مجله البيان (صفحة 4490)

الباب المفتوح

هل يعيد التاريخ نفسه؟!

«ما أشبه الليلة بالبارحة!»

رأفت صلاح

التاريخ ليس سرداً للأحداث ولا تسجيلاً للوقائع، ولكنه عرض لذلك كله مع

التفسير والتحليل، واستخراج للعبر والدروس من هذه الأحداث، هكذا ينبغي علينا

أن نفهم التاريخ كما فهمه أسلافنا؛ فملكوا الدنيا وخضعت لهم العرب والعجم.

يُعرّف ابن خلدون التاريخ فيقول: «.. فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها

الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال. وهو في ظاهره لا يزيد عن أخبار

عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل

للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة

عريق» [1] .

بين أيدينا الآن قصة وقعت أحداثها في بدايات القرن العاشر من الهجرة؛ ولها

صلة وثيقة بما يحدث من أحداث في واقعنا المعاصر، هذه القصة ذكرها الأستاذ

«محمود شاكر» صاحب «موسوعة التاريخ الإسلامي» في كتابه

«المغالطات» ، طبعة المكتب الإسلامي، وسوف نقف معها ونذكرها مثالاً

لأحداث التاريخ الإسلامي، وكيف تُستخرج منها الدروس والعبر؟

يقول الأستاذ محمود شاكر - باختصار -:

«عندما احتل البرتغاليون (عدن) عام 919 هـ رفض أهل هذا البلد

الاحتلال، وقاوموه بما يملكون، ولكن استطاع البرتغاليون أن يقهروا السكان بما

يحوزون من أسلحة نارية حديثة، واضطر القسم الأكبر من العدنيين إلى ترك

موطنهم واللجوء إلى الأراضي المجاورة؛ حيث عُرفوا هناك باسم» اللاجئون «،

وأُجبر القسم الأكبر من العدنيين على الخنوع والبقاء في ديارهم تحت عصا الذل

وسيف الإرهاب، وحرصت الدول المجاورة، كمصر التي يحكمها المماليك، أن

تقاتل البرتغاليين ولكنها هُزمت.

- نجحت البرتغال في أن تمد قنوات بينها وبين حكام الدول المجاورة عن

طريق المال والمصالح والسلاح، وكان التعاون بينهم في سرية بعيداً عن أعين

السكان؛ حيث كانت الشعوب ترفض هذا التعاون رفضاً تاماً، فأظهر الحكام أنهم

يعادون البرتغال وهم يلتقونهم سراً ويجتمعون معهم.

- البرتغاليون أنفسهم - من باب المغالطة - يهاجمون هذه الدول علناً؛ حتى

يلبسوا على الناس أمرها.

- لم يجرؤ أحد على الدعوة إلى الرضا بالأمر الواقع أو الدعوة إلى السلام.

- كان المخطط الصليبي يقضي بأن يتقدم كل حاكم خطوة، ولكن طالت المدة

وزادت على خمسة عشر عاماً.

- فهنا برزت فكرة جديدة؛ وهي أن يتولى حل المشكلة أحد أبناء عدن، ولا

سيما من الذين يعيشون خارج مدينة عدن؛ ليكون بعيداً عن البرتغاليين، ولتكون له

الحرية، فوقع الاختيار على شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره يُدعى» عبد

الرؤوف أفندي «، فعرض عليه أحد السلاطين العملاء أن يختار معه شباباً يثق بهم؛

ليقوموا بتأسيس منظمة تعمل على طرد البرتغاليين المغتصبين، وتقوم السلطات

بدعم هذه المنظمة ومدّها بما تحتاج إليه. وتعهد السلاطين بحمايتها ومد يد العون

لها، ودعوة أعوانهم للانضمام إليها؛ (فتبني أهل البلد مهمة العمل أفضل،

وخاصة أمام المحافل الدولية) ، ومُنح» عبد الرؤوف «وعد بأنه سيكون له شأن

كبير وإمكانات مادية عالية، هذا بجانب السلطة العسكرية وإصدار الأوامر.

- وافق» عبد الرؤوف «، وحَلَّتْ منظمته محل حركة مفتي عدن،

واشترطوا عليه ألا يخرج عن رأي السلاطين.. وهكذا كان.

