبرز مسائله
هاني بن عبد الله بن جبير
H- j-30@maktoob.com
الحمد لله وحده، والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبي بعده، وبعد: فإن من
نوازل هذا العصر وقضاياه المستجدة عقد التأمين الذي نشأ وانتشر بفعل القوانين
التجارية والمدنية التي جعلته واقعاً في كثير من التشريعات.
وحيث إنه سبق أن بُحِث في عدد من اللقاءات والندوات، وصدرت حوله
كثير من المؤلفات والأبحاث والرسائل، وحيث حصل مؤخراً في هذا العقد
مناقشات ومداولات فقد أحببت أن أكتب مختصراً عن هذا العقد ورأي الباحثين فيه
في هذه الأكتوبة الموجزة؛ وذلك من خلال أربع نقاط:
أولاً: تعريف التأمين وحقيقته:
التأمين في اللغة مصدر أمَّن يؤمَّن، مأخوذة من الاطمئنان الذي هو ضد
الخوف، ومن الأمانة التي هي ضد الخيانة. يقال: أمَّنهُ تأميناً وائتمنه واستأمنه [1] .
وعند الفقهاء: التأمين قول آمين. وصار يُستخدم التأمين للدلالة على عقد خاص
تقوم به شركات التأمين تدفع بموجبه مبلغاً في حال وقوع حادث معين لشخص يدفع
لها قسطاً من المال [2] .
لا بد للناظر للتأمين أن يتنبه إلى الفرق بين تناول التأمين كفكرة ونظريَّة،
وبين تنظيمه في عقد. فالتأمين كنظرية ونظام مقبول؛ إذ إنه تعاون بين مجموعة
من الناس لدفع أخطار تحدق بهم؛ بحيث إذا أصابت بعضهم تعاونوا على تفتيتها
مقابل مبلغ ضئيل يقدمونه [3] . ولا شك أن هذه الفكرة فكرة مقبولة تقوم عليها كثير
من أحكام الشريعة مثل الزكاة والنفقة على الأقارب، وتحميل العاقلة للدية. إلى
أمثلة كثيرة تدعو إلى التعاون على البر والإحسان والتقوى والتكافل والتضامن. هذه
فكرة التأمين، وهي فكرة تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها، وليس في
هذا إشكال بحمد الله، وإنما الإشكال في صياغة هذه الفكرة في عقد معاوضة، أي
في كونه علاقة بين المؤمن من جهة والمستأمن من جهة أخرى. وسيكون هذا هو
محل البحث في هذه الأوراق.
نشأة التأمين التجاري:
كان أول ظهور التأمين التجاري تأميناً للمخاطر التي تتعرض لها السفن
المحملة بالبضائع؛ وذلك في شمال إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث
كان صاحب البضاعة يدفع قسطاً معيناً على أنه في حال تلف البضاعة يقبض مبلغاً
من المال. ثم بدأ التأمين التجاري بالرواج؛ ولكنه لم ينتقل إلى الدول العربية إلا
في القرن التاسع عشر؛ بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري
لم يبحثوه مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شؤون حياتهم العامَّة؛ فتناوله
العلاَّمة محمد أمين بن عابدين (1252هـ) في كتابه رد المحتار [4] على الدر
المختار وسماه: سوكرة [5] . وقد تزايد التعامل به بعد ذلك حتى دخل كثيراً من
المجالات الاقتصادية وغيرها [6] .
ويرى بعض الباحثين أن التأمين التجاري يتجه إلى الانكماش فالزوال؛ وذلك
أن دول العالم الغربي تتجه إلى الأخذ بالتأمين التعاوني، وأن أكبر المنظمات
التأمينية في سويسرا هي منظمات تعاونية.
كما أن إحصائيات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972م تذكر
أن التأمين التعاوني أصبح يغطي أكثر من 70% من نشاط التأمين فيها [7] .
