عبد القادر حامد
دار نقاش بيني وبين أحد الأصدقاء المعنيين بالثقافة والأدب وبالأوقات التي
تمر بها الأمم بازدهار فكري، أو بجمود وسكون؛ وأسباب ذلك، وما الأمور التي
تؤدي بالأمة والجو الذي يلفها إلى إحدى النتيجتين فقال:
لم يحدث أن نهضت أمة نهضة فكرية دون تعاون واشتراك بين جهتين: بين
القادة وبين الشعوب. وإن شئت الدقة فقل: بين القادة السياسيين وبين القادة
الفكريين. وكل الظواهر التي يشمل خيرها أمة بعينها؛ فينقلها من الجهل إلى العلم، ومن التخلف والجمود؛ إلى التقدم والحركة هي نتيجة هذا التعاون. ومتى انفك
هذا التحالف والاتفاق الضمني بين هاتين الجهتين فهذا نذير الضعف والتحلل، أو
الفوضى وعدم الاستقرار.
قلت: إذن أنت ترى أن الأفراد لا يستطيعون أن يقوموا بهذه المهمة بمعزل
عن تحالفهم مع القادة؛ فماذا تقول في الآثار التي تركها مفكرون ومصلحون عبر
القرون لم يرتبطوا بقيادة تحالفوا معها لينجزوا ما أنجزوا، بل منهم من كان في
أماكن لم توجد فيها سلطة أبداً، ولكنهم خلفوا آراء أحدثت تحولاً عجيباً فيمن جاء
بعدهم؟ .
قال: إن الأفكار العظيمة قد تنتقل من عصر إلى عصر، مثلها مثل البذور
التي تدخر من وقت لآخر، أو تجلب من بلد إلى آخر.. لكن هذه الأفكار لا تعمل
وحدها، بل لابد لها من حملةٍ يحملونها عن إيمان بها واقتناع، ولكي تعطي أثراً ذا
بال لابد أن يتوفر لها المحيط الذي تتفاعل معه. أما إن كبتت وحيل بينها وبين
الناس بشتى الطرق؛ فمن أين لها أن يجتمع الناس عليها، وتحدث ما يرتجى منها؟! نعم؛ إنها لا تموت، ولكن تأثيرها مؤجل إلى أن تحين ساعة إطلاق سراحها.
قلت: هل تعنى أنه لابد من قوة مادية تقسر الناس على اتباع فكرة ما قسراً،
وتكرههم على قبول وجهة نظر واحدة، وتحارب ما عداها حرباً لا هوادة فيها؟
إذن وقعنا في الاستبداد المؤدي إلى الطغيان وهدر الحقوق، الذي يشل الشعوب
ويقتل فيها الحيوية ويزرع فيها اليأس والهزيمة.
قال: كأني بك تنظر إلى أمثلة تراها ماثلة أمامك؛ بأخبارها ومعاناة ناسها
وتخشى أن يهدم طغيان ببناء طغيان آخر بديل..
لا تنسَ أن هذه الأمم طبقت عليها مبادئ ليس بينها وبينها صلة، وليست
وليدة التدرج الطبيعي لنضج الأفكار الصحيحة، وإنما هي نزوات متطرفة في
رؤوس حفنة من أصحاب الأهواء، فرضتها عوامل عديدة، وهى من حيث المبدأ
تخالف الفطرة البشرية، وتخالف طبيعة الناس الذين طبقت عليهم، وتخالف أصل
النظريات التي اشتقت منها.
والأمر مختلف بالنسبة للإسلام، فأنت لست بحاجة إلى قهر الناس لقبوله،
لأن له رصيداً غنياً في الفطرة البشرية، ومن جهة ثانية فإن جذوره عميقة في تربة
المجتمعات الإسلامية، إنه الحق الذي لا يحتاج إلى من يشق له الطريق ويبين
محاسنه للناس، بل إلى الذي يرفع العوائق الاصطناعية، والسدود التي يتعمد
وضعها أمامه أعداء الحق من كل ملة، وفى كل عصر. وهو -في الوقت نفسه -
ليس بحاجة إلى التفنن في اختراع أساليب دعاية شيطانية لنقنع الناس به سيراً على
مبدأ: (الغاية تبرر الوسيلة) ، ولا إلى استيراد طرق تعذيب وحشية فاشية أو نازية
أو شيوعية حتى نكبح جماح معارضيه.