- بدأ» عبد الرؤوف «اللعبة وأصبح اسمه» ياسين «، وادعى النسب

الحسيني، وأسس منظمته، وأنشأ فصائل للقتال، وانخرط في صفوفها كثير من

العدنيين المشردين، وبدأت تخوض المعارك، وتدخل إلى الأرض المحتلة وتقوم

ببعض العمليات الناجحة، فارتفعت أسهمه، وأصبح في مصاف القادة ورواد الأمل

في العودة لدى المشردين.

- نادى» ياسين «بحمل السلاح بوصفه الحل الوحيد لإنهاء المشكلة،

واللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، وصار لا يقبل المهادنة ولا المساومة، وبالمقابل

شن عليه الأعداء حملة شعواء واتهموه ومنظمته بالتخريب و ... ، وتدفقت عليه

أموال التبرعات والمعونات، وأصبح على مستوى السلاطين.

- شن البرتغاليون غارات على مخيمات اللاجئين، وقاموا بعدد من المذابح

الرهيبة؛ وذلك لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع.

- ضغطت الدول الأوروبية على السلاطين لإنهاء المشكلة، فعقدوا اجتماعاً

وقرروا الاعتراف بالوضع البرتغالي في عدن؛ على أن يتولى إعلان ذلك الزعيم

العدني» ياسين «.

- وانتفض العدنيون المقيمون في موطنهم؛ مما دعا الأوروبيين إلى عقد

مؤتمر عالمي لإحلال السلام في المنطقة وإنهاء المشكلة.

- أنيطت القضية بالزعيم» ياسين «الذي أعلن أنه مستعد لحضور المؤتمر

العالمي، وأنه يتحدى البرتغال أن تحضر! - وهي التي تتمناه -، فتمنعت تمنع

الراغب لإتمام اللعبة وإخفائها عن الشعب، وتقوية موقف» ياسين «وإبرازه على

أنه هو الذي يدعو وهي التي ترفض؛ أي أن الممتنع هو الموافق، والراضي هو

الرافض!

- أعلن أحد السلاطين أنه تخلى عن عدن، وأن أهلها أحرار يحلون أمورهم

بأنفسهم! - وهو الذي كان يعدُّ عدن جزءاً من أرضه -، فأصبحت عدن وحدها

أمام البرتغاليين.

- أعلن» ياسين «أن لأهل عدن حكومة خاصة، وأنه على استعداد

للاعتراف بالكيان البرتغالي، وبذلك أصبحت هناك حكومتان؛ إحداهما لأهل عدن

المشردين، والأخرى للبرتغاليين ولهم الجزء الأكبر من عدن!!

- استمر هذا الوضع حتى جاء العثمانيون عام 945 هـ وطردوا البرتغاليين

من المنطقة.

- وقف أهل عدن يفكرون بالدور الذي مارسه» ياسين «عليهم؛ منهم من

قال بقي» ياسين «يغالط علينا حتى وصل بنا إلى ما كنا نخشاه، ووافق على كل

هذه الحلول التي كنا نرفضها، أعطيناه القيادة ليبيع قضيتنا، ليبيع أرضنا، ليبيعنا.

بعدها بدؤوا يبحثون عن أصله ولكن.. فات الأوان.

- أما أعوانه فيقولون: إن الطرق كلها مسدودة، والحلول التي طُرحت قد

أجهضت أو أخفقت، وليس أمامنا سوى ما تم. ما أشبه الليلة بالبارحة!!» [2] .

بعد عرض أحداث هذه القصة نورد هذه التعليقات المهمة:

1- تشبه هذه القصة بأحداثها ما يحدث في واقعنا المعاصر؛ مما يدل على

تشابه مخططات أعداء الإسلام عبر التاريخ في محاربة هذه الأمة، وصناعة

العملاء الذين يكون لهم الدور الأهم في هذا العداء.

كما تبين القصة استمرارية هذا الصراع، وأنه لا يهدأ أبداً وإن اختلفت

صوره؛ فإنهم كما قال - تعالى -: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ

إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) .