تعريف عقد التأمين التجاري:
تنوعت تعريفات هذا العقد في القوانين المدنية ولدى الباحثين المهتمين،
ويمكن منها أن يستخلص تعريف له بأنه: عقد معاوضة يلتزم أحد طرفيه وهو
المؤمِّن أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو المؤمَّن له أو من يعينه عوضاً مالياً يتفق
عليه يدفع عند وقوع الخطر أو تحقق الخسارة المبينة في العقد، وذلك نظير رسم
يسمى (قسط التأمين) يدفعه المؤمَّن له بالقدر والأجل والكيفيَّة التي ينص عليها
العقد المبرم بينهما [8] .
ومن خلال هذا التعريف وما ذكره القانونيون نجد أن من أبرز خصائص [9]
عقد التأمين:
1 - أنه عقد ملزم لطرفيه، فيلتزم المؤمَّن له بدفع الأقساط حسب الاتفاق،
ويلتزم المؤمِّن بدفع التأمين عند حصول حادث محتمل.
2 - كما أنه عقد معاوضة؛ لأن كلا المتعاقدين يأخذ مقابلاً لما أعطى،
فالمؤمِّن يعطي قسط التأمين، والمؤمَّن له يعطي مبلغ التأمين عند تحقق ما يوجبه.
وليست المعاوضة مقابل أمان محض يحصل عليه المؤمن.
3 - كما أنه عقد احتمالي؛ لأن كل طرف لا يعرف كم سيدفع وكم سيعطى
على وجه التحديد؛ لأن ذلك يتوقف على وقوع الخطر أو عدم وقوعه.
4 - أنه عقد تجاري يهدف المؤمِّن منه إلى الربح والفائدة من خلال الأقساط
المتجمعة لديه.
ثانياً: حكم عقد التأمين التجاري:
لم يكن هذا العقد معروفاً عند السلف، فلم يرد فيه نص شرعي، ولم يوجد
من الصحابة والأئمة المجتهدين من تعرَّض لحكمه. ولمَّا انتشر في هذا العصر
درسه الباحثون، واختلفوا في حكمه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التأمين التجاري عقد غير جائز: قال به ابن عابدين الحنفي
[10] ، ومحمد بخيت المطيعي [11] ، (1354هـ) مفتي الديار المصريَّة، والشيخ
محمد رشيد رضا [12] ، ومحمد أبو زهرة [13] ، وعبد الله القلقيلي مفتي الأردن
[14] ، ومحمد أبو اليسر عابدين مفتي سوريا [15] ، والدكتور صديق الضرير [16] ،
وشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق [17] ، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ [18] ،
وجماعة كثيرون.
كما أنه الرأي الذي أفتت به عدة هيئات كهيئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة
السعودية [19] ، والمجمع الفقهي الإسلامي [20] التابع لرابطة العالم الإسلامي،
ومجمع الفقه الدولي بجدة [21] التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمؤتمر العالمي
للاقتصاد الإسلامي [22] ، وهيئة رقابة بنك فيصل الإسلامي [23] ، إلى غيرها من
الجهات العلميَّة.
القول الثاني: أن التأمين التجاري عقد جائز: وقال به مصطفى الزرقا [24] ،
وعلي الخفيف [25] ، ومحمد يوسف موسى [26] ، وعبد الوهاب خلاف [27] ،
وصدر به قرار الهيئة الشرعيّة لشركة الراجحي المصرفيّة [28] .
القول الثالث: وهو التفصيل بجواز أنواع من التأمين وتحريم أنواع: فمنهم
من أجاز التأمين على الأموال دون التأمين على الحياة وهو قول محمد الحسن
الحجوي [29] ، ومنهم من أجاز التأمين من الخطر الذي من أفعال العباد كالسرقة
وحرّم التأمين من الخطر الذي سببه آفة سماوية وهو قول نجم الدين الواعظ مفتي
العراق [30] ، ومنهم من أباح التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن
والمصانع وحرّم ما عداه وهو قول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود [31] .