قلت: هل يعني ما قدمت أنك في شك من أن في حياة الأمم لحظات مصيرية، ومنعطفات حادة، ولحظات تغيير شامل، ينظر إليها دعاة التغيير، فتجري في
أحاديثهم، وعلى أقلامهم، فيعبرون عنها (بالثورة) ، وتارة (بالانقلاب) ؟ . قال:
أما إنه هناك منعطفات حادة ولحظات مصيرية في حياة الأمم فنعم، وأما أن هناك
شيء يصح أن يطلق عليه وصف (انقلاب) بالمعنى اللغوي الدقيق للكلمة؛ فلا.
والخلل يحصل من أن سطحية الأفكار؛ وسطحية كثير ممن ينشدون التغيير
والتجديد في المجتمعات تنعكس سطحية في استعمال اللغة فيحدث خلط وتشويش،
وتضيع الحقيقة في زحمة الخلط والتشويش.
فكلمة انقلاب تعنى - من حيث مدلولها اللغوي - أن الأوضاع انقلبت رأساً
على عقب، وأن كل شيء انعكس إلى ضده، وأن هذا الانعكاس والتغيير حصل
في فترة قصيرة جداً قد تكون نتيجة حركة عسكرية أو أهلية: نقول هذا لأن الكلمة
من حيث الوضع تستعمل لوصف واقع مادي، ثم استعيرت لتعبر عن واقع معنوي
أو ثقافي. ولكن، هل (الانقلاب) يحدث هكذا، فجأة، ودون مقدمات تمهد إليه،
وهل يغير كل شيء في المجتمع بضربة واحدة؟ وبعبارة أخرى: هل التغيير الذي
يحصل في مجتمع ما يحصل بخبطة واحدة دون أسباب ونتائج سابقة مترابطة؟ .
إن الواقع المشاهد لا يقول بهذا، بل يقر أن الحوادث التاريخية -مهما كانت
آثارها بعيدة الأثر وعميقة التأثير - ليست إلا حلقات في سلسلة مترابطة، وأن
شهرتها وانطباعها في ذاكرة مجموعة من الناس راجع إلى أن الإنسان عندما يذهب
لإعادة تركيب حلقات التاريخ من أجل فهمها، وانتزاع القوانين والعبر منها؛ إنما
يحاول أن يركب حلقات الماضي كما يحب أن يجدها هو.
ولا شك أن ماضي الأمة كماضي الفرد، فيه لحظات سعادة، ولحظات شقاء،
والإنسان بطبعه لا يحب إلا تذكر لحظات السعادة، وتجاهل غيرها، لأنه لا يحب
أن يتذوق طعم الشقاء مرتين، فتراه عندما يبني تاريخه لا يحب أن يستوقفه منه إلا
ما يرفع الرأس، وقد يضرب صفحا عما دون ذلك. لكن فئة قليلة جداً هي التي
تعيد تركيب التاريخ بأسلوب أقرب إلى المنطق العلمي وتحاول جاهدة - بسعة
علمها، وصبرها، وبعدها عن الهوى - رؤية جميع حلقاته - حلوها ومرها، نقول: تحاول، عن قناعة بأن الحياد والتعقل والموضوعية الباردة لا تتوفر كاملة في
دراسة التاريخ، مهما ادعى المدعون، ولكن قدراً من ذلك - تنتج عنه النتائج
الصحيحة والمقبولة - ممكن، وهو القدر الذي طالب الله به عباده بقوله: [أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] [الروم: 9] . أما الدهماء فغير قادرين إلا
على رؤية وتذكر ما يعتبرونه مهماً من الحوادث ولذلك؛ حينما يديرون مثل هذه
الكلمات: ثورة، انقلاب.. على ألسنتهم؛ يوقعهم نظرهم القاصر في نتائج خطيرة
هي معالم بارزة في كل مجتمع عاجز.
