الافتتاحية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.. وبعد: فإنَّ
الحج ركن عظيم من أركان الإسلام، ومشهد جليل من مشاهد هذه الأمة، يجتمع
فيه المسلمون من أقطار المعمورة عرباً وعجماً، شيباً وشباباً، رجالاً ونساءً.
والناظر في أحوال الحجيج يقف على صورة شاملة تحكي واقع الأمة الإسلامية
بحلوه ومره، خيره وشره.
ومن المعالم المهمة التي تستحق أن نقف عندها كثيراً: الواقع العقدي الذي
يعيشه كثير من أبناء المسلمين؛ حيث انتشر الجهل واندرست كثير من معالم
التوحيد الخالص، حينما كدرته شوائب الضلالة والهوى؛ فأضحت العقيدة عند
بعضهم مجرد فلسفات كلامية، أو تصورات جدلية، أو تأويلات باطنية، فانفرط
عقد الأمَّة الإسلامية، وتفرقت بها السبل، وتجارت بها الأهواء، حتى أصبحت
السنَّة مهجورة، ورفعت البدعة أعلامها، وذرَّ قرن الفتنة في كثير من المحافل
والمجتمعات الإسلامية، وتصدَّر الرويبضة من المبتدعة وأهل الأهواء زمام الريادة
والتأثير، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وزاد من بلاء الأمة افتتان كثير من أبنائها بالتفوق الحضاري للغرب الذي
أجلب بخيله ورجله علينا، فاستباح الحرمات وزيَّن الأباطيل. ولم يكتف الغرب
بانتهاك حقوق الشعوب الإسلامية، وانتهاب خيراتها، كما لم يكتف بإفساد الأخلاق
وتدمير المجتمعات في أوحال الرذيلة، بل تجاوز ذلك إلى اختراق العقول، ونشر
العقائد الإلحادية والمبادئ المادية التي تُعرِض عن هدايات الوحي الإلهي.
وعندما بدأت الحرب الغربية الأخيرة على ما يسمونه بـ (الإرهاب
الإسلامي) كشفت الأيام بجلاء عن حجم التردي العقدي الذي ينخر في جسم الأمَّة،
ويحوطها بالضعف والتقهقر والانهزام؛ فرأينا كثيراً من آيات هشاشة الإيمان
وضعف اليقين بنصر الله تعالى وتأييده، ورأينا ضعف التوكل والاستعانة به
سبحانه، كما رأينا تصدع أركان الولاء للمؤمنين، وسقوط كثير من المسلمين في
أحضان الكافرين..!!
ونجزم جزماً أكيداً بأن مدار صلاح الأمة وعزتها ونهضتها على صفاء العقيدة
وسلامتها؛ فإذا رسخ الإيمان في النفوس، وحفظ الله تعالى الأمَّة من البدع
والضلالات قديمها وحديثها؛ استقام أمرها وقويت شوكتها، وسلكت الطريق
الصحيح للبناء والتمكين. وإن هي فسدت ونخرتها الأهواء، واستحكمت فيها
الانحرافات، تردت وسقطت في مستنقع الهزيمة والتبعية.
إن العقيدة التي نعني: ليست مجرد أسس وقواعد نظرية، لا، بل إنها:
معرفة الله جل وعز حق معرفته، بتفرده بالربوبية والقهر والعظمة والتدبير،
واتصافه بجليل الصفات وجميلها وأحسن الأسماء وأكملها.. معرفة تملأ على العبد
فؤاده وعقله، فتدفعه بلا تردد أو تأخر إلى القيام بحق المولى الكبير سبحانه محبة
وخوفاً ورجاء، يبرهن عليها بإفراد خالقه بالطاعة والانقياد كما شرع له على لسان
النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، في كل مجالات الحياة، مع تمام القبول
والرضى، ثم الانهماك في أداء العبادات والأنساك على وجهها.
تلك هي حقيقة الإسلام التي تقتضي الاستسلام لله جل وعلا، وذلك هو معنى
الإيمان الذي هو: ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهذا هو طريق العبودية الحقة
لرب العالمين التي هي بداية الانطلاق ورمز الحرية، ودرب السعادة حين يحقق
العباد ما خلقوا لأجله.
ما أروع شأن الحجيج حين يعبرون عن عبوديتهم واستسلامهم بالتزامهم ما
أنزله الله تعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم: زماناً ومكاناً ونوعاً وصفة
وعدداً وكيفية! وما أجلَّ تعبيرهم عن الإيمان بتكبد المشاق وأداء النسك على وجهه!
وما أصدق متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخذوا عنه مناسكهم! وما
أجمل شعارهم حين يُلبُّون لله بالتوحيد!
إنَّ الحج من أعظم المواقف التي يتجلى فيها شأن التوحيد من بداية الدخول في
النسك، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في
سياق وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» [1] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بها صوته لتكون شعاراً لكل أصحابه
رضي الله عنهم؛ فقد ثبت عنه أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن
آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» [2] .
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى أيام مناسك
الحج في تقرير التوحيد، وبناء العقيدة، وما تبع ذلك من الدعوة إلى الاعتصام
بالكتاب العزيز، وتعظيم شعائر الله عز وجل والحث على حسن التأسي والاهتداء
بهديه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
إن تجديد العقيدة في نفوس المسلمين من أولى الأولويات الدعوية التي دلت
عليها النصوص الشرعية، ولهذا لمَّا بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل
رضي الله عنه إلى اليمن، أمره أن يبدأ ببيان التوحيد، فقال: «إنك ستأتي قوماً
أهل كتاب؛ فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في
كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق
دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [3] فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم بداية الانطلاق في بيان التوحيد وتقريره.
وصلاح التوحيد سبب بعون الله تعالى لكل صلاح. قال شيخ الإسلام ابن
تيمية: «ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله
وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط
وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى
غير الله» [4] .
ونحسب أن نفوس الحجيج من حيث الجملة مقبلة على الطاعة والتقرب إلى
الله تعالى متجردة من العصبية، بعيدة عن الصوارف الدنيوية التي تطغيها وتجعلها
تُعرِض عن الحق؛ ولذا كان هذا المقام العظيم من أعظم المقامات التي يتأكد فيها
حرص العلماء والدعاة على بيان حق الله تعالى على عباده الذي بيَّنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سؤاله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما قال له: «هل
تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟» فقال معاذ: الله ورسوله
أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن حق الله على عباده: أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن لا يُعذب من لا يشرك به شيئاً»
[5] .
نسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بالحق، وأن يستعملنا في طاعته.