أدلّة أصحاب القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بجملة أدلّة منها:
الدليل الأول:
أن عقد التأمين عقد معاوضة وهو مع ذلك مشتمل على غرر، والغرر يفسد
عقود المعاوضات.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الغرر [32] ، والنهي يقتضي الفساد. والغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات،
أو ما طُوِيت معرفته وجُهلت عينه [33] . فكل عقد بني على أمر محتمل مشكوك
فيه فهو غرر. والغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات المالية وكان غالباً
على العقد حتى يصح وصف العقد كله بأنه غرر. ولا شك أنَّ عقد التأمين مشتمل
على الغرر في أكثر من موضع منه: فالجهالة حاصلة في صفة محل التعاقد؛
فالعوض لا يُعْرف مقداره حتى يقع الخطر المؤمن عليه. كما أنها حاصلة في أجل
العوض الذي لا يعرف متى يحل. كما أن حصول العوض نفسه مجهول مشكوك
فيه، فلا يعرف المتعاقدان ذلك لتوقفه على وقوع الخطر أو عدم وقوعه. فالغرر
في الحصول وصفته وأجله وهي أمور مقصودة عند التعاقد، وهذا يفسد العقد. وقد
نوقش هذا الدليل بأمرين:
الأوَّل: أنه لا يوجد غرر في عقد التأمين؛ لأن غايته حصول الأمان وقد
حصل بمجرد العقد سواء وقع الخطر أو لا.
والثاني: أنّه على فرض حصوله فهو غرر يسير لا يؤثر في العقد [34] .
والجواب: أن النظر الشرعي في عقود المعاوضات إنما يكون لمحلها لا إلى
غاياتها؛ فإن الغاية أمر غير منضبط، ولكلٍّ أن يجعل غاية عقده بما يراه. فيصح
لنا أن نقول: إن غاية عقد التأمين أكل المال بالباطل. ويمكن لمن يبيح الفوائد
الربويّة أن يتذرع بأن غايتها تحريك المال وتنميته واستثماره. وعليه فلا يتعلق
توصيف الأحكام بالمقاصد والحكم منها دون النظر لمحلها. ومحل عقد التأمين هو
قسط التأمين وعوضه، وهذا العِوَض مجهول الحصول والمقدار والأجل.
وخروجاً من هذا اضطر بعض الباحثين إلى القول بأن محل عقد التأمين هو
نفس ضمان الأمن والأمان. وقرر أن الأمن والأمان حق معنوي متفق مع الحقوق
المحسوسة في اعتباره محل معاوضة ومحلاً لتداول الأيدي على تملكه؛ ولذا فلا
مانع من أن يكون الأمان هو محل المعاوضة في عقد التأمين [35] .
ويناقش هذا القول بما يلي:
1 - أن الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً [36] . (والحق
المعنوي سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو نشاطه) . والأمان
ليس اختصاصاً، بل هو شعور داخلي وطمأنينة نفسيَّة كالحب والبغض لا يمكن
تداوله ولا المعاوضة عليه.
2 - أن عقد التأمين لا يحقق للشخص الذي يرغب في توقي نتائج الخطر
أماناً حقيقياً؛ لأنه مهدد بإعسار المتعاقد معه.
3 - أن جعل الأمان محلاً لعقد التأمين مخالف للنظرة القانونية التي نشأ هذا
العقد في ظلالها ومخالف للنظر الفقهي حتى لدى من أجاز عقد التأمين كالشيخ
مصطفى الزرقا [37] .
4 - أن الأمان إذا كان هو محل عقد التأمين فإنه ينبغي أن يكون منحه
للمستأمن كافياً عن بذل عوض التأمين. وإذا قيل إن الأمان لا يحصل إلا ببذل
عوض التأمين علمنا أن محل العقد هو المال، وأن الأمان هو الباعث عليه أو
الغاية منه.
5 - ثم إن الأمان المجعول محلاً لعقد التأمين مجهول المقدار غير معلوم
الصفة تحديداً وهذا غرر أيضاً.
الدليل الثاني:
أن عقد التأمين يتضمن الميسر والقمار، وقد حَرَّم الله الميسر بقوله - تعالى -:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90) والميسر كما قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: (أخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة: هل يحصل له عوض، أو لا
يحصل؟) [38] .
وهذا الوصف متحقق في عقد التأمين باعتراف رجال القانون؛ وذلك لأن
الشخص الذي يأخذ على عاتقه ضمان الخطر يراهن على تحقق الخطر؛ فإذا لم
يتحقق كسب المبلغ الذي دُفع له، وإذا تحقق دَفع مبلغاً يزيد كثيراً عما قبضه،
وهذا هو الرهان [39] .
وقد نوقش هذا الدليل بأن التأمين جد والقمار لعب، وأن المؤمَّن إنما دفع ماله
لمن يدفع عنه ضرراً كما يدفع التاجر لمن يحرس القافلة مبلغاً لحفظها من الخطر
[40] .
الجواب: أن عقد التأمين يدخل تحت تعريف الميسر وتوجد فيه خصائصه.
وأما الخفارة التي تُدفع لمن يحرس القافلة ونحوها فهذا المبلغ إنما يُدفع أجرةً
للحارس مقابل تسليمه نفسه وقت العقد ليقوم بمقتضاه، ولم يأخذ المبلغ دون تسليمه
نفسه. ثم إنه لا يضمن ما سرق أو تلف إذا لم يفرط في واجبه.
الدليل الثالث:
أن عقد التأمين يتضمن الربا، بل هو أصيل فيه، والربا محرم مفسد للعقد
المشتمل عليه؛ وذلك أن التأمين كما عَرَّفه القانون: عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن
يؤدي إلى المؤمَّن له مبلغاً من المال ... في نظير مقابل نقدي ... فهو معاوضة مال
بمال دون تقابض ولا تماثل وهذا هو الربا.
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأقيسةٍ مختلفةٍ من أبرزها ما يلي:
الأول: القياس على العاقلة: فإنَّ العاقلة تتحمَّل شرعاً دية قتل الخطأ عن
القاتل وتتقاسمها بين أفرادها لأجل تفتيت أثر المصيبة عن الجاني. وكذلك الحال
في شركات التأمين فإنها تعمل على ترميم الأخطار، وتخفيف المصاب [41] .
ويناقش هذا القياس بأمور:
1 - أن العاقلة تتحمل الدية لما بينها وبين القاتل من قرابة ورحم التي تدعو
للتعاون ولو دون مقابل؛ وعقود التأمين تجارية تقوم على المعاوضة الماليَّة المحضة
لا إلى عاطفة الإحسان؛ فهذا قياس مع الفارق.
2 - أن ما تتحمله العاقلة يختلف باختلاف أحوالهم من غنى وفقر، أما
أعضاء شركات التأمين فيتحملون على السواء، ولا يُنظر إلى ثروتهم الخاصة في
تقدير ما يتحمله كل فرد.
الثاني: تخريج عقد التأمين على مسألة ضمان خطر الطريق: وقد نَصَّ
الحنفيَّة على جوازها، وصورتها أن يقول رجل لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنّه
آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن؛ فإذا سلكه فأخذه اللصوص ضمن القائل.
وعقد التأمين يشبه هذه المسألة من حيث التزام الضمان؛ فالشركة التزمت الضمان؛
كما أنَّ القائل التزم الضمان [42] .
ونوقش بوجود الفارق بين المسألتين من وجوه:
1 - ففي مسألة الضمان كان الالتزام من طرف واحد؛ في حين أن الالتزام
في عقد التأمين من الطرفين [43] .
2 - ولأن الضمان من عقود التبرعات التي يراد بها المعروف، والتأمين عقد
معاوضة مالية فلا يصح القياس بينهما.
3 - ثم إن مسألة ضمان خطر الطريق مبعثها تغريره للسالك وإخباره بأنه
آمن لا لمجرد الضمان، أما شركات التأمين فهي تقرر التضمين مطلقاً [44] .
4 - كما أن للضامن أن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وليس الحال
كذلك في التأمين لكونه معاوضة لا ضماناً.