2- بيان حال المسلمين عند بعدهم عن دينهم الذي هو مصدر عزتهم؛ إذ

يصيبهم الضعف والوهن، ويتمكن أعداؤهم منهم؛ مما يؤدي إلى تشتتهم في البلاد

لاجئين، أو وقوعهم تحت عصا الذل وسيف الإرهاب في بلادهم على يد أعدائهم،

هذا كله بسبب تنكبهم لطريق الهداية في كل زمان.

3- بيان حال حكام المسلمين الذين هم إما صنيعة الأعداء أو عملاء مخلصون

لأسيادهم؛ بسبب عبوديتهم للمال والسلطة والمصلحة، فهم لا يهمهم مصلحة

أوطانهم، ولا حماية ديار المسلمين، ولا الذود عن الإسلام؛ المهم عندهم هو

كراسيهم وعروشهم حتى لو تعاونوا مع أعدائهم. وهذه صورة لما يحدث في كل

زمان على يد بعض هؤلاء الحكام العملاء.

4- مدى السذاجة التي تتصف بها بعض الشعوب المسلمة؛ سواء مع حكامهم

أو مع أعدائهم؛ حيث يكونون مغيبين لا وعي عندهم ولا دور لهم في الأحداث،

هذا سببه في المقام الأول هو البعد عن مصدر العزة الأساسي ألا وهو الإسلام،

فالمسلمون عند تمسكهم بدينهم يكون لديهم استعداد للجهر بالحق، ولا يكون للكافرين

عليهم سبيلاً، أما عند بعدهم عن دينهم فهم أذل الخلق وأهونهم؛ لا يهمهم إلا إتيان

الشهوات، يتلاعب بهم أعداؤهم وهم لا وعي عندهم بما يجري من أحداث.

5- لا يستطيع الزعماء والحكام والسلاطين العملاء أن يتحكموا في رقاب

الناس إلا بخداعهم وغشهم، وتغييب وعي الناس عن طريق وسائل إعلامهم في كل

عصر، فمن مَدْحٍ للزعيم وتضخيم لدوره، إلى شتم للأعداء أحياناً، إلى دعوة

للسلام.. هذا كله لتغييب الشعوب وخداعها.

6- صناعة الزعماء: وهذا أهم هذه التعليقات، فهذه القصة توضح بجلاء

كيفية صناعة الزعماء، وهذا ديدن أعداء الإسلام في كل زمان، فهم يختارون

شخصية نفعية لا تحب إلا مصلحتها وتعشق السلطة والمال، ثم يحاولون صناعته

عن طريق إبراز دوره وتضخيم أعماله، فيحدث التلميع لهذه الشخصيات حتى

تصير زعماء، وهذا هو الدور الخطير الذي تمارسه وسائل الإعلام، وهكذا تم

صناعة ياسين وغيره قديماً.

وحديثاً: عندما رحل الاحتلال عن بلاد المسلمين ترك خلفه صنائع هي من

صنع يديه، وحتى يُمَكِّن لها قام بتلميعها وتضخيم دورها حتى تكون هي الزعامة..

وفقط، فهذا «الزعيم الملهم» ، وذلك «القائد» ، وذلك «الغازي» ، وذلك

«الرئيس المؤمن» .. هكذا صنعوا أتاتورك، وسعد زغلول، وجمال عبد

الناصر، وياسر عرفات.. وغيرهم ممن تحكموا ويتحكمون في رقاب المسلمين،

هكذا استطاع أعداء الإسلام إنتاج صنائع لهم وعملاء ووكلاء يؤدون ما يُطلب منهم؛

في جميع المجالات وليس في السياسة فقط.

وهذه القصة صورة مصغرة لطريقة تكوين الزعماء والأبطال والفاتحين

المزورين؛ فكم من مرة حولوا الجهاد لصالحهم، وسرقوا الثورات والانتصارات؟!

وكم من مرة تاجروا بقضايا المسلمين؟!

إن ما يحدث الآن في القضية الفلسطينية والدور الذي يقوم به الآن «ياسر»

هو الدور نفسه الذي كان يقوم به «ياسين» ، فكم من «ياسين» صنعوه، وكم

من نصر سرقوه؟!

حقاً.. ما أشبه الليلة بالبارحة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015