فمن ذلك:
ينظرون إلى التاريخ على أنه قفزات وفرص؛ لا مجال يخضع لقانون
السببية.
* تتحول النظرة إلى المجتمع إلى أنه مائدة قمار تحكمه قوانين الشطارة
والخداع والصعلكة، ولا تضبطه قوانين الجد والاجتهاد والتعب المثمر.
* يدب اليأس والكسل، وتتراخى الهمم، وتذبل الأرواح، وتصاب النفوس
بأمراض اجتماعية تميت الإنسان وهو حي.
* تطفو على سطح المجتمع الجيف المتحركة التي تزكم رائحتها أنوف
أصحاب النفوس القوية، والمبادئ القويمة، فيتخفى أكثر هؤلاء ويتوارون، ولا
يبقى منهم إلا قلة حالها شبيه بحال مدينة ضربها وباء مهلك أو زلزال مدمر، أو
فتنة مشتعلة: هلك فيها من هلك، وهرب منها من هرب، ولم يبق فيها إلا فئة
صغيرة، عليها يقع دفن الجثث، وتطهير الأمكنة، وإخلاء من لا يزال به رمق
إلى مواقع العلاج.
إذا رجعنا إلى اللحظات التي يصفها الناس بالمصيرية، أو المنعطفات الحادة
أو فترات الانقلاب نرى أن الذي أضفى عليها هذه الأوصاف هم الناس لأغراض
شتى، ولحاجات في نفوسهم، أما هي - في حقيقتها- فلا تعدو أن تكون حلقات في
مجرى التاريخ.
ولا ينبغي أن يفهم من كلامي أن فيه تقليلاً من قيمة بعض الأحداث؛ ولكن
الهدف منصب على أن أي حادثة مهما عظمت وعظم أثرها فهي وليدة ظروف أدت
إليها، وليست ضربة حظ عمياء، أو رمية من غير رامٍ.
قلت: أريد منك الفكرة الرئيسية التي تستفاد من هذا الحديث، حتى لا يتشعب
علينا الأمر فتضيع الفكرة، ونخسر العبرة.
قال: الغرض الأساسي من هذا الحديث هو الإشارة إلى علة الجمود الثقافي
والفكري الذي يخيم على العرب والمسلمين في هذه الفترة، وهذه العلة هي انعدام
التعاون الصادق بين طرفي القيادة في الأمة: الزعماء والعلماء، ونظرة كل طرف
إلى الآخر بعين الريبة والشك، وقيام العلاقة بينهما على الخوف.
ففي ظل الخوف ينشغل الفكر بتحصيل المأمن بدل أن ينشغل بالإنتاج المثمر، والخوف يعرقل المواهب إن لم يقتلها، وفى ظله يفرخ اليأس والقنوط، ويشيع
الانشغال بما لا يجدي، وينتشر السخف بدل الثقافة، وتروج الخرافات بدل الحقائق، ويكثر مستثمرو الآلام والأوهام بدل الأطباء الحكماء، ويهرب أغلب الناس من
مواجهة الحقائق إلى بلايا كالخمر والمخدرات والتدخين، وإلى ما قد يكون مثلها أو
أسوأ أثراً كالأحاديث الفارغة، والأدب المخدر، والفكر الكسيح.
كل ذلك مما يثمره الخوف والتوجس. وما لم تصحح هذه العلاقة المختلة،
وتبنى على أساس من الثقة والائتمان؛ فلا أمل في خير، ولا خروج من سبيل.
قلت: لكن الثقة والائتمان لن تكون ما لم يكن طرفا المعادلة قويين أمينين؟ ! .
قال: هذا.. أو ما نحن فيه!