الثالث: قياس عقد التأمين على نظام التقاعد وأشباهه: وذلك أن نظام التقاعد
عقد معاوضة يقوم على اقتطاع جزء ضئيل من مرتب الموظف شهرياً ليُصرف له
تعويض في نهاية خدمته، وهذا يشبه أقساط التأمين وعوضه وفي كليهما لا يدري
الشخص كم يستمر دفعه ولا كم يبلغ مجموعه، ثم قد يستلم ما يزيد كثيراً على
مجموع الأقساط، وقد لا يستلم شيئاً؛ فإذا جاز نظام التقاعد فليكن الحكم مثله
للتأمين [45] .
ونوقش: بأن التقاعد ليس عوضاً عما اقتطع من الموظف شهرياً وإلا لوجب
توزيعه على سنن الميراث ولم يجز أن يحرم منه الموظف ولا ورثته بعده؛ وإنما
التقاعد مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسؤولاً عن رعيته وراعى في احتسابها
ما قام به الموظف من خدمة ومصلحة أقرب الناس إليه ومظنّة الحاجة فيهم؛ فليس
التقاعد معاوضة بين الدولة وموظفيها، ولا يقوم على أساس التجارة وتحصيل
الأرباح.
هذا وقد استدل أصحاب هذا القول بأقيسة أخرى تشترك جميعها في أنها لا
يصح التخريج عليها لعدم توافر شروط القياس وأهمها أن يكون المقيس عليه متفقاً
عليه لألاَّ يمنع المخالف حكم الأصل، وهذا ممكن في جميع الأقيسة.
كما أنه يوجد الفارق بين عقد التأمين وبين المقيس عليه، وأما القول الثالث
فاستدل على ما منع بأدلة المانعين وعلى ما أباح بأدلة المبيحين وقد سبق ذلك.
القول الراجح:
القول الراجح مما سبق بعد تأمل الأدلة هو القول بتحريم هذا العقد لكون أدلتهم
أقوى استنباطاً وأتم دلالة؛ فمن أباح التأمين اعتمد على أقيسة مأخوذة من
استنتاجات الفقهاء؛ بينما المحرِّم له استند إلى نصوص شرعيَّة وقواعد أساسيَّةٍ
أجمع المجتهدون على الأخذ بها. كما أن التأمين لا يتضمن مصلحة غالبة، وسبق
أن نشر تفسير ذلك جلياً [46] .
وليس فيه مصلحة للمجتمع في النهاية، بل كل ما يترتب عليه هو نقل عبء
الخطر برمته من عاتق شخص إلى عَاتِق شخص آخر، وهذا ليس فيه أيَّة فائدة
للمجتمع [47] ، وله خطورة على اقتصاد الدولة من حيث سيطرة شركات التأمين
ممثلة في أفراد قلائل على مدخرات المواطنين وتوجيهها وفق هواها ومصالحها
الخاصة مما اضطر بعض الدول إلى تأميم شركات التأمين [48] .
ثالثاً: البديل الشرعي لعقد التأمين التجاري:
لا شك أن التعاون في تفتيت الأخطار ومواجهة الظروف والتكافل في حلها
مما يدعو إليه الإسلام وقرره في تشريعات مختلفة كالزكاة التي هي مظلة التأمين
الكبرى لجميع المواطنين في المجتمع الإسلامي، وكواجب الإنفاق على القرابة
والضيف، وكواجب بيت المال في تأمين حد الكفاية لكل فرد في المجتمع الإسلامي.
ومن وسائل التعاون التي أفتت المجامع الفقهية المعاصرة بجوازها ما يسمى
بالتأمين التعاوني [49] . والمراد به في ضوء القرارات المشار إليها: قيام جماعة
يتفق أفرادها على تعويض الأضرار التي قد تنزل بأحدهم نتيجة خطر معين؛ وذلك
من مجموع الاشتراكات التي يتعهد كل فرد منهم بدفعها.
فهذا عقد تبرع يقصد به التعاون ولا يستهدف تجارة ولا ربحاً؛ كما أنه يخلو
من الربا، ولا يضر جهل المساهمين فيه بما يعود إليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون؛
فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة.
وأبسط تصوير لهذا التأمين هو أن تكوِّن أسرة أو جماعة صندوقاً، ويدفعوا
مبالغ يؤدى من مجموعها تعويض لأي فرد منهم يقع عليه الخطر، فإن لم تفِ
المبالغ التي دفعوها سَدَّدوا الفرق المطلوب، وإن زاد شيء بعد التعويضات أُعيد
إليهم أو جُعل رصيداً للمستقبل.
ويمكن أن يوسَّع هذا التصور المبسط ليطور هذا الصندوق ليكون هيئة أو
مؤسسة يتفرغ لها بعض العاملين لتحصيل المبالغ وحفظها وصرف التعويضات،
ويكون لها مجلس إدارة يقرر خطط العمل؛ وكل ذلك بمقابل أجر معين أو تبرعاً
منهم؛ بشرط أن يكون مبناه التبرع، ولا يقصد منه تحصيل الأرباح، وغاية جميع
أطرافه التعاون [50] .
تطبيقات التأمين التعاوني:
طرح عدد من المهتمين بالاقتصاد الإسلامي عدة نماذج وتصورات للتأمين
الإسلامي، وتبنت جهات مالية إنشاء شركات تقوم بالتأمين من منظور إسلامي
سُمّي أكثرها بالتعاوني؛ وذلك في عدد من البلاد الإسلاميّة استفيد أكثرها من فكرة
التأمين التعاوني لدى الغرب [51] ، إلا أن واقع هذه المؤسّسات ليس بالضرورة
مطابقاً لمقصود المجامع العلميّة التي أفتت بإباحة التأمين التعاوني وإنما هو تطبيق
لنظريته لدى الهيئة الشرعيّة المؤسّسة له. فقد يكون منها ما هو فكرة مطورة
للتأمين التعاوني، ومنه ما يكون تأميناً تجاريّاً بضوابط معينة أو حتى بصورته
المعروفة [52] .
ولذا صدر البيان المعروف من اللجنة الدائمة للبحوث العلميَّة والإفتاء بالمملكة
العربية السعوديَّة حيال بعض المؤسسات والشركات المتسمية بالتأمين التعاوني بأنها
لا تمثل التأمين التعاوني الذي أباحته هيئة كبار العلماء، وإنما هو تأمين تجاري؛
وتغيير اسمه لا يغير حقيقته [53] .
والحقيقة أن المؤسسات القائمة بالتأمين والساعية لتصحيح وضعها ومطابقته
للبديل الإسلامي تواجه أموراً صعبة من أبرزها إعادة التأمين [54] ، وهو أن تدفع
شركة التأمين جزءاً من أقساط التأمين التي تحصل عليها من جمهور المستأمنين
لشركة إعادة تأمين تضمن لها في مقابل ذلك جزءاً من الخسائر.
فإذا وقع الخطر المؤمَّن ضده لجأ المستأمن إلى شركة التأمين التي تدفع له،
ثم تطالب شركة إعادة التأمين بدفع جزء من التعويض حسب الاتفاق المبرم بينهما.
فتكون شركة التأمين المباشر كوسيط بين المستأمن وشركة إعادة التأمين،
وتعترف شركات التأمين الإسلامية بأنه لا قيام لها ولا ازدهار لصناعتها إلا
بترتيبات إعادة التأمين [55] . وشركات إعادة التأمين الضخمة جميعها تجارية، وقد
بدأت الآن شركات إعادة تأمين تتبنى المنهج الإسلامي فيه [56] .
رابعاً: الإلزام بالتأمين:
من جملة ما طرح من أفكار في موضوع التأمين ما رآه الأستاذ محمد البهي؛
حيث قرر حِلَّ التأمين بجميع أنواعه، ورأى أنه يجب على الدولة الإلزام به لما فيه
من مصلحة. أمَّا الدكتور محمد شوقي الفنجري فإنه بعد أن قرر معارضته للتأمين
التجاري وعدم شرعيته، وأن التأمين التعاوني هو بديله المثالي قال: (ونرى
لضمان نجاح التأمين التعاوني، في مثل ظروف المجتمعات العربيَّة والتي تعاني
من عدم كفاية الوعي التأميني مع ترامي مساحاتها الشاسعة وارتفاع إمكانياتها الماليَّة
أن يكون التأمين إلزامياً في الأصل، واختيارياً في الحالات التي يقررها. وهو
يكون إلزامياً بالنسبة للفئات التي يكثر لديها وقوع الخطر كأصحاب السيارات
وأصحاب المصانع، وبالنسبة للحالات المؤكد وقوعها كالمرض والشيخوخة
والوفاة..) [57] .
ولي مع هذا الرأي وقفات:
1 - عقد التأمين عقد رضائي، والعقود في الشريعة الإسلامية أساسها
التراضي بين طرفي العقد.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29) .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطب الناس في حجة الوداع فقال: «لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه
من طيب نفس» [58] .
وقد اتفق جمهور أهل العلم على أن من أُكره على قول أو عقد لم يترتب عليه
حكم من الأحكام، وكان لغواً [59] . وإذا أُلزم أحد بعقد فات شرط التراضي انعدمت
الصِّحَة فيه. والتأمين التعاوني أساسه التبرع ولا يُتَصَوَّر تبرع من مُكْرَه. مع أنه
قد يصح تخريج ذلك بالنسبة للتأمين التجاري عند القائل به على نزع ملكية
العقارات للصالح العام، والتسعير، وإلزام المحتكر بالبيع بسعر المثل، وإلزام
أرباب المهن بالعمل بأجرة المثل إذا امتنعوا عن العمل إلا بأُجور فاحشة والناس
بحاجة إلى منافعهم.
إلا أن القول بهذا يحتاج إلى إثبات أن الحاجة إلى هذا النوع من التعاقد
ضرورة عامة يصح أن تكون سبباً لإلغاء أساس العقود الذي هو الرضا من طرفيه.
وأن هذا العقد فعلاً سبب لرفع هذه الضرورة.
ثم إن صح هذا في التأمين التجاري، وقد تقدم بيان حكمه، فلا يصح في
التعاوني الذي تقدَّم أن أساسه التبرع والمسامحة، ولا يتصور تبرع إلا برضا البَاذِل.
2 - إن في الإلزام بأمر هو محل خلاف بين أهل العلم نظراً واضحاً. وقد
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عمّن ولي أمراً من أمور المسلمين
ومذهبه لا يجوِّز شركة الأبدان؛ فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: (ليس له منع
الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع
نَصٌّ من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك؛ لا سيما وأكثر
العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامَّة المسلمين في عامَّة الأمصار.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا
للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد
مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرّقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من
العلم ما بلغهم. وصَنَّف رجلٌ كتاباً في الاختلاف؛ فقال أحمد: لا تسمّه: (كتاب
الاختلاف) ولكن سمّه: (كتاب السُّنة) .
ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجَّةٌ قاطعة، واختلافهم رحمة
واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرّني أن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً.
وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك
قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من
أصحاب الشافعي وغيره: (إن مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد، وليس
لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلميَّة؛ فمن تبين له
صحّة أحد القولين تبعه، ومن قَلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه؛ ونظائر هذه
المسائل كثيرة) [60] .
وليس هذا من الحكم الذي يرفع الخلاف؛ فإن ذلك في الأمور المعينة
والمسائل الخاصّة بموطنها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأمور المشتركة بين
الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحدٍ أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير
ولا شيخ.. وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور
الكليّة..) [61] .
وبناء على هذين الأمرين؛ فإنه لا يظهر لي وجاهة ما قرره الأستاذان
الفاضلان. والله الموفق.
وبعدُ: فهذا آخر ما تهم معرفته عن حكم هذا العقد. أسأل الله - تعالى - أن
يوفق للصواب لا إله إلا